عرض وتقديم: ريناس بنافي/ باحث في
الفكر السياسي والاستراتيجي – لندن
إن
وصف القرون الوسطى بالظلام، في الغرب، ووصف الجاهلية قبل الإسلام، في جزيرة العرب،
كانا بسبب اختلال وخلل في منهج الفكر والتلقي، في مسلماته ونتائجه، فأورث جهالة استمرت
مئات السنين، وتسبب في ابتعاد هؤلاء الأقوام عن الحق، وعدم قبولهم له، بعدما استبان
لهم .
لهذا
يعتبر فساد المنهج آفة الآفات في كل عصر، واختلاله طريق الهوان الإنساني. والحل يكمن
في مسألة الوعي بالاتجاه الفكري، والفهم السوي لغايات الدين والحياة، بما يمهد الطريق
لوعي ذاتي لتسامي الإنسان .
حين
افتقدنا النظرة لنسق قيم الدين، واختلت مفاهيمه الكبرى، واختلطت دوائر فعل النص؛ فقد
الدين فاعليته، وأصبح جزءاً من المشكلة، بدلاً من أن يكون جزءاً من الحل. حيث إن الاستدعاء
الفردي للنصوص، من دون النظام الكلي الذي تشتغل عليه النصوص، هو سبب أساسي في إشاعة
الاضطراب في كل أوجه الحياة داخل البيئة الإسلامية، إلى حدّ التناقض المفضي إلى الهلاك.
فما كان صالحاً من بساطة الرؤية في البدايات، لم يعد مجدياً في عصر التعقيد والبيئات
المفتوحة.
من
خلال هذا الطرح، نطمح إلى أن نعرض رؤية للدين من زاوية النسق القيمي العميق، بحيث تتساند
القيم في صناعة التصور، دون تشتت تضيع معه الصورة الكلية. وما نتمناه أن يرى القارئ
قيمة النسق، وأن يجده حرياً بالتبني، بديلاً عن النظرة المجزأة للدين؛ لتختفي تلك الاستدعاءات
المجتزَأة، والتي وصفها القرآن بـ {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، و{الذين جعلوا
القرآن عضين}، فالحالة التجزيئية أشبه بشخص يشتري قطع السيارة من أصغر جزء إلى أكبر
جزء بطريقة منفردة، ويعتقد أن لديه سيارة. إن الفرق شاسع بين السيارة في كلها المركب،
وبين أجزائها عندما تكون منفصلة، فهي لا تسمى سيارة إلا إذا شكّلت وحدة واحدة، أما
أجزاؤها فهي لا تعدو أن تكون أجزاء وقطع.
إن
استبدال المنظور الشائع والمجزأ بمنظور كلي متماسك ليس بالأمر اليسير، لكنه المستقبل،
وبدونه سيكون فشل محقق.
فالنسق (System)، الذي يعني: النظام المكون من أجزاء، وتضبطه
آليات تحكّم .. فلو قلنا إن النظام الاجتماعي نسق، فهذا يعني أن هناك مجموعة من العناصر
تتفاعل لتؤدي وظيفة حفظ الوجود الاجتماعي والاستقرار والنمو،
وإذا
وجد أن النظام الاجتماعي لا يحقق للإنسان تلك المتطلبات، فإن النظام يقوم بإعادة ضبط
نفسه حتى يحافظ على ذاته.
إذن
هناك متطلبات أساسية للناس المكونين للمجتمع، والنظام يقوم بعملية توفير تلك المتطلبات،
عبر التغذية الراجعة، وحين يتوقف نظام التحكم عن العمل، ينهار البناء ويتعطل. وهذا
يحصل عندما تنهار المجتمعات، وتخرج عن حركة التاريخ، بسبب عجزها عن إصلاح النظام.
إن
الدين شيء، وفهم الدين شيء آخر.. الأول هو النص الديني المحفوظ، والثاني هو التدين؛
الذي قد يكون عرضة للخلل، فهو تصور عن الدين، قد نقترب أو نبتعد به عن مضمون الدين.
إن
غياب النظرة النسقية لقيم الدين، عبر غياب دوائر عمل النصوص، وتقزّم المفاهيم، واضطراب
السلوكيات، يجعل من فهمنا للدين، أو التدين، ينهار عند أول تجربة.
المجتمعات
الإسلامية متخلفة عن العصـر، وفاشلة في التعايش السلمي مع بعضهم البعض، والموضوع هنا
ليس البحث عن الفاشل، بل بطرح الأسئلة الفاعلة.
ماهو
النسق الذي يحمله هذا الطرف، أو غيره، عن الحياة، وعن القيم، وما درجة اتساقها .
إن
تعلم التفكير في الأنساق ليس أمراً هيّناً في بيئات ألفت الاستدعاء المجزأ للنصوص الدينية،
واختلّت فيها المفاهيم اختلالاً كبيراً، حتى انقلبت للضد. فمثلاً لو نظرنا في مفهوم
واحد، مثل الجهاد، الذي وظيفته في المجتمع هو المحافظة على المجتمع من العدوان الخارجي،
والتكفّل بحرية الإنسان في كل شيء، كيف تحوّل إلى سلاح لقتل الآخر.. إنه انتقام الأفكار
لذاتها.. فعندما يخون مجتمع ما قيمه، ولا يحافظ على مضمونها، ونطاق عملها، والنسق الذي
تعمل فيه، تنتقم هي منه بطريقتها، وتخلق أضدادها، وهكذا تنهار المجتمعات.
قبل
الدخول في هذه الحلقة، لا بد من بعض الأسئلة:
ما
هي منزلة الإنسان في الوجود، بعيداً عن لونه وعرقه ودينه؟ وما هي مهمته ؟ وما الأدوار
التي تنتظره ؟ وما هي الأشياء التي تعترضه، لتحقيق ممكناته التاريخية؟
الدلالات
الكبرى التي بيّنها الله لحظة بدأ الوجود
.
1- كل شيء خلق وهيئ للإنسان
كي يقوم بدوره كخليفة الله في الأرض: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعًا}.
2- نظام التعاقب في الأرض:
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}. فالأفضلية لمن هو الأقوى في الأرض، حسب قوانين
فلسفة التاريخ والحضارة، والسيادة تكون له على الآخرين .
3- من طبيعة البشر الفساد
وسفك الدماء، ولكن في مقدوره أن يوقف هذا الفساد وسفك الدماء لو تحصن بأدوات العقل
والفكر، لأن هذان الأمران هما السبب في فساد البشرية، وهلاكها: {أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}.
4- العلم والمعرفة هما الطريق
إلى تجاوز كل الخلافات، وهما السبب في تساكن الإنسان في الأرض، وعمرانها: {وَعَلَّمَ
آدَمَ... }
5- الإنسان مكرّم عند الله،
وعند الملائكة التي أمرها بالسجود لآدم: {اسْجُدُوا لِآدَمَ}.
6- الإنسان بين مرتبتين،
وله حرية الاختيار بين مرتبة الملائكة (الطاعة لأوامر الله)، ومرتبة التمرد على الله.
وهو كذلك حرّ بين أن يكون عابداً، أو متمرداً على أوامر الله. وهو حرّ أن يكون جاهلاً،
أو متعلماً، قوياً أو ضعيفاً، سيداً أو عبداً تابعاً، قائداً أو جندياً. ولكن لكل اختيار
شروط ونتائج .
7- من طبيعة البشر أن يخطئ،
وهذا أمر طبيعي، ولكن الله أودع في الإنسان أدوات تدرك الخطأ، فيتوب، فيغفر الله له.
أمّا الإصرار على الخطأ، والدوام عليه، رغم العلم بالنتيجة، فهي الكارثة التي تؤدي
بنهاية الإنسان والأمم والشعوب: {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
8- بما أن الإنسان قادر
على فعل الخير والشـر بمحض إرادته، وليس بقوة خارجية تجبره على ذلك، فعليه يكون الإنسان
دائماً أمام اختبار في حياته الدنيوية لفعل الأفضل عن طريق التجربة والمعرفة، للوصول
إلى الفضيلة، بأدوات زوّده الله بها، أهّلته ليكون خليفة الله في الأرض من دون باقي
المخلوقات، وقد خلقه الله لمهمة إعمار الأرض التي أعدّت له كي يعيش فيها .
هناك
معالم كبرى للنسق القيمي رسمت للإنسان الذي هيئ للاستخلاف، وسخّرت له كل شيء للقيام
بهذه المهمة التي تعهّد بحملها: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرض
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان}،
وهذه الأمانة هي المسؤولية، أي الإيمان، وتبعاته، بأدوات هي القابلية على التعلم، وزيادة
العلم. والإنسان معرّض للابتلاء بالدنيا، ومطلوب منه القيام بالأعمال الصالحة على أحسن
وجه، وهو كائن مكرّم، ومخيّر، وهو الخليفة في الأرض، سخّرت له الأشياء والأدوات للقيام
بالمهمة على أحسن وجه .
إن
حمل الأمانة مرتبط بالدين، وعليه يمكننا طرح الأسئلة التالية:
ما
هي تلك الأمانة؟ وما طبيعتها ؟ ولماذا الإنسان بالذات؟ وما هي التحديات التي سيواجهها؟
وما هي الأدوات التي زود بها كي يقوم بالأمر على أحسن وجه؟ وكيف يمكن الوصول إلى الممكنات
الخفية عنه؟ ولماذا الإنسان، دون غيره، مخلوق مكرّم؟
إن
الأمانة هي التكاليف المنوطة بالإنسان من قبل الله، وتشمل: الإيمان، والعبادة، وإعمار
الأرض، وعدم الفساد، ووقف سفك الدماء. والإنسان مخيّر في فعل ذلك الشيء، أو عدم فعله،
وإذا قام بالفعل يجب أن يقوم به على أحسن وجه، أي إن هناك سباقاً بين البشر في تقديم
أحسن الأعمال، وبجودة عالية، وإنه لهذا الغرض زوّد بأدوات، وهي القدرة على التعلم والارتقاء
المعرفي للقيام بالعمل تعقلاً وكشفاً وتحكماً
.
إن
الإنسان وجد لغاية معينة، وتمّ توجيهه لها. وخلال إدراكه إياها، تستقيم تصوراته، وتصلح
وجهته. وهي غايات أسست على تكريم الإنسان بإعطائه حرية الاختيار، وحرية المسؤولية،
والمصير، التي تعتبر شيئاً داخلياً لا يمكن سلبه بالإكراه، لأن الإكراه ظاهرة مناقضة
لحرية الإنسان .
إن
التجربة الذاتية للإنسان، والشعوب، واختياراته، هي التي تصنع المصير النهائي، فما يحمله
من أفكار ومعتقدات هي المسؤولة عن سعادته أو شقائه.
إن
الحرية تكرر ذكرها في القرآن، فحرية الاختيار هي حق وجودي أصيل. والدين في حياة الناس
ليس مسألة شكلية أو ظاهرية، بل هو مشروع غائي لتحقيق مهمة الإنسان في الأرض. وإن رؤية
الصورة الكبرى هي نقطة البداية لمشروع الدين في حياة الإنسان. وتركيز العقل في استحضار
الوسيلة، دون إدراك الغاية، والتفكير فيها، يعتبر غفلة كبرى عن مراد الله، وعن المعنى
الكبير للحياة. فالحقيقة الكبرى تحتاج منا إلى وقفة تأنّي، لأنها منظور كامل وشامل،
وهي أداة لتفسير الوجود بالعقل. وهذا التصور العام ليس معنى مجرداً، بل هو تصور حاكم
لكل حركة أو فعل يصدر من الإنسان في هذه الحياة
.
إن
الله علة وجود هذا الكون، والرسل مبلّغون عن الله، والكتب هي مادة الرسالة الإلهية،
والتي تحدد للإنسان مهمته، ومعنى وجوده، ومصيره. ويترتب على هذا الفهم مسؤوليات وواجبات
وحقوق، أهمها:
1- نجاة الإنسان لا يتحقق
إلا بأبعاده الثلاثة مجتمعة، وهي: (الإيمان، والعبادة، والعمل الصالح، ومنها: الإنفاق
في الأرض). الإيمان بالصورة الكبرى للوجود، التي تربط بين عالم الغيب وعالم الشهادة،
وتربط بين المحدود الدنيوي بالمطلق الأخروي، وعالم الشهود بعالم الخلود، الإيمان الذي
ينعكس على فعل الإنسان في الأرض، فيشكّل له صلة بالسماء، "فالصلاة تروي الروح،
وتجهزها بآلية تذكير وشحن للمعنى الأكبر للوجود، ولمهمته في الأرض، لترقى به إلى مقام
التذكر، الذي يورث التقوى، والتي تقود إلى الإحسان الأقصـى في صناعة الحياة، بآليات
تربط الأبعاد الثلاثة بالعقل والفعل.
2- مهمة الإنسان تكون بإعمار
الأرض، وإقامة العدل فيها، وبسط الرحمة لكل الموجودات، وإيقاف الفساد، وسفك الدماء،
والإصلاح، والبناء، بواسطة ملكة العقل، اعتماداً على العلم والمعرفة. فحاجة الإنسان
إلى العلم ضرورية لوجوده، وزيادة العلم فيها منفعة له. لذلك عليه طلب العلم، والزيادة
منه، لأن الإنسان - مهما ارتقى في العلم - فهو لا يزال على الشاطئ.
إن
أهم مهمة أمام الرسل، والقادة، والمفكرين، هي دقّ جرس الإنذار لإيقاظ الناس من الغفلة،
وتنبيههم للمصير الذي ينتظرهم، بطرح أسئلة تدور حول معنى الوجود، وهل لوجود الإنسان
معنى، وما هو؟!
إن
الاستجابة إلى تلك الأسئلة يحتاج إلى حسن التفكر والعلم والفهم ونقاء الضمير، وكلّما
قويت ملكة التفكير، ارتقى الفهم. والوعظ لا يكفي إذا كانت طبائع التفكير سيئة، وإن
التفكير السديد يورث الحكمة والسداد.
إن
الإنسان بطبعه كائن مفكر، وبالتفكير يميز الإنسان بين الكذب والصدق، وتولد لديه حالة
حضور الخالق. وبالتفكير ينتهي الإنسان عن المفاسد والشـرور، ويتراجع، ويتوب. وبالتفكير
يحاسب نفسه، ويقوّمها، قبل الفعل، وأثناءه، وبعده. وبالتفكير يتصل بربه، ويشتاق إليه.
وبالتفكير يقوّم أخلاقه، ويهذّبها. وبالتفكير يعمّر الأرض، ويصلح فيها. والعكس صحيح،
فحينما يختل التفكير، تنمو الشرور، والنقائض. فالعلم والتفكير هما الطريق للوصول إلى
عمارة الدنيا والآخرة .
3- حينما تستقيم حياة البشر،
وتبلغ مرحلة النضج، تتحقق فيها الرحمة، والقسط، وتكون قد شكرت الخالق عملياً {لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ}، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}،
حينها تكون شروط النجاح قد تحققت: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وهو فلاح يشمل الدارين.
4- ما موقع الشعائر الكبرى،
كالصلاة والصيام والحج والزكاة، من الدين؟ هل هي غايات أم وسائل؟ وما موقعها من صناعة
الحياة؟
حين
ننظر إلى القرآن باعتباره نسقاً، فلا مفر من أن نرتب عناصره في أماكنها، ما استطعنا..
فالنسق - كما أسلفنا – لا يعمل كأجزاء، لكنه يعمل ككل.
فالدين
نسق، والصلاة والصيام والحج والزكاة أجزاء مهمة داخل هذا النسق، وهي وسائل لتحقيق غايات
أسمى وأكبر.
فالصلاة
ذكر، والذكر حضور الخالق في نفس المخلوق، حضوراً يجعله بمكانة الرقيب والشاهد على أفعاله؛
حضوراً فاعلاً في عمله اليومي، حضوراً يمنعه من المنكر بأنواعه، سواء ما خفي أو ما
جهر به. وكم من مصلّ لا صلة له بغاية الصلاة، ووظيفتها، لأن انصراف الذهن عن الغاية،
يجعل العمل أجوف، فهو أشبه بالسيارة في غير اتجاه، مهما دارت لا تحقق الغرض من وجودها.
إن
الامتناع عن الفحشاء والمنكر جزء من التقوى، التي تشمل كل حركة في الحياة، إذ إن كل
عمل تدخله التقوى. فالصلاة بكاملها هي من أثر التقوى، والصيام شعيرة كبرى وظيفتها تمكين
التقوى، والحج شعيرة كبرى لها وظيفة تخدم غايات النسق. وهكذا تلتحم الدنيا بالآخرة،
لتحقق في النهاية المعادلة الكبرى ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق