06‏/02‏/2014

أدب: أسئلة الادب الكونية

عبدالكريم يحيى زيباري 
معظم الأدب العالمي يكتسب عالميته من انعكاسات الخير والشر في معانٍ مطلقة لا تتأتى غالباً بدون فهم وهضم النصوص الدينية والاقتباس منها، والتحاور معها بروحانيةٍ عاليةٍ، دونَ أنْ نسمعَ نقداً لهذا الاقتباس، بينما يحذر أدباؤنا بالغ الحذر من الاقتباس أو التحاور مع النصوص الدينية. 
كتب (دوستويفسكي) روايته (الأخوة كارامازوف) عام 1880، وتخيل أنَّ حكاية المفتش الأكبر وقعت في (إسبانيا) الجاثمة تحت قبضة محاكمة التفتيش في القرن الخامس عشر، صمت السيد المسيح (عليه السلام) أمام هذيان الكادرينال الذي بلغَ التسعين من عمرهِ، ودخل في حوارٍ
طويل، بعدما أحرق مائة إنسان، وثلاثة أسئلة كونية استوحاها (دستويفسكي) من الكتاب المقدَّس.
ثلاثة رموز ترسم مستقبل الإنسانية: المال والسلطة، وبينهما قدر الله وقضاؤه. (دوستويفسكي) تخيَّل عودة المسيح، برواية (إيفان) الإنسان المادي صوت العقل، لشقيقهِ
(أليوشا) الإنسان الروحي تلميذ الأب (زوسيما)، لتثبيطهِ وتفتيت همته عن الاستمرار في محاولات الإصلاح. إيفان على لسان المفتش الكبير، كاردينال إشبيلية، يمتدح ثلاثة أسئلة لإبليس، سألها للسيد المسيح (عليه السلام).. "كون الأسئلة قد ألقيت، تشهد بأنَّ الأمر لم يكن أمر عقل إنساني عادي، بل أمر فكر خالد مطلق، ذلك أنَّها تضمُّ في ذاتها، وتشتمل على كل التاريخ المقبل للإنسانية، وتقدِّم رموزاً ثلاثة تتركَّزُ فيها جميع تناقضات الطبيعة الإنسانية، التي لا سبيلَ إلى حلها.. الآن بعد انقضاء خمسة عشر قرناً، فإننا نرى أنَّ كلَّ شيء تضمنته تلك الأسئلة قد تأكدت صحته، إلى درجةٍ لا نستطيع أن نضيفَ إليها شيئا، أو أنْ نحذف منها شيئا بعد اليوم"(1). والأسئلة كانت في شكل ثلاثة اختبارات: الاختبار الأول: "هل ترى هذه الحجارة في الصحراء الوعرة المحرقة، حولها إلى خبز، تهرعُ إليك الإنسانيةُ كقطيع جائع". (ج1، ص534). أجابه السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". وفي الاختبار الثاني قال لعيسى: القِ نفسك من فوق الجبل؟ فأجابهُ السيد المسيح: يا لعين، الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله (عز وجل). والثالث كان: "ألا فاعلم أنَّنا لسنا معك، بل معه هو.. إننا منذ زمنٍ طويل كَفَفْنَا عن أنْ نكون معك، وتحيَّزنا هل هو، فمنذ ثمانية قرون، قبلنا أنْ نأخذ منه ما سَبَقَ أن رفضته.. أعني الهبة الأخيرة التي عَرَضَها عليك، وهو يشير لك إلى ممالك الأرض، لقد قبلنا أنْ نأخذ من يديه روما وسيف القيصر، وأصدرنا قراراً بأنْ نكون لهذا العالم ملوكه الوحيدين.. لقد كان في وسعك أنْ تقبل سيف القيصر، فلماذا رفضت تلك الهبة الأخيرة؟ لو اتبعت الوصية الثالثة التي نَصَحَكَ بها الروح القوي". (ج1، ص543). يقصد بالروح القوي: إبليس. رفضَ السيد المسيح المادة في أبسط صورها، الخبز، فكيف بالذهب والأموال، وبعض التقارير تتكلم عن عشرة أشخاص يمتلكون نصف ثروات العالم. يقول البرتغالي (المييدا جاريت): "وأنا أسأل علماء الاقتصاد السياسيين وعلماء الأخلاق: هل أحصيتم عدد مَنْ حُكِمَ عليهم بمعاناة البؤس والعمل الشاق وتثبيط الهمة والنمو المتأخر والجهل المفسد والمصائب التي لا تُقهر والفقر المُدْقِع: كلُّ ذلك من أجلِ خلقِ ثريّ واحد"(2).
وقد قال تعالى: (وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) التوبة: 34- 35. وفي الاختبار الثاني، حاول التشكيك في قدرة الله، والدخول من باب الإيمان في القضاء والقدر، يقول تعالى: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) يوسف: 21. مهما نخطِّط لأمرٍ، ويكاد يصير بين أيدينا، فيأتي أمرُ الله خلاف توقعاتنا، وغير المتوقَّع دائم الحدوث. أمَرَهُ والدُهُ بألا يقصَّ رؤيته على إخوتهِ، فَغَلبَ أمرُ الله، ففَعَلَ، أرادَ إخوتهُ أنْ يبعدوه، فسخر الله فرعون ليوسف (عليه السلام)، لأنَّ "الناس مربوبون مقهورون مربوطون بأقدارهم". ولا تتحقَّق إلا مشيئة الله في خلقهِ، والسؤال الثالث يتعلَّق بالسلطة والجاه. 
ويحكي (إيفان) حكاية المفتش الكبير: "لقد انقضت خمسة عشرَ قرناً منذ أنْ وعدَ بأن يعود إلى مملكته، منذ أنْ كتبَ رسوله " سأعودُ قريباً"، أما اليوم والساعة فإنَّ أحداً لا يعرفهما، وإنَّما يعرفهما أبي الذي في السموات.. ولكن الإنسانية ما تزال تنتظره بإيمانٍ واحد، وحماسة لم تتغير.. أحداث قصيدتي تجري في إسبانيا، مدينة إشبيلية، في أحلك عهود التفتيش.. " في نيرانٍ رائعة، تمجيداً لله، يُحرقُ الزنادقة الأشرار" ... نزلَ إلى الشوارع الملتهبة من المدينة الجنوبية، التي تمَّ فيها أمس، إحراق حوالي مائة من الزنادقة... لكن الأمر الغريب هو أنَّ جميع الناس سرعان ما عرفوه- شفى ضريراً، وأحيا طفلةً ميتة- اضطرب الجمهور وصاح وبكى، وفي تلك اللحظة ظهر الكاردينال، المفتش الأكبر.. وهذا هو يشير إلى المسيح بسبابته، آمراً الحرس بأن يعتقلوه.. وسجدَ الجمهور بحركةٍ واحدة أمام المفتش الأكبر الذي باركَ الجمهور صامتاً وانصرف، أُخِذَ السجين إلى المبنى العتيق الذي يقع في المحكمة المقدسة... تقدَّم المفتش الأكبر.. وضعَ المصباح على المنضدة وقال له:
أهذا أنت إذن؟ اسكت لا تقل شيئاً! وما عساك أنْ تقول لي؟ إنني أعرف سلفاً ما قد تقوله لي؟ لماذا تجيء اليوم لتعرقل عملنا.. إنَّ كل قول جديد قد تأتي به، سيسيئ إلى حرية إيمان الناس، لأنَّه سوف يبدو معجزة من المعجزات، وقد كانت حرية إيمانهم أعزُّ شيءٍ لديك، آنذاك منذ خمسة عشر قرناً، ألم تكن تردد على مسامعهم مِراراً: "أريد أن أجعلكم أحراراً".. ولقد رأيتهم بعينيك، هؤلاء البشر الأحرار، إنَّ هذه الحرية هي من صنعنا، وقد كلفتنا جهوداً لا نهاية لها، ولكننا أتمننا عملنا أخيراً باسمك.. البشر في هذا اليوم بعينهِ أشدُّ اقتناعاً منهم في أيِّ وقتٍ مضى بحريتهم الكاملة، ومع ذلك فالواقع أنهم تنازلوا عنها ووضعوها عند أقدامنا بكثير من الطاعة... 
لقد أجبت بقولك: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" أفكنتَ تجهل إذن أنَّ روح الأرض سيثور عليك باسم هذا الخبز الأرضي نفسه، وأنَّهُ سيقاتلك ويغلبك، وأنَّ الجميع سيتبعونه قائلين: "من هذا الذي يستطيع أن يقيس نفسه بهذا الوحش الذي وهبَ لنا نار السماء" لسوف تنقضي قرون، فيأتي يوم تنادي فيه الحكمة الإنسانية وينادي العلم الإنساني بأنَّ الشرَّ لا وجود له، وأنَّ الخطيئة تبعاً لذلك لا وجود لها، مؤكدين أنَّ هناك جائعين فحسب، أطعمهم تجعلهم فاضلين، بهذه الصيحة سيحملون الراية ضدك، سيقوضون معبدك، ويقيمون مكانه مبنىً آخر، هو برج بابل ثانٍ مهدِّدْ، صحيح أنَّ البناء لن يتم، كما لم يتم في المرة الأولى... لأنَّ الذين سيطعمون البشر يستطيعون وحدهم أن يتموا هذا العمل حتى النهاية، وسوف نطعمهم باسمك، كاذبين عليهم بأننا نفعل ذلك باسمك، بدوننا لن يستطيعوا أن يطعموا أنفسهم ابداً، لنْ يهبَ لهم العلم خبزاً ما ظلوا أحراراً، ولكنهم سينتهون إلى أنْ يرموا حريتهم على أقدامنا قائلين: " استعبدونا ولكن أطعمونا".. لقد وعدتهم بخبز السماء، ولكنني اسألك: هل يُقاس خبز السماء بخبز الأرض في نظر هؤلاء البشر، الذين سيظلون إلى الأبد فاسدين عاقين؟ إذا كانت ألوف من الناس، أو كانت عشرات ألوف من الناس، أو كانت عشرات ألوف من الناس، مستعدة لأنْ تتبعك في سبيل خبز السماء، فماذا تفعل الملايين والمليارات من الكائنات التي لن تحس بأنها قادرة على أنْ تتنازل عن خبز الأرض، في سبيل خبز السماء... وسوف نوهمهم مع ذلك بأنَّنا نطيعك أنت، وبأنَّنا نحكمهم باسمك، سوف نكذب عليهم من جديد، لأنَّنا لن نسمح لك بعد الآن بأنْ تتدَّخل في شؤننا، وسيكون هذا الكذب الضروري عذابنا، فلا رغبة أقوى ولا همَّ أبقى لدى الإنسان الذي أصبحَ حراً، من همِّ العثور على سيدٍ يعبده بأقصى سرعة"(3). 
الناس يعادي بعضهم بعضاً لغرضٍ وسبب، ولو تأملوا في قوله تعالى: [إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا] فاطر: 6، وفي الحديث: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)، لربما تحقق السلام العالمي المنشود في مقولة مكسيم غوركي: "كلنا أطهار قديسون إذا ما نام إبليس عنا"، ويقول تعالى:[وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً] الكهف: 50.

الهوامش:
(1) ديوستوفسكي، الأخوة كارامازوف، ترجمة، سامي الدروبي (موسكو: دار رادوغا، 1988)، ج1، ص534.
(2) جوزيه ساراماغو، ثورة الأرض، ترجمة، أحمد عبداللطيف (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009)، ص12. وجاريت (1799-1854) كاتب برتغالي شهير.
(3) ديوستوفسكي، الأخوة كارامازوف، ج1، ص522-536.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق