04‏/01‏/2015

تأملات في آية التغيير

صالح شيخو
مفتاحَي  التغيير والنهوض
منحنا الله تعالى في كتابه المجيد مفتاحين للخلاص والتغيير، والنهوض من ركام التخلف والتبعية، ومن العيش بنفس منهزمة وبسلبية في الحياة، تؤدي إلى الموت البطيء، مع ما يسبقها من تعفن وتفسخ، إن لم نبدأ بإعادة إنسانية الإنسان إليه، ليشعر بقيمته، ويعرف الدور الملقى على عاتقه. لأن "هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس، ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر، ما لم تكن
صادرة عن إخلاص لله وتجرد، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى.
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، يؤدي منها الإنسان ما يشاء، ويدع منها ما يشاء.. إنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره، وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر.. غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح الحياة، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء.. وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد.
ولقد يقول الإنسان بلسانه: إنه مسلم، وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه. وقد يصلي، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة، ولكن حقيقة الإيمان، وحقيقة التصديق بالدين، تظل بعيدة عنه، ويظل بعيدا عنها. لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها، وما لم توجد هذه العلامات، فلا إيمان ولا تصديق، مهما قال اللسان، ومهما تعبد الإنسان! إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها، لكي تحقق ذاتها في عمل صالح. فإذا لم تتخذ هذه الحركة، فهذا دليل على عدم وجودها أصلا"(1).
ولن نحيا الحياة الكريمة ما لم نبدأ بـالمفتاح الأول:

1- التغيير الذاتي:
 قال تعالى: ﴿ إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ (الرعد:11).
ربطت هذه الآية الكريمة تغيير ما بالقوم بتغيير ما بالأنفس، ولكنه ليست سنة فرد واحد هنا وهناك، وإنما سنة مجتمع بأكمله، بمعنى وإن كان التغيير ينصب على الذات، وإيجاد الإنسان المصلح، في دائرة سيطرته، في إطارها الفردي بالدرجة الأولى، لكنه لا يؤتي ثماره المرجوة، إلا إذا انسحب الإصلاح على القوم، على دائرة التأثير والاهتمام.
يقول البكار: "إن الإنسان المصلح يترك بصمات الصلاح على كل جوانب الحياة التي يمسها، ويجعلها جميعاً منسجمة في وحدة، ضمن إطار العبودية لرب العالمين، والالتزام بأمره، وتحقق حكمته في الوجود. ومن ثم فإن السمة العظمى للحضارة الإسلامية لم  تكن غزارة الإنتاج المادي – على كثرته –، وإنما كانت التجسيد الحي لعقيدة التوحيد، والمثل والقيم الإسلامية، والتجاوب مع النزعة الإنسانية الأصيلة نحو حب الخير، والإحسان إلى الخلق، والرفق بهم، وهدايتهم"(2).
وتغيير ما بالأنفس يسبقه تغيير نظام الأفكار، فهي التي "منحتنا السيطرة على تغيير الواقع، عندما زحزحت ونقلت مكان التأثير من الغموض إلى مكان محدد معروف على وجه الدقة: (الأنفس)، فوضعت مفاتيحها في أيدينا، وضمن إرادتنا. ثم ربطت ما بين تغيير الواقع وتغيير نظام الأفكار أو محتوى النفوس. وهي عدت هذه ظاهرة إنسانية، فهي تنطبق على أي مجموعة بشرية، أي قوم، فلا يشكل المسلمون خرقا لهذه القاعدة، واستثناء عنها. ثم هي قانون اجتماعي غير فردي، فلا يفيد بالضرورة: أن فردا غيّر ما بنفسه بتغيير نظامه الفكري أن يتغير واقعه، إذن لكان الأمر سهلا إلى حد ما، لا بالعكس، قد يحصل عكس المقصود، فيعاني من العذاب الأليم.
وفكرة التغيير هذه فكرة خطيرة سلبا وإيجابا، فكما ربطت الآية هنا بين تغيير الواقع من خلال تغيير ما بالنفوس، أشارت إلى الواقع في آية لاحقة، مشيرة إلى النعم والنقم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ (الأنفال:53).
يمكن أن يدخل تحت مفهوم النعمة حزمة من التظاهرات الإنسانية، من الصحة والعمر المديد، والثروة والسعادة الزوجية، والأمن الاجتماعي، والرزق الوفير، واتساع نطاق التعليم..."(3).
وهذا تغيير يتوغل في النفس البشرية، "يمتد إلى المساحات كافة، وسائر المكونات النفسية الأساسية: العقلية والروحية، والجسدية، وكل العلاقات والبنى الداخلية مع الذات، ومع الآخرين، والتي تمكن الإنسان المسلم والجماعة المسلمة من مواجهة التاريخ..
إن تأكيد الإسلام على قانون التغيير يعني أنه يمنح الإرادة البشرية المؤمنة فرصتها في صياغة المصير، في التشبث به، أو استعادته إذا ما أفلت من بين يديها.. ومن ثم فإنه ما أن تتهيأ هذه الإرادة للعمل، عن طريق الشحذ النفسي، والاستعداد العقلي والأخلاقي والجسدي- كذلك-، حتى تكون قادرة على مواجهة التحديات من أي نوع كانت، وبأي درجة جاءت، فتعجنها وتصوغها من جديد لصالح الإنسان؛ وهكذا يعود الإنسان لينتصر على التحديات، وليستعيد قدرته الأبدية على التجدد والتطور والإبداع..
إن التغيير الذاتي عملية شاقة تغطي الطاقات البشرية كافة: عقلية وروحية وأخلاقية وسلوكية وجسدية.. وأي تجزئ في الرؤية، أو الموقف، يقتل المحاولة في المهد... ولكننا بتأكيدنا على التغيير العقلي، إنما نعتمد ضرورة منهجية تضع في الاعتبار، دوما، سلما للأولويات، فنبدأ بالأهم، فالمهم، فالأقل أهمية "(4)..
ومن خلال ما سبق، نرى "أن الخطوة الأولى في طريق الحرية، هي إنتاج العقل الذي لا يخاف، فيكسر المسلمات عبر التساؤل، ويحرر ذاته من القهر إلى الإرادة، ويدرك قيمة العمل والجهد، ويتعلم أسلوب التخطيط، وتحريك ملكات الابتكار، واستخدام العلم في حل الألغام الاجتماعية والسياسية والاقتصادية -التي تملأ المجتمع- بنزع فتيلها، وليس الارتماء عليها... ليأتي بأفكار هي سبيكة معرفية نفسية، تتشابك وتتوافق مع العقول، وتترسخ وتتعمق في النفوس، فتدفع المجتمع إلى العمل الصامت، بعيدا عن الصياح، الذي هو دليل الضعف، والصراخ الذي يكشف عن العجز"(5). 
إن نظرة إلى الواقع اليوم، وفي تاريخ المجتمعات البشرية والحكومات -قديمها وحديثها- نرى "أن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننا متبعة ... أرشدنا سبحانه في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت، ومحي اسمها من لوح الوجود، إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة. إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة، حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر، وإشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة، والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا، وحل بهم الدمار... فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها. سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق، وتحديد الآجال"(6).
يُوضِّح لنا هذا التغيير "أن أعمال الجوارح ناشئة من نبع نفس تُحرِّك الجوارح؛ وحين تصلح النفس؛ تصبح الجوارح مستقيمة؛ وحين تفسد النفس تصير الجوارح غير مستقيمة... فالحق سبحانه وتعالى أخضع كل الجوارح لِمُرادَات النفس، فلو كانت النفسُ مخالفةً لمنهج الله؛ فاللسان خاضع لها؛ ولا ينطق رغم إرادته بالتوحيد؛ لأن النفسَ التي تديره مخالفةٌ للإيمان... يدلنا أنه سبحانه لا يتدخل إلا إذا عنت الأمور؛ وفسد كل المجتمع؛ واختفت النفس اللوامة من هذا المجتمع؛ واختفى من يقدرون على الردع    -ولو بالكلمة- من هذا المجتمع؛ هنا يتدخل الحق سبحانه.
وحين يغير الناس ما بأنفسهم، ويصححون إطلاق الإرادة على الجوارح؛ فتنصلح أعمالهم؛ وإياكم أن تظنوا أن هناك شيئا يتأبى على الله "(7).
والتغيير الذاتي ينصب في مجمله -أولاً وأخيراً- على قضية تحرير الإنسان، في مواجهة الهزيمة النفسية، بإحداث انتفاضة نفسية قادرة على "بث روح الاستعلاء بالإيمان، والخصوصية الرسالية، والمنجزات التاريخية- يظل مهماً لتجديد الروح، ونفض اليأس والقنوط عن نفوس المسلمين. هذه الانتفاضة المطلوبة، تحتاج إلى تعزيز الانتماء، من خلال التضحية، والقدوة الحسنة، وتحتاج كذلك إلى نوع من إبراز الإيجابيات التاريخية والحاضرة، كما تحتاج كذلك إلى التأكيد على إمكانية تحسن الأحوال، فإن خسارة جولة أو جولات لا تعني خسارة المعركة، ما دام الإصرار على كسب الفوز موجوداً "(8).
وقضية تحرير الإنسان "هي المبدأ الذي بدأت به دعوة الرسل جميعا، فلم يطبقوا شرعا أو حكما قبل أن يحرروا الإنسان، من الإنسان، ومن سائر المعبودات.
إن كل الشعارات التي ترفع تطبيق الشرع في مجتمعات مشلولة الإرادة، يستعلي على كرامتها التسلط والطغيان، فهي كمن يريدك عبدا لله في باب العبادات، وعبدا للطاغية في سياسته وقهره... ولكي يحفظ الإنسان تحرره من سائر المربوبات، فهو مأمور أن يراجع قلبه ويفحص إيمانه بالله على الدوام، ليخرج من قلبه من دخل فيه مع الله "(9)، وهذا يعني أنه على الإنسان الذي يريد التحرر، والانطلاق نحو التغيير، أن يراجع نفسه وينتقدها، لأن من أصعب الأمور القيام بعملية نقد ذاتي، لأنها مواجهة للذات، لأننا تعودنا الهروب والفرار من نقد الذات، أو إعطاءها ما يشبه التقديس والتبجيل(10).
وإذا كان التغيير بالدرجة الأولى والأساس ينصب على الذات المسلمة في إطارها الفردي، ومن ثم يأتي التغيير على الجماعة المسلمة والمجتمع المسلم،  وهنا يأتي دور المفتاح الثاني، وهو:

2- الإعداد الذاتي:
وهذا الإعداد يجب أولا على الجماعة المسلمة، لكي تحمي الصف الداخلي من الشبهات والإيذاء الخارجي، ويحافظ على وحدة الفكر والتوجه. قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ (الأنفال:60).
وهذا الإعداد لا يحقق "المطلوب، إن لم تستجيش طاقات الإنسان المسلم كافة، ويعاد تشكيل عقله، كما أراد الإسلام أن يكون، ليتمكن من أداء دوره في هذه المهمة الكبيرة، للوصول إلى شواطئ الأمن واليقين، والتحقق بسياج القوة التي ترهب الأعداء وتمكن للأمة الإسلامية في الأرض "(11).
التكوين والإعداد الذاتي أمر شاق على النفس البشرية، صعب على الناس، إلا المؤمنين بالله، المتوكلين عليه، أصحاب النفوس العزيزة، والهمم العالية. ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾ نكرة تفيد العموم، فالإعداد الأدبي، والمادي، والإداري، والفني، والمالي، والعلمي، والتكنولوجي، والروحي، والتربوي.. كل ذلك فرض القرآن علينا الإعداد بأنواعه، وأن نبذل فيه أكثر جهودنا، وأن نقدم النفس والنفيس ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وتشمل أيضا إعداد الجيل إعدادا حربيا، وتسليحه بالعقيدة الإسلامية الحقة، وبالأخلاق الدينية الصالحة، وبالتربية الإيمانية والروحية ..
فالإعداد لا يتم، والطاقات لا تُستغل، إلا في فضاء من الحرية التي هي "صدى الفطرة ومعنى الحياة، يشب المرء من نعومته وهو يحسب أن كل ذرة من كيانه تنشدها وتهفو إليها، وكما خلقت العين للبصر، والأذن للسمع، وكما خلق لكل جارحة أو حاسة وظيفتها التي تعتبر امتدادا لوجودها واعترافا بعملها!..  كذلك خلق الإنسان ليعز لا ليذل، وليكرم لا ليهون، وليفكر بعقله، ويهوى بقلبه، ويسعى بقدمه، ويكدح بيده.  لا يشعر وهو يباشر ذلك كله بسلطان أعلى يتحكم في حركاته وسكناته إلا الله الفرد الصمد، ربه، ورب الناس أجمعين!.  بيد أن الناس تظالموا فيما بينهم، وطغى كبارهم على ضعافهم، ومال الميزان دائما مع ذوي القوة والبطش، فحيثما وجدوا، حجَّروا ما أراد الله له أن يتسع. وتاريخ العالم، من أعصار سحيقة، سلسلة من المعارك الداهية، والأحداث القاسية، حملت أوزارها الوثنيات السياسية السائدة، تلك الوثنيات التي ملكت نواصي الشعوب، وسخرتها في أهوائها العابثة، وفرشت طريقها بالأشواك والأقذار.  ومنذ آماد بعيدة والجماهير المهضومة تتطلع إلى حقوقها، وتسعى حثيثا لاسترجاع المغصوب منها، وقد تحملت في سبيل ذلك أفدح المغارم. ولماذا يرجع الإنسان إلى ذكريات الماضي، وهذه صفحة الحاضر الكئيب لعالمنا المرهق المكدود؟ إننا لا نزال نسمع إلى أنات الشاكين، وصرخات المخنوقين، من ضحايا الاستعمار الخارجي، والاستبداد الداخلي. وفي جنبات الشرق الأوسط بقايا من ظلمات الجاهلية الأولى ترين على القلوب والعقول، حتى ليحسب المرء أن هذه الظلمات تتقشع من آفاق الدنيا كلها لتتجمع في بلادنا وحدها؟ "(12).

عوامل إصلاح وتجديد المجتمع
إن الدين الإسلامي، بشموليته الواسعة، أتاح لنا إمكانات هائلة من التغيير والتجديد والإصلاح، والتخلص من الاستعباد، والتحول من مجتمع يهضم حقوق الإنسان، إلى مجتمع يعيد للإنسان إنسانيته، ويعشق العدل والحرية، في حدود الأصول والثوابت والمبادئ العليا؛ حتى تسود القيم الأخلاقية الفضلى. لذا وجب علينا أن نمتلك الفاعلية الإيجابية، والمسؤولية الكاملة؛ بأن نتخلى عن السلبية والانهزامية في الحياة، ونتحلى بأخلاقيات لا إله إلا الله، لإبداع الوسائل والآليات اللازمة، التي توظف كل الطاقات والمواهب وتستوعبها، ليسهل التوغل في نسيج المجتمع الشائك التعقيد. لقد "تخلف المسلمون لبعدهم عن حقيقة الإسلام، وإن بقيت لهم بعض مظاهره.. لقد بقي لهم أنهم ينطقون بأفواههم لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهل يعون معناها، أو يعرفون مقتضياتها؟
وبقي لهم أنهم يؤدون بعض العبادات، فهل أدركوا المقصود بها، أو رعوها حق رعايتها؟
وبقي لهم بعض (التقاليد) الإسلامية، فهل تصمد التقاليد الخاوية من الروح، للمعركة الضارية التي توجه إلى الدين عامة، والإسلام على وجه الخصوص؟ وبقي لهم تمنيات بأن ينصر الله دينه، ويعيد إليه أمجاده، فهل تكفي التمنيات لتغيير الواقع السيء وإنشاء البديل؟! 
نستطيع أن نقول ببساطة: إن كل مفاهيم الإسلام قد فسدت في حس الأجيال المتأخرة من المسلمين، تحولت لا إله إلا الله من منهج حياة كامل، إلى الكلمة التي تُنطق بالأفواه.
وتحولت العبادة – بعد أن انحصرت في الشعائر التعبدية، وخرجت منها الأعمال والأخلاق -  إلى أداء آلي تقليدي خاوٍ من الروح.
وتحولت عقيدة القضاء والقدر من قوة دافعة إلى النشاط والحركة، مع التوكل على الله، إلى قعود عن النشاط والحركة، مع تواكل سلبـي مريض. وتحول التوازن الجميل بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، إلى إهمال للدنيا من أجل الخلاص في الآخرة، فأهملت عمارة الأرض، وطلب العلم، وطلب التمكين والقوة، وعمّ الجهل والفقر والمرض، ورضي الناس بذلك كله على أنه قدر رباني لا قبل لهم بتغييره، بل لا يجوز العمل على تغييره، خوفاً من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله!  أهذا هو الإسلام؟!  أم هذه صورة مناقضة لحقيقة الإسلام؟ وهل يمكن أن يؤدي الشيء ونقيضه إلى نتيجة واحدة؟!
إذا كان الإسلام يؤدي في حياة الناس إلى التمكن والقوة والنظافة ونقاء الأخلاق، والتقدم العلمي والتقدم الحضاري، ومقاومة انحرافات البيئة والتغلب عليها.. فهل يمكن للصورة البديلة أن تؤدي إلى النتائج ذاتها؟
أم إنها لا بد أن تؤدي إلى الضعف والتخلف والخضوع لانحرافات البيئة والعجز عن تقويمها؟ وهذا الذي حدث بالفعل"(13).
فكان لا بد من العودة إلى التخلق بأخلاقيات الإسلام وجعله منهجا للحياة، وهذا لا يتم إلا "حين تضيء شموس الحرية، وتضرب بأشعتها في كل واد، فإن البشر تتسع آمالهم، وتكبر هممهم، وتتربى في نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة، فتتفتق القرائح فهما، وترتوي العقول علما، وتأخذ الأنظار فسحة ترمي فيها إلى غايات بعيدة، فتصبح الإمكانات طوع اليد، والطاقات طوع الفكر، والمصير طوع الإرادة، ويكون التخطيط طريق المجتمع في بناء الحضارة "(14). 
  ولتجديد المجتمع وتفكيك آلة الاستبداد وبنيانه، يجب أخذ القدر الكافي من الوسائل والآليات، ووضع الخطط والبرامج للتهيؤ والاستعداد لتحديات ومفاجئات المرحلة، لأن "بنيان الاستبداد بنيان مرصوص، وجذوره ضاربة في عمق التاريخ، حتى صار عقيدة وفقها وكتبا ومنابر وجامعات ودور نشر ووزارات تشرف على بنيانه، وعتادا دينيا متكاملا بكل أنواع الأسلحة، لمواجهة بدائل الاستبداد والملك العضوض. لم يدخر المستبد وسيلة أو فكرة تشيد بنيانه وترص صفوفه إلا أولاها العناية وفتح لها الخزائن والأموال، معتمدا على:
- جهازه الأمني والاستخباراتي في القمع والاضطهاد والاعتقال وصنوف التعذيب..
- وعلى جهازه القضائي، وهيئات التحقيق، في تغطية جرائمه وقمعه باسم الشرع.
- وعلى جهازه الإعلامي، لإلباس الباطل لبوس الحق.
- وعلى درعه الديني الضخم في الأدلجة والتدجين"(15).
لذا كان لزاما التريّث في دراسة الواقع بكل هدوء وجدية، لتحديد عوامل إصلاح وتجديد المجتمع، ومنها:
1- التحرر من أسر الترويض:
روّضَ: روَّض المدرِّبُ الوَحْشَ: راضه، ذلَّله ودرَّبه ليكون طيِّعًا "، ترويض: وسائل إخضاع الحيوانات وتهيئتها لعمل خاص(16).
يولد البشر أحرارا، صيحة أطلقها الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب)- رضي الله عنه- عبر التاريخ، تتجاوز حدود الزمان والمكان، بقوله: " متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ". ولقد كان "السبيل الأنجح لدى المستبدين لترويض العبيد هي الدفع بهم للانغماس في الشهوات، ونزع إرادة التدافع لديهم، من خلال بث الشعور العام بعدم وجود ما يستحق أن يضحي الإنسان من أجله..."(17)، وبهذا الترويض يصبح الإنسان المروض عجينة سهلة التشكل، يفعل ما يطلب منه سيده، لأنه " إذا كان للإنسان شخصية، لا يمكن أن يكون خادما جيدا، ومن أجل إحكام التسلط، يُسلب منه شعوره بإنسانيته، أو يتم إضعاف هذا الشعور على الأقل، فالشخص ذو الشخصية، خادم رديء، ولكن فاقد الشخصية خادم جيد، ومطيع، ووفي، وسلس الانقياد "(18).
2- كسر مرآة الاستبداد:
لكل فرد في مجتمع الاستبداد نصيب من  ممارسة الاستبداد في محيط عمله ومعيشته: الموظف في وظيفته، والمعلم في مدرسته، والوالد في بيته، والأم في منزلها، والمدير في دائرته... وهكذا يصبح الفرد المستبَد مرآة للمستبِد في دارته الصغيرة، مقارنة بدائرة المستبِد الكبيرة، لأن الاستبداد يغزو "النفس المستعبَدة؛ فيتكلم صاحبها لغة المستبِد، ويفكر بمنطقه؛ لأنه امتص ما ينتجه المستبِد، كما تمتص قطعة الاسفنج ما يحاط بها من سائل، مهما كان جنسه. وحتى إذا عالج المستبَد قضية من قضاياه الخاصة أو العامة، فإنه يعالجها بنفس الطريقة التي زرعها ونماها المستبِد في محيطه؛ فتأتي النتائج في صالح الاستبداد... وهذه الظاهرة يمكن أن نطلق عليها مرآة الاستبداد.. هذه المرآة التي يعكس فيها الأفراد المستعبَدون ما يقوم به المستبِد معهم، فيمارسونه مع من هم دونهم "(19).
يتطلب كسر مرآة الاستبداد عزيمة وهمة، وإرادة ووقتا، وتوجيها وإرشادا، والانصهار في بوتقة الشريعة السمحاء، لأن في ظلها تتحطم الأصنام التي في داخلنا، مع معرفة حقيقة الإنسان وطبيعة النفس وعاقبة الظلم والاستبداد في الدنيا والآخرة. ومن أهم المعاول التي تهدم مرآة الاستبداد "التناصر في وجه الظلم: وذلك من أقوى الدعائم التي وطد الإسلام بها الحريات وأقر العدالة وحسم لوثات المستبدين. إن الغاشم ربما لا تردعه العقوبة المرجأة في الآخرة، وربما لا تصده الزواجر والحدود التي يقيمها القانون، ولكنه ينقمع ويتردد إذا أدرك أن ضحيته عزيزة المنال، وأنه دون الافتيات( )عليها قد يهلك هو نفسه، أو تهلك رجال ورجال.  ومن ثم شرع الإسلام مبدأ التناصر بين بنيه، فإذا رأيت رجلا وقع في حرج وأوشك أن يهوى، أو يصاب، فحق عليك أن تهرع لنجدته، وأن تسارع لمعونته، وأن تشعره بأنه لن يكافح جور المعتدين وحده، بل إنك إلى جانبه تشاطره الحلو والمر، حتى ينتصف لنفسه ويخرج من ورطته موفور المال والعرض والدم والكرامة والإباء. تلك هي سنة الإسلام.. لا يجوز أبدا أن يبقى المظلوم فريدا، يلتفت إلى الأعوان فلا يلقى صريخا. وأمر الله الواضح، وإرشاد رسوله البين، أن جماعة المسلمين مسؤولة عن حماية الحق بعملها وتأييدها، كما هي مسؤولة عن حمايته بالقول والبيان"(20).
3- التخلص من القابلية للاستعباد:
لكي نعيد بناء وتجديد المجتمع، والنهوض به نحو المعالي، ليتنشق نسيم الحرية، يجب زرع ثقافة التخلص من الاستعباد، "ونتحرر من الأغلال، وندرك قيمة الحرية، ويعلم كل منا أنه أقوى من الاستبداد والمستبدين، ويطمئن لهذا العلم، فلا ينتظر أن تأتيه حريته من خارجه، أو أن يصدر مرسوما يمنحه إياها.. بل يشعر أنه حُر، حتى لو كان في زنزانة لا تتسع إلا لجسده، ما دام يمتلك إرادته بحيث يستطيع أن يقول (لا) عندما يريد الآخرون أن يستعبدوه ليقول (نعم).. وأما إذا فقد تلك الإرادة، فإنه لا يعدو أن يكون رأسا عددية - لا قيمة لها- بين قطعان البشر"(21).
والتخلص من القابلية للاستعباد لا يأتي إلا باتخاذ قرار حاسم داخلي أولا، يفصل بين الشعارات الزائفة والمغلوطة، وبين ما يمليه عليه إيمانه وعقيدته. "إن العقيدة هي ما يعيشه الإنسان، وهي تجعله في حالة تحرك دائم نحو التحرر من العبودية لغير الله... وهذه هي الشهادة للعقيدة التي قدمها (بلال) – رضي الله عنه-، وهو يردد خلال جرعات العذاب الطويلة المتصاعدة: " أحد.. أحد"، صيحة روح تحررت من إسار الغرائز بعد ما سيطرت العقيدة عليها.. فالروح في صوت (بلال) هي التي تتكلم، وتتحدى بلغتها اللحم والدم.. وتعلن أن الحرية هي القرار الذي يتخذه الإنسان الحر الواعي المكلف، ولا تستطيع قوى العالم مجتمعة أن تسلب هذا الإنسان هذا القرار، مهما كانت الإغراءات، أو مهما توحش العدوان، أو مهما كانت الظروف "(22).
فكان (بلال) بهذا التحول والصمود والتحدي، رمزا للعودة من العبودية والاستبداد، إلى الحرية وتجديد فكر المجتمع، للتخلص من الاستعباد ورواسبه. وسيكون (بلال) نموذجا في كل مكان وزمان، لكل إنسان يعيش الذل والعبودية؛ وسيكون صوته وشعاره الخالد " أحد.. أحد"، الذي قهر به الذات، إلى إثبات الذات أولا؛ وثم قهر به جبروت المستبدين، ليعلنها للعالم: أنه لا سلطان ولا عبودية إلا لله الواحد الأحد،  وسيكون شعاره آذان فجر الحرية في ليل العبودية الطويل والمرير.
4- المسؤولية:
يشعر الفرد في ظل الاستبداد بافتقاد الشعور بالمسؤولية، أو تخافتها، لأنه يرى ويعايش أن التعب والكد لا يؤدي إلى الراحة واليسر، وربما يرون خلاف ذلك. "ومن ثم لا يبحث المستعبَدون عن المعايير العادلة، أو الصحيحة، وإنما عن أسلوب ما يحصلون به على قسم من (الكعكة) المنهوبة. وهم بذلك يتبنون عقائد المستبِد وأفكاره، ويعيشون نوعا من الازدواجية.. وكأن لهم عقيدتان: عقيدة نظرية، وعقيدة اجتماعية... وتصبح هذه الازدواجية هي الوسيلة المثالية لبناء جسر يعبُر المسافة الفاصلة بين قدرته اللامتناهية على الطاعة والقبول بأقل القليل.. وبين إحساسه بالبرودة والغربة تجاه السلطة... وهكذا تتذبذب العلاقة بين المستبِد والمستعبَد بين التبعية والرضوخ، وبين الرفض والعدوانية، حيث يحاول الإنسان المستعبَد الانتقام من سيده بأساليب خفية: الكسل، والتخريب، أو رمزية: النكات، والتشنيعات.. وهذا يخلق ازدواجية في العلاقة: رضوخ ظاهري، وعدوانية خفية"(23). وقد يتحول هذا السلوك المزدوج في العلاقات، في بعض الأحيان، إلى عدوانية ظاهرة من قِبل بعض المتبوعين المتنفذين – أصحاب الوجاهة (الملأ) مثلا - لكسب بعض الامتيازات والخصوصيات المادية من السلطة. ولهذا تتعمد السلطة -إن شكت في ولائهم- إلى التقرب إلى "بعض من يشكون في ولائهم وإخلاصهم، عن طريق إغرائهم بالمناصب، وإبهارهم بالمركز والسلطة، ليكونوا قريبين منهم، وتحت سمعهم وأبصارهم، وليتم بعد ذلك الاستحواذ عليهم، بتوريطهم في ممارسات، كأن يتم تكليفهم للقيام بأعمال غير اعتيادية لحساب السلطة، أو أعمال غير قانونية ضد الطرف الآخر – ضد الناس – أو ضد المعارضة أحيانا، الأمر الذي يربطهم بالسلطة، حتى أنهم لا يستطيعون بعد ذلك الانفكاك منها، أو مما لحقهم منها من أعمال أو ممارسات قاموا بها، ونتائج ترتبت عنها، بل لا يجدون أمامهم إلا أن يستمروا فيما هم فيه، ولا يجدون إلا الخضوع والطاعة، فيجبرون أنفسهم على الولاء للسلطة، والإخلاص لها، لأنهم صاروا جزءا منها، ما يمسها يمسهم، وما يسيء إليها يسيئهم، شاءوا ذلك أم أبوا، بعد أن يفقدوا -بسبب انحيازهم إلى جانب السلطة- قدرتهم على المحافظة على سلامة مواقفهم، أو على حيادهم، على أقل تقدير.
بل الفرد –أحيانا- ما إن ينتسب إلى سلطة ما، حتى يتقمص شخصية جديدة.. تكسبه إياها السلطة.. ويلبس ثوبا جديدا هو ثوب السلطة. وإن لم يُرد هو أن يكون هذه الشخصية الجديدة، أو أن يلبس هذا الثوب، فإن الناس أحيانا هي التي تدفعه ليكون هذه الشخصية الجديدة، أو ليلبس هذا الثوب.. تدفعه بعد أن تغريه.. تزين له شخصيته الجديدة، تقنعه بها ليكونها.. بحجة أنه أصبح مسؤولا عن المسؤولين، وأن له حقوقا مثلما عليه واجبات، حقوق تفرضها هذه المسؤولية.. لذلك فهو يستحق أن يكون له كذا وكذا، وأنه جدير بهذا، بل ينبغي له أن يسلك، وأن يتصرف، على هذا النحو الجديد، الذي فرضه عليه هذا المنصب الجديد، أو الشخصية الجديدة. فالفرد الذي يتمكن من امتلاك أدوات السلطة، يحظى بجاذبية طبيعية بالنسبة لمن يودون مشاركته في التأثير على الآخرين، إنهم يرغبون العيش في ظله، ويدخلون في روعه أن ما يتمتع به جاء حصيلة لشخصيته المتميزة، وكفاءاته العالية. بل هم يسارعون في التعبير عن هذه الجدارة، وعما يستحقه عليها، بتقديم كل ما يرضي غروره وتعطشه "(24).
لهذا كان زرع الشعور بالمسؤولية، في قلوب وعقول العامة والخاصة، من "أعظم الأخلاق وأقواها في تحمل المسؤولية، التي تقوم على الصدق والصبر والبذل والأمانة والعفة والوفاء، وغير ذلك من الجوانب الأخلاقية التي تكتمل في النفس، فتجعل صاحبها قادرا على تحمل المسؤولية أمام الله، وأمام الناس: أمام الله بحسن المراقبة، وأمام الناس بأداء الحقوق والقيام بالواجبات، وكف الظلم ودفع الشر عنهم... وما أصاب أمتنا في العصور المتأخرة بأمراضها، إلا ضعف الإحساس بالمسؤولية أو تلاشيها، فدَبَّ فيها الوهن، ونما في أعضائها الفتور، فتراخت شدتها وذهبت قوتها " (25).
5- التضحية:
يقول الدكتور (عبد الكريم بكار): "لا سيادة للقيم بدون تضحية... وإذا كنا نظن أننا نستطيع أن نكون من ذوي الخلق النبيل، بدون أن ندفع ثمنا لذلك، فنحن واهمون. فلذة راحة الضمير، والتمسك بالمبدأ، ونشوة الانتصار على الأهواء، لا تكون أبدا مجانية، وبدون مقابل. وعلى قدر انهيار المجتمع، وتآكله، يكون الثمن أكبر. وكلما كان المجتمع أقرب إلى الخير والصلاح، كانت التضحية أقل... ومن العسير على الواحد منا أن يكون قدوة في كل شيء... لكن بإمكان كل واحد منا أن يكون قدوة لمجتمعه في أمر من الأمور: فهذا قدوة في خدمة إخوانه، وذاك قدوة في المحافظة على الوقت، وذاك قدوة في صلة الأرحام وبر الوالدين، ورابع قدوة في المحافظة على الصلاة في الصف الأول، وهكذا... وهؤلاء القدوات هم الرموز التي ترفع سوية المجتمع، وتجذبه نحو الخير والفضيلة، كما أنهم مصدر مهم من مصادر التفاعل والتجديد القيمي"(26).
6- العدالة الاجتماعية:
تعني العدالة الاجتماعية إعطاء كل فرد ما يستحقه، وتوزيع المنافع المادية في المجتمع، وتوفير متساوي للاحتياجات الأساسية. كما أنها تعني المساواة في الفرص، أي أن كل فرد لديه الفرصة في الصعود الاجتماعي.
تعد العدالة الاجتماعية من أهم مكونات وأساسيات العدل في الإسلام. ولقد أوضح (سيد قطب) في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، أن هناك ثلاثة ركائز تقوم عليها العدالة الاجتماعية في الإسلام. هذه الركائز هي: التحرر الوجداني المطلق، والمساواة الإنسانية الكاملة، والتكافل الاجتماعي الوثيق، حيث أن كل عنصر مبني على الآخر. ويعني بالتحرر الوجداني: التحرر النفسي من الخضوع وعبادة غير الله، لأن الله وحده هو القادر على نفع أو ضرر الإنسان. فهو وحده الذي يحييه، ويرزقه، ويميته، دون وجود وسيط أو شفيع... والهدف من التحرر النفسي من الخضوع لغير الله، هو التخلص من الخوف والتذلل لغير الله، لنيل رزق، أو مكانة، أو أي نوع من أنواع النفع، عن يقين أن الله وحده هو الرزاق. ولكنه قد ينجح الإنسان نسبيا في أن يتحرر من عبودية كل ما هو سوى الله تعالى، في حين أن هناك احتياجات طبيعية بشرية خلقها الله في الإنسان -أهمها: المأكل- تعوق التحرر الكامل والحقيقي. ومن أجل أن يحقق الإسلام هذا التحرر الوجداني، بصورة فاعلة وواقعية، فقد وضع الله من القوانين والتشريعات ما يضمن للإنسان احتياجاته الأساسية، وبالتالي يساعده على تحقيق التحرر الوجداني الكامل. ومن أهم هذه القوانين، هو: وضع مبدأ المساواة كمبدأ أساسي من مبادئ الإسلام... جاء الإسلام ليساوي بين جميع البشر في المنشأ والمصير. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء:1)، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(الحجرات: 13). كما قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء:70). فالكرامة مكفولة لكل إنسان، والفرق بين الناس -عند الله- في درجة تقواهم، وليس جنسهم، أو لونهم.
وهكذا يتتبع الإسلام كل ناحية من حياة الإنسان، الوجدانية والاجتماعية، ليؤكد فيها معنى المساواة توكيدا. وما كان في حاجة لأن يتحدث عن المساواة لفظا وصورة، بعدما حققها معنى وروحا، بالتحرر الوجداني الكامل من جميع القيم، وجميع الملابسات، وجميع الضروريات، وكفل لها في عالم الواقع كل الضمانات. ولكنه يحرص على المساواة حرصا شديدا، ويريدها إنسانية كاملة، غير محدودة بعنصر ولا قبيلة ولا بيت ولا مركز..
أما القانون الثالث، الذي وضعه الإسلام لضمان التحرر الوجداني الحقيقي، فهو: التكافل الاجتماعي. والتكافل الاجتماعي يقصد به التزام الأفراد بعضهم نحو بعض؛ فكل فرد عليه واجب رعاية المجتمع ومصالحه. وليس المقصود بالتكافل الاجتماعي في الإسلام مجرد التعاطف المعنوي، من شعور الحب والمودة، بل يتضمن العمل الفعلي الإيجابي، الذي يصل إلى حد المساعدة المادية للمحتاج، وتأمين حاجته، بما يحقق له حد الكفاية. وذلك يكون عن طريق دفع الزكاة، فإن لم تكف، فيؤخذ من الأغنياء ما يكفي للفقراء(27).
7- تصحيح مسار الأخلاق:
نحن هنا لا نتحدث عن الأخلاق الإسلامية، فهو مجال واسع جدا، لكن سنكتفي بذكر قطوف عن الأخلاق الاجتماعية، وما يربط المسلم بمحيطه وبيئته. لأن الهدف الأول، الذي يسعى إليه المفسدون، هو التلاعب بالقيم الأخلاقية، وتغيير مسارها، وفصلها عن المعاملات اليومية والاجتماعية. وهذا ما نراه لدى بعض المنتسبين إلى الدين، الذين "قد يستسهلون أداء العبادات المطلوبة، ويظهرون في المجتمع العام بالحرص على إقامتها، وهم  – في الوقت نفسه – يرتكبون أعمالا يأباها الخلق الكريم والإيمان الحق... ذلك أن التقليد في أشكال العبادات، يستطيعه مَن لم يُشرب روحها، أو يرتفع لمستواها "(28)، لذلك تتحول عبادات وممارسات بعض المتدينين إلى "صورة اجتماعية لا أكثر، فترى مصلين لا يتركون صلاة يومهم، ولكنهم في نفس الوقت لا يراعون حدود الله في عمل، ولا يتورعون عن ظلم الناس في أعمالهم وأرزاقهم... وهذا التدين يؤدي إلى ظهور أعراض الهشاشة الدينية، والتي تشابه هشاشة العظام المعروفة... لتدرك أنه على الرغم من الانتشار الكمي للتدين؛ إلا أن الكثير من صور هذا التدين ما زالت تندرج تحت التدين الهروبي الانسحابي، أو التدين السلبـي"(29).
لذا كان تأكيد الإسلام على ضرورة  الالتزام بالأخلاق الحميدة، والتحلي بها، من المهام الأساسية الأولى التي دعا إليها، وحث أتباعه على التعامل بها مع من كان، لأنها من موجبات العقيدة، ومن مقتضيات كلمة التوحيد. "وقد بلغت الأخلاق الاجتماعية في الإسلام مبلغا من الرقي العظيم، جعلها في مركز القمة، بما اشتملت عليه من تفصيلات موثقة للروابط الاجتماعية بين الأفراد، ومؤثرة تأثيرا عميقا في تغذية وحدة الجماعة الإسلامية، وتنمية روابط المودة والإخاء بين المسلمين... وقاعدة الأخلاق الاجتماعية الكبرى، تتلخص: بأن يعامل الإنسان الآخرين بما يحب أن يعاملوه به: إنه يحب أن يعاملوه بالعفو إذا أساء، فليكن عفُوّا عن إساءاتهم. ويحب أن يكونوا معه أمناء، فليكن أمينا. ويحب أن يصدقوه، ولا يكذبوه، فليصدقهم، ولا يكذبهم. ويحب منهم العفة عن محارمه، فليكن عفيفا عن محارهم، وهكذا"(30).
"وحين نتدبر في حقيقة الإيمان، نجده يستلزم في درجاته المرتقية كل الفضائل الإنسانية. لأن الله، الذي هو الحقيقة الكبرى، التي ترتبط بها جميع أركان الإيمان وفروعه، يأمر بكل الفضائل، ومنها الفضائل الخلقية، وينهى عن الرذائل، ومن ضمنها الرذائل الخلقية. والمؤمن يجد نفسه ملزما باتباع ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه. وللإيمان من التأثير على الإنسان ما ليس لأية قوة أخرى: داخلة في النفس، أو خارجة عنها "(31). لهذا كان التأكيد على ضرورة الالتزام بالأخلاق الحسنة، التي نادى بها الإسلام، وجاء بها الرسول الكريم– صلى الله عليه وسلم- لمن أراد النهوض بالمجتمع، وتخليصها من ركام التخلف والجهل، والصعود نحو عالم أفضل. لأن الإسلام عد الإخلال بالأخلاق والفضائل خروجا عليه وابتعادا عنه. لأنه إذا "نمت الرذائل في النفس، وفشا ضررها، وتفاقم خطرها، انسلخ المرء من دينه، كما ينسلخ العريان من ثيابه، وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا، فما قيمة دين بلا خُلُق ؟! وما معنى الإفساد مع الانتساب إلى الله ؟! فليست الأخلاق من مواد الترف، التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين، ويحترم ذويها"(32).
  وحتى تكون أخلاقنا على المسار الصحيح، يجب التوازن بين الدنيا والآخرة، وأن لا يطغى جانب على جانب، "إذ يحدث عدم التوازن حين تنفصل عن الآخرة، في حس الإنسان، فيقوم بأعمال على أنها للدنيا وحدها، منفصلة عن الآخرة، وأعمال أخرى على أنها للآخرة وحدها منفصلة عن الدنيا، عندئذ لا بد أن يحدث الاختلال في حسه، فتغلب مجموعة من الأعمال على الأخرى.  فإما أن تجذبه الدنيا رويداً رويداً حتى ينسى الآخرة، وإما أن تجذبه الآخرة رويداً رويداً حتى ينسى الدنيا. وكلاهما في نظر الإسلام اختلال. فالأول ينشغل بالسعي وراء الرزق والحصول على أكبر قدر من متاع الدنيا، والآخر يزهد في متاع الدنيا، وينشغل عن طلب الرزق وتعمير الأرض. ويصبح كل منهما مقصراً وآثماً في حق الله.
إنما يحدث التوازن الذي تشير إليه الآية: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَاتَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القصص:77)، حين ترتبط الدنيا والآخرة في حس الإنسان، فيعمل للآخرة وهو يعمل للدنيا في ذات الوقت. فلا يهمل العبادة ولا يهمل عمارة الأرض"(33).
8- الارتقاء بالهمم والهموم:
طلب المعالي شيء جميل، والأجمل منه هو دوام السير في الطلب، ولا يتم ذلك إلا بتجاوز العقبات، وتسخيرالصعاب، وتغيير المشقات إلى ملذات، وتحويل القوة الكامنة في الجسم، وصهر خامات المجتمع، إلى طاقة وعناصر ذات قوة دافعة متحركة متقدة نحو الغاية المنشودة في الحياة القصيرة، أو الحياة الممدودة، وهذا يعني الارتقاء بالهمم والهموم الفردية والجماعية! الارتقاء بالهمم نحو الأهداف ذات القمم العالية، والعمل على تحقيقها بعمل دؤوب ونشاط مستمر، لتوسيع دائرة النشاط الاجتماعي، وتغيير ما أمكن تغييره، أو زرع فكرة التغيير، وغرس الوعي، نحو النهوض من الركود، والنفرة من سفاسف الهموم الأرضية، التي تثبط الهمم، والسير نحو تجديد المجتمع، وإرشاده. لأن الشعور الزائد بالأمن، والإغراق في الرفاهية، يؤدي إلى التنعّم والترف والميوعة، وإلى تحلل شخصية الفرد، وعدم الاستجابة للتغيير والتطوير والتقدم، وهذا ما يسميه الخبراء بـ (خيانة الرخاء).
ولا شك أن التطبيق العملي بالمجهود الإنساني، يحتاج تغييرا نفسيا وذاتيا، يلائم ظروف الزمان والمكان والأحوال... ولكي نحصل على نتائج جيدة ومرضية، فلا بد من الحزم والجد، وعدم التأخير، الذي يثبط الهمم، ويفتر العزيمة. لأن التغيير شاق، ويحتاج إلى مجهود كبير، لكن حلاوة النصر على النفس، وإرغامها على السير على طريق النجاح، ونشوة اجتياز العقبات، تنسي المرء طعم المعاناة.
لأن "الحسرة والتألم، وتصعيد الزفرات، ليست سوى وسيلة سلبية، لا تجرح قوى الباطل - بل لا تخدشها - وهي لا بأس بها، لكنها تـنقلب إلى أمر بالغ الخطورة إذا لم يعقبها عمل إيجابي مثمر، إذ تـكون وسيلة لامتصاص النقمة على الأوضاع الفاسدة، ومن ثم الركون إليها، وعلى أحسن الفروض: استمرار هذه النقمة، ولكن بشكل جامد لا حياة فيه، يؤدي إلى شلـل الحركة. وليس أفضل لقوى الباطل من هذا الوضع"(34).
وإنما الصواب في كل حين أن تسلك طريق الهمة، وهـو الطريق الذي وصفه قدوة العراق، آخر الزمان العباسي: الشيخ (عبد القادر الكيلاني) رحمه الله، فكان ينادي أهل (بغداد) بصوته الهادر: أن "سيروا مع الهمم العالية " (35)، لا تتواروا، ولا تـنسحبوا، بل سيروا مع الهمم العالية.
ولا زال هذا الطريق هـو الطريق المعبد الوحيد في خارطتـنا.
أما الجبن ، والانـزواء، والتأوه، فصحارى مهلكة.
إن من واجبات المسلم إزاء محاولة استـئناف الحياة الإسلامية، وإرجاع الإسلام إلى الهيمنة، من بعد الحدث الهائل في تـنحيته، هي واجبات واضحة بينة. وأكثر من نراه من المسلمين المتحسرين، أصحاب الأماني المتأوهين، "يكون عالماً بها، ولا تـنهض همتـه إليها، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله، الذي خلق له، مصدوداً منكوساً. قد أسام نفسه مع الأنعام، راعياً مع الهمل، واستطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل. لا كمن رفع له علم، فشمر إليه، وبورك له في تـفرده في طريق طلبه، فلزمه واستـقام عليه. قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء، إلا ابن سبيل يرافـقه في سبيله"(36).
فكذلك البرهان الذي يعطيه المسلم علامة لصدقة. وكذلك حقاً تـفـعـل الأشواق حين تصدق. إن صاحبها حينئذ يأبى إلا الهجرة، والانضمام إلى القافـلة. ويذر كل رفيق يثبطه، ويزين له إيثار السلامة، إلا داعية يبثه همه، ويتعاون معه على السير في طريق الجهاد، ويعلمه علم البذل، وفقه الدعوة والتبشير(37).
9- بقاء جمرة التجديد متقدة:
المشاركة في حركة المجتمع نحو التجديد، هذا يعني أنك تساهم في بنائه، وتنتسب إلى العصر الذي ولدت فيه، وتتكيف مع إحداثياته، ويجب أن تبقى جمرة التغيير متقدة في القلب والفكر والنفس، مهما طال الزمن، ومهما بلغت التضحيات. وهذا يعني الابتعاد عن كثرة الاعتذارات، لأنها نذير خطر داهم يقترب، والتجرد لله سبحانه وتعالى، لأنك اليوم في مواجهة عدو يقظ شرس، يصل الليل بالنهار في سبيل اقتلاع الدين من نفسك، ومن المجتمع، أو على الأقل تركه في القلوب صنما، لا روح فيه، ولا حياة، بتزيين الباطل، وترغيبه في الشهوات، وإخراج ميزان الأخلاق من دائرة العلاقات بأنواعها. لذا كان على قائد التغيير، الصبر والتحمل والتخطيط، والتهيؤ والمتابعة، وتهيئة النفوس والعقول بالتدريب والتقويم والتذكير والتصحيح، والترقية من التفكير باهتمامات النفس، إلى التفكير باهتمامات الغير، لأنه قد "تم التأصيل والتشريع والتكوين، وتنظيم مشروع الاستبداد، على نحو صعب الوصول لأبراجه الشاهقة في البنيان والتراص، بل يصعب التصدي له، ما لم تتعاضد له الجهود الفكرية والشرعية للإشهار به وتعريته، مهما كان الثمن الذي سيدفع"(38).
وخير زاد لبقاء جمرة التغيير متقدة في القلب، هو استشعار لذة العبادة والمناجاة مع الله تعالى، والعمل على تمكين هذا الدين في حياة الناس، قال تعالى: ﴿فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾(الشرح:7-8)، " فإذا فرغت من شغلك مع الناس، ومع الأرض، ومع شواغل الحياة.. إذا فرغت من هذا كله، فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد... ﴿وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾.. إلى ربك وحده، خاليا من كل شيء، حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم.. إنه لا بد من الزاد للطريق. وهنا الزاد. ولا بد من العدة للجهاد. وهنا العدة"(39).
والقلة القليلة قد تكون هي صاحبة الجمرة المتقدة، التي قد ترى شعلة النصر والتغيير مرفرفة؛ أو تهلك وتبقي الذكريات والحماس في قلوب الأبناء والأحفاد لاستكمال المسيرة. قال سبحانه: ﴿كَمْ مِن ْفِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة:249).. "هكذا.. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾.. بهذا التكثير. فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقوا الله. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة، لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار. ولكنها تكون الغالبة، لأنها تتصل بمصدر القوى، ولأنها تمثل القوة الغالبة. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين، وقاهر المتكبرين"(40).
10- الدعوة على بصيرة ووعي:
المواجهة التي يخوضها الفرد، من أجل نشر مبادئ الدعوة الوسطية بين أفراد المجتمع، قد تجعله -أحيانا– يهمل السعي وطلب الحصول على قدر أكبر من العلوم والمعارف حول الواقع، وتقدير ما للآخرين من قوة عنيفة وطاغية، تقديرا دقيقا. "لقد شهد التاريخ الإسلامي العديد من حركات التغيير، وهي حركات ومذاهب لا ينقصها -في أغلب الأحوال- الإخلاص في القصد، والبناء على أصول من الحق النظري، ولكن أكثر ما كان يأتيها من فشل في النتائج، أو ضمور فيها، كان يأتيها من قصور في معرفة الواقع، الذي تهدف إلى إصلاحه، وفي امتلاك تصور عميق لطبيعته، ولعناصر تكوينه، وعوامل تفاعلاته. فإذا ما اتجهت الإرادة إلى الإصلاح، مع هذا القصور، ارتدت في كثير من الأحيان بالخسران والفشل.. وعلى هذا الاعتبار، يغدو فهم الواقع عاملا بالغ الأهمية في التغيير"(41).
الإيمان بالله هو الدعامة الكبرى، التي تنبثق منها الدعائم كلها "ولا شيء يتقدم عليها في عقيدة التوحيد، التي هي أساس الإيمان. فإذا تقدم ذكر أمر من الأمور، في آية من آيات القرآن، على الإيمان بالله، فذلك له دلالة خاصة، يجب الوقوف عندها لتدبرها، والاعتبار بما تضمنته من معان.
وخذ هذا المثال من سورة يوسف: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(يوسف:108). فهنا تقدم ذكر البصيرة على ذكر العقيدة، المتضمن في قوله تعالى: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.. وهذا يعني أن البصيرة لازمة في الدعوة إلى الله، لزوما أصليا لا غنى عنه، وأنه لا يكفي في الدعوة أن يكون الناس مؤمنين، بل لا بد مع الإيمان من البصيرة "(42).
أي: أدعو بالطريق المُوصِّل إلى الله، إيماناً به، وتَقبُّلاً لمنهجه، وطلباً لما عنده من جزاء الآخرة؛ وأنا على بصيرة مما أدعو إليه. والبصر الحسيُّ لا يُؤدِّي نفس عمل البصيرة؛ لأن البصيرة هي يقينٌ مصحوب بنور يُقنِع النفس البشرية، وإنْ لم تَكُنْ الأمور الظاهرة مُلجئة إلى الإقناع (43).
البَصِيرَةُ: عَقِيدَةُ القَلْبِ... اسمٌ لما اعتُقِدَ فِي القلْب مِن الدِّين وتحقيقِ الأَمرِ... وقولُه تعالَى: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾، أَي: على معرفةٍ وتَحَققٍ. والبَصِيرَةُ: الفِطْنَةُ(44). 
ولذلك، فلا بد من إحكام الفهم لهذا الواقع، من خلال التأمل في معطيات أحداثه، والربط بينها، بشكل ينظر إلى تلك الأحداث على أنها كائنات حية، تؤدي دورها من خلال علاقات عضوية تربط بينها.. إن مجرد الإحساس بالواقع وحده، لا يحصل منه وعي، بل الذي يحصل هو الحس فقط، ولا يحصل وعي مطلقا، بل لا بد من وجود خبرة سابقة عند الإنسان يفسر بواسطتها الواقع الذي أحس به حتى يحصل فكر، ومن ثم وعي، بهذا الواقع (45).
إن سيرنا في الحياة، والتفاعل معها، لا بد أن يكون في إطار من فهم وبصيرة بالواقع، ووعي بعناصره، دون تجميل، أو تحريف، أو تزوير. لأن الوعي بما حولنا من ظروف وأحداث وتقلبات، وما عند أعداء الأمة الإسلامية من مكايد وخطط، هو السبيل الأنجح لكي تكون حركتنا في إطارها الاجتماعي الصحيح، ويكون عملنا وتخطيطنا أقرب إلى الإحسان والاتقان..
11- فهم اللعبة السياسية العالمية– كيمياء السياسة:
يقول أحد المفكرين المعاصرين، عن أحد الدعاة البارزين في صفوف الحركة الإسلامية المعاصرة: " الرجل كان دماغاً جباراً، ومنظراً كبيراً، وحركياً من الطراز الأول، ولو فهم اللعبة السياسية العالمية أكثر، وفقه العصر، وصدفه الحظ، ولربما غير تاريخ... الحالي، ولكن نقصته الشروط، فخاب وفشل، ومات كسيراً أعمى، عليه رحمة الله "...
إن دعاة التغريب، وأعداء الإسلام، لا يحاربون بالسلاح العسكري، إلا إذا اقتضت الحاجة، وفي فترات محدودة، " أما حربهم الدائمة فهي حرب الألسنة والأقلام.. حرب المنشئات البريئة في مراكز التعليم... حرب الجمعيات، التي ينشئونها، وينفخون فيها، ويساندونها، ويمكنون لها، في المراكز الحساسة في المجتمعات... كل ذلك من خلال أموال أقلام المخابرات، التي تشتري الصحف والأقلام، وتشتري الهيئات والجماعات.. وهم يحاربون من خلال كل ذلك، أن يجعلوا الفرد خائنا لمجتمعه الذي يعيش فيه، فإن لم يستطيعوا ذلك، فإنهم يحاولون أن يحققوا خيانة المجتمع لذلك الفرد، على يد بعض من يسيرون في ركبهم، على مرأى العيون، في صورة رجال مرفوعين على منابر الزعامة وكراسي الحكم؛ ليقوموا بدورهم المرسوم في تحطيم أصحاب الأفكار، عن طريق الإرهاب والتعذيب"(46).
على الداعية، أو (الجماعات الإسلامية)، في هذا العصر، أن يفهم ما يدور حوله داخليا خارجيا، وأن يحلل المواقف والخطابات والوعود... لكي يكون على بينة فيما يدعو، وكيف يدعو! لأن التاريخ البعيد والقريب يحدثنا عن سرقة انتصارات، وتشوية كفاح قادة ومناضلين، بعد أن يسروا السبل، ومهدوا الطريق، لإنجاح التغيير المنشود. "ولعل قصة (السامري) تعد نموذجا سياسيا خبيثا لهذا الأسلوب في سرقة النصر وإهدار الزعامة، فقد رأينا هذا السامري مختفيا عن الأحداث الجليلة، والمواقف الخطيرة، ولم يكن له ذكر في مهمة الخروج، وقضية النجاة.. مختفياً يترقب من بعيد فرصته السياسية، بعد زوال الخطر.. فلما ذهب (موسى) للقاء ربه.. وغابت القيادة، وجاءت الفرصة، ظهر السامري.. ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا موسى(83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(84) قَال َفَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ (طه:83-85)..  ظهر محاولا نهب القضية، واغتصاب الكفاح الإسلامي الشاق: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ موسى فَنَسِيَ﴾(طه:88).. إن (السامري) نظرية ثابتة في واقع الصراع الإسلامي مع أعدائه، وفي كل محاولة كفاح من أجل الحرية، سيكون هناك سامري جديد.. يتلهف إلى لحظة يكون فيها هو الزعيم والقائد، بعد جهاد شاق، وتضحيات هائلة، وبذل ضخم من الأحرار"(47).
12- الإعلام الهادف:
لا ينكر دور الإعلام في توجيه العقول، والمشاركة في تكوين السلوك، والتأثير على مسار الأخلاق، سلبا أو إيجابا. حتى أصبح "الإعلام المعاصر يلغي الحدود، ويزيل السدود، ويختزل المسافات، ويختصر الزمن، ويستقدم التاريخ، ويكاد يلغي الجغرافية، وهو يتدخل في الخصائص النفسية، بتأثيراته الخطابية، وبياناته السحرية، وتقنياته العصرية... "(48).
لقد انحصرت اهتمامات غالبية الناس، "وطموحاتهم، في القطع الزجاجية المصفوفة في بيوتهم (الشاشات)، وأوصلهم الافتتان بنقاوة الصور، وسرعتها، وزهوها، لدرجة الأسر لسلطانها، الذي يسلب العقل ميزانه، ويفقده المقاييس التي تهديه سبيل الرشاد، من خلال نعومة الحيلة الإعلامية في إدارة الإنسان.. وما يدعم هذه النعومة من خيوط الشبكة العنكبوتية، التي توقع العبيد في أسر الفأرة – الماوس – التي يمسكون بها، لا ليحصلوا على المعرفة.. وإنما ليقعوا في أسر الشهوات.. والتي أصبح تعبيد البشر من خلالها فناً كاملا، وعلما، وممارسة. لقد أمطرت سماء الإعلام المنظم الشرس الأرض بمعلومات خاطئة، وأفكار أعمت الأبصار، وأشغلت العقول بما لا ينفع؛ ففقدت القدرة على ربط الأفكار ربطا صحيحا. ثم قام الإعلام باحتلال متدرج لمساحات صغيرة من العقل البشري، ليصيبه بتوعك ثقافي عميق، يؤذن ببدء علة لا شفاء منها؛ حيث يجد الإنسان نفسه مستلبا لأفكار خاطئة، لا يلبث أياما بعد تبين خطئها، حتى يجادل فيما قد تبين له من الحق"(49).
ولا ينجو من هذا التوعك الثقافي، إلا قلة من الذين يمتلكون المناعة، والقدرة على الرؤية من خارج الإطار المرسوم لهم، ولديهم القدرة والإمكانية على الاحتفاظ بإدراكهم، ووعيهم، دون تحريف أو تزوير أو تشويه أو تزييف، ولديهم قدرة التفكير بعقلية نقدية، تقوم على تنقية وغربلة الأفكار القادمة من العالم الخارجي؛ كما تقوم بوظيفة المراجعة الدؤوبة للذات والواقع(50).
لقد أصبح الإعلام، وخاصة المسموع والمرئي، هما أكثر القنوات قوة وتأثيراً على الرأي العام، والتوجه لمختلف طبقاته وعناصره. الإعلام المسموع يصل إلى جميع الفئات، والمرئي أكثر قوة وفاعلية في إحداث ما هو مطلوب. وهكذا استطاعت الوسائل المسموعة والمرئية أن تخدر العقل النقدي، إن لم تقتله، ليصبح المشاهد في حالة تلقي واستقبال سلبـي لكل ما يشاهده.
 وهكذا وسط هذا الضباب الكثيف، يتم تزييف الواقع، بتعيين المكلفين بمراقبة الحقيقة، وتخويلهم صلاحيات سجنها في أقفاص زجاجية، لصياغة نمط آخر من أشكال فرض السيطرة المسبقة، والتلاعب -عن قصد- بالحقائق، وإبدال الواقع بغيرها، ونشر قيم طاعة أولي الأمر.. الزهد في الحياة.. القناعة بضآلة الأجور.. الوفاء لأولياء النعمة.. وبذل الحياة في الدفاع عنهم..!! بينما يستمتع المتسلطون بقيم الجشع والنهب والربح المتزايد، والإفراط في كل المتع، التي حرموها على المستعبدين(51)!!
يحدثنا الأستاذ (محمد رشدي عبيد) ويقول: "إذا كانت أشكال الإعلام العالمي المعاصر، تضم هذه الميزات الضارة المتنوعة، ألا يقتضي ذلك أن نخطط لإعلام إيماني منهاجي دقيق... خصوصا والأمة المؤمنة تواجه الآن، أكثر من أي وقت مضى، تحديات إعلامية خطيرة ... فالغزو الأجنبـي لا يلجأ إلى الجيوش إلا قليلا، بل يتخذ من وكالات الأنباء، والتحليلات الصحفية، والبرامج التلفزيونية المدهشة، وأفلام الكرتون المتقنة الصياغة والمضمون، وأشرطة الفيديو، والإرسال الإذاعي، لإنشاء قناعات معينة"(52).
لذا كان على عاتق خطيب الجمعة، والمحاضر، والمربي، والمعلم، والوالدين، وأصحاب البرامج الدينية، في القنوات التلفزيونية والفضائيات، وأصحاب المنتديات، وشبكات التواصل الاجتماعي، على الشبكة العنكبوتية، وأصحاب الأقلام في الصحف والمجلات، القيام بواجبهم في الوعظ والإرشاد ومخاطبة العقول والقلوب، وإشباع الجوانب الروحية والإيمانية للمتلقي والقارئ، لكي يكون على بينة بما يدور حوله، ليأخذ الحيطة والحذر من مكايد شياطين الإنس والجن.
13- تقبل ثقافة النقد والحوار:
عند فقدان الحوار الهادف والنقد البناء تتلاشى الفرص التي تدفع العقول أن تفكر بحرية وجدية، وتتقوقع النفوس التي تعشق أن تُشرق وتزدهر، ومن ثم تترك لنا فجوات سحيقة في عقولنا ونفوسنا، وأفكار قابعة في العقل اللاوعي، ومع مرور الزمن تضمحل هذه العقول وتيأس النفوس، وقد تعمل على الضد، بحلق الأخلاق، وتقطيع أوصال المجتمع.
ومع هذا يبقى النقد برهانا ساطعا على التقدم المعرفي، والنضوج الفكري، وخزانا لذخائر الأفكار التي بها نستطيع تقويم مسار الاعوجاج بكل حيوية واستبشار، ضمن مشروع منظم، وفق منهجية واضحة ومبرمجة، لأن "العقل الإنساني يحتاج بالدرجة الأولى إلى نظام ومنهج يسير عليه، أكثر من حشوه بالمعلومات، أي بناء العقلية النقدية، وليس العقلية النقلية"(53).
" ويمكن القول بأن النقد أسهل أنواع الإنجاز الفكري، وهو في جوهره ناتج عن مطابقة يسيرة بين ما هو كائن، وبين ما ينبغي أن يكون. ونحن حين نحبذ النقد، فإنما نحبذ النقد الموضوعي، الذي لا يعتمد على الشائعات، ولا يستهدف الإساءة للأشخاص، ولا التشهير بهم، ولا نشر الفضائح، وإنما النقد الذي يساعد الأمة على البقاء في المسار الصحيح، مشدودة نحو أهدافها الكبرى"(54).
إن أخطر ما يحيط بالعمل الإسلامي، وخاصة الجماعات التي تحجر على العقل النقدي والتفكير البناء، الاعتقاد بأن "القيادات والمفكرين يعرفون كل شيء، وما على الأفراد إلا الاتباع. هذا التواكل، الذي يتربى عليه الأفراد، يجفف منابع الأفكار، ليكتشف المرء، بعد مرور السنين، أن اعتقاده بمعرفة القادة وقدراتهم ليس في محله، فيكون قد عطل عقله وضيع أوقاته، ولم يُفد الإسلام من قدراته وملكاته"(55).
وتكمن أهمية النقد في أمور كثيرة، منها:
الأول: أن النقد يسهم في بلورة وعينا بذاتنا، من خلال منحه المحددات والمشخصات لأبعاد هذا الوعي ومفاصله ومحصلاته؛ حيث نحاول أن نجعل مما ننقد موضوعاً نعمل فيه وعينا وخبراتنا المتراكمة؛ وذلك سعياً للمحافظة على التواصل مع أهدافنا، والاتجاه الذي رسمناه لأنفسنا؛ كيلا يذهب به الامتداد.
الثاني: أن النقد يساعدنا على النجاة من تكرير الأخطاء السابقة؛ فالنقد يدل على إدراك الخطأ وتشخيصه ورفضه. وحين يشفع بالتعليل المنهجي والمنطقي والتجريبي الكافي؛ فإنه يمنحنا حصانة ممتازة ضد النكوص والتلطخ بأوحال الأخطاء السابقة(56).
 الثالث: في النقد تدريب على طريقة توجيه وقيادة العقل في تكوين الأحكام الصحيحة.. أي هي عملية لا بد منها في تكوين العقلية المنهجية.. فهي أداة ضرورية للجانب الأخلاقي والعقلي.
أو إذا أردنا التعبير عن ذلك بكلمة أوضح، قلنا: إن النقد الذاتي، شارك في ولادة الحدث، وتمامه، ثم في قيام العمل بوظيفته، فلا يبقى عقيماً، ثم هو فضلاً عن ذلك جو النمو لهذا العمل(57).
الرابع: في النقد الذاتي التفات إلى العامل الداخلي، والصف الداخلي، الذي يلعب الدور الحاسم في ولادة الأحداث وتوجيهها. "إن المسلمين التفتوا وركزوا انتباههم على خصومهم، وحذفوا أنفسهم من تكوين المشكلة، بمعنى أن العالم الخارجي هو المتهم حتى الآن، مع أن العامل الداخلي هو الأساس في ولادة الحوادث"(58). يقول (علي عزت بيكوفيتش): "لقد تحدثنا كثيراً عن الخسائر والهزائم التي ألحقها بنا الآخرون، وحان الوقت الآن لكي نبدأ الحديث عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها بأنفسنا، وبهذا ستكون بداية نضجنا"(59).
الخامس: إن النقد يبلور معرفتنا بذواتنا وأصولنا، وإن كثيراً من الأفكار تظل غائمة ومعتمة، ما لم تتعرض للنقد والحوار، وتلوكها ألسنة المناظرة. ثم إن النقد يوفر لنا بيانات كثيرة، نحن بأمس الحاجة إليها، إذ الإنسان يحب الوضوح، ويحب العمل في أجوائه. والنقد يؤسس نوعاً من السلطة الأدبية، التي يحتاج الإنسان إلى من يمارسها عليه، ليعوض بذلك ما لديه من ضعف في الحوافز على العمل، أو ليحجزه عن الكسل، وسوء استغلال الوظيفة(60).
14- العمل الشعبـي الخيري:
أعمال الخير لا تتوقف، مهما كانت النظم السائدة والحاكمة في الشرق والغرب، لأن القوى الخيرة في المجتمعات تتجه دوماً إلى استثمار خبراتها وطاقاتها في الأعمال الخيرية الشعبية، من نحو: بناء مساجد، وكفالة الأيتام، وإطعام الفقراء، وبناء المستشفيات، وفتح مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وفتح العيادات الخيرية، وإعانة وإغاثة اللاجئين والنازحين والمنكوبين، وجمع التبرعات في وقت الأزمات والشدة، ناهيك عن توزيع السلات الغذائية والحقائب المدرسية وكسوة العيد على الفقراء والمحتاجين، ومشارع الأضاحي، ومكاتب العمرة ... وهذه الأعمال وغيرها أعمال مطلوبة في كل مكان، وفي كل ظرف.
15- اقرأ الكلمة لتقرأ العالم:
اقرأ، هذه الكلمة التي اندهش رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عند نزولها عليه، وهو في غار حراء، عندما أمره جبريل – عليه السلام- بها، لأن القراءة المثمرة والمطلوبة هي القراءة المبنية على الإخلاص والإنصاف والوعي والتدبر، القراءة التي تربط وتستنتج، القراءة التي تبحث بين الكلمات وتصريفات الأفعال.
القراءة الجادة يتبعها الكرامة والعلم وكشف المجهول بالاكتشافات والاختراعات ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ﴾. "فأكثر المجتمعات قراءة هي أكثرها كرامة. والفرق بين الإنسان الحر والإنسان المستعبَد، هو أن الأول هو الذي يتعلم مما يمر به من خبرات، فيثبت ما يساعده على النجاح ويعززه ويؤيده، ويحذف ما كان خطأ.. أما الثاني، فيكرر ما أخطأ فيه"(62).
الآيات الخمس الأولى من (سورة العلق) أولى آيات التنزيل نزولاً على (محمد) الرسول الأمي المبعوث رحمة للعالمين، آيات قصيرة، وكلمات موجزة، بعبارات بليغة ومعجزة، أكدت على أهمية العلم، ودوره في الخروج من الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الأمية إلى الأستاذية، ومن الذيلية إلى القيادية، ومن الاتباع إلى الإبداع، ومن الأوهام والخرافات إلى الحقائق والاكتشافات، ومن التقليد إلى الاجتهاد، ومن الضعف إلى القوة، ومن الموت (علمياً) إلى الحياة، ومن التأخر إلى التقدم، ومن النكوص إلى النهوض، ومن الخوف إلى الجرأة، ومن عدم الكلام إلى النقد البناء، ومن الأفكار إلى الاستنتاج، ومن ثقافة ضحلة إلى ثقافة ساطعة، ومن الهدم إلى البناء، وأن القراءة والعلم هي الأساس في التقدم الحضاري في جميع جوانب الحياة.
يقول الدكتور (عبد الكريم بكّار): "وإذا أمعنا النظر في واقع الأمم الصاعدة اليوم، لمسنا للوهلة الأولى أنها اعتمدت النهوض بالتعليم، وتيسير سبل التثقف، أساساً للتقدم الحضاري في جوانب الحياة كافة. وفي المقابل، فإن الشعوب التي توصف اليوم بأنها متخلفة، تشترك جميعاً في أنها لا تمتلك بنية معرفة صحيحة، كما أن بين معظم أفرادها وبين الكتاب نوعاً من الجفاء، ونوعاً من الخلل في أسلوب التثقف، وفي الحساسية نحو المعارف الجديدة.
سيكون من المؤسف أن تحتاج أمة، أول كلمة نزلت في كتابها، ودستورها الثقافي، كلمة ﴿اقْرَأْ﴾، من يحثها على القراءة، ويكشف لها عن أهميتها في استعادة ذاتها وكيانها". 
 قال تعالى: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق .خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾.
﴿اقْرَأْ﴾ هذه الكلمة (فعل أمر) وترغيب، كلمة حثٍ وتشجيع، كلمة دعوةٍ وعلم، كلمة فكرٍ وعقل، كلمة تجربةٍ واستنتاج، كلمة تقييمٍ وتقويم، كلمة بحثٍ وتمحيص، كلمة ابتكارٍ واختراع، كلمة إعدادٍ وإنتاج، كلمة تخطيطٍ وبرمجة، كلمة توقيتٍ وتحديد، كلمة تربيةٍ وتعليم، كلمة إدارة وتنظيم، كلمة مواجهةٍ وتحد، كلمة صنع حضارةٍ وأمة، كلمة تطورٍ وتقدم، كلمة سيادة وسعادة، كلمة قيادةٍ وريادة، كلمة تنميةٍ وتقنية، كلمة خبرةٍ ومهارة، كلمة قولٍ وفعل، كلمة صدعٍ وفصل، كلمة قوةٍ وعزة، كلمة نقاءٍ وصفاء، كلمة بركةٍ ونماء، كلمة درسٍ ودراسة، كلمة قراءةٍ وكتابة، كلمة جائزةٍ ومكافأة، كلمة نورٍ وحياة، كلمة إثبات ذاتٍ وكيان، كلمة اكتشافٍ وتطوير، كلمة نصرٍ وتمكين، كلمة ثروةٍ وثورة، كلمة إصلاحٍ وتغيير، كلمة جدٍ واجتهاد.
﴿اقْرَأْ﴾ باسم ربك الذي خلق كل شيء، ومنها: العلم، والقراءة، والمجهول الذي سيظهر بالبحث العلمي، على أيدي العلماء المجدين. نعم إنها كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والمعرفة، من بحث وكشف وخبرات، في جميع مجالات الحياة(63).
------------
الهوامش:
(1) في ظلال القرآن: (6/3984-3985).
(2)  من أجل انطلاقة حضارية شاملة: (ص90).
(3) خالص جلبـي، قوانين التغيير: (ص116-117).
(4) عمادالدين خليل، حول إعادة تشكيل العقل المسلم: (ص122-123).
(5) نحو مجتمع الحرية: (ص363-364)، بتصرف يسير.
(6) تفسير المنار: (10/38).
(7)  خواطر الشعراوي: (12/7242-7245)، بتصرف.
(8)  عبدالكريم بكار، مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي: (ص297).
(9)   محمد العبد الكريم، تفكيك الاستبداد: (ص193، 195).
(10)  يراجع: خالص جلبي، في النقد الذاتي.
(11) إعادة تشكيل العقل المسلم: (ص124).
(12)  محمد الغزالي، الإسلام والاستبداد السياسي: (ص73).
(13)  محمد قطب، رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر: (ص179-181).
(14) نحو مجتمع الحرية: (ص30).
(15)  محمد العبدالكريم، تفكيك الاستبداد: (ص27-28).
(16)  معجم اللغة العربية المعاصرة: (2/960).
(17) نحو مجتمع الحرية: (ص123، 129-130).
(18) مالك بن نبـي، مشكلة الثقافة: (ص142)، نقلا عن: نحو مجتمع الحرية: (ص125).
(19) نحو مجتمع الحرية: (ص153، 155).
(20) الافْتِياتُ افْتِعالٌ مِنَ الفَوْت، وَهُوَ السَّبْقُ إِلى الشيءِ دُونَ ائْتِمار مَنْ يُؤْتَمر. قَالَ الأَصمعي: هُوَ مِنَ الفَوْتِ. قَالَ: والافْتِيات الفَراغ. يُقَالُ: افْتاتَ بأَمره أَي مَضى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَشِرْ أَحداً. لسان العرب: (2/69).
(21)  الإسلام والاستبداد السياسي: (ص155).
(22) نفسه: (ص148).
(23) نفسه: (ص148-149).
(24) نحو مجتمع الحرية: (ص162، 163).
(25) سالم القلمودي، سيكولوجية السلطة: (ص23-24).
(26) تأملات في ثقافة التغيير: (ص168، 169).
(27) من أجل انطلاقة حضارية: (ص163-164).
(28) سيد قطب، العدالة الاجتماعية: (ص32-52)؛ موقع موسوعة الاعجاز العلمي في القرآن والسنة.
(29) محمد الغزالي، خلق المسلم: (ص11).
(30) نحو مجتمع الحرية: (174-175)، بتصرف يسير، نقلا عن: حسين الشرقاوي، أعراض مصرية.
(31) عبدالرحمن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلامية: (1/57).
(32) الأخلاق الإسلامية: (ص24).
(33) خلق المسلم: (ص12-13).
(34) محمد قطب، ركائز الإيمان: (ص434).
(35) الراشد، الرقائق: (ص119).
(36) نفسه، عن الفتح الرباني .
(37) نفسه: (ص121)، نقلا عن مفتاح دار السعادة.
(38) نفسه: (ص122).
(39) تفكيك الاستبداد: (ص29).
(40) في ظلال القرآن: (6/3930).
(41) نفسه: (1/269)؛ راجع إن شئت قصة طالوت وجالوت في سورة البقرة.
(42) نحو مجتمع الحرية: (ص196-197). نقلا عن:  عبدالمجيد النجار، فقه التدين.
(43) نفسه: (ص197).
(44) خواطر الشعراوي: (12/7125).
(45) تاج العروس: (10/198).
(46) نحو مجتمع الحرية: (ص205).
(47) نفسه: (ص211-212).
(48) نفسه: (ص219).
(49) محمد رشدي عبيد، مدخل إلى الإعلام الإسلامي: (ص6).
(50) نحو مجتمع الحرية: (ص225-226).
(51) يراجع: خالص جلبـي، قوانين التغيير.
(52) للمزيد يراجع: نحو مجتمع الحرية: (ص233 وما بعدها).
(53) مدخل إلى الإعلام الإسلامي: (ص77-78).
(54) خالص جلبـي، في النقد الذاتي: (ص155 156).
(55) عبدالكريم بكار، مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي: (ص292).
(56) جاسم محمد سلطان، استراتيجية الإدراك للحراك: (ص150)، نقلاً عن: نحو مجتمع الحرية: (ص414).
(57) عبدالكريم بكار، من أجل انطلاقة حضارية شاملة: (ص42).
(58) في النقد الذاتي: (ص155، 156).
(59) في النقد الذاتي: (ص119).
(60) هروبي إلى الحرية: (ص169)، نقلاً عن: مجتمع الحرية: (ص366).
(61) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي: (ص292).
(62) نحو مجتمع الحرية: (370).

(63) يراجع مقالنا في مجلة الحوار،ِ العدد (67)- آذار- 200ِ8م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق