د.
أكرم فتاح سليم
باحث في مقارنة الأديان والفلسفة
تبنّت عددٌ من الفرق الباطنيّة عبر التّاريخ أفكارًا خالفت فيها العقيدة الصحيحة.
ومن بين تلك الأفكار والمعتقدات فكرة وحدة الوجود، التي تعتبر مذهباً فلسفيّاً، أو
فكرة عقائديّة، تبناها عددٌ من فلاسفة المسلمين. ولا شكّ في أنّ سبب تبنّي هذا الاعتقاد
يرجع إلى تأثّرهم بأفكار ومعتقدات الأمم الأخرى، التي ابتدعت معتقدات ما أنزل الله
بها من سلطان. خاصّةً عندما فتح المسلمون البلاد، ومنها الأندلس، حيث اطّلعوا على كتب
الغرب القديمة، التي تحوي بعضها المعتقدات الفاسدة، مثل كتب الفلاسفة اليونانيّين وغيرهم.
فقد اعتقد بهذه الفكرة عددٌ من فلاسفة اليونان، وعلى رأسهم (هيراقليطس).
فالله عند (هيراقليطس) – تعالى الله عن ذلك - نهار وليل، وصيف وشتاء، ووفرة
وقلة، جامد وسائل، فهو كالنار المعطرة، تسمّى باسم العطر الذي يفوح منها، وأن الحقائق
المتنوعة، كالأمر والخبر، حقيقة واحدة.
وبذلك أيّدت الهندوسية
هذه الفكرة، فالكون كله ليس إلا ظهوراً للوجود الحقيقي، أيْ الله سبحانه، والروح الإنسانية
جزء من الروح العليا، وهي كالآلهة سرمدية غير مخلوقة. ويعطون أسماء الله سبحانه لكل
شيء في الوجود، إذ كان وجود الأشياء عندهم هو عين وجوده، ولا يميزون الخالق بصفات تميّزه
عن المخلوق، فما ثمّة فرق إلا بالإطلاق والتقييد. والتجريد الفلسفي ارتقى بالهنديين،
أن الإنسان يستطيع خلق الأفكار والأنظمة والمؤسسات، كما يستطيع المحافظة عليها أو تدميرها،
وبهذا يتحد الإنسان مع الآلهة، وتصير النفس عين القوة الخارقة، والروح كالآلهة أزلية
سرمدية مستمرة غير مخلوقة، والعلاقة بين الإنسان وبين الآلهة، كالعلاقة بين شرارة النار
والنار ذاتها، أو البذرة والشجرة. لذا فالأجساد تحرق بعد الموت؛ لأن ذلك يسمح بأن تتجه
الروح إلى أعلى وبشكل عامودي؛ لتصل إلى الملكوت الأعلى في أقرب زمن، كما أن الاحتراق
هو تخليص الروح من غلاف الجسم تخليصًا تامًّا. فهذه الفكرة ادعاء الربوبية للبشـر والبقر
والحجر، وعدم التفرقة بين موحد ومشرك، ومؤمن وكافر، وبر وفاجر، وعادل وجائر، وطيب وخبيث،
ولا بين نافع وضار، وطهور ورجس. ويستدلون على عقائدهم بالآيات والأحاديث، بضروب من
التأويل.
ذكر ابن تيمية - رحمه الله - مبيناً فكرة هذا المذهب، وسبب تسميتهم اتحادية
- اسم من أسمائهم -: "حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله، ليس
وجودها غيره، ولا شيء سواه البتة"، فهذه عقيدة إلحادية تأتي بعد التشبع بفكرة
الحلول في بعض الموجودات .
وجاء في المعجم الفلسفي: "أنّ الله لا يوجد مستقلاً عن الأشياء، أو أنه
نفس العالم، والأشياء مظاهر لذاته تصدر عنه بالتجلي، أو تفيض عنه مثل فيوض النور عن
الشمس".
معنى
الاتحادية تلك التي تجعل من الكائن الفاني شخصية تتحد بالموجود الدائم الباقي، المنزه
عن سائر النسب والإضافات والأحياز الزمانية والمكانية المحدثة، أو يتحد به شيء منها،
فهي مذهب ليس بإسلامي، استمده أهل الشذوذ في التصوف الإسلامي، من الفلسفة البائدة التي
ذكرناها سالفاً.
ووحدة الوجود، أو الاتحاد، نوعان أو قسمان:
الأول: الاتحاد العام: وهو اعتقاد كون الوجود هو عين الله (عز وجل).
بمعنى أن الخالق متحد
بالمخلوقات جميعها، والقائلون به يسمون الاتحادية، كابن الفارض، وابن العربي. وذكر عبد الرحمن الوكيل - رحمه الله - عن ابن الفارض:
"يؤمن هذا الصوفي ببدعة الاتحاد، أو الوحدة، سمّها بما شئت، بصيرورة العبد رباً،
والمخلوق خلاقاً، والعدم الذاتي الصرف وجوداً واجباً".
لم
يكن هذا المذهب قد أخذ صورته الكاملة في المحيط الصوفي قبل ابن العربي، الذي قرّر مذهب
وحدة الوجود في صورته النهائية، ووضع له مصطلحاً صوفياً كاملاً، استمده من كل مصدر
وسعه أن يستمد منه، كعلم الكلام والفلسفة اليونانية، كالغنوصية المسيحية وغيرها من
الفلسفات، كما أنه استفاد من تراث متصوفة الإسلام المتقدمين عليه، سواء منهم من كان
في الأندلس أو في المشرق، كما اعتمد على الأحاديث الموضوعة، وتأويلات الشيعة الباطنية،
للشريعة ونصوصها. ولكنه صبغ هذه المصطلحات والفلسفات بصبغته الخاصة، وأعطى لكل منها
معنى جديداً يتفق مع روح مذهبه العام .
الثاني: الاتحاد الخاص: هو اعتقاد أن الله (عز وجل) اتحد ببعض المخلوقات دون
بعض. فالقائلون بذلك نزّهوا سبحانه من الاتحاد بالأشياء القذرة القبيحة، فقالوا إنه
اتحد بالأنبياء، أو الصالحين، أو الفلاسفة، أو غيرهم. فصاروا هم عين وجود الله (جل
وعلا)، كقول بعض فرق النصارى: إن اللاهوت اتحد بالناسوت، فصارا شيئاً واحداً، وهذا
بخلاف القائلين بالحلول، فهم يرون أن له طبيعتين لاهوتيةً وناسوتيةً. فالاتحادية قالوا
بواحد، والحلولية قالوا باثنين. ولا ريب أن القول بالحلول أو الاتحاد أعظم الكفر والإلحاد،
ولكن الاتحاد أشد من الحلول؛ لأنه اعتقاد ذات واحدة، بخلاف الحلول - كما مرّ -. ثم
إن القول بأنه اتحد في كل شيء، أعظم من القول بأنه اتحد في بعض مخلوقاته.
نستطيع أن نقول إنهم يجعلون الوجود الواجب والوجود الممكن، بمنزلة المادة، كما
يقوله ابن سبعين.. وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، ولا تخرج عن وحدة الوجود، أو الحلول،
أو الاتحاد، بخلاف من يقول بالمعنى، كالنصارى، والغالية من الشيعة، الذين يقولون بإلهية
علي، أو الحاكم، أو الحلاج، أو يونس القيني، ممّن ادّعيت فيه الإلهية. فهؤلاء يقولون
بالحلول المقيّد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم. ولهذا يقولون: النصارى إنما
كان خطأهم للتخصيص، وكذلك يقولون عن المشركين عُبّاد الأصنام، إنما كان خطأهم لأنهم
اقتصروا على عبادة بعض المظاهر دون بعض.
فالجذور
الفكرية لهذا المذهب تعود إلى اليونانيين، وابن عربي أدخل هذه الفكرة من اليونانيين
إلى التصوف الإسلامي، وليس له علاقة بالإسلام كتصوف أو عقيدة؛ لأنه يعطي صفات المخلوقين
للخالق، وصفات الخالق للمخلوقين، وفيه نوع من الإلحاد لأنه ينكر أن الله سبحانه خالق
أو معبود أو إله، فيجوز عندهم عبادة الحجر والشجر وأيّ نوع من الحيوانات، لأن الله
– تعالى الله عن ذلك- حلّ فيه. كما كان مشركو مكة يقولون للرسول (صلى الله عليه وسلم):
نحن لا نعبد الأحجار والأصنام، بل نعبد ونقدس الروح التي حلّت فيها. في حين إن الإنسان
يتقرّب إلى الله بالعبادات والنوافل والعمل الصالح، ولا يتحد أو يحل فيه.
الهوامش:
1.
القرآن الكريم.
2.
ما معنى وحدة الوجود، طلال مشعل، موقع: موضوع، 29- يونيو
- 2016م.http://
mawdoo3.com .
3.
تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن تيمية، درء تعارض العقل
والنقل، تحقيق، عبد اللطيف عبد الرحمن، دار الكتب العلمية – بيروت. ج7، 1417هـ
=1997م.
4.
شمس الدين أبو عبد الله الذهبي (ت 748هـ)، العرش، المحقق:
محمد بن خليفة التميمي، عمادة البحث العلمي
بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ج1، الطبعة الثانية،
1424هـ=2003م.
5.
مناهج جامعة المدينة العالمية، الأديان الوضعية، مرحلة ماجستير،
جامعة المدينة العالمية.
6.
محمد رشيد بن علي الحسيني(ت 1354هـ)، تفسير القرآن الحكيم،
الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج9، 1990م.
7.
آمال بنت عبد العزيز العمرو، الألفاظ والمصطلحات المتعلقة
بتوحيد الربوبية، ج1، ص399. وكذلك: د. غالب بن علي عواجي، فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام
وبيان موقف الإسلام منها، المكتبة العصرية الذهبية للطباعة والنشر والتسويق، ج3، جدة،
الطبعة الرابعة، 1422 هـ = 2001م.
8.
د. صالح الرقب – د. محمود الشوبكي، دراسات في التصوف والفلسفة
الإسلامية، قسم العقيدة - كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية – غزة، الطبعة الأولى،
1427هـ=2006م.
9.
إحسان إلهي ظهير الباكستاني (ت 1407هـ)، التَّصَوُّفُ. المنشَأ
وَالمَصَادر، إدارة ترجمان السنة، لاهور – باكستان، الطبعة الأولى، 1406 هـ= 1986م.
10. محمد بن شاكر بن أحمد
الملقب بصلاح الدين (ت 764هـ)، فوات الوفيات، المحقق: إحسان عباس، دار صادر – بيروت،
ج3، الطبعة الأولى، 1974م.
11.
محمد بن إبراهيم بن أحمد، دار ابن خزيمة، مصطلحات في كتب
العقائد، الطبعة الأولى.
12. عبد الرءوف محمد عثمان،
محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد،
إدارة الطبع والترجمة – الرياض، الطبعة الأولى، 1414هـ.
13. تقي الدين أبو العباس
بن تيمية الحراني (ت 728هـ)، مجموعة الرسائل والمسائل، علق عليه: السيد محمد رشيد رضا،
لجنة التراث العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق