07‏/02‏/2014

ملف العدد: استراتيجية اللاعنف في فكر الاتحاد الاسلامي الكردستاني

 سعد الزيباري
الاتحاد الإسلاميُّ مثَّل تجربةً فريدة من نوعها في المشهدِ السياسيِّ الكوردستاني، وانطلق منذ بدايةِ إعلانه نحو ترسيخ ثقافةِ الحوار في تلافيف وعي الفرد الكرديِّ الذي ظلَّ مسكوناً بهاجسِ الخوف لعقودٍ طويلة، واعتمد مبدأ المعارضة السلميَّة الفاعلة، وارتكح إلى المنهج الوسطيِّ في إدارة الصراع، وقَبِلَ بالخيار الديمقراطيّ الرشيد والتداوُل السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع لا التصفية والاقتلاع، وكان سفيراً للحبِّ والحِوار في وقتٍ راجت فيه تجارةُ الحربِ والدَّمار، وقد أعلنَ عن ثورته السلميَّة ضدَّ كُلِّ أشكالِ العُنفِ والإرهاب في الفكرِ والسلوك والممارسة، كما
دشّن نقلةً معرفيَّة في مفهومات الحريَّة السياسيَّة وأطّرَها بضوابطَ أخلاقيَّةٍ مقنَّنة، وكان يعي جيِّداً أن الحريَّة هي الرئةُ الحقيقيَّة التي يتنفّسُ منها أيُّ مجتمعٍ ديمقراطيّ سليم بَلْ ومُحصّن من كُلِّ أشكال الحِجر والتهميش والاستعباد، وقد أعاد للديمقراطيَّة مفاهيمها الغائية الغائبة، واسترجعَ للانتخاباتِ نزاهتها المنسحقة تحتَ دولابِ القهر والجبر والتزييف، وكان ولا يزالُ يحملُ رصيداً دعويَّاً ثرَّاً وتجربةً سياسيَّةً مُتميِّزة. أمَّا في المجالِ المعرفيّ فقد قدَّم نخبةً فكريَّة واعية حرَّرتِ الوعي الكُردي من إساره المحليِّ الضيِّق نحو فضاءاتٍمعرفيَّة رحبة، وكانت له مساهماتٌ فاعِلة في إرساءِ أُسسِ المجتمعِ المدنيِّ القائِم على العدالة الاجتماعيَّة والحريَّة السياسيّة والرفاه الاقتصاديّ، ولم يبخلْ منذ بدايةِ حراكهِ السياسيِّ في توظيف كوادرهِ لدفعِ عجلة التقدُّم العلميِّ والتنمويِّ في البلاد، وكانت له مشروعاتٌ اقتصاديَّة وسياسيَّة طمُوحة، وقدَّم خلال عقدين من زمنِ نضالهِ السياسيِّ تجرِبةً فاعلةً كانت محطّ أنظار الساسةِ والمراقبين.
وقد أبى الاتحاد الإسلامي - على امتدادِ مسارهِ السياسيِّ المشهود - أن يحملَ سلاحاً في وجهِ الآخرين أيَّاً كانت أفكارُهم أو انتماءاتُهم، وانزاحَ في فعالياتهِ كلِّها نحو خطابٍ حضاريّ مسؤول في وقتٍ كان حملُ السلاحِ ضرورة مرحليَّة بل كان التوسُّل إليه استراتيجيَّةً مضمونةَ النتائج، حتى إن بعضَهم قد جعلَ مِنْ نزوعه السلميِّ تكأةً للسخرية والتهكّم والاستخفاف في وقتٍ كان منطق القوَّة هو النمطُ السائِد في حواراتِ تلك الفاصلة الزمنيَّة من النضالِ السياسيِّ الكُردستاني، وكان منطق القوَّة يستخفُّ بقوُّةِ المنطق دائماً، كما كان مبدأُ السَّلامةِ يُقدَّم عند بعضِ التيارات على سلامةِ المبدأ.
 وعلى الرَّغم من كُلِّ ذلك لم يشأ الاتحادُ الإسلاميُّ أن يُخاطِبَ شعبَه وبني جِلْدَتهِ بلغةِ البارود والبندقيَّة بَلْ خاطبَهُمْ بلغةِ التحضّر والمدنيَّة، وقد أخفقت كلُّ الوسائِل التي جَرَتْ لاستدراجهِ نحو الكفاح المسلّح، كما وأُجهضت كلُّ المحاولات الرامية لإزاحتهِ للجنُوحِ نحو العملِ العسكريِّ، وبقيَ مُعتمِداً أسلوبَ التحاور والتعايش والتضامُن الاجتماعيّ كخيارٍ استراتيجيّ بعيد المدى، وقد طبَّق على أرضِ الواقِع مبدأ أن "نتعاون فيما اتفقنا عليهِ، ويَعْذِر بعضُنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، كما أسَّس لقاعدةِ "الاختلافُ في الرأي لا يُفْسِدُ للودِّ قضية"، وكذلك إدراكُ "الاجماعِ على أمرٍ فرعيّ مُتعذِّر"، هذا، وأصَّل لمنهجِ "الخلافُ الفقهيُّ في الفرُوعِ لا يكون سبباً للتفرُّقِ في الدين"، فضلاً عن تأصيلِ شعار "رَأْيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأٌ يَحتَمِلُ الصَّوابَ"، كما ندَّد في الوقتِ نفسهِ بمن يرى أن "رأيه هو الصوابُ المطلق، ورأي غيره هو الخطأُ المطلق"، ذلك التفكير الذي أنتجته "العقليَّة (الدوغمائية) الوثوقيَّة التي تقعُ تحت تأثير امتلاك (الحقيقة المطلقة)، في حين أن العقليَّة الناضجة ترى أن هناك هامِشاً للخطأ والصواب".
وكان الاتحاد الإسلامي يرى - أبعد من ذلك - أن الخلافَ الطويل يعني: أنَّ كِلاَ الطّرفينِ على خطأ، وكان لسانُ حالهِ يقول: "قَدْ اختلِفُ مَعكَ في الرأي، ولكنِّي مُستعدٌ لأن أدفعَ حياتي ثمناً لحقِّك في التعبيرِ عَنْ رأيك". وقد تعرَّض نتيجةً لهذهِ الخيارات إلى مُضايقاتٍ نفسيَّة وضغوطاتٍ أمنية ومُزايداتٍ سياسيَّة، بَلْ وإلى استخفافٍ وتشويهٍ من لَدُن تياراتٍ كانت تنظرُ إلى السلاح باعتبارهِ استراتيجيَّةً لا خلافَ في مشروعيتها، بَلْ خيار غير قابل للتأجيل، ولك أن تتخيَّل مدى حساسيَّة ذلك الحِراك السياسي المدنيِّ الذي يجدُ نفسه في أُتون صراعٍ مشحونٍ بالإلغاء والإقصاءِ والمصادرة، وأن يظلَّ مع ذلك ثابتاً على حياده المبدئي وحِراكه المدنيِّ، وأن يعلنَ جهاراً نهاراً في أدبياتهِ السياسيَّة أنَّ قوَّتَه نابعةٌ من عدم تسلّحه، على عكسِ ما كان يراهُ الآخرون مِمَّنِ اعتمدُوا اصطناع المليشيات العسكريَّة والأجندات القتاليَّة، وكانت حصيلةُ ذلك أن قدَّم الاتحاد الإسلاميِّ ضحايا كُثر من أنصارهِ ومُحبيِّه فضلاً عن أعضائه ومن كان تحت لوائه.
 فالثقافة التي كانت سائدة آنذاك، ولا سيَّما في أوساط اليساريين "أنَّ العنف هو السبيلُ لانتصارِ الثورات، وأحياناً هو الوسيلةُ الفُضْلى التي لا غِنى عنها لتحقيقِ النصر، وترجمةِ أحلام الناس".
أمَّا الاتحاد الإسلامي فكان يؤكِّد - نقيض هذا التصوُّر - أن حَسْمَ القضايا السياسيَّة وحتَّى الاجتماعيَّة لن يكون عبر صناديق الذخيرةِ والاحتراب بل عن طريق المشورةِ والاحترام، وكان يقولُ بعدم جوازِ حَمْلِ السلاح ضِدَّ أبنائِه، أو تصويب البنادقِ نحو صدور شبابه، وكان سبباً في تثقيف الجيل الكُردي الواعِد ثقافة إسلاميَّة أصيلة، وكان يعلنُ دائماً أن الإسلام يريدُ من مُعتنقيهِ: إخلاصاً في نيَّتهم وصواباً في أعمالهم، ويبيِّن لهم أن الطاقة الإيمانيَّة التي يتشبّعُ بها بعضُ الشباب يجب أن تستنفذ بطريقةٍ صحيحة سليمة في بناء البيتِ الكُردستانيِّ الأصيل، ووقف بعزمٍ وحزم في وجهِ أولئك الشباب الذين تحوّلوا على حين غفلةٍ منهم إلى ديناميت مُشبَّع بالبارود الحي. وكان تصوُّرهُ في ذلك أنَّ "كُلَّ إنسانٍ له قَدْرٌ وشُحنة من اللاعنف يمكن تعميقه وتعزيزه بحيث يكون فائِضُه أكثر من العنفِ الذي هو مثار ضَعْفٍ لا قُوَّةٍ لدى الإنسان، حتى وإن جُبِّلت الطبيعة البشريةُ على هذهِ الثنائية المتلازِمة: العنف واللاعنف".
هذا، وكان يرى أن مواجهة الأفكار لن تكون إلا بأفكارٍ مثلها بل أقوى منها، فلكلِّ فعلٍ ردّ فعلٍ يُساويهِ في المقدار ويُعاكسه في الاتجاه، بناءً على مبدأ "حارِبُوهم بمثلِ ما يُحارِبونكم"، فالحربُ الفكريَّة لن تؤتي ثمارَها البتة عن طريقِ الوسائِل العسكريَّة، وإنما باصطناع الأدوات الفكريَّة الناضجة، و"أن نَكون نحنُ ذلك التغيير الذي نريدُ أن نراهُ في هذا العالم".
وكان يعتمدُ في نضاله السياسيِّ حكمةَ الشرق والغرب بناءً على قاعدة (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها)، وعليهِ فالموروثُ الإنسانيُّ في السلم واللاعنف إنما "يُشكِّلُ طاقةً حيويَّةً تعتمدُها الشعوبُ في نضالها الطويل، ويعتمِدُها المفكِّرون في تأجيجِ هذا النضال وعقلنته فكريَّاً ونظريَّاً"، فضلاً عن تأصيلِ القيم السماوية التي بشَّر بها إسلامُنا، بوصفه سلاماً للعالم، واستسلاماً لربِّ العالَم، وكذلك استلهام المبادئ التي جاءَ بها نبيُّنا الكريم رسولَ الهداية والسلام، ذلك الإنسان العظيم الذي تأثر به كلُّ فلاسفة العالم، ومن بينهم غاندي الذي وصفه بقوله: "لقد أردت أن أتعرَّف على أفضلِ ما في حياة شخص تخفق له قلوبُ الملايينِ من بني البشر. ولقد اقتنعتُ أكثرَ مِنْ أيِّ وقتٍ مضى بحقيقةِ أنَّ السيفَ لم يكُنْ هو مَنْ انتصرَ في تِلْكَ الأيَّام، بَلْ كانتِ البساطةُ والحبُّ والتَّسامُح، والمحو الذاتي التام للنبـيِّ الكريم (عليه الصلاة والسلام)، والاحترام الدقيق للعهود، والتكريس العظيم تجاه أتباعه، وجرأته، وقِلّة خوفه، وثقته التامَّة بالله وبرسالته. هذه القيم الإنسانية وليس السيف هي السلاح الذي اعتمدهُ المسلمون الأوائلُ في انتصارِهم الإنسانيِّ".
هذا، وقد دعا الاتحاد الإسلاميّ منذ بداياتِ نضالهِ الحركيِّ إلى المشاركةِ السياسيَّة الفاعلة، وإن كانت رمزيَّةً في أحايين كثيرة، ولكنَّهُ لم يشأْ أن يكون مُتفرِّجاً سلبيَّاً في السَّاحة، بَلْ أراد أن يلعبَ دورَهُ الإيجابيَّ في الرِهانِ السياسيِّ العام، وأن يكسِبَ أهدافاً حاسمة تكون في النهايةِ لصالحِ المجتمع ككل، ويشهدُ التاريخُ أنه لم يأل جهداً في تقديم يدِ العون والمساعدة لذوي الفاقة والمعوزين مِمَّن كانوا يشكِّلُون السواد الأعظم من المجتمعِ الكُردستانيِّ، وكان يرى أن استراتيجيَّة اللاعنف - التي تمثِّلُ شكلاً من أشكالِ التحرُّك السياسيِّ بغيابِ كُلِّ تصرُّفٍ عنيف - هي أكثر تأثيراً وفاعليَّةً من مبدأ العنفِ الذي نبذهُ في أدبياتهِ جُملةً وتفصيلاً.
 فالعنفُ يقودُ إلى مزيدٍ من العنف، والتطرُّف في السلوك يُؤدِّي إلى تطرُّفٍ أشد وأعتى، ويمكنُ للمجتمعِ أن يتصدَّى للعنف باللاعنف من أجلِ بناءِ السِلْم العالميِّ المنشود، فاللاعنف بعبارةِ مارتن لوثر "هو السلاحُ العادِلُ الذي يقطعُ دون أن يَجْرَح، ويجعلُ مِنَ الإنسانِ الذي يستخدمه نبيلاً"، وعطفاً على ذلك فإن اللاعنف هو صورةٌ سلميَّةٌ لا تمتُّ إلى القوَّة بصلة كما أنه "أسلوبٌ مِنْ أساليبِ العملِ السياسيِّ والاجتماعيِّ، تستبعدُ القوَّة في الوصُولِ إلى أهدافها، وتفتقد التعدِّي على حقوقِ الآخرين، وتقومُ على أساسِ الاعتراف بالآخر. فاللاعنف هو ترجيحٌ لكفّةِ الحقِّ والعدالة، وهذا الهدف لا يتناسبُ قَطْعاً معَ الخنوع والاستسلام".
وفي هذا السياق يؤكِّد الشيخ راشد الغنوشي "أن استراتيجية اللاعنف أو الجهاد السلميِّ هي أبعدُ مِنْ أن تكون استسلاماً، بل إن قمَّةَ الشجاعة أن تواجهَ عدوَّك بصدرٍ عارٍ، وأن تتحدَّى الرصاصةَ بالشعبِ، وبالرأي العام، وقوَّة السلاح بقوَّة الروح". فاللاعنف ليس عجزاً أو ضعفاً أو استسلاماً أو هزيمة بل هو كما يقول غاندي: هو"أعظمُ قُوَّةٍ متوافرة للبشرية، إنه أقوى من أقوى سلاح دمار تـمَّ تصميمه ببراعةِ الإنسان".
 هذا، وقد أكّد الدكتور علي أسعد أن اللاعنف "وإن كان فِعلاً مُسالِماً لا عنفَ فيه، فإنه نشاط حيوي فاعل ومؤثر، يمتلكُ طاقةً حيويَّة من القوة والقدرة والاقتدار، ويتطلب في الوقت ذاته درجةً عالية من السيطرةِ وضبطِ النفس". فاللاعنف بناءً على هذا المنطلق إنما يمثِّل أداةً للقوة المعنويَّة، واستراتيجية فاعلة للتحرُّر الإنسانيِّ، ووسيلةً ناجعة للاستنهاضِ التنمويّ، وهذه القوَّة الناعمة بوصفها استراتيجيَّة إنما تمثِّل في أصلِها حالةً مِنْ حالاتِ العصيانِ المدنيِّ المجرَّد من كُلِّ ألوان التهديدِ أو التلويح بالقوَّة، فالعصيانُ إذا كان مصحوباً بالعنفِ فإنهُ سيعزِّزُ من قوّة الخصم في النهاية، ولذا قيل: "لا تفعل أبداً ما يتمنَّى خصمك أن تفعله"، وعليه فاللاعنف "يومضُ بطاقةٍ روحيَّة تُكْرِهُ الخصمَ على التفكير، وتدفعه لمراجعةِ الذات، ووضعها في موضع التساؤل، وتكمُن قُوَّة اللاعنف في قوة الحقيقية والعدالة التي تفرض هيمنتها على الناس والأفراد"، دون عنفٍ أو إكراه، وبالتالي فإنَّ اللاعنفَ بوصفهِ استراتيجيَّة مدنيَّة "لا يهدفُ أبداً إلى سَحْقِ الخصم ومغالبته، بل إلى الانتصار على الشرِّ الذي ينمو في قلبهِ، مانعاً إيَّاهُ أن يكون كما يجب أن يكون الإنسان".
وهكذا ساهم الاتحاد الإسلاميّ في كَسْرِ حلقاتِ العنف الممتدّة في شرايينِ المجتمع الكُردستانيِّ من خلالِ بثِّ خطابٍ سياسيّ وسطيّ اعتداليّ يصبُّ في النهاية في خدمة المجتمع، وقد أخذ هذه الطريقة - التي تعتمدُ المسالمةَ والتسامح - كمنهجٍ أصيل ومبدأ ثابت في صراعهِ الإنسانيِّ من أجل قيم الحقِّ والحريَّةِ والعدالة.
   واستراتيجيَّة اللاعنف إنما تقومُ أصلاً على العنصرِ الحواريّ والمبدأ التفاوضيِّ الفعّال، وتعدُّ المحرِّك النابض لتجديد الوعي وتفعيله ومن ثَمَّ تثويره في الاتجاه الصحيح، لذا "فالحوارُ في صُورهِ المختلفة إنما هو تأكيدٌ لمبدأ جديدٍ في المقاومةِ هو أكثرُ فاعليَّةً وتأثيراً من بقيَّةِ أشكالِ المقاومة التقليديَّة المعروفة، كالمقاطعة، والإضرابات، والمظاهرات، والاحتجاجات".  
أمَّا فيما يتعلّق بمبدأ الحوار في فكر  الاتحاد الإسلامي فإنه كان ولا يزال ينظرُ إليه على أنه المنهجُ التأسيسيُّ للتعامُل مع الآخرين، بصرفِ النظر عن توجهاتهم وأفكارهم، بل يرى فيه - أكثر من ذلك - قيمة حضاريَّة فاعلة تسهمُ في تحقيق الانسجام بين المكونات الاجتماعيَّة كافّة، وعليهِ لم يكنِ الحوارُ عندهُ مطارحة دعائيَّة أو مُماحكة جدليَّة لتحقيق أغراض ميكافيلية، وإنما كان بالضرورة موقفاً فكريَّاً ثابتاً مبنيَّاً على قناعاتٍ عقليَّة راسخة، جوهرهُ الاعترافُ بوجُودِ الآخر، وحقّهُ في الاختلاف، فهو يرى أن الحوار قضيةٌ حضاريَّةٌ تربطُ عَلاقاتِنا بالآخرين، لذا لا يمكن تأجيلُ المرافعةِ في شأنها أو الحكمُ غيابيَّاً ضِدَّها، بل لا بُدَّ من تفعيلها ومعالجةِ المشكلاتِ مِنْ خلالها، وبناءً على ذلك كان الحوارُ البنَّاء والنضالُ السلميُّ واللاعنفُ في منظور الاتحادِ الإسلامي استراتيجيَّةً بعيدةَ المدى، ومشروعاً حضاريَّاً مُتكامِلاً، وليس حالةً طارئة أو مسألة وقتية تكون رهناً لأنساق تاريخيَّة معيَّنة.
 وهذهِ التجربة الفريدة التي تميَّز بها الاتحاد الإسلاميّ لم تكن وليدَ عقدينِ مِنَ الزّمن أو أكثر وإنما كانت امتداداً طبيعيَّاً لسنواتٍ طويلة من النضالِ السياسيِّ السلميِّ البعيدِ كُلَّ البعد عن العنف والتطرُّف والمغالاة، فضلاً عن الجنوح نحو الخيار المسلّح، في الوقت الذي بات فيهِ حتَّى المحارِبُون القدامى يتحاشَون حملِ السلاح، وأصبح المسلّحُ القديمُ يخجلُ من حملِ بندقيته الثقيلة التي كان يتباهى بحملِها في السابق، بل ويتفاخرُ بالإنجازاتِ الدمويَّة التي حقّقها في ظلِّها، وهذهِ مِنَ الحجج الدامغةِ التي تدحضُ كُلَّ التقوّلاتِ المثارةِ في وجهِ الاتحاد الإسلامي قيادةً وقاعدة، وكيف لا وهو يعوِّلُ على موروثٍ تاريخي وتجرِبةٍ ثرَّة مِنَ النضالِ السلميِّ والعملِ الإصلاحيّ، وفي كُلِّ ذلك برهنَ للإنسانِ الكرديّ أنه تيارٌ إسلاميٌّ وسطيٌّ مُعتدِل.
  وإذا رجعنا بذاكرتنا إلى تاريخنا المعاصر لاستكمالِ المشهد، فإننا سنرى بكُلِّ وضوح أن الاتحاد الإسلاميَّ نأى بنفسهِ عن الصراعاتِ الداخليَّة والمصادمات القبليَّة، وأبى أن يستخدِمَ في مسارهِ السياسيِّ أيَّ وسيلةٍ من وسائل العنف والقهر والإكراه، بل أراد أن يكون مُصلِحاً مدنيَّاً يسعى إلى نزعِ فتيل الحرب بين العديد من الفصائل المتحاربة، وإزالة أشواك العنفِ السياسيِّ في التراب الكُردستانيِّ برمَّته، داعياً إلى نبذ كُلِّ ألوانِ العنف والإقصاء والتحريضِ والمصادرة، حقناً للدماءِ البريئة، وإطلاقاً لحريَّاتِ التعبير عن الرأي، ومنع كُلِّ صور الإكراه والتهميش والملاحقة، لأنها تؤدِّي بالضرورة إلى العنف والعنف المضاد، الأمر الذي يفضي في النهاية إلى تهديد الأمن والاستقرار، وتفجير الأوضاع واضطرابها، واستنزاف الكثير من طاقات الشعب دون جدوى، وبذلك وضعَ حدَّاً لنزيفِ الدماءِ الغالية. كما يشهد تاريخنا أيضاً أن الاتحاد الإسلامي كان من الأحزابِ السياسيَّة التي التزمتْ استراتيجيَّةَ نبذِ العنف، ورفضهِ وسيلةً للتعامُل مع المنازعات الداخليَّة التي كانت تشتعلُ بين حينٍ وآخر، وكان يصدرُ في ذلك من منطلق إسلامه الذي يؤكِّد أن الغاية الشريفة تستوجبُ الوسيلةَ الشريفة، فالغايةُ الشريفةُ لا تبرِّر الوسيلةَ أيَّاً كانت إن لم تكن شريفةً كغايتها، فالعنفُ "إذا كان وسيلةً، إلاّ أنه سيُؤثر في الغاية، وهل يمكن تصوُّر غاية شريفة يتمُّ الوصول إليها بوسائل غير شريفة؟! والغايةُ الأخلاقيَّةُ النبيلةُ تحتاج إلى وسائِلَ أخلاقيةٍ وراقية للوصول إليها".
فالرسالةُ النبيلةُ تستوجِبُ وسيلةً نبيلة، ومن هنا فإذا "كانتِ الوسيلةُ تستهدفُ التغييرَ، فإن العنفَ والعنفَ المضاد سيفضي إلى التدمير، وغايةُ التغيير تحتاجُ إلى عَلاقةٍ وطيدةٍ بالسَّلام والتسامُح والجمال والعِمْران والحبِّ، وليسَ العكس"، وهذهِ كلّها مبادئ إسلاميَّة سامية أصَّلها قرآننا وفصَّلها نبيُّنا، وفي هذا السياق يؤكِّد الدكتور د.عبدالحميد أحمد أنَّ "الموقِفَ الإسلاميَّ المبدئيَّ في مكّة كان يتمثَّلُ في منعِ استخدامِ القوَّةِ والعنفِ في حَسْمِ الصراعاتِ السياسيَّةِ بين الصفواتِ داخل المجتمع الواحِد، حتَّى لو تعرَّضت بعضُ الفئاتِ للعدوانِ والأذى في دعوتها للإصلاحِ ودفع المظالِم، وأن على الأطرافِ المعنيَّة اللجوء إلى الطرقِ السلميَّةِ والشوريَّة لحلِّ الخلافات، وأن المواجهة تبقى دائماً حقّاً مشروعاً للأُمّة مُمثلة في السلطانِ الشرعيِّ، وقادةِ الرأي والشورى من أهلِ الحلِّ والعقد"، وليس من حقِّ كُلِّ إنسانٍ يحملُ سلاحاً يريدُ به إصلاحاً، فإراقةُ الدماءُ هِيَ خطيئةٌ كُبرى في شِرْعة السَّماء.. وعليهِ فإنَّ "مُمارسةَ العنف ضِدَّ العنفِ ستُؤدِّي إلى اشتباكِ خطيئتين، وبالتالي ستكون العدالةُ هِيَ الغائب، والمهزومُ هو الحقُّ، والسلامُ هو المفقُود، الأمرُ الذي اقتضى توحيد الوسيلة بالغاية، فالوصولُ إلى السلام لا يفترضُ به استخدام العنف، وإن كان أحياناً دفاعاً عَنِ النفس، في لحظة مواجهة، لكن الغاية تقتضي إقامة السلام، بالتسامح والبناء، لا بالكراهية والهدم"، فالشجرةَ - كما يراها غاندي - هِيَ الغايةُ، أمَّا الوسيلةُ فهِيَ البذرةُ، والغايةُ موجودةٌ في الوسيلة، مِثلما توجدُ الشجرةُ بالبذرة"، وأنّ "العالَمَ، إذا كان عليهِ أن يَصِلَ إلى السَّلام، فاللاعنفُ هو الوسيلةُ إلى تلك الخاتِمة، وليس هناك من غيرها"، حتَّى "إن النصرَ الناتِجَ عن العنف هو مُسَاوٍ للهزيمة"، فـ"ليسَ بالشرِّ يوقَف الشرُّ، بَلْ بالخير"، أمَّا "أن تقتلَ إنساناً مِنْ أجلِ خيرِ العالَم فهو أمرٌ يتناقَضُ مع خيرِ العالَم، ولكن أَنْ تتألّم وتُضحِّي بنفسِكَ مِنْ أجلِ العالَم ذلِكُم هو الخيرُ كلّه".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق