07‏/02‏/2014

في سيكولوجية نزعة النفاق


عبدالباقي يوسف 
استهلال
النفاق أنْ تُظهر أمراً مخالفاً لما أنت عليه، فتدعو إلى أمر وأنت مؤمن بنقيضه، وهو لا يكون مع الآخرين فحسب، بل يكون مع الذات أيضاً. والمنافق يعيش حالةً ازدواجيةً متواصلةً مع نفسه قبل أن يُظهرها للآخرين، ويصل المنافق بنفسه إلى مرحلة من الفصام تستولي على كل حركةٍ ظاهريةٍ وباطنيةٍ تبدر منه عن شعورٍ وعن غير شعور.
لا أريد أن يُفهم النفاق على أنه حالة مرضية أو وراثية، وأن المنافق هو ضحية مغلوب على أمره، بل الشخص يميل إلى كل مفصل من مفاصل النفاق مع سبق الإصرار، وهو ذاته ينمّي هذا النفاق في ذاته وسلوكه، لأن المنافق هو شخص يستعين بذكائه في ممارسة السلوك النفاقي حتى يستطيع أن ينجح في تمثيل هذا الدور ببراعة وتفوق، أما الشخص المغلوب على أمره أو قليل الذكاء فإن النجاح
لا يحالفه في مثل هذه المهمة. وليس عبثاً أن الدين نهى عن النفاق، وأعلم المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من الجحيم. والناس أيضاً يتقون شر المنافق ويتجنبونه ما أمكن، لأن النفاق في واقع الأمر يكاد يجمع بين مختلف النزعات السلبية التي ظهرت في الإنسان غير السوي، فالنفاق أخذ شيئاً من الرياء، وشيئاً من السادية، وشيئاً من السيكوباتية، وشيئاً من المازوخية، وشيئاً من الشيزوفيرنيا. والمنافق يعيش كل هذه النزعات داخله فيبلغ مرحلة متطورة من النفاق إلى أنه يمارس النفاق في كل حركةٍ تبدر منه. والناس يدينون المنافق ويتصرفون معه بغاية الحذر، لأنهم يدركون أنه شخص لا يصدر منه الحق طرفة عين، ويترفعون بأنفسهم على أن يصاحبوا منافقاً. 
المنافق هو كائن منبوذ في كل الأعراف والأديان والعقائد والتقاليد الاجتماعية، بل حتى في الأنظمة السياسية، ففي هذه الأنظمة يوصَم المنافق بـ"الخيانة العظمى" لكونه يعيش على تراب الوطن ويتشمّس بشمسه، وبذات اللحظة يعادي مواطنيه فيكون جاسوساً عليهم بغية إلحاق الأذى بهم وبديارهم، فيُعاقَب هذا المواطن بارتكاب الخيانة العظمى، وهي أعلى عقوبة سياسيةٍ وجزائيةٍ ووطنيةٍ واجتماعيةٍ يواجهها مواطن في وطنه. وفي عالم الإيمان وضع الإسلام شرط الإيمان كخطوة أولى لدخول أي إنسانٍ كتاب المؤمنين، فإذا تحقق هذا الشرط في نفسه وقلبه، واغتسل المرء بمياه الإيمان المباركة، دخل كتاب المؤمنين وصار أحد سكان البيت الكبير الذي باركه الله، وإن لم يتحقق هذا الشرط في نفسه وقلبه ولسانه فإن باب المؤمنين يلبث مغلقاً أمامه حتى لو تظاهر بكل أركان الإيمان، فالإيمان هو الركن الأول الذي يفتح الباب للدخول إلى عالم الأديان، وهو الركن الأول الذي يُخرج أي مسلم من ملة الأديان والمتدينين. 
فليس على الدين من حرجٍ إذا أعلن البعض عدم إيمانه بهذا الدين، ولكن يلتبس على الدين شيء من الحرج والغموض إذا أعلن هذا البعض إيمانه نفاقاً، وهو في دواخله أبعد ما يكون عن الإيمان، فالأول شخص واضح يكون التعامل معه على وضوحه، وهو يتعامل مع المؤمنين في مصالحه وتعامله وواجباته الاجتماعية، وكذلك هم لا يجدون حرجاً من التعامل معه بناءً على قاعدة الوضوح التي رخص بها الله في بنية وجوهر العلاقة بين الناس، وأما الثاني فيعده المؤمنون منهم، وفي كتابهم، فيتسنى له إفساد البيت وهو داخله، ولعل (عبد الله بن سبأ) مثال على ذلك. 

كيف واجه الإسلام المنافقين؟
النفاق هو حالة من الغموض، والمنافق هو شخص ظلامي دون وضوح لأنه لا يقف على موقف، لذلك دعا النبـي (صلى الله عليه وسلم) أن يكون الإنسان واضحاً في مواقفه، وأن لا يميل إلى الغموض فيُساء فهمه. 
يقول النبـي (صلى الله عليه وسلم) عن شخصية الإنسان المنافق: "آية المنافق ثلاث: إن تحدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن أؤتمن خان". 
وكان (عليه الصلاة والسلام) إذا مال إلى أمر، أفصح عنه بالقول البيِّن. تروي أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): كان كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه. وفي صحيح البخاري، عن أنس، عن النبـي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم، سلم ثلاثاً. 
كل هذا حتى يبقى الإنسان واضحاً ويستطيع أن يمارس حياته بوضوح. 
قال الله في فئة المنافقين: [لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]، حتى قال: [وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ]، ثم: [حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا]، وقال الله: [أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ].
وقد شاء الله أن يخص المنافقين بسورة في كتابه العزيز يقول فيها: [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ. وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ]. 


طرد المنافقين من المسجد

بلغت المواجهة بين المسلمين والمنافقين حداً أنزل الله فيه سورة من القرآن حملت اسم (المنافقين)، وبدأ المسلمون عند ذاك يطردون المنافقين من المساجد. يقول ابن هشام: "وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ فَيَسْتَمِعُونَ أَحَادِيثَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِدِينِهِمْ، فَاجْتَمَعَ يَوْماً فِي الْمَسْجِدِ مِنْهُمْ نَاسٌ، فَرَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، خَافِضِي أَصْوَاتَهُمْ، قَدْ لَصِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأُخْرِجُوا مِنْ الْمَسْجِدِ إخْرَاجاً عَنِيفاً، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ، خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، إلَى عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، أَحَدِ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ. كَانَ صَاحِبَ آلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَحَبَهُ، حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَتُخْرِجُنِي يَا أَبَا أَيُّوبَ مِنْ مِرْبَدِ بَنِي ثَعْلَبَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ أَيْضاً إلَى رَافِعِ بْنِ وَدِيعَةَ، أَحَدِ بَنِي النَّجَّارِ فَلَبَّبَهُ بِرِدَائِهِ ثمَ نَتَرَهُ نَتْراً شَدِيداً، وَلَطَمَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَأَبُو أَيُّوبَ يَقُولُ لَهُ: أُفّ لَكَ مُنَافِقاً خَبِيثاً: أَدْرَاجَكَ يَا مُنَافِقُ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)... وَقَامَ عِمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلاً طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَادَهُ بِهَا قَوْداً عَنِيفاً حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ جَمَعَ عِمَارَةُ يَدَيْهِ فَلَدَمَهُ بِهِمَا فِي صَدْرِهِ لَدْمَةً خَرَّ مِنْهَا. قَالَ: يَقُولُ: خَدَشْتَنِي يَا عِمَارَةُ، قَالَ: أَبْعَدَكَ اللَّهُ يَا مُنَافِقُ، فَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنْ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)... وَقَامَ أَبُو مُحَمَّدٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، كَانَ بَدْرِيّاً، وَأَبُو مُحَمَّدٍ مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ... إلَى قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، وَكَانَ قَيْسٌ غُلَاماً شَابّاً، وَكَانَ لَا يُعْلَمُ فِي الْمُنَافِقِينَ شَابٌّ غَيْرُهُ، فَجَعَلَ يَدْفَعُ فِي قَفَاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَلْخُدْرَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ، رَهْطِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِِ بْنُ الْحَارِثِ، حَيْنَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِِِ (صلى الله عليه وسلم) بِإِخْرَاجِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ ذَا جُمَّةٍ، فَأَخَذَ بِجُمَّتِهِ فَسَحَبَهُ بِهَا سَحْباً عَنِيفاً، عَلَى مَا مَرَّ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ، حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ. قَالَ: يَقُولُ الْمُنَافِقُ: لَقَدْ أَغْلَظْتَ يَا ابْنَ الْحَارِثِ، فَقَالَ لَهُ إنَّكَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، أَيْ عَدُوُّ اللَّهِِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّكَ نَجِسٌ. وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى أَخِيهِ زُوَيِّ بْنِ الْحَارِثِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إخْرَاجاً عَنِيفاً، وَأَفَّفَ مِنْهُ، وَقَالَ: غَلَبَ عَلَيْكَ الشَّيْطَانُ وَأَمْرُهُ. فَهَؤُلَاءِ مَنْ حَضَرَ الْمَسْجِدَ يَوْمئِذٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهَِِ (صلى الله عليه وسلم) بِإِخْرَاجِهِمْ"(1). قال الله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]، ويقول: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]، ويقول الله فيهم: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ. وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ].
مثل النفاق في الناس كمثل جسدٍ فسد فيه عضو خفي لبث يصدر الفساد حتى أتى على كامل الأعضاء. 
لا يمد المنافق خطوةً لإفساد غيره قبل أن يكون قد مدها لإفساد نفسه، لأن النفس الصالحة لا تنجح في مهمة إفساد غيرها قبل أن يتحقق فيها فساد. 
يبتغي المنافق بنفاقه أن يشوّه الحقائق، ويعتمد في مهمته على التردد إلى الأماكن الآهلة بالسكان، فالمنافق لا يحقق شروط النفاق إذا لبث في مسكنه وأحكم الباب على نفسه، وعندها ليس مطلوباً من أحدٍ أن يدخل بيته ويتهمه بالنفاق، فالنبـي (صلى الله عليه وسلم) أمر بطرد المنافقين عندما تسربوا إلى مسجده وابتغوا الفساد والشقاق في المسلمين، وبذات الوقت فإن النبـي (صلوات الله وسلامه عليه) يقعد إلى الكافر ويدعوه إلى دين الله الجديد لأن الكافر في حقيقة الأمر هو شخص واضح معني بالرسالة، ومن أصحاب النبـي (صلى الله عليه وسلم) مَنْ كانوا كفاراً قبل أن يدخلوا الإسلام، ولكنهم لم يكونوا منافقين. 
ثمة حديثٍ آخر للنبـي (عليه الصلاة والسلام) ورد في صحيحَي البخاري ومسلم، يوضح فيه أن الإنسان يمكن له أن يحمل خصلة من نفاق، ففي صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر(2). فالنفاق هو قول وفعل وممارسة، والشخص لا يكون منافقاً بكلمةٍ تقال له أو بفعلٍ يُساء فهمه فيه أو حتى بذنبٍ اضطر إليه، بل وحتى بكذبٍ وجد نفسه فيه مضطراً. وحتى يحمي الإسلام المسلمين من النفاق فقد وضع قاعدة ثابتة تيسر لهم بعض المواقف المحرجة التي يتعرضون لها، فأباح فيهم أن "الضرورات تبيح المحظورات"، وأن [مَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ]، ولكن المنافق لا شيء يضطره إلى النفاق والدين يقول: لا إكراه فيَّ. ومن هنا تميز المنافق عن غير المنافق. وجاء النبـي (صلى الله عليه وسلم) موضحاً هذا التمييز بينهما فقال: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً ويقول خيراً"(3). وفي رأي لأبي حامد الغزالي يقول فيه: "الكلام وسيلة المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب ولم يكن بالصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذاك المقصود مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه، وجب الكذب بإخفائه، حتى لو أخبره بوديعة عنده فأخذها الظالم قهراً، وجب ضمانها على المودع المخبر، ولو استحلفه عليها، لزمه أن يحلف يوري في يمينه، فإذا حلف ولم يور، حنث على الأصح، وقيل لا يحنث، وكذلك لو كان مقصود حرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذب ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرض إلا بالكذب(4). ويقول: "الذي له مثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ليأخذه، فله أن ينكره، أو يسأله السلطان عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكرها ويقول: ما زنيت، أو ما شربت مثلاً(5).
حدث هذا كله حتى يتميز المؤمن عن المنافق، ولا يخلط الحابل بالنابل، إضافةً إلى ذلك فقد يجنح مؤمن إلى ذنبٍ وهو مؤمن، لكنه يستر نفسه في ذنبه، والدين هنا يبيح له أن يستر نفسه في ذنبه وألا يبوح به لأحد، ويطلب العفو من ربه بالسر، في حين أن المنافق يقوم بنشر الفاحشة بغية الترويج لها وجعلها قاعدة، وفي جميع الأحوال فإن النوايا هي التي تحدد الأفعال، وقد جاء في بيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "إن العبد لا يُكتب في المسلمين حتى يسلم الناس من يده ولسانه، ولا ينال درجة المؤمنين حتى يأمن جاره بوائقه، ولا يعد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس. أيها الناس أنه من خاف البيوت أدلج، ومن أدلج في السير وصل، وإنما تعرفون عواقب أعمالكم لو قد طويت صحائف آجالكم، إنه نية المؤمن خير من عمله، ونية المنافق شر من عمله"(6).
خرَّج مسلم عن محمد بن أبي عمر، عن سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم، فيلقى العبد فيقول: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل الإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يارب. فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع فيقول: ههنا إذن. قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهداً عليك. ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟! فيختم على فيه، ويقال لفخذه: أنطق. فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعلمه، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي سخط الله عليه(7) .

الهوامش:
(1) ابن هشام، سيرة ابن هشام (ط2، بيروت: دار الكتب العلمية، 2004)، ص370-371.
(2) الإمام النووي، الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار، باب النهي عن الكذب وبيان أقسامه (مكتبة الغزالي، 1971)، ص336.
(3) المصدر السابق. ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أم كلثوم "رضي الله عنها" أنها سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً. وأم كلثوم هي بنت عقبة بن أبي معيط القرشية الأموية أخت عثمان بن عفان لأمه، وهو الحديث الوحيد الذي ورد لها في الصحيحين. 
(4) المصدر السابق، ص 336 – 337.
(5) المصدر السابق، ص 337.
(6) ابن عربي، كتاب الوصايا (دمشق: دار الإيمان، 1986)، ص 289. قال ابن عربي: "معناه موجود بالأحاديث صحيحة متفرقة ولم أجد نصه". 
(7) الحديث أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة "رضي الله عنه". رواه أبو داود في "السنن" باب "في الرؤية"، والترمذي رقم 2557 في صفة الجنة باب "ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى"، وهو حديث صحيح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق