لا شك أن هناك شللاً كبيراً
أصاب عقول الكثيرين من أبناء جيلنا، والجيل اللاحق لهم، على وجه الخصوص، وهو انجرارنا
نحو القوة المهيمنة على الواقع السياسي والاقتصاد العالمي. وهذا الانجرار أو الاحتماء
في أحضان كل وافد، جعلنا عرضة لفقد الكثير من القيم والمعايير، والتنصل من الكثير من
المسؤوليات. وهذه الحالة أدت إلى خلق جو من الخواء، أو العيش في الفراغ، أو الحركة
داخل دائرة مفرغة. فجميع الحركات الاجتماعية والتغييرية أصابها الوهن والترهل في مسيرتها
الإصلاحية أو التغييرية، فالحركات تولد جامدة، والولادة تغدو عقيمة، والطاقة تتجمع
مشلولة، والسبب أو التفسير لوجود هذه الحالة هو الانجرار وراء كل نظرية اجتماعية أو
نفسية في الغرب، وتقديسها وتطبيقها على الواقع الاجتماعي والنفسي في بلادنا ذات التاريخ
والتراث الغني بالتجارب والإنجازات الفكرية والثقافية والاقتصادية والإنسانية.
ولا ننكر الأزمات والصدمات الداخلية، كالحروب الأهلية،
والعمل على تأصيل الحزب الواحد، وهيمنة عقلية الميليشيات على الأسس الديمقراطية، والتوسل
بعباءة رئيس القبيلة، والاستغناء عن الحرية الفردية (بمعناها الإيجابي)، وفقد المعايير
المعرفية والوظيفية لمكونات المجتمع، حتى الفروقات بين الجنسين تعرضت لتشويه على أيدي
الراكضين وراء كل ناعق. وقد نكون مشتركين مع جميع الشعوب العربية في هذه الأزمات الداخلية.
كل هذا، أو أكثر، يجعل التمسك بفكرة الاعتدال في
الواقع الكوردستاني أمراً شديد التعقيد.
والأستاذ صلاح الدين - كما يراه البعض - حامل لواء
الاعتدال في كوردستان، وكان من الصعب الحفاظ على هذا الاعتدال في بيئة يشوبها العنف
والسلاح والقمع والحروب الأهلية، والعقلية الثورية، وتقديس القومية الشوفينية، والمغالاة
في الوطنية إلى حد إهمال المواطن. والبعض ممن حملوا فكرة الاعتدال هذه مالوا إلى فكرة
حمل السلاح، وخاصة في مواجهة البطش البعثي وإفرازاته في كوردستان.
ولم تكن المزايدات السياسية والآيديولوجية بمعزل
عما يدور في كوردستان، مثل فكرة القومية، والدولة، والنضال القومي المسلح، ولم يكن
من السهل تحمّل كل هذه الحملات والتحديات، والوقوف أمام كل هذه الرياح العاتية، كما
أن تهمة إطلاق كلمة التخوين من البعض، والتكفير من البعض الآخر، لم تكن بالأمر الهيّن.
العنف
والإرهاب
يعد العنف والإرهاب من ملامح العصر الحديث ذائعة
الصيت. وقد لا نكون ذهبنا بعيداً، إذا نعتناها بمرض أو وباء العصر. والذي زاد الطين
بلّة، هو مجهولية هوية الفاعل الحقيقي، بحيث أصبح العنف والإرهاب شمّاعة تحمل أوزار
المجهولين. ولكن ذلك لا يعني تجاهل مثل هذه الممارسات أو تجاوزها وعدّها أموراً ثانويةً،
لأننا لا ننكر وجود أفكار متطرفة وعنيفة في صفوف المسلمين، كحالة إنسانية، بغضّ النظر
عن الدين والفكر. والبديل الحقيقي والأمثل هو طرح بديل فكري لدحض وتفنيد ومكافحة الأفكار
المتطرفة والعنيفة، وهو التيار الاعتدالي والوسطي، فـ "الوسطية ثقافة وفكر وسلوك،
وليست شعاراً ونظريات فقط"([1]).
وقد
لخص الأستاذ صلاح الدين دوافع وأسباب العنف والإرهاب في النقاط التالية:
أولاً:
"إن حالات العنف؛ التشدد والتجاوزات والتزمّت، قد حصلت في التاريخ، وخلال 14 قرناً
من تاريخ المسلمين، وتناقلتها الألسن، والرواة، وتبنّاها بعض الناس لأغراض نفعية، ومصالح
سلطوية، وأصبحت جزءاً من التراث، واتّخذت عند البعض مسلكاً ونهجاً، واستخدموها بعيداً
عن التمحيص وموازين الجرح والتعديل العلمية الموضوعية، للوصول إلى فهمهم السقيم، أو
هدفهم السياسي النفعي"([2]).
ثانياً:
"إن علماءنا، ودعاتنا، وقادة الحركات الإسلامية عموماً، تأخروا في الانتباه إلى
ما حصل من الانحراف في مسيرة المشروع (الجهاد) الإسلامي، منذ اندلاع ما سمّي بالجهاد
الأفغاني، حيث كان انطلاقه ضمن الحرب ضد الاتحاد السوفيتي، وبدعم من الغربيين، وعلى
رأسهم أمريكا، وعملائها في المنطقة، للقيام على الاتحاد السوفيتي، وعميلته حكومة أفغانستان،
فكان طبيعياً أن ينحرف المشروع من شعاره وعنوانه المعلن، إلى مشـروع فتنة وبلاء على
الإسلام والوسطية الإسلامية.. وبعد سقوط الحكومة الشيوعية، وانتصار الحركات المجاهدة،
بدأت عمليات التناحر، والتفتين، وانتهت بتسلط حكومة طالبان، المهيأة سلفاً، وتوالى
مسلسل الفتنة، والتلاعب بموازين الشرع، واختلاق أجواء الحقد، والتخلف، وتشويه الدين،
فوصل إلى تشكيل منظمة (القاعدة)، وفروعها المنتشـرة، من خلال عودة العرب الأفغان إلى
بلادهم.. ولا بد من الاعتراف - بجرأة - بأن النخبة العلمية، والدعوية، لم تنتبه إلى
خيوط هذه المؤامرة، وإلى خطورة هؤلاء الغلاة والمجانين، أو أنهم انبهروا باسم الجهاد
والعاطفة البريئة، التي جمعت الكثيرين منهم، وعليه لم يقفوا الموقف المسؤول والمطلوب
في مراحل نشوء وانتشار هذا المشروع التحريفي والتشويهي، وهذه الفتنة العارمة، بل وقفوا
إما متفرجين، أو - بصيغة من الصيغ - مساندين، بحجة أنها باسم الدين، وأنهم شباب متحمس،
وأنها نشاطات ضد الأنظمة المستبدة و... وهكذا، دخلت المعركة معتركاً جديداً بعد أحداث
11 سبتمبر 2001، حيث استنهض الغرب، واستغلته المراكز العدائية فيه، وبدأوا بتحجيم المد
الإسلامي في الغرب، وساندوا الأنظمة الموالية لها، في مواصلة قمعها واستبدادها على
الحضور الإسلامي، ومحاولة خلطها للأوراق بين الحركات الإسلامية الوسطية، وهذه المجاميع
المختلقة والمنفلتة"( [3]).
ثالثاً:
"حينما حصل الاحتلال في أفغانستان، بعد تلك القصة التي أشرنا إليها، وفي العراق
- بعد تورط النظام البعثي في الاعتداء على
دولة الكويت - وقع الكثير من مشايخنا، ونخبنا السياسية، والدعوية - مع الأسف - في خطأ
استراتيجي آخر، وهو أنهم قاسوا هذا (الاحتلال المعاصر) على (الغزو الأجنبي القديم)
على أرض الإسلام، ودولته، ونزّلوا كل أحكام الدفاع والجهاد الواردة في تراثنا الفقهي
على هذا الحدث الجديد، ناسين أن هذه أحكام الدولة، ولا يمكن القيام بها إلا من خلال
دولة، وكلما أجزناها في غياب الدولة، والقيادة الشرعية، يحصل ما حصل من الفتن والفوضى.
فضلاً عن مسألة جوهرية أخرى، إن مثل هذه الأعمال الكبيرة لا يمكن أن تقودها العواطف
والحماس والحميّة، مهما كانت بريئة، لأنها عمل العقلاء والمختصين والمجتهدين البارعين
في فهم الشرع والواقع"([4] ).
رابعاً:
"بعد هذا الاستعراض، نقول: إن داعش، ونظائرها، نتيجة لمسلسل، وإننا بحاجة ماسة
إلى تشخيصها، وتعريفها باختصار: إن الإرهاب والإرعاب والمشـروع العنفي، تحت أي اسم
كان، فكر جنوني، وخلل عقدي، واستخدام سيء من قبل أجهزة الاستخبارات.. إنها منهج تحريفي ونوايا انحرافية
(قابيلية) حاقدة وحاسدة لكل خير، ومستنقع لكل شر، وفتنة كبيرة على الإسلام ومشروعه
الحضاري، ووسيلة سهلة بيد الأعداء لتشوية سمعة الإسلام، والتشويش على أهل الخير فيه..
ولا ينفع وجود عاطفة بريئة، أو حماس صادق في بعضهم، لأن الجهل بالحقيقة، والنظرة التكفيرية،
يحولان دون الانتفاع من كل خير"([5] ).
الوسطية
والاعتدال:
إن الطرح الحقيقي، والفهم الصحيح للدين، والواقع،
هو الاعتدال والوسطية. "الوسطية بالمقابل منهج استراتيجي سليم، وهي الصفة الدائمة
للمسلمين {وجعلناكم أمة وسطاً}، وبهذه الوسطية صرنا {خير أمّة أخرجت للناس}، وبفقدها
نفقد الخيرية. فالوسطية فلسفة وفكر وثقافة. إنها أخلاق وسلوك ومنهجية ونهج وبرنامج.
إنها ليست شعاراً يُرفع، أو نظرية يُروّج لها، أو معالجة لحالة طارئة عابرة، إنها
(هابيلية) متجددة {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. إنها الإسلام
الصحيح النابع من كتاب الله الكريم والسنة الصحيحة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، إنها
النهج السليم السوي، والمنهجية الصحيحة لفهم الإسلام، وممارسته: ديناً، وشريعة، وعقيدة،
وحافظاً للقيم الإنسانية العليا في الحياة الخاصة والعامة، على مستوى الفرد والأسرة
والمجتمع، وفي كل عصر ومصر، وللبشرية جمعاء..
فإلى وقفة علمية وفكرية أقوى وأوسع من قبل النخبة
العلمائية الفاضلة، والمؤسسات البحثية والفكرية الناشطة، لتجريد هذه المجاميع المنحرفة
من الشـرعية
الدينية، إنقاذاً للشباب البريء، واستعادة لسمعة الإسلام العظيم، وخدمة للإنسانية،
التي هي أحوج ما تكون اليوم إلى الإسلام وقيمه ومبادئه"([6]).
وفي قراءة سريعة نختصر رؤية الأستاذ في النقاط
التالية:
هناك
تراكم في الفكر الإسلامي، حيث التراث المكدس بين صفحات الكتب غير المحققة علمياً كسند، وغير المستندة إلى القرآن الكريم كمنهج.
تقصير
بعض العلماء في بيان الحقائق، إلا بعد فوات الأوان.
خلط
الأوراق بين بيان مظلومية الأمة، والأيدي المخابراتية .
خلط
في المفاهيم بين الجهاد الشرعي، وفق الأسس الاستراتيجية، وبين العاطفة والاندفاع غير
المدروس.
زيغ
بعض الحركات القتالية عن جادة الصواب، وتشويه الإسلام من قبل البعض الآخر عن قصد.
الترويج
للحركات القتالية، على حساب بيان حركة الاعتدال والوسطية.
تحديد
المهام:
كأمر واقع في مخيّلته وفطرته، يسعى الإنسان دائماً
إلى أن يرتفع بنفسه إلى منزلة الحاكم، لذا وضح الأستاذ بأن دور أعضاء وحاملي فكرة
(الاتحاد الإسلامي) لا يعدو أن يكون دور الدعاة في المجتمع، وليس الحكم على المجتمع:
"نحن دعوة ودعاة، ولسنا دولةً ولا سلطة، أي إننا مشمولون بأحكام المناضل والمجاهد
والمجتهد والداعي، ولا تشملنا أحكام الدولة والسلطة، ولكل منهما خصوصياتها، ولكل ظروفها
وأساليبها، وأحكامها وأولوياتها... ولا شك أن كل خلط بين هاتين الحالتين، وهاتين المرحلتين،
يؤدي إلى اختلال في الممارسة والتوجهات، لأنه ناجم من اختلال في الفهم والتصور. فجهادنا
الدعوي، ونضالنا السياسي، وجهدنا الخدمي، كله عمل صالح، له مرحلته، وتتحكم فيه أحكامها..
عليه، نحن تبنينا نهجنا التغييري والتصحيحي والإصلاحي، من هذا المفهوم، وهذا المنطق،
كدعوة وحركة وجماعة وحزب"([7]).
وكان التقسيم الوظيفي واضحاً في النهج الحركي الذي
خطّه وسلكه الأستاذ، بمعنى أن كل مصطلح يتمتع بوظائف خاصة، وخصوصيات معينة: "لذا
نحن (دعوة) و(جماعة) و(حزب) في آن واحد، وكل بوسائله ومستلزماته، من غير تعارض بينها..
وإذا كان هذا غريباً لدى بعض الغرباء عن الإسلام، وبعض العلمانيين المغرضين، فهذه مشكلتهم
ولا دخل لنا، ولا بد أن يعيدوا النظر في موازينهم وقياساتهم وحساباتهم، ويراجعوا قراءة
الإسلام، ويتيقنوا بأن الحزب السياسي الإسلامي جهاد إسلامي، ونضال سياسي، وحركة بشـرية
معاصرة لعملية التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بمرجعية إسلامية"([8] ).
مكانة
المرأة:
وقضية المرأة هي من كبرى المسائل على صعيد الأمة
الإسلامية، والمجتمع الكوردي أيضاً. ولم يخل هذا المجتمع من تعسفات ومظالم وقعت على
هذا الجنس، كما وقع الظلم على بقية المجتمع، ولم يك حال المرأة حالاً تحسد عليه. وكان
المسار الإسلامي يتأثر من الجانب الفكري والسلوكي بالواقع الاجتماعي بين الإفراط والتفريط
والتزييف، فكان التيار الديني السائد (التقليدي) يسيطر على شريحة كبيرة أو رقعة واسعة
من عقول المجتمع. ومن جانب آخر، كان ثمة إفراط بعض من كانوا يمثّلون التيار اليساري،
الداعي إلى الانحلال الكلي من كل القيم، وتزييف بعض العلمانيين، بخلاف الواقع المعاش
لهم، فهم كانوا ممن يقتلون النساء على أبسط خطأ يبدر منهن، دون حق أو تبيّن، فكثير
من النساء قتلن أو هتكن بأيدي أناس كانوا يدّعون العلمانية، أو الانتماء لهذا التيار.
وجاء
خطاب الاتحاد الإسلامي الكوردستاني متزناً، وأكثر حقانية وصوابية ومراعاة لواقع المجتمع،
مستلهماً من الرؤية القرآنية: "إننا في الاتحاد الإسلامي ننظر إلى المرأة إنساناً
لها مهامها الإنسانية، متساوية مع الرجل، إلا أن التركيبة الجسمانية والفسيولوجية قد
تؤدي إلى تباين المهام وتفاوتها، من رجل إلى إمرأة، ومن طفل إلى كبير، ومن بنت إلى
أم، ومن ابن إلى أب..إلخ. ولكن التباين في الواجبات والمهام لا يعنـي التفاضل في مقام
الإنسانية والحقوق والاحترام والامتيازات المادية والمعنوية، وما حدث للمرأة من مظالم
وإجحاف وتغييب لم يكن إلا ضمن التمرد على تعاليم الإسلام، وهو مخالفة صريحة لتعاليم
الدين، وظلم صادر من الأعراف والتقاليد الجاهلية، وعلى أيدي ضعاف الإيمان من الرجال،
والإسلام منه براء.. ولا يخفى أن هذا الاضطهاد والخرق لحقوق المرأة في مجتمعاتنا، أقلّ
بكثير مما حدث ويحدث في المجتمعات الغربية اليوم، إنها جعلت من المرأة سلعة الاقتصاد
والسياسة، بدل النضال لتحريرها.. إن مقولة: (المرأة نصف المجتمع، ومربية النصف الآخر)،
تعبير لمدى التصاقها بأخيها الرجل؛ أختاً وبنتاً، وأمّاً وزوجة.. مع حرصنا الشديد،
ونضالنا المتواصل، لتصحيح الفهم، وتوعية الجمهور، وتذليل الصعاب أمام استرداد حقوقها
المغتصبة، وإعادتها مكرمة عزيزة إلى مقامها الكريم، كما في عهد الرسول الكريم (عليه
الصلاة والسلام)، حاضرة غير مغيبة في الحياة كلها، بخصوصياتها واختصاصاتها، من المسجد
إلى المدرسة، إلى الاختصاص العلمي، إلى السياسة وأجهزة الحزب والعمل النقابي والمهنـي،
كل هذا ببرنامج شرعي وهادف وهادئ وأصيل. لأن حركة تصحيحية كهذه لا يمكنها أن تصل إلى
هدف التغلب على مشكلات متراكمة وأعراف متأصلة إلا بالالتزام التام بميزان الشرع، وعدم
تجاوز الحد الشرعي، واجتناب التفريط والتلاعب بالأحكام وممارسة (التميع) وترخيص الحياة
(جعلها أخذاً بالرخص)، ومن جانب آخر، الابتعاد عن نهج التزمت، والإفراط، والتشدد..
لأن جعل الحرام حلالاً، لا يختلف في الوزر والإثم عن جعل الحلال حراماً"( [9]).
ولم
تكن هذه السطور مجرد عبارات تنشـر في الصحف والمجلات، أو يُعلن عنها في الخطب، وإنما
سرعان ما تحولت إلى سلوك عملي بين أعضاء الحزب، وتسنمّت المرأة المناصب السياسية والإدارية
والدعوية، بحيث تعرّضت لضغوطات وهجمات من جهات متعددة، مع أن العلماء الكورد المسلمين
كانوا دوماً من الرواد في إعطاء حق المرأة، أمثال العلامة الشيخ ملا محمد الكويي، والشيخ
عبدالكريم المدرس، وعلماء باليسان، وغيرهم، ولكن ما كان يطبق في المجتمع الكوردي أمر
مغاير لممارسة العلماء، وجاءت ممارسات الاتحاد الإسلامي في العصر الحديث عملية إصلاحية
سلوكية لمفاهيم خاطئة تفشت في المجتمع الكوردي.
الديمقراطية
بين إشكالية الرفض والتقديس:
تعد مسألة الديمقراطية واحدة من الكثير من الأمور
العويصة والمتشابكة والمتنافرة في كوردستان، ولو نظرنا إليها من بعض الزوايا لوجدناها
مهزلة أصابت عقل قوم يزايدون عليها، ويستهزئون بها، ومع هذا تبقى كممارسة إجرائية وقائية
لهدر الدماء.
ومن جانب آخر، كان موقف بعض الإسلاميين أكثر صرامة
ورفضاً لهذه الكلمة، واعتبارها كفراً بثوابت الإسلام، ونحن نعلم مدى الأثر الذي يتركه
التكفير عندما يطلق على شيء ما في المجتمع الإسلامي..!!
في خضم هذا الجدال المكبوح في دفتي الرفض والقبول،
والكفر والتقديس (المزعوم)، برز رأي جديد على الساحة الفكرية في كوردستان، وهو: أن
"الديمقراطية هي نظام لانتخاب الناس لمن يريدونه حاكماً لهم، ومنعاً لتسلط الأشخاص
أو الأنظمة، رغماً عن إرادة الشعب، وتعطي الحق للشعب أن يحاسب حكامه، أو يعزلهم عند
انحرافهم عن جادة الصواب"( [10]).
وجاءت هذه الرؤية كتصويب لكلمة شوهت معالمها وأهدافها،
ومحاولة لوضعها على مسارها الصحيح، باعتبارها:
أولاً:
آلية للاختيار وبيان إرادة المواطنين.
ثانياً:
حقّاً طبيعياً للناس كـ(ممارسة).
ثالثاً:
وسيلة لاختيار الحاكم.
رابعاً:
مانعة من التسلط والاستبداد.
خامساً:
طريقاً لمراقبة المنتخب.
سادساً:
آلية لمحاسبة المفسدين بطرق مدنية، بعيداً عن إزهاق الأرواح، ولعزل الحكّام الفاسدين
بطرق سلمية.
سابعاً:
وتربية ودرساً لمن يتسنّمون الحكم.
فأخرجنا هذه الكلمة عن دائرة التقديس، والهدف واضح،
والوظيفة بيّنة، ولبيان مكانة الإنسان، وصوته، وصلاحيته الممنوحة، وهو مشاركة بالإرادة
في تأمين المستقبل.
"ولقد أصبحت آلية الوصول إلى هذه الأهداف
(وبجهد متراكم للإنسان، وبعد عدة تجارب بشـرية) الانتخابات، والاستفتاء العام، وتغليب
الأغلبية، والتعددية السياسية، وحفظ حقوق الأقلية في المعارضة، والحرية الصحفية، واستقلال
القضاء، وتداول السلطة .. إلخ .
وفي تعريف آخر للديمقراطية، إنها إشراك الشعب في
القرار، ومراقبة السلطة (أهل القرار)، والمشاركة في ثـمار القرار.. وإذا كانت الديمقراطية
لهذه الأهداف، وبهذه الوسائل، فهي ليست مغايرة عن المنهاج الإسلامي، وليست في تضاد
مع الكتاب والسنة، وإنما هي أقرب ما تكون من روح الشورى، ويمكن (بـــدون تـــردد) اســــتخدامها
كنظام ووسيلة تنظيم أمور الســـــلطة، وكيفية علاقة السلطة مع الشعب .
وليس لهذا النظام أي تضاد جوهري مع النصوص (الثابتة)
في الإسلام، وإنما توافق مع اجتهادات العلماء الأعلام المعاصرين، التـي تدور في ميدان
(المتغيرات).. وهناك عدة نصوص من الأوامر والتوجيهات التـي ترسم الخطوط العريضة لموضوع
السلطة، وكيفية تنظيم العلاقة بينها وبين الشعب، بتأكيد الإسلام على مبدأ (الشورى)
في الحياة الإسلامية، والعدالة في الحكم، والحريات العامة، وحقوق الإنسان، أو برفضه
للظلم والجور والاستبداد والغرور وهضم الحقوق واحتقار الآخر"([11]
).
وقد فصّل القول شيخنا العلامة الغنوشي، في كتابه
(الحريات العامة في الإسلام)، عن بيان هذه الكلمة، ولكن الفرق بينه وبين الأستاذ صلاح
الدين هو أن الأستاذ كان يترأس حزباً سياسياً في بيئة مغايرة، وخاض غمار تصحيح المفاهيم
في مجتمع لم يكن بعيداً عن زمن استبداد النظام العراقي، ولم يكد يتنفس الصعداء جراء
الظلم وتكميم الأفواه، وفي المقابل لم يكن شيخنا الغنوشي قد باشر العمل السياسي العلني
في وطنه، إذٍ من السهل على مفكر أو عالم أن يطرح مسألة ما، ولكن ليس من السهل على قائد
سياسي فعل ذلك..
"ما
أعلاه هو مفهومنا للديمقراطية، وبهذا الفهم نقبلها ونمارسها.. أما إذا كان للديمقراطية
في الغرب مفهوم آخر، أو أن لها أساساً فلسفياً وآيديولوجياً خاصاً (لغياب عنصر الوحي
عندهم).. فهذا شيء آخر، ولسنا مُلزمين بهذا المفهوم الفلسفي الغربي.. لأن الغرب يبنـي
فهمه لكل شيء انطلاقاً من العقل البشري فقط، منقطعاً (بل في غياب تام) من (الوحي)،
كمرجع وحيد لهم.. أما نحن المسلمون، فلسنا بحاجة إلى هذا المرجع الفلسفي والآيديولوجي
للديمقراطية، وإنما نحتاج إليها كنظام اجتماعي وسياسي معاصر، وعملية موفقة لاختيار
السلطة، ومراقبتها، وتداولها، ولتنظيم العلاقة بينها وبين الشعب.. وكل هذه المجالات
قابلة للخوض فيها كاجتهاد بشري، ورأي الإنسان أو فهمه من الوحي، لأنها لم ترد فيها
نصوص الوحي، إلا على خطوط عريضة وقواعد عامة"( [12]).
الموقف
من الحضارة الغربية:
كغيره من المفكرين المسلمين، له علم بالواقع الغربي
والمجتمع الغربي والحضارة الغربية، ففيما سبق من عرض قضية المرأة والديمقراطية، وفي
مسألة (الأمر التكوينـي، والأمر التشريعي)، يفصّل القول في هذا المضمار.
إن من كبرى الطامات على العالم الإسلامي هو عدم الاهتمام
بهذا الجانب المهم والمؤثر على المجتمعات البشـرية، فلم يكتب إلا القليل عنه، قياساً
مع ما كتب في الحضارة الغربية، أو مقارنة مع ما كتب في التراث الإسلامي. فـ "الأزمة
التي يَشْهدها العقل المسلم ليسَتْ في حقيقتها أزمةَ قِيَم، وإنَّما هي أزمة عَجْز
عن التَّعامل مع القِيَم! فالنَّاظر في الثَّروة العلميَّة والمعرفيَّة التي يقف عليها
المسلمون مع حقيقة واقعِهم، يُدرك تمام الإدراك حجمَ العجز الذي أصابَهم"( [13])،
وهو البعد عن دراسة هذا الجانب، ويسميه الأستاذ الدكتور عمادالدين خليل بالاحتماء بالماضي.
وممن كتبوا في هذا المجال الأستاذ عبدالكريم زيدان
(السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد)، والدكتور نعمان عبدالرزاق السامرائي
(تفسير التاريخ، ومباحث في التفسير الإسلامي للتاريخ، وأضواء على تفسير التاريخ)، وكتاب
(السنن الإلهية في الأمم والأفراد في القرآن الكريم أصول وضوابط، للدكتور مجدي محمد
عاشور)، فضلاً عن كتب أخرى قليلة جداً..
يقول الأستاذ صلاح الدين: "فكما أن الغرائز
والخصال والأخلاق الجبلّيّة التـي خلقت في الأحياء عموماً، والإنسان خصوصاً، بأمر تكوينـي
من الله الخالق سبحانه، فإن أسلوب استعمالات تلك الغرائز، والاتفاق في استخدامها في
حدودها المخلوقة لها، وضبطها، وتنظيمها، جاء هذا كله في الأمر التشريعي الذي أنزله
الله في شريعة متكاملة، مع سيد رسله وأنبيائه وخاتمهم عليه الصلاة والسلام ..
فالأحياء كلها خاضعة ومشمولة بهذا البرنامج، وبإدارة
سيد المخلوقات وأرشدها، ألا وهو (الإنسان)... فالذي لا يلتزم بهذه التوجيهات، ولا يعمل
بها منهاجاً لحياته، فإنه يعطل عقله في ميدانه المخلوق له، ويحاسب عليه ويعاقب، وقد
يشغل طاقته العقلية والعلمية في أمور تنعكس سلباً عليه، وويلات على مجتمعه، بل ينغمس
في المزيد من (حيوانيته)، ويعمل عقله وذكاءه وتكنولوجيته في هذا المجال، الذي يعنـي
بعبارة أخرى تصفير العقل، وتحقير إنسانية الإنسان، وتفعيل الغرائز الحيوانية فيه..
أما الملتزم بالأمر التشـريعي، فإنه يوازي مسيرة الكون العابد، ويوافق إيقاع جميع المخلوقات،
ويكافأ عليه، ويؤجر ..
وبنظرة متفحصة للحضارة الغربية اليوم يتضح لنا
صدق هذا القول، ونرى أن الإنسان في الغرب مشغول وحريص على بذل كل ما في الوسع لتقوية
حيوانية الإنسان، بدل إنسانيته: يجعله سبعاً شرساً أنانياً في الاقتصاد والسياسة والسلطة،
كما يجعله إباحياً منحطاً إلى أقصى حد الإنحلال في مجال الجنس، إلى درجة أن الحياة
العائلية باتت أصعب عمل، ومهمة شاقة لا يقدر عليها أغلب الناس.. فالضياع وتحلل العائلة
والأسر بيد الشذوذ والعادات الحيوانية والأمراض النفسية صارت سمات غالبية الوضع الاجتماعي
للغرب اليوم.. وأن الإنجاز العلمي والتقدم التكنلوجي القائم، والحضارة المادية الراهنة،
تعيش لحظات الإنفجار كأي لغم منذر بالخطر"( [14]).
وقد جاء في كتاب الأستاذ الدكتور أحمد داود أوغلو
(العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية) أن العالم الإسلامي عانى الكثير من الاضطهاد
والأوجاع والآلام بأيدي التوظيف السيء للحضارة الغربية، وعدم التعامل مع هذا التقدم
الجبار بروح إنسانية عادلة، ومع هذا فالعالم الإسلامي حاضر وجاد لمعالجة مكامن الضعف
في هذه الحضارة، والحفاظ على سلامتها، والنظر اليها كإرث بشري، ساهمت الحضارات كلها
بالوصول بها إلى هذه المرحلة. وهذا لا يعني عدم الاعتراف بوجود حضارة ساهمت البشـرية
جميعها في بنائها، وإنما هو تبويب علمي للنقاط الإيجابية والسلبية لتلك الحضارة، وبيان
مكمن الضعف، ومعالجته، لأن مردوداتها تأتي وتقع على الجميع. ومن هنا يقول الأستاذ
صلاح الدين: "وهذا لا يعنـي أننا نستهين بالتقدم العلمي الغربي، أو نستصغره، وإنما
نتأسف للحالة الأحادية الناقصة، التـي تعانيها الحضارة الغربية.. ونرجو أن تسخّر التكنولوجيا
في سعادة البشر، وإنسانيتهم، وراحتهم، لا في شقائهم ومعاناتهم .. كما أننا لسنا راضين
عمّا يعانيه الشـرقيون من التخلف والذيلية والهوان.. إلا أننا لا نتهم إلا المسلمين
أنفسهم، لأن الذي حصل هو بسبب عدم امتثالهم لأوامر شريعتهم الربانية، وفقدهم لمرتكزات
الإرث الحضاري الإسلامي، وعدم انتفاعهم منه"([15]
).
قبول
الآخر وتقدير التعددية:
مسألة قبول الآخر أمر شغل بال الكثيرين في الشرق
والغرب، أو بالأحرى هو أمر ملّح بالنسبة للمجتمعات البشرية، وذلك كخطوات نحو الرقي
والتكامل الإنساني، ومع هذا فلا يخلو مجتمع من وجود أناس متطرفين يلغون الآخر ولا يعترفون
بوجوده. وهذا يذكرني بمقالة الأستاذ الدكتور فاضل رسول - رحمه الله - في مجلته الموقرة
(منبر الحوار)، التي جاء فيها: هل وجود الكورد والترك والعرب والفرس على رقعة جغرافية
أمر أراده الله، أو أمر اختياري فوض إلى الإنسان؟؟ لاشك أنه لا أحد منا سُئل قبل ولادته
أين يولد؟ ومن أي الأبوين يولد؟ ومن أي قوم؟ فهو أمر رباني، تقتضيه الحكمة الربانية،
ووجود هؤلاء الأقوام على رقعة جغرافية مستفيضة بالحكمة والإرادة الربانية، وكل ذلك
يحتاج إلى التدبر والتفكر في هذه الحكمة، وليس إلى محاربة ودحض هذه الحكمة.
يقول
الأستاذ صلاح الدين: "فتباين المستويات، وتعدد الاجتهادات، وتنوعها، أمر طبيعي،
وحالة صحية، في المجتمعات البشرية.. وعلينا تنظيم الحالة، وتبادل النظر في المختلف
فيها، والاستماع إلى القول الآخر، والعمل بأحسنه، والانتفاع من أوجه الخلاف للصالح
العام، لتفعيل جميع الاستعدادات، وعدم التفريط ببعضها.. فالتعددية حالة صحية، ووحدة
الصف هدف محترم، ولا تناقض بينهما، بل الأصل أن تُوظف تعددية الأفكار والجماعات والأحزاب،
لصالح وحدة الصف والإجماع الوطني، بتنافس إيجابي شريف، منضبط بضوابط القانون والنظام"([16] ).
وهذه الرؤية أصبحت ممارسة واقعية للاتحاد الإسلامي
الكوردستاني، الذي تعامل مع جميع الأطياف بحسن
السلوك، وحسن الجوار، وحسن المصاحبة، وحسن الرفاقة، وحسن الخلق، وحسن الكلام، وحسن
السجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق