سعد الزيباري
لا جَرَم أنّ الإسلام نظّم حياةَ الإنسانِ كُلّها، وأدخل
شبكة القيم في قلبِ الأهواء المتقلِّبة، وووضع الميزان إزاء النزعات الطّائشة،
وحقّق مبدأ التوازن بين جميع أفرادِ المجتمع بتجسيدِ مبادئ العدالة الحقيقيّة،
وبثّ الأخلاق في منظومةِ الحياةِ برُمّتِها، وعلى الرّغم من أثرِ القيمِ والأخلاقِ
في بناءِ المجتمعاتِ الإنسانيّة، وإرساءِ أسسِ الحضارة الواعِدة، فإنّنا وجدنا في
المشهد الفكريّ والثقافيّ العربيّ والإسلاميّ مَنْ تَمَعَّنَ في إهدارِ قيمةِ
الأخلاقِ ومصادرتها، والعمل من أجلِ إزاحتها وإزالتها بحجّة أنّها لم تعد تواكِبُ
رُوح الحداثة وفلسفتها، والتجديد وأسسه، من خلالِ طرحِ شعاراتٍ قومية وماركسيّة
وليبراليّة، وقد انتقد هذا التوجّه الدكتور شحرور نفسَه - على الرّغم من كونِه من
دُعاةِ الحداثةِ والتّجديد - بقولِه: وهُناك "قسمٌ طرحَ الحداثة والتجديد
تحتَ شعاراتٍ قوميّة وماركسيّة، واستعارَ مُنطلقاتِه من ثقافاتِ شعُوبٍ قائمةٍ
بأنظمتها، بغضِّ النّظر عن بنيتها الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة... وقد
استبعدَ أصحابها الدّين من مشرُوعاتِ الحداثة، باعتبارِه تراثاً رجعيّاً، يُعرقل
بل ويُناقض مسيرة التّحديث. لكنّهم لم ينتبهُوا إلى أنّهم باستبعاد الدّين،
استبعدُوا الأخلاق. وغَفَلُوا عن أنّ القانون الأخلاقي جزءٌ لا يتجزّأ مِنَ
الدّين، وأنّ الأخلاقَ قوانينُ كونيّة لا عَلاقةَ لها بعربٍ أو عجم"([1]).
هذا، وقد وجَدْنا أيضاً مَنْ أثارَ تشكيكاتٍ واضِحة في
قضيّة الإسلامِ والإيمان عبر التوغّل الدّقيق في منظُومة العقيدة والقِيَم، وذلِكَ
من خلالِ طَرْحِ أمُورٍ مُستحدثة على درجة كبيرة من التعسّف والتكلّف، ومن هؤلاءِ
الدكتور محمّد شحرور الّذي قَدَّمَ تصوّراً جديداً في مفهومِ الإسلام والإيمان ما
أنزل الله به من سُلطان، وقد سعى في خِطابه التوفيقيّ إلى إعادةِ النّظر في
ترتيبِ مضامينِ الإيمان والإسلام، وإقامة جدولة جديدة لأركان الإسلام وأركان
الإيمان جدولةً مُغايرة لما عليه إجماع الأمّة، ومِنْ ثَمَّ الخروج بفَرْقٍ
تقسيميّ مُستحدث بَلْ مُتشظٍ بين مفهُومِ الإسلام والإيمان، فقال: "لقد
حاولنا في القِسْمِ الأول مِنْ هذا الكتاب (يعني: الإسلام والإيمان - منظومة
القيم) أنْ نُلقي الضوءَ على الإسلام والإيمان، كما وردا في آياتِ التّنزيل
الحكيم، وعلاقتهما بالأخلاقِ والديمقراطيّة... واكتشفنا خلال ذلك كُلّه، أنّ ما
تـمّ تقديمه لنا على أنّه أركان الإسلام غير صحيح، ولا يتطابقُ البتة مع التنزيل
الحكيم. وأنّ الركن الصحيح من بينها هو ركن الشهادة الأولى (شهادة أن لا إله
إلا الله)، أمّا الشهادة بأنّ محمّداً رَسُول الله، وأما إقامة الصلاة، وإيتاء
الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فهي من أركان الإيمان، وليس من أركان الإسلام"([2]).
وقد أكّد شحرور أن (فعل الخير) من أركان الإسلام، وأن الزكاة من أركان الإيمان،
واستنتج - خاطِئاً - أنّ العباداتِ من أركانِ الإسلام، وأن إقامة الصلاة، وصوم
رمضان، وحج البيت، هي شعائر من أركان الإيمان لا علاقة لها بالعبادات([3]).
وقد نتساءل ترى ما الذي دفع شحرور إلى طرح هذا التّقسيم
الجديد، وما الموجِّهات المضمرة في إقامةِ جدولةٍ جديدة، جدولة قائمة على حصر
أركانِ الإسلامِ بشهادةِ أنْ لا إله إلاّ الله وحدَهُ، ونفي شهادة أنّ محمّداً
رسول الله، وذلِكَ بناءً على مفهوم المخالفة؟ من المؤكّد أنّه يُمكن لشحرور من
خلالِ هذه المفاصلة العقيمة والفصام النّكِد بين الشّهادتين أنْ يُمرِّر أشياءَ
كثيرةً في العقيدة الإسلاميّة، وأنْ يبنيَ على ذلِكَ أموراً غايةً في الخطُورة في
بنيةِ العقلِ المسلم، فهو ابتداءً يضربُ ضربةً شعواء في صميم الهُوية الإسلاميّة،
فيجعلُها هُويّة مُهلهلة ليسَ لها أساسٌ ثابت، وبالتالي التّقليل من دور الرسُول
الخاتم - عليه الصّلاة والسّلام -، وإن إعادة ترتيب مضامين الشّهادة في الإسلام
تمثِّل مساساً لا منطقيّاً في صميم العقيدة الإسلاميّة المتوارثة عن عُلماءِ
الإسلامِ المعتبرين خلفاً عن سلف، وهذا الجدل حول قضيّة الشّهادة يعرِّج به
وبأمثالِه إلى المساس في أمور عقديّة أخرى مُؤَصّلة وثابتة، فإذا أمكن له أنْ
يضربَ بمعاولِه في مسألةِ الشّهادة الثابتة في العقيدة الإسلاميّة، ويعيدُ صياغتها
من جديد، فإنّه من الممكن أنْ يعبث في مسائِلَ أُخرى أقلّ شأناً، فإنّ قضيّة
العقيدة قائمة على الشّهادة، كما أنّ هُويّة المسلمين تتحدّد بالإسلام ظاهِراً
وبالإيمان باطِناً، والقاعدة الشرعيّة تنصّ على الحكم بالظّاهِر، والله يتولّى
السّرائِر، فإذا ما انتفى الإسلام بوصفِه أَمَارةً على دينِ الإنسان المسلم، فإنّه
سينتفي بالضّرورة وجود دينٍ بهذا المسمّى، بناءً على تسميته الجديدة وهي الإيمان
عنواناً جديداً، بَل شارة وإشارة على هُويّة المسلمين الجُدد، فيكون هُناك وَفْقاً
لطرحِه المتعسِّف مُؤمنون إزاء مُعتنقي الأديان السماويّة الأخرى، وكأنّه نَسِيَ
أو تناسى أنّ الإيمان مسألةٌ يشترِكُ فيها غيرُ المسلمين، على الأقلِّ بوصفِه
مُصطلحاً لغويّاً، وليسَ مُصطلحاً شرعياً بناءً على المفهُوم الإسلاميّ للإيمان.
ويقولُ بخطابٍ
ملؤه التّباهي المقرُون بالمعرفة: "واكتشفنا خلال ذلك كُلّه، أنّ ما تـمّ
تقديمه لنا على أنّه أركان الإسلام غير صحيح، ولا يتطابقُ البتة مع التنزيل
الحكيم". فهو يقولُ بصريحِ العبارة "أنّا اكتشفنا" الدّالة على
الذاتِ على سبيلِ المبالغة، فهو اكتشف أنّ ما عليه الأُمّة في تحديدِ مضامين
أركانِ الإسلامِ غير صحيح، وأنّ ما يقترِحه هو الصّحيح، على الرّغم مِنْ أنّه لا
يمتلِكُ مفاتيح شيفرة اللّغة العربيّة، تلك المفاتيح الّتي تتيحُ له التعامُل مع
الخِطاب القرآني بكفاءةٍ عالية ومقدرةٍ لا بأس بها، كفاءة ومقدرة تكونانِ موضع
ثقةِ الباحثين من اللغويِّين فضلاً عن العلماءِ والفقهاء والمفسِّرين، والمعرُوف
أنّ لِكُلِّ علمٍ مِنَ العلُومِ الإنسانيّة شيفراتِها الخاصّة ومفاتيحها المحدّدة،
فلا بُدّ لمن يدخلُ كليّة الطبّ أن يمتلكَ المفاتيح المناسبة لفكِّ شيفرات اللّغة
الخاصّة بالطبّ، وكذلِكَ الشأنّ بالنسبة للمهندس والكيميائي والفيزيائي وغيرهم من
أصحابِ العلُوم التجريبيّة. وإذا جرّدْنا شهادة أنْ لا إلهَ إلاّ الله من شهادةِ
أنّ محمّداً رَسُول الله مِنْ أركانِ الإسلام يكون اليهوديّ والمسيحيّ والصابئيّ
داخلين في مفهُومِ الإسلام؛ لأنّهم جميعاً يؤمنون بالله - جلّ وعلا -، ولكنّهم لا
يؤمنون برسُولِنا محمّد - عليه الصّلاة والسّلام -.
وقال: "إن إعادة تسمية الأشياء بأسمائها، وتبيان
أركان الإسلام وأركان الإيمان كما أوردها التنزيل الحكيم، جعلنا نفهمُ بوضوح كيفَ
أنّ الإسلامَ بدأ بنوح وختم بمحمّد - صلّى الله عليه وسلّم -، مرُوراً
بإبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى. وأنّه هو الدّين السماوي الوحيد الّذي عرفته
البشريّة وجاء به الرّسل على اختلافِ رسالاتهم. فالمسلمون من عهد نوح، هُم من آمن
بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فمن آمن منهم بعد ذلِكَ بملّة إبراهيم كان
حنيفاً، ومن آمن بموسى كان من الّذين هادوا، ومن آمن بعيسى كان من النصارى، ومن
آمن بمحمّد - صلّى الله عليه وسلّم - كان من المؤمنين([4]).
هذا هو التقسيم الجديد الّذي بشَّر به محمّد شحرور ليكون
قاعدةً التمايُز بينَ المسلمين - المؤمنين في تصوُّره - وبين غيرِهم من مُعتنقي
الأديانِ السّماويّة الأُخرى، ولا شّك أنّهُ في هذا التّقسيم، يُفكّك الهُويّة
الإسلاميّة، ويجعلُ المسلمين بلا هُويّة تميِّزُهم عن غيرِهم، وفي هذا التّحليل
الجديد إهدارٌ لخصُوصيّة المسلمين وتمايزهم في العالَم.
ويضيف بالقول: "ومن هنا نفهم - كما قلنا -، كيفَ
أنّ الإسلام بدأ بنوح وختم بالرّسُول الكريم - صلّى الله عليه وسلّم -، وخضع
للتطور والتراكم المعرفي والإنتاجي عند الإنسان، فبدأ التوحيد مشخصاً ليتطور إلى
مجرّد. وبدأت القيم العليا الأخلاقية بـ[رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ]([5])، لتشمل
مع خاتم الأنبياء والرسل جميع مناحي الحياة، وتوصّلنا إلى القول بأنّ الإسلامَ
فطرةٌ، والإيمانَ تكليفٌ"([6]).
"لقد قادنا النظر في أركانِ الإسلام، كما وردت في
التنزيل الحكيم، إلى أن نرى بوضُوح كيف تـمّ استبعاد العمل الصالح منها، وقادنا
النظر في أركان الإيمان، إلى أن نرى بوضُوح كيف تـمّ إغفال الإحسان فيها. وتبيّن
لنا أنَّ هناك تكاليفَ للإيمان غير واردة في أركان الإيمان الّتي سُميت - برأيه -
خطأً أركان الإسلام، وهي الشورى والقتال في سبيل الحرية والوطن، لأنّها أيضاً
تكليفٌ مخالِفٌ للفِطرة"([7]).
وقد ذهب الشيخ علي الطنطاوي في بيان هذه المسألةِ
بقولِه: "صحيحٌ أنّ النفسَ مطبُوعةٌ على الحُريّة، والدّين قيدٌ، ولكن لا
بُدَّ مِنْ هذا القيد، ولو تركناها (النّفس) تأتي الفواحِشَ كما تشاءُ انطلاقاً
مِنْ طبعِ الحُريّة فيها، لصارَ المجتمعُ (مُستشفى مجانين) كبيراً، لأنّ الحُريّة
المطلقة للمجانين، المجنُون يفعلُ كُلَّ ما يخطُر على بالِه... المجنُون هو الحُرّ
الحريّة المطلقة، وأمّا العاقِل، فإنّ عقلَهُ يُقيِّد حُريّته، وما العقل؟ إنّهُ
قيدٌ، إنّ لفظَهُ مُشتقٌّ مِنَ الأصلِ الّذي اشتقّ منه (العقال)، أي: الحبل الّذي
يقيّد به الجمل. والحكمةُ، قريبُ المعنى، مِنْ (حَكَمة الدّابة)، وهِيَ كذلِكَ
قيدٌ، والحضارةُ قيدٌ، لأنّها لا تدعُكَ تفعلُ ما تريدُ، بل تُوجِب عليكَ مُراعاة
حقُوق النّاس وأعراف المجتمع. والعدالةُ قيدٌ، لأنّها تضعُ نهايةً لحُريّتِكَ،
حيثُ تبدأُ حُريّة جارِك"([8]).
وقال أيضاً إنّهُ: "لا شكّ أنّ النَّفْسَ تميلُ إلى
السّهْلِ دُون الصّعب، واللّذيذ دُون المؤلِم، وتحبُّ الانطلاق وتكرهُ القيُود،
هذه فطرةٌ فطرَها الله عليها، ولو ترك الإنسان نفسه وهواها، وانقاد لها، سلكَ
الطّريق الثاني، ولكن العقلَ يتدخّل، ويُوازِن بينَ اللّذة القصيرة الحاضِرة
يَعْقُبُها ألمٌ طويل، والألمُ العارِض المؤقّت تكون بعدَهُ لذّة باقية، فيؤثر
الأوّل. هذا هو مثالُ طريق الجنّة، وطريق النّار"([9]).
هذا، "ومن الجوانب الغائبة في تحليلِ الأستاذ
شحرور: أنّ "الإيمان لغةً مطلق التّصديق ويتعدّى باللام باعتبار معنى الإذعان
والقبول: [وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ]([10])،
[قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ]([11])،
وبالباء باعتبار الإقرار والاعتراف: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن
رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ]([12]).
ويتعلّق بالشيء باعتباراتٍ مختلفة؛ فالإيمان بالله باعتبار أنّه واحِدٌ في الذات
والصفات والأفعال بلا كيف ولا تجسيم ولا تشبيه. لكنّ الإيمان بالمفهُوم الشرعيّ
وقع فيه الاختلاف. فمن قائل إنّ الإيمان اسْمٌ لفعل القلب، وقيل: المراد به
التصديق، وقيل: المعرفة. وذهبت الشيعة إلى أنّ المراد به المعرفة بالوحدانية دون
إعمال العبادات... ومن قائل إنّ الإيمان اسْمٌ لفعلِ القلب واللِّسان، وهُم
الأشاعرة. ومن قائل أخيراً: إنّ الإيمان اسْمٌ لفعلِ القلب واللِّسان والجوارح.
أمّا الإسلام، فهو جميعُ الطّاعات ما عدا العقائِد، وقد وقع الاقتصارُ في الحديث
الشريف على الأركان الخمسةِ لأهمِّيتها"([13]).
الإيمان والإسلام:
يوجدُ "بينَ لفظتَيْ الإيمان والإسلام عمومٌ وخصوص
وفي العَلاقةِ بينهما أقوالٌ ثلاثة([14]):
منها: أنّ الإيمان هو الإيمان بالأصُول الستّة، والأصُول
السِتّة؛ هي: أركانُ الإيمان، أو أصُولُه، أو أصُولُ الاعتقاد: الإيمانُ بالله،
والإيمانُ بالملائِكة، والإيمانُ بالكُتُب، والإيمانُ بالرُّسُل، والإيمانُ
باليومِ الآخِر، والإيمانُ بالقَدَر. والإيمانُ يُطْلَقُ إطلاقَيْنِ: إطلاقاً
عامّاً يَشْمَلُ جميعَ أمُور الدّين العلميّة والعمليّة، فهو اعتقادٌ، وقولٌ،
وعمل، قولُ القلبِ واللِّسان، وعملُ القلبِ واللِّسانِ والجَوارِح. ويُطْلَق
إطلاقاً خاصّاً، ويُراد به هذهِ الأصُولُ السِتَّة"([15]).
ومنها: أنّ الإسلام هو الكلمة (أي: شهادة التّوحيد).
ومنها: أنّ الإسلامَ مُرادِف للإيمان، وهو رأيٌ ضعيف لا
تسندهُ أقوالُ السّلف. وأقوالُ السّلَف كُلّها تدلُّ على أنّ الإيمانَ قد يَرِدُ
على وجهينِ: أحدُهما: ما قد يَرِدُ مقرُوناً بكلمةِ الإسلام، والثانِي: ورُودُه
مُجرّداً فيكونُ عامّاً يتضمّنُ الإسلامَ، بينما يكونُ رديفاً لهُ في الحالةِ
الأُولى، عندما يُذكر مقرُوناً([16]).
قال الشيخ ابن تيمية: "فلمّا ذُكِرَ الإيمان مع
الإسلام; جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشّهادتان، والصّلاة، والزّكاة،
والصّيام، والحج. وجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه،
ورسُله، واليوم الآخِر. وهكذا في الحديث الذي رواه أحمد عن أنس عنِ النبـيّ - صلّى
الله عليه وسلّم - أنّهُ قال: (الإسلامُ علانية والإيمانُ في القَلْب). وإذا ذكر
اسْمُ الإيمانِ مُجرّداً; دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة كقوله في حديث الشعب:
(الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، أَعْلاهَا:
قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ،
وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمان)([17]).
وكذلك سائِر الأحاديث الّتي يجعلُ فيها أعمال البرِّ من الإيمان"([18]).
أي: إنّ الإيمان أعمّ، حيثُ تكسِبُ لفظةُ (الإسلام) معنى
التّخصيص، ومن الأحاديث الّتي تسندُ الوجهَ الأوّل حديث جبريل المشهُود:
(الإِسْلامِ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاّ اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ
رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً...
والإِيمَانِ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ،
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)([19]).
ويشهدُ للوَجْهِ الثانِي الأحاديث الّتي جعلت الدّين
ثلاث درجاتٍ أعلاها الإحسان، وأوسطُها الإيمان، ثمَّ الإسلام، وبذلِكَ يكونُ
الإسلامُ بعضَ الإيمان، وكُلُّ مُؤمِن مُسلِم، وليسَ كُلُّ مُسلِمٍ مُؤمِناً، منها
قولُه - صلّى الله عليه وسلّم -: (الْمُسْلِمُ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ: مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ)([20]).
والخلاصةُ أنّ:
"اسْمَ الإيمانِ تارةً يُذكر مُفرداً غير مقرُون
باسْمِ الإسلام ولا باسْمِ العمل الصالح ولا غيرهما، وتارةً يذكر مقرُوناً; إمّا
بالإسلام كقوله في حديث جبرائيل: (مَا الإِسْلامُ ومَا الإِيْمَانُ)؟ وكقولِه
تعالى: [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ]([21]).
وقولُه عزّ وجلّ: [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل
لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا]([22])،
وقولُه تعالى: [فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]([23])،
[فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ]([24])،
وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح; وذلِكَ في مواضِعَ من القُرآن كقوله تعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]([25]).
وإمّا مقرُوناً بالّذين أوتوا العلم؛ كقوله تعالى: [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ]([26])،
وقوله: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]([27]).
وحيث ذكر (الّذين آمنُوا) فقد دخل فيهم الّذين أوتوا العلم; فإنهم خيارهم قال
تعالى: [وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ
رَبِّنَا]([28]).
وقال: [لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ]([29])،([30]).
والمعلوم أنّ "الدّين ثلاثُ مراتب. المرتبة
الأولى: الإسلام. وأعلى منها: الإيمان، وأعلى من الإيمان الإحسان. كما
جاء ذلك في حديث جبريل - عليه الصّلاة والسّلام - حين سألَ النبـيّ - صلّى الله
عليه وسلم - عن هذه المراتب، وأجابه النبـيّ - صلّى الله عليه وسلم - عن كُلِّ
مرتبة. وفي النهاية قال النبـي - صلّى الله عليه وسلم - لأصحابه: هذا جبريل
أتاكم يُعلّمكم أمُورَ دينكم. وقد ذكرها مُرتّبة مبتدِئاً بالأدنى، ثمّ ما هو
أعلى منه، ثمّ ما هو أعلى منه([31]).
فالأعراب لما جاءُوا إلى النبـي - صلّى الله عليه وسلم - في أوّل دخولهم في
الإسلام ادّعوا لأنفسهم مرتبةً لم يبلغوها. جاءوا مسلمين، وادّعوا الإيمان وهي
مرتبة لم يبلغوها بعد. ولهذا ردّ الله - عزّ وجلّ - عليهم في كتابه:
[قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]([32]).
فهُمْ في أوّل إسلامِهم لم يتمكّن الإيمان في قلُوبهم، وإن كان عندهم إيمان، ولكن
إيمانهم ضعيف، أو إيمان قليل. ويُستفاد من قوله: [وَلَمَّا يَدْخُلِ
الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] أنّه سيدخل في المستقبل، وليسُوا كُفّاراً أو
مُنافقين، ولكنّهم مُسلمون، ومعهم شيءٌ من الإيمان، لكنّه قليلٌ لم يستحِقّوا أنْ
يُسمّوا مُؤمنين. لكنّهم سيتمكّن الإيمان في قلوبهم فيما بعد في قوله:
[وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]، والإسلام والإيمان إذا ذكرا
معاً افترقا. فصارَ للإسلامِ معنّى خاصّ، وللإيمان معنّى خاص. كما في حديث
جبريل فإنه سأل النبـي - صلّى الله عليه وسلم - عن الإسلام؛ فقال: الإسْلامُ
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ،
وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ
الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. وسأله عن الإيمان فقال:
(الإِيْمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ والْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)([33]).
فعلى هذا يكون الإسلامُ هو الانقيادُ الظاهريُّ،
والإيمانُ هو الانقيادُ الباطنيُّ هذا إذا ذكرا جميعاً. أمّا إذا ذكر الإسلام
وحدَهُ أو الإيمان وحدَهُ فإنّهُ يدخلُ أحدهما في الآخر، إذا ذكر الإسلام وحدَهُ
أو الإيمان وحدَهُ فإنّ أحدَهما داخِلٌ في الآخر. إذا ذكر الإسلام فقط دخل فيه
الإيمان. وإذا ذكر الإيمان فقط دخل فيه الإسلام. لهذا يقول أهل العلم: إنهما
إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. فالإيمانُ عندَ أهلِ السُنّة
والجماعة: هو عملٌ بالأركان، وقولٌ باللِّسان، وتصديقٌ بالجَنان. ويدخلُ فيه
الإسلام، يكون قولاً باللسانِ، وعملاً بالأركان، وتصديقاً بالجَنان. إذا ذكر
وحده"([34]).
ولا غَرْوَ أنّ "الإخلاص هو سبيلُ الخلاص،
والإسلامُ هو مركبُ السّلامة، والإيمانُ خاتمُ الأمان"([35]).
ولا شكّ أنّ "الإيمان هو قاعدةُ الشّريعة، وهو الفرقانُ بينَ الحقِّ والباطِل،
وأوّل خصائِص الإيمان أنّهُ قولٌ وعمل"([36])،
"فأمّا القولُ فالمرادُ به النّطقُ بالشّهادتَيْنِ، وأمّا العملُ فالمرادُ به
ما هو أعمّ من عملِ القلبِ والجوارِح، ليدخُلَ الاعتقادُ والعباداتُ، ومرادُ مَنْ
أدخلَ ذلِكَ في تعريفِ الإيمان، ومَنْ نفاه، إنّما هُو بالنّظر إلى ما عندَ الله
تعالى، فالسَّلْفُ قالُوا: هو اعتقادٌ بالقَلْب، ونطقٌ باللِّسان، وعملٌ بالأركان.
وأرادُوا بذلك أنّ الأعمال شرطٌ في كمالِه. ومِنْ هُنا نشأَ لهم القول بالزّيادة
والنّقص. والمرجئةُ قالُوا: هو اعتقادٌ ونُطْقٌ فقط. والكراميّة قالُوا: هو نُطْقٌ
فقط، والمعتزلةُ قالُوا: هو العملُ والنُّطْقُ والاعتقاد. والفارِقُ بينهم وبينَ
السَّلَفِ أنَّهُم جعلُوا الأعمالَ شَرْطاً في صِحّته، والسَّلَف جعلُوها شرطاً في
كمالِه"([37]).
هذا "وقد ينفى الإيمانُ أحياناً عن شخصٍ على الرّغمِ مِنْ إقرارِه، ويُراد به
نقصانه، وعدم كمالِه، كما يُطلَق الكفرُ على الفعلِ دُون الفاعِل، كما يُطْلَق
الكفرُ على تركِ الصّلاةِ، بينما لا يُطْلَق لفظُ الكافِر على تاركِ الصّلاة إلا
إذا تركَها جحُوداً أو إنكاراً، والشّهادتانِ تَعْصِمُ دمَ النّاطِق بهما، وفيهما
إثباتٌ ونفي، إثباتُ الوحدانيّة لله تعالى، ونفي الألوهيّة والرُّبوبيّة عن غيرِه،
كما وفيها التّصديقُ بما جاءَ النبـيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - عنه"([38]).
هذا، "وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، وبالرُّسُل، وباليوم الآخر. وما
عداهُ فروع. واعلمْ أنّهُ لا تكفيرَ في الفرُوعِ أصلاً، إلا في مسألةٍ واحدة،
وهِيَ أنْ يُنكر أصلاً دينياً علم مِنَ الرّسُول - صلّى الله عليه وسلّم -
بالتواتُر"([39]).
موقف الإسلام من التكفير:
جاء في الأصُول العشرين للإمام حسن البنّا قولُه:
"لا نُكَفِّرُ مُسلِماً أقرَّ بالشَّهَادتَيْنِ وعَمِلَ بمقتضاهُما، وأدّى
الفرائِضَ - برأي أو بمعصية - إلا أنْ أَقَرَّ بكلمةِ الكُفْر، أو أنكرَ معلُوماً
مِنَ الدِّين بالضَّرُورة، أو كذَّب صريحَ القُرْآن، أو فسَّرَهُ على وجهٍ لا
تحتمِلُه أساليبُ اللّغةِ العربيّة بحال، أو عَمِلَ عَمَلاً لا يَحْتَمِلُ تأويلاً
غيرَ الكُفْر"([40]).
وقد شرح الدكتور عبدالكريم زيدان - رحمه الله - الأصل
العشرين بقولِه: "تكفيرُ المسلم على وَجْهٍ يُخرجه من الإسلام أمرٌ خطير
جِدّاً، فلا بُدَّ من صُدُورِ ما يُخرجه عنِ الإسلام قطعاً، كأنْ يأتي قولاً أو
عملاً لا يَحْتَمِلُ أيَّ تأويلٍ في كُفْرِ صاحبِه، مثل أنْ يُنْكِر القطعيّ مِنَ
الدِّين كوجُوبِ الصّلاة، وحُرمة الرِّبا، أو عدم لزُوم التّقييد بالإسلام، أو
استهزأ بالإسلام أو بالقُرْآن، أو سبَّ الله ورسُوله، أو لوّث القُرآن بقذر، أو
كذّب صريح القُرْآن، أو أنكرَ اليوم الآخِر، أو قال إنَّ الشريعة صارتْ عتيقةً
وذهب زمانها ولا تصلُح للتطبيق، ولا لزُوم لها في الوقتِ الحاضِر، وغير ذلِكَ
مِمّا يجعلُ قائله أو فاعله كافِراً قَطْعاً. أمّا إذا صدرتْ منه مَعَاصٍ كشُرْبِ
الخَمْرِ مع إقرارِه بأصُولِ العقيدة الإسلاميّة فهو عاصٍ لا كافِر، وكذلِكَ إذا
قالَ قولاً أو عَمِلَ عملاً يَحْتَمِلُ التّأويلَ فلا نُكَفّره بقولِه أو عملِه
هذا. ومن الجدير بالذكر أنّنا نُطْلِق على بعضِ الأفعالِ أو ترك بعضِ الأفعالِ
اسْمَ الكُفْر، كما جاءت بها النصوص الشرعية؛ مثل: ترك الصلاة كُفْرٌ، أمّا تكفيرُ
شخصٍ مُعيّن بالذات فلا بٌد من صدُور ما يكفر به يقيناً؛ مثل: جحُودِه فرض
الصّلاة"([41]).
وهكذا حذَّر الإسلامُ من تكفير شخصٍ بعينه دون تيقّن من
كُفْره، لأنّ التسرُّع في التّكفير أمرٌ خطيرٌ على صاحبه وعلى المجتمع وعلى
الدّعوة([42]).
قال رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلّم -: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا
كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاّ
رَجَعَتْ عَلَيْهِ)([43]).
قال الإمام الغزالي - في الباب الرابع في بيان من يجب تكفيره مِنَ الفِرَق -:
"والّذي ينبغي أن يميلَ المحصّل إليه الاحتراز مِنَ التّكفير ما وجدَ إليهِ
سبيلاً؛ فإنّ استباحةَ الدِّماءِ والأموالِ من المصلِّين إلى القِبْلة المصرّحين
بقَوْلِ لا إله إلا الله محمّد رَسُول الله خطأ، والخطأُ في تركِ ألفِ كافِرٍ في
الحياة أهونُ مِنَ الخطأ في سَفْك محجمة من دَمِ مُسلم"([44]).
والْمِحْجَمَةُ: ما يحجم به. وقيل: قارورُته.
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية في حسمٍ ووضُوح:
"والّذي نختارُه ألا نُكَفِّرَ أحَداً مِنْ أهْلِ القِبْلَة"([45]).
وقال الإمام الغزاليّ: "وأمّا الوصيةُ: فأن تكفَّ لسانَكَ عن أهلِ القِبْلة
ما أمكنكَ ما دامُوا قائلين: لا إله إلاّ الله محمّد رَسُول الله غير مُناقضين
لها، والمناقضةُ: تجويزهم الكَذِبَ على رَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلّم -
بعذرٍ أو بغير عذر، فإنّ التّكفيرَ فيه خطر، والسكوتُ لا خطرَ فيه"([46]).
فالكُفْرُ هو التّكذيبُ لرَسُولِ الله - صلّى الله عليه وسلّم - في شيءٍ مِمّا
جاءَ به مُتواتِراً، وضِدّه الإيمان الّذي هو التّصديقُ بما جاءَ به الرّسُول -
عليه الصّلاة والسّلام -([47]).
وقال الإمام الغزاليّ: "فإذا رأيتَ الفقيهَ الّذي
بضاعتُه مُجرّد الفقهِ يخوضُ في التّكفير والتّضليل فأعرِضْ عنهُ، ولا تشغَل به
قلبَك ولسانَك، فإنَّ التحدِّي بالعلُوم غريزةٌ في الطّبْعِ، لا يصبِرُ عنها
الجُهّال، ولأجله كَثُرَ الخِلافُ بينَ النّاس، ولَوْ سكتَ مَنْ لا يدري، لقلَّ
الخِلاف بينَ الخَلْق"([48]).
وقال أيضاً: "ولا ينبغي أنْ يظن أنّ التّكفيرَ
ونفيه ينبغي أنْ يدرك قَطْعاً في كُلِّ مَقَام. بل التّكفير حُكْمٌ شرعيٌّ، يرجع
إلى: إباحةِ المال، وسَفْكِ الدّم، والحُكْم بالخلُودِ في النَّار، فمأخذه كمأخذِ
سائِرِ الأحكام الشرعيّة، فتارةً يُدرك بيقين، وتارةً بظنّ غالب، وتارةً
يُتَرَدَّدُ فيه، ومَهْمَا حَصَلَ تردُّد، فالتوقّف فيهِ عنِ التّكفير أَوْلَى،
والمبادرةُ إلى التّكفيرِ إنّما تَغْلِبُ على طَبَائِعِ مَنْ يَغْلِبُ عليهم الجَهْلُ،
ولا بُدَّ من التّنبيه على قاعدةٍ أُخرى، وهِيَ أنّ المخالِفَ قَدْ يُخالِفُ نصّاً
مُتواتِراً، ويزعُم أنّه مُؤَوَّل، ولكن ذكر تأويله لا انقداحَ لَهُ أصلاً في
اللِّسان، لا على بعد، ولا على قُرب، فذلِكَ كُفر، وصاحبه مُكذِّب، وإنْ كان يزعُم
أنّهُ مُؤَوِّل"([49]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "هذا
معَ أنِّي دائِمًا ومَنْ جالَسَنِي يَعْلَمُ ذلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ
النَّاسِ نَهْياً عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ
وَمَعْصِيَةٍ، إلاّ إذا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ
الرِّساليّةُ الّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِراً تَارَةً، وَفَاسِقاً أُخْرَى،
وَعَاصِياً أُخْرَى، وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ
الأُمَّةِ خَطَأَهَا: وذلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ
الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ. وَمَا زَالَ السَّلَفُ
يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لا بِكُفْرِ ولا بِفِسْقِ ولا مَعْصِيَةٍ"([50]).
قال الإمام حسن الهضيبـي: "ولا يجوزُ إطلاقُ اسْمِ
الكُفْرِ إلاّ على مَنْ هذهِ صفتُه في الدِّين، أي على الّذي جَحَدَ شيئاً مِمّا
افترض الله تعالى الإيمان به بعدَ قيامِ الحُجّة عليهِ ببلُوغِ الحقِّ إليه، أو
الّذي عَمِلَ عملاً جاءَ النصُّ بأنّهُ مخرجٌ له عن اسْمِ الإيمان"([51]).
هذا "وحُكْمُ النّاطِقِ بشهادةِ أنْ لا إله إلا
الله محمّدٌ رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنّنا نعتبِرُه مُسلِماً تجري
عليه أحكامُ الإسلام، وليسَ لنا أنْ نبحثَ في مدى صدقِ شهادتِه، إذ إنّ ذلِكَ
مُتعلِّقٌ بما استشعَرَهُ واستيقَنَهُ بقلبِه، ولا سبيلَ لنا للكشفِ عن ذلِك
والتثبُّت منه، وإنّما ذلِكَ شأنُ الّذي يعلمُ السِرَّ وأخفى. فإنِ استيقنَ قلبُه
ما نطقَ به كان عندَ الله مُسلِماً ونفعه ما نطقَ به إلاّ أنْ ينقضَها، ونقضها
بأمُورٍ حدّدها الشّارِع الحكيم"([52]).
وقد "أجمعَ أهلُ السُنَّةِ والجماعةِ على أنّ
المعاصِيَ - صَغُرَت أم كَبُرَت - لا تؤدِّي بذاتِها إلى الحُكْمِ على المسلمِ
بالكُفْر، إنّما يكونُ الكُفْرُ بسببِ استحلالِ المعصية بتحليلِ ما حرَّم الله، أو
تحريمِ ما أحلَّ الله تعالى، وهذهِ مسألةٌ لا يختلِفُ فيها اثنان مِنَ العُلماء،
قال تعالى: [إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]([53])،
فالكافِرُ يَدْخُل الإسلامَ بالنُّطْقِ بالشَّهادتَيْنِ، ويعدّ بهذا الإعلانِ
مُسلِماً تجري عليه أحكامُ الإسلامِ، ولو كان يُظْهِر الإسلام ويُبْطِن الكُفْرَ،
فأمرُه إلى الله، لأنّ الله تعالى أمرَنا في هذهِ الدُّنيا أنْ نأخُذَ بظاهِرِ
أحوالِ النّاسِ، وأنْ نترُكَ البواطِن لحُكْمِ الله تعالى في الآخِرة([54]).
ولقد أنكرَ الله - جلّ وعلا - على مَنْ رَدَّ هذا الظّاهِر، فقال تعالى: [وَلَا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا]([55]).
"وإنّنا حينَ نتكلِّمُ عنِ الحدِّ الفاصِل بينَ
الكُفْرِ والإيمان إنّما نقصدُ حُكْمَ الله على النّاس في الدُّنيا، فنحكمُ عليهم
بالظّاهِر في السلُوك والأفعال، والله يتولّى السّرائِر وما تُخْفِي
الصّدُور"([56]).
وفي ذلِكَ قالَ رَسُول الله - صلّى الله عليه وسلّم -: (إِذَا رَأَيْتُمُ
الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ)([57]).
وقال العلامة ابن عابدين: "لا يُفْتَى بِكُفْرِ
مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ
خِلافٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ رِوَايَةً ضَعِيفَةً"([58]).
وقال عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -: "لا يحلُّ
لامرئٍ مُسلِمٍ يَسْمَعُ مِنْ أخيه كلمةً يظنُّ بِها سُوءاً، وهو يجدُ لها في شيءٍ
مِنَ الخيرِ مخرجاً". ورُويَ عن الإمام الإمام علي - كرّم الله وجهه -:
"ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ
مِنْهُ، وَلا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَأَنْتَ تَجِدُ
لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلاً"([59]).
وقولُه: "ضع أمر أخيك" أي: احملْ ما صدرَ عَنْ
أخيكَ مِنْ قَوْلٍ أو فِعْلٍ على أحْسَنِ مُحتملاته، وإنْ كان مرجُوحاً من غير
تجسُّس، حتى يأتيكَ منه أمرٌ لا يمكنُك تأويلُه، فإنَّ الظَنَّ قد يخطئ، والتجسُّس
مَنْهِيٌّ عنه. فالنصُّ يُؤكِّدُ "وجُوب وَضْعِ أمرِ أخيكَ على أحْسَنِه
حتَّى يأتيكَ منه ما يَغْلِبُك، أي: ما يمنعُك عَنْ حَمْلِ فِعْلِه على الأحْسَنِ.
ومعنى غلبته: أنْ يكون بحيث لا يُمكنك معه الحملُ على الأحْسَن، ومرجعه إلى أنْ
يعلمَ غير الأحسن".
وأخيراً: تبيَّن لنا بناءً على العديدِ مِنَ الشّواهِد
والاستدلالاتِ الّتي سيقت آنفاً أنّ التّكفيرَ قضيّةٌ لا يُمكن الاستهانة بها، ولا
يجوزُ الاقترابُ من تخومِها البتّة، إلاّ بشـرُوط صارِمة ومُحدّدة، ولا يجوزُ
لأحدٍ من غير المتخصِّصين من القضاة الخوض في غِمارِها، والأصلُ إحسانُ الظنِّ
بالآخرين، ما دمنا نلتمسُ في كلامِهم الّذي يسوقُونَهُ مَحْمِلاً حَسَناً، وكان
هذا هو الأصلُ الصّحيح في تعامُل السّلف مع أقوالِ النّاس وأفعالِهم الّتي لا
تُخرجهم من دائرةِ الإسلامr
[1]- الإسلام والإيمان - منظومة
القيم، د.محمد شحرور، ط(1)، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق - سورية،
1996م، ص17.
[5]- سورة نوح، الآية: 28.
[8]- تعريف عام بدين الإسلام، علي
الطنطاوي، ط(14)، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة - مصر، 1412هـ -
1992م، ص21.
[13]- الإسلام والإيمان: بعض الجوانب
الغائبة في تحليل الأستاذ محمد شحرور، محمد المرابط - أستاذ التربية الإسلامية
بتطوان - المغرب، https://www.maghress.com/alittihad/96345
مَغْرِس، محرّك بحث إخباري.
[14]- مسافر في قطار الدعوة، د.عادل الشيوخ، قدّم له: محمّد أحمد الراشد، ط(1)، دار
المنطلق لنشر الكتب والقرطاسيّة، دبي - الإمارات العربية المتحدة، (د.ت)، ص30.
[15]- شرح العقيدة الطحاوية، للشيخ
عبدالرحمن بن ناصر بن إبراهيم البراك، ط(2)، دار التدمرية، الرياض - المملكة
العربية السعودية، 1429هـ - 2008م، ص239.
[16]- مسافر في قطار الدعوة: 30 - 31.
[17]- سورة البقرة، الآية: 285
[18]- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن
تيمية (كتاب الإيمان)، جمع وترتيب: عبدالرحمن بن محمّد بن قاسم، مجمع الملك فهد
لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة – المملكة العربية السعودية، 2009م: 7/ 14.
[19]- رواه مسلم.
[20]- رواه الترمذي في الإيمان (2551)
وقال حسن صحيح، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4909)، وأحمد (8575) وصحّحه الألباني
في صحيح الترمذي وصحيح النسائي.
[21]- سورة الأحزاب، الآية: 35.
[31]- رواه الإمام مسلم في صحيحه
(1/36-38). من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وهو جزءٌ من حديث
جبريل الطويل.
[33]- رواه الإمام مسلم في صحيحه
من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
[35]- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية
العلم والإرادة، لابن قيّم الجَوزيّة (ت751هـ)، (د.ط)، دار الكتب العلمية، بيروت -
لبنان، 1419هـ - 1998م، ص72.
[37]-
فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام شهاب الدّين أبي الفضل أحمد بن علي بن
محمّد ابن حجر العسقلاتي (ت582هـ)، حقّق أصلها ورقم كتبها وأبوابها وأحاديثها: عبدالعزيز
بن عبدالله بن باز، ومحمّد فؤاد عبدالباقي، ط(5)، دار الكتب العلمية، بيروت -
لبنان، 1438هـ - 2017م: 1/ 45.
[39]- فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة، (الفصل الثامن - تفصيل ما يكفر وما لا يكفر به)، لأبي حامد الغزالي،
قرأه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: محمود بيجو، ط(1)، 1413هـ - 1993م، ص61- 62.
[40]- فهم الإسلام في ظلال الأصول
العشرين للإمام الشهيد حسن البنا، جمعة أمين عبدالعزيز، ط(1)، دار الدعوة للطبع
والنشر والتوزيع، الإسكندرية - مصر، 1426هـ - 2005م، ص545.
[41]- شرح الأصول العشرين للأمام
الشهيد حسن البنّا، للدكتور عبدالكريم زيدان. http://drzedan.com/content.php?id=25
الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ عبدالكريم زيدان - رحمه الله تعالى -
[44]- الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد
الغزالي، ومعه كتاب السداد في الإرشاد إلى الاقتصاد في الاعتقاد للدكتور مصطفى
عبدالجواد عمران، ط(1)، دار البصائر، القاهرة - مصر، 1430هـ - 2009م، ص517.
[45]- درء تعارض العقل والنقل، لابن
تيمية، تحـ: د.محمد رشاد سالم، ط(2)، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود
الإسلامية، 1411هـ - 1991م: 1/ 95.
[46]- فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة: 61.
[47]- السّلف والسّلفية، د.محمّد
عمارة، ط(1)، مكتبة وهبة، القاهرة - مصر، 2011م، ص58.
[48]- فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة، (الفصل التاسع - ما يتعلّق به التكفير): 74.
[49]- فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة، (الفصل الثامن - تفصيل ما يكفر وما لا يكفر به)، ص66.
[50]- مجموع الفتاوى (كتاب مجمل اعتقاد
السلف): 3/229.
[51]- دعاة لا قضاة، حسن الهضيبـي،
(د.ط)، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة – مصر، (د.ت)، ص70- 71.
[52]- فهم الإسلام في ظلال الأصول
العشرين للإمام الشهيد حسن البنا: 555.
[54]- فهم الإسلام في ظلال الأصول
العشرين للإمام الشهيد حسن البنا: 585.
[56]- فهم الإسلام في ظلال الأصول
العشرين للإمام الشهيد حسن البنا: 554.
[57]- رواه الترمذي.
[58]- ردُّ المحتار على الدر المختار
شرح تنوير الأبصار (كتاب الجهاد/ باب المرتد)، لمحمّد أمين الشهير بابن عابدين،
دراسة وتحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبدالموجود، الشيخ علي محمّد معوّض، دار
عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة خاصة، الرياض - المملكة العربية
السعوديّة، 1423هـ - 2003م: 6/ 367.
[59]- الكافي، للشيخ محمد بن يعقوب
الكليني (ت329هـ)، (باب التهمة وسوء الظنّ)، ط(1)، منشورات الفجر، بيروت - لبنان،
1428هـ - 2007م: 2/ 206.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق