خلدون إبراهيم إبراهيم
إن للأحداث السياسية تأثيراً
واضحاً على الإنسان الذي يعملُ في مجال
الإبداع الأدبي، وتغيّر من نظرته إلى الأشياء على الدوام، وتحرّضه على الانغماس في
غمارها، فيتبدّل سلوكه تلقائيـّاً بشكل أو بآخر، مما يؤثـّر على الأدب الذي يشتغل
عليه، وعلى نتاجه الفكري.
وقد لعب عدمُ
استقرار المناخ السياسي في العراق، في القرن الماضي، دوره في التأثير على مثقفيه بشكل
جلي، فلفت انتباهي التغيّر الذي طرأ على شعر الشاعر العراقي الكبير محمّد مهدي
الجواهري (1899 – 1997)، قبل نزوحه من
الوطن، وبعده، واختلف نوع علاقته بما حوله، واختلف أسلوبه في معالجة القضايا
الهامة، على كافة الأصعدة. ولقد كتب في موضوعات كثيرة، منها ما يخصّ الصداقة
الحميمة التي جمعته مع نهرين عظيمين كدجلة والفرات، وقد اختلفت نظرته، واختلف شكل
العلاقة التي ربطته بهذين النهرين الكبيرين، بعد رحيله الاضطراري عن الوطن.
لقد دعاني هذا إلى أن أحس دائماً أنّنا لو
أضفنا هذا الشاعر الكبير إلى نهري دجلة والفرات، فإنّنا نحصل على ثلاثة أنهار، ولو
أراد أحد هذه الأنهار أن يغرق بفيضه لأغرق: نهر الفرات بمياه أمطاره، ونهر دجلة بذوبان ثلوجه، أما الجواهري، فبآذي شعره
الذي لامس أجنحة النسور في السماء.
هذا النتاج المبهر الذي خرج به من مملكة الخيال،
اخترق - بألوانه الساحرة - غلاف المألوف، وأسّس لحالة فنيّة جمالية، وضعت اسمه فوق
أسماء مجايليه، كالزهاوي، والرصافي، والأخطل الصغير، وأحمد شوقي، وغيرهم، وجارى أصحاب
القامات العالية العظام، من أصحاب الصنعة الأدبية من شعراء العربية القدامى، وتفوّق، فهو الذي لم يفوّت على نفسه
فرصة الاستلهام من كنز التراث العربي القديم، ليمزجه بثروة الحداثة، فكأنه امتلك
القيمتين في آن واحد، وما قدّمه كان من البهيّ النفيس، الذي لم يــُشهد له مثيل في
القرن العشـرين، فعبّر عن ثقافة المرحلتين بشكل جميل، على مرّ تلك الفترة الطويلة
التي عاشها حباً وعطاء ًوألماً .
لقد كوّن الجواهري صداقة أبدية مع نهري دجلة
والفرات، وكتب عنهما، وخلـّدهما، وخلـّداه. ففي عام 1935 نشر قصيدة (الفرات الطاغي)،
حيث رصد بريشته جبروت هذا العملاق المخيف، فصوّره وهو يفيض بمياهه ليرعب البشـر
بهيجانه، ويتحدّاهم، ويتحدّى قوتهم، رغم ما حصّلوه بتقدّمهم، واكتشافاتهم الهائلة.
وركّز الشاعر مليّاً على هذه القوة، لما لها من تأثيرٍ على الناس عموماً، وعليه
خصوصاً، فهي التي تمدّه بأسرار الحياة، وكأنه يصوّر مارداً أسطورياً مخيفاً، فهو
الذي يهب أسباب العيش أحياناً، كما يكون سبب الدمار في أحيان أخرى.. إنّه الفرات ابن الطبيعة الذي لا يعجز عن شيء:
طغى فضوعف منه الحسنُ
والخطرُ
وفاض فالأرض والأشجار تنغمرُ
وراعت الطائرَ الظمآن
هيبته
فمرّ وهو جبانٌ
فوقه حذر ُ
كأنّما هو
في آذيّه جـبــلٌ
على الضفاف مطلّ، وهي تنحدرُ
وودع الزارعون الزرع
وانصرفوا
للماء ما زرعوا منه وما بذروا
لقد أسهب طويلاً في وصف قوة النهر الهادر، فهو
الذي يخرّب المزروعات، ويهدم بيوت وأكواخ الفلاحين والفقراء، دون أن يلامس قصور
الأغنياء، لا حبّاً بهم، ولكن لارتفاعها، فصار الناس يخافونه إن فاض، لأن شرّه أكثر
من خيره. ولم يهتم الجواهري كثيراً
بالجانب الفلسفي، الذي قد يخلقه وجود هذا النهر، وتأثيراته على النفس
الإنسانية عموماً، وعلى المبدعين من شعراء وفنانين خصوصاً، على عادة الشعراء
الرومانسيين والانطباعيين، الذين استلهموا من الطبيعة أجمل النصوص. فالمسافة قد
حدّدها الشاعر، لأنه يعرف عمّن يتكلّم، ويعرف أن المعنّي بعيدٌ كل البعد عن الرقّة
التي يحلم بها الحالمون، فالفرات رمز دائم للقوّة المقلقة، وطغيانه يدمّر الأحلام،
ويقتلعها من جذورها:
في حين بات الناس يرهبهم
في كلّ ثانية من سيره خبرُ
ملء القلوب خشوع من
مهابته
وملء
أعينهم من خوفه سهر ُ
وفي عام 1946 نشـر الشاعر قصيدته (دجلة في
الخريف)، ولم يك الموضوع الذي تناوله مختلفاً عن موضوع قصيدة (الفرات الطاغي). فلقد تناول فيضان
دجلة عند ذوبان الثلوج، وكأنه يتـّبع نفس
الأداء والأسلوب بعد أكثر من عقد من الزمن، ويزيد ويصف الحالة كما هي في هذا
الإطار، ومهّـد ليحصل على الإثارة ذاتها من خلال هذه المشاهد التي غمرته، وأثـّرت
فيه، فحاول أن يصنع من هذا النهر أيضاً البطل
الذي لا حدّ لقوّته، أو أراد أن يكتشف بعضاً من أسراره، ومزاجه المتقلّب، ولكن
النهر ظلّ مجرّداً من الأحاسيس الرقيقة التي كان يمكن أن تجعل منه مملكة للجمال،
ومشغلاً للأحاسيس، فنحن لا ننسى أن اسمه مقترن بالجمال والخضار، ولكن نظرة الشاعر لم
تتغيّر، فالنهر لا يزال مثل ذلك العبد الضال الذي لم يشع بعدُ نور الإيمان في قلبه:
بكر
الخريف فراح يوعده
أن سوف
يزبده ويرعده
وبدت
من الأرماث عائم
فيه طلائع ما يجنّده
ولكن
الشعرية طفحت أكثر من مياه دجلة ذاتها، في هذه القصيدة، وحتى من الشعريّة في قصيدة
(الفرات الطاغي)، فالخيال أصبح أرحب، والصورة أنفذ، بالابتعاد عن صخب الأمواج،
وملامح المذعورين، أولئك البسطاء الخائفين على أرزاقهم من الانجراف أمام قوة
الطبيعة، مع الاستعانة بالموروث الديني والفني، ومحاولة توظيف الخيال الواسع في
اصطياد اللقطة العابرة، وحصل تبادل جمالي بين الجواهري ودجلة، وهذا ما جعل من النص
أكثر إشراقاً، وأبعد مدى وطعناً في الزمن.
ونحن نعلم أن حصان
الجواهري قادر على القفز من فوق حواجز المعتاد، ليتحوّل هذا النوع من الفروسيّة
إلى مدرسة مؤثرة في مختلف القامات التي عاصرته، وجاءت من بعده:
(داوود) بالمزمار
يوقظه
ويـُنيْـمـُه ُ بالعود (معبده)
والهيم
تحزنه وتنهبه
والغيد
تنزله وتصعده
ألقت إليه من
مفاتنها
ما ليس إلا الله يشهده
ورمت له يقظان
من متع
ما نحن في الأحلام ننشده
وفي عام 1961 كانت الأحداث السياسية، قد لعبت
دوراً كبيراً في تغيّر نظرة الفرد إلى الحياة آنذاك، سواء الحياة الأدبية أو
السياسية أو الاجتماعية، وكذلك الاقتصادية. وقد أثرت هذه التقلّبات على حياة
الجواهري بشكل مباشر، فقد مـُنعت صحيفته من الصدور، وأودع السجن مراراً وتكراراً.
والذي كان حرّاً، كروافد الفرات، وحمائم دجلة، أصبح يبحث عن متنفـّس لحريته، وما
كان يرضاها أن تكون منقوصة، أو مشروطة. ففي هذا العام قرّر مغادرة العراق إلى (تشيكوسلوفاكيا)،
ليسكن وعائلته في مغتربه، فاشتدّ عليه الألم، وهو بعيد عن رئة وجوده المتجسّدة في
الوطن، الذي ظلّ وراء سهوله وجباله وأنهاره، فسكنته الوحشة، إلى أن فجّرها بطريقة
أدهش بها محبيه، ومحبي شعره، والمتعاطفين مع قضيته، فجسّد ذلك في خالدته الرائعة (يا
دجلة الخير)، فجعلـَنا ننحني إجلالاً لحبّه لقضاياه، ولأهله، وناسه، واحتراماً
لهذه القفزة الإبداعية الثمينة، فحلّق بدجلة عالياً بقامة شاهقة، وبلغت لديه
اللقطة الشعرية حدّا لم تعد إمتاعاً للإمتاع، بل أصبحت أكثر نقاوة من ناحية
الألوان، والريشة المتخَذة لديه صارت مطواعة، وأكثر ليونة، إلى درجة لم تكن تتكل
على رقعة المساحة الممنوحة، فاخترقت الآفاق الثابتة حتى أصبحت جديرة بالمدى، فمالت
قوارب الشاعر ليلتفت إلى الماضي، ولكن أيّما التفاتة: لقد أجبر على الخروج من
الجنّة، والتوجّه إلى عالم غريب، أو إلى كون يتمدّد، ويستمر هذا التمدّد بشكل مخيف،
غير محسوب، وأصبح الشاعر ذاته مخيفاً ومرعبا أكثر من أيّ نهر، ففاضت قريحته
بأروع فيض بقصيدة (يا دجلة الخير)، وكأنّ
الألم قد تحوّل إلى نولٍ ينسج أروع اللوحات الفنيـّة على المستوى الشعري، حيث كان
كل ّ شيء موظفا ً التوظيف الدقيق:
حيّيت سفحك عن بُعـْد فحيّيني
يا دجلة الخير
يا أمّ البساتين
حيّيت سفحك ظمآناً
ألوذ به
لوذ الحمائم بين الماء والطين
وأنت يا قارباً تلهو
الرياح به
ليّ النسائم أطراف الأفانين
وددت ذاك الشراع الرخص لو
كفني
يحاك منه، غداة البين يطويني
لقد خرج الشاعر عن مألوفه الخاص، وسما عالياً،
واختلف حتى عن نفسه، في هذه المعلّقة التي يليق بها أن تـُكتب بماء الذهب، فبلغ من
السمّو في هذه البلاغة، وقوّة التفجير الفنّي، ما لم يبلغه أحدٌ من شعراء جيله.
فلقد حطّم المعادلة، وقلب الموازين، لصالح الحداثة الشعرية، على رؤوس مدّعيها الذين ظنّوا أنّ
الحداثة تكمن في كسـر الأوزان العروضيّة، وإلغاء القوافي. ولكن الجواهري أبقى على
الأوزان، وعلى القوافي، وأضاف روح العصر إلى جسد الشعر، ولم يمانع أن تلامس عاصفة
التغيير أشرعته، لكنـّه قام بوضع الأسس الحقيقيّة لهذا التحديث، فلقد أجبر الريح
على الاستماع إلى ما سيقول بقوّة، وابتعد بالجيل عن الاحتفاء بالعبثية الفارغة،
والمفرّغة من أيّ معنى جوهري، عندما أراد أن يفسّـر علاقته الجديدة برموز وجود هذه
العلاقة التي اكتنفتها الغربة الإجبارية، ولكنّها لم تخمد جذوة الحبّ والحنين.
ولكم يشدّ قوله في الأبيات التالية:
يا دجلة الخير؛ ما يغليك
من حنق
يغلي فؤادي، وما يشجيك يشجيني
ما إن تزال
سياط البغي ناقعة
في مائك الطهر بين الحين والحين
ووالغات خيول البغي
مصبحة
على القرى
آمنات، والدهاقين
وما نلاحظه هو أن الشاعر ابتعد عن الأسلوب
الذي اتبعه في قصيدتيه (الفرات الطاغي)، و(دجلة في الخريف)، فلم يعد يذكر فيضان
النهرين، ولا قوة الطبيعة التي امتلكاها، ولا المصطافين، لكن النظرة أخذت معنى
أعمق وأدهش، فشتـّان ما بين غزال غافل، وصقر جريح، فالأحداث السياسية حركت دفّة
السفينة، فدارت السفينة، ودار الشاعر بشكل عفوي معها. فاحتدام الغياهب، مهما يكن
قويـّاً لا يستطيع أن يخفي النجوم، بل لا يملك إلا أن يزيد في لمعانها. فبرز نجم
الجواهري مرة أخرى في هذه القصيدة، بشكل خاطف للقلوب، آسر للأذواق، حمل شعره من
الألم ما يبعث على البكاء، ومن سحر الشاعرية ما يبعث على الإلهام والاستلهام، بعد ما اكتوى الشاعر الإنسان بنار الغربة،
والظلم، والنأي عن الأمكنة التي وهبته من
هوائها ومائها و حرارة حب أهلها وناسها، هذه الروح المتمردة والمحبة للحرية:
يا دجلة الخير من
كلّ الألى خبروا
بلواي، لم أ ُلـْف حتـّى من
يواسيني
يا دجلة الخير
خلّي الموج مرتفعاً
طيفا
ً يمرّ، وإن بعض الأحايين
وحمّليه بحيث
الثـلج يغمرني
دفء (الكوانين)، أو
عطر (التشارين)
لقد سما الجواهري بنهريه العظيمين ، ولا ننسى
أنّ النهرين قد شمخا به شموخاً كبيراً، حيث استطاع هذا الشاعر أن يحول التألم إلى
رفض للألم، وحوّل حوادث التاريخ إلى موضوعات شعريّة أغنت عالم الأدب، وانتقل
بالإبداع إلى مكانة رفيعة، وأثبت أنّه من بين الشعراء صفوة الصفوة، ونخبة النخبة،
وما شعره إلا من صنيع عبقريّة قل ّما تـُمتلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خلدون إبراهيم إبراهيم – شاعر وكاتب كردي
- مواليد سورية، الحسكة، 1973
- الإصدارات
الشعرية :
- ابن المتاهة
- عن اتحاد الكتاب العرب - دمشق 2005
- وأما الجدار
- عن اتحاد الكتاب العرب - دمشق 2008
- بين سماءين
- عن اتحاد الكتاب العرب - دمشق 2011
حاصل على مجموعة من الجوائز المحلية مثل :
جائزة اتحاد
الكتاب العرب في الحسكة 1998 - المركز
الأول
جائزة اتحاد
الكتاب العرب في الحسكة 2000 المركز الأول
جائزة اتحاد الكتاب العرب في الحسكة 2002 المركز الأول
جائزة نقابة معلمي سوريا – دمشق 2004 – المركز الأول
- جائزة مهرجان الخابور – الحسكة - 2006 المركز
الأول
جائزة الشاعر الطبيب وجيه البارودي – حماة -2009 المركز الأول
جائزة نبي الرحمة عن وزارة الأوقاف السورية – دمشق 2018
المركز الثالث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق