07‏/06‏/2014

العلمانية المؤدلجة ومخاطرها على الديمقراطية.. (مصر) نموذجاً (1 من 5)

أبوبكر علي
ترجمة: اسو أحمد
أدلجة العلمانية، هي إحدى المشاكل العميقة التي واجهت النظام الشرقي، والعالم الإسلامي، في أكثر من دولة، وخصوصاً في النصف الثاني من القرن الماضي، حين زاد انتشار الفكرين اليساري والقومي المتطرفين، وكثرت الانقلابات العسكرية، والثورات المضادة. هذا الفكر بعيد عن الديمقراطية، وهو نوع خاص من العلمانية، له مشاكل عميقة مع الديمقراطية، وربيع الأفكار البيضاء، وعلى الضد من أيديولوجيا التنمية، وقضية بناء القوميات، من الأساس، أو أنها فرغته من اسمه ودوره الليبرالي، وقبلت بنمط شكلي احتفائي من الديمقراطية، لا يحمل من الديمقراطية إلا اسمها.
إشكالية هذا النمط من العلمانية مع الديمقراطية، ومركزته لعلمانية سلطوية ممزوجة بالقهر والدم وسلب الحريات، لم يؤد إلى ركود الأيديولوجيا، و جدبها، وتحالف القهر والظلم مع هذا النوع من الحداثة،
فحسب، بل أثر بشكل كبير على التيار الإسلامي في المنطقة.. وذلك أن الدوس على القيم الديمقراطية، وعدم احترامها، واضطهاد التيار الإسلامي، وكل صوت تحرري في المجتمع، من قبل الأنظمة القومية المتشربة بالأفكار اليسارية، نتج عنه ظهور الجماعات المتطرفة والجهادية في العالم الإسلامي. ولكن مرحلة التسعينيات، وانهيار الكتلة الشرقية، الذي أذن بانتهاء حقبة الحرب الباردة، وتبلور الحديث حول النظام العالمي الجديد، والموجة الجديدة من الديمقراطية، وتدويل مسائل حقوق الإنسان، ثم هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، وما نتج عنها، من انهيار نظام طالبان في أفغانستان، وحزب البعث في العراق، والأهم منها: انطلاق ثورات الشرق الأوسط، من أجل الحرية والحقوق والكرامة والعدالة والعيش الأفضل، كل ذلك مهد أرضية جديدة، دولياً وإقليمياً ومحلياً، لتجدد فكري و سياسي وأخلاقي، بشر بتجاوز معادلات المرحلة السابقة، وازدواجيتها.
جمعت ثورات المنطقة، التي انطلقت في لحظة تاريخية فاصلة وحساسة، الإسلاميين والعلمانيين، في عدة دول، حول مشروع واحد، هو التغيير السياسي، وإسقاط الأنظمة، والأسر الحاكمة المستبدة، والدكتاتورية الفاسدة، في المنطقة. ولكن ما نراه الآن في (مصر) عقب الانقلاب العسكري، والذي يراد له التعميم على كل دول الربيع العربي، هو حالة مطابقة لما قامت عليه وضده ثورات المنطقة، و هو في الحقيقة انقلاب على كل الظروف الجديدة، التي خلقتها الثورات في تلك البلاد. كما أنه، إضافة إلى ذلك، ارتداد عن قيم الديمقراطية، على أكثر من مستوى، ومحاولة غير مباشرة لإعادة إنتاج الأنظمة السابقة، ولكن بمظهر جديد. وإذا أخذنا (مصر) نموذجاً، فكل ما أسلفنا ينطبق عليها بشكل لا يحتاج إلى إثبات ودلائل. ما يجري في (مصر) ضربة لمفهوم الدولة، وموقع الجيش، والحياة السياسية، وقيم الديمقراطية، وأعرافها. والغريب أن الحالة وصلت إلى مستوى تفكر فيه وزارة الداخلية في إعلان حالة الطوارئ، وإعادة تشكيل دائرة مكافحة الأنشطة الدينية والسياسية، التي كانت موجودة في عهد (مبارك)، وتهدد بحل الخلافات السياسية عن طريق القوة.

العلمانية المجردة من الليبرالية والديمقراطية
إحدى النقاط اللافتة للنظر في المرحلة الراهنة لـ(مصر)، هي تفكير القوى القومية والمدنية والليبرالية، ومنطقها، وسلوكها السياسي. فبعض قادة القوى السياسية العلمانية، والذين كانوا يتشدقون بالديمقراطية، والتحذير من تهديد الإخوان والإسلاميين في (مصر)، وخطرهم على الديمقراطية، واتهامهم باللجوء إلى العنف، وتضييق الحريات، وإقصاء المناوئين، وإهانة السلطة القضائية والإعلام، واحتكار السلطة، وغيرها من الاتهامات، أصبحوا الآن على النقيض من ذلك، على العديد من المستويات. ولكن إذا كانت دمقرطة العلمانية المؤدلجة في المنطقة، تحتاج إلى تغيير أيديولوجي وفكري وأخلاقي، يتحقق جزء كبير منه بالتحول الليبرالي والديمقراطي الحقيقي، لهذا النمط من العلمانية، وللقوى التي تحمل ذلك الفكر، فإن الذي يلاحظ عمليا، وعلى عدة مستويات، هو على النقيض من ذلك، حيث تدل المؤشرات على ارتداد صريح وواضح، لتلك القوى التي تدّعي المدنية والليبرالية، عن الديمقراطية، وتنكرها لأهم قيمها ومعاييرها ومعانيها، ومحاولة العودة إلى مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير، وبشكل أكثر دموية وقبحا، واستحضار بعض مشاكل تلك الحقبة، والإحياء اللاعقلاني لجزء من صراعاتها، ومنها أدلجة الصراع الإسلامي – العلماني، وتعميقه، وتوظيف إمكانيات المرحلة ضد تيار سياسي اجتماعي معين داخل المجتمع المصري.
إعادة الإشكالية بين العلمانية والديمقراطية، وتفريغ جزء مهم من مفهوم الليبرالية عن محتواه، له العديد من النتائج والملامح، تشكك -في المجمل- في مصداقية تلك القوى تجاه قيم الديمقراطية والليبرالية والدولة المدنية، وتضعها أمام تساؤل جدي ومحرج. وتدخل ضمن هذا الإطار إشاعة البغض والحقد الكراهية في المجتمع، وشيطنة تيار واسع من المجتمع، والالتجاء إلى سياسة الأدلجة، وعدم التواني في اتباع كل أساليب الدعاية المضللة، من: افتراء، وإهانة، واستهزاء، وتلفيق تهم، ونبز، والتي تنتهجها العلمانية المتطرفة في (مصر) حالياً، عن طريق مؤسسات إعلامية – رسمية، وأهلية - يديرها رجال حقبة (مبارك)، ويقومون عليها، وصل مستواها إلى درجة من الانحطاط، لم يكن من المفترض وصولها إلى ذلك المستوى، وجاوزت خطوطاً حمراء، لم يكن ينبغي لأحد الاقتراب منها.
ولكن التطرف بطبيعته لا أمان له، فهو هدام، ولا يعرف الحرام إلا قليلاً، لأنه لا يؤمن بالتعايش السلمي، ويعمل على نزع الشرعية من المقابل، كي يحرمه من حقوقه ونشاطه وحريته، ولاحقاً: حياته. هذه الموجة من البغض الأيديولوجي، والتعصب السياسي، والانغلاق الفكري، وصلت إلى مستوى جاوز إسلاميي (مصر)، والـ(مصريين) ككل، بحيث شمل شعبَي (فلسطين) و(سوريا)، المظلومين والمطرودين من أرضهما، وهو ما أثار انتقاد العديد من القوى والمنظمات السياسية والمدنية والدينية، الفلسطينية والسورية، وغيرها، وحتى المصرية.
مشاهدة عابرة للقنوات المصرية، ومطالعة في عناوين الصحف، واستماع لتصريحات بعض المسؤولين في (جبهة الإنقاذ)، يُظهر مدى الحقد والبغض والإهانة الموجهة إلى المقابل، والذي يطال -في المرحلة الحالية - إسلاميي هذه البلاد، ومناصريهم، ومؤيديهم. وقد أشار المفكر العربي المعروف (د. عزمي بشارة)، في لقاء مع (قناة الجزيرة)، من خلال برنامج (حديث الثورة)، إلى أن ما يتعرض له الإسلاميون في (مصر) حالياً، ليس صراعاً سياسياً، بل هو تمييز وعنصرية. ومن المعلوم أن إثارة الحقد والبغض والسلوك التمييزي والعنصري، تجاه شريحة أو طائفة معينة، يناقض المبادئ الأساسية للمجتمع المدني والديمقراطي الليبرالي والتعددي. فالتسامح، وقبول الآخر، وعدم رفضه، ونبذ الحقد والبغض، وحماية الحقوق المتبادَلة، يشكّل البنية التحتية، والإطار الأخلاقي، والمعرفي، والاجتماعي، للديمقراطية.
تلك الأحداث، وما رافقها من حوادث في مناطق أخرى من دول المنطقة، تبرهن أن العلمانية في المنطقة لا يزال أمامها الكثير كي تتمكن من الانعتاق من بقايا الأيديولوجيا والحقد السياسي والتطرف والانغلاق الفكري، والتي تشكل جزءاً عضوياً وحيوياً من التفكير والتكوين العقلي النفسي والأخلاقي لبعض القوى العلمانية. وما يصدر من تلك القوى يثبت أن الكثير منها لا يزال تحت تأثير الفكر الشمولي الغابر، ومنه الماركسية، والصراعات التقليدية، وعدم قبول التداول الديمقراطي، وتصور امتلاك الحقيقة المطلقة، ويعاني فهمهم للمدنية والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، عيوباً منهجية وجوهرية معقدة، ولا يصل إلى مستوى يمكنهم من استيعاب قيم الليبرالية السياسية، ودروس الديمقراطية، وضماناتها.
عندما أقول: إن العديد من تلك القوى تعتبر نفسها صاحبة الحقيقة، وهو الأمر المناقض لليبرالية والديمقراطية، فإنني لا أقول شيئاً غريباً، فهذا يظهر جلياً في شروح وتعليقات وتعامل غالبيتهم مع التيار المقابل، حيث يعتبرون أنفسهم ممثلاً وحيداً وشرعياً للمدنية والديمقراطية والوطنية، ويتصورون أن التيار الإسلامي لا يؤمن بطبعه بهذه القيم، ولا بالدولة الحديثة. هذا الفهم أصبح من المعطيات الجوهرية، والثوابت الأيديولوجية، الميتافيزيقية، المنقطعة عن الواقع، لدى بعض الكتاب والمفكرين العلمانيين والقوى العلمانية في المنطقة. بمعنى أن متطلبات التعريف والتوثيق عندهم، في الحكم على الإسلاميين، وغيرهم، لا تنبع من الواقع والتجربة والسلوك السياسي، بالشكل الذي يقتضيه التحليل المنهجي والعلمي، بقدر ما يصدر عن حكم وقناعة مسبقين.
إن رفض التيار الإسلامي، من قبل العلمانية المتطرفة، والشرطة، والذي يتجلى في واقع (مصر) الحالي، وعملية وحشنة الإسلاميين، ومحاولة قتل أخلاقيات العمل السياسي والمدني فيهم، عن طريق الحملات الدعائية السياسية المركزة، هي وليدة تفكير وفهم خاطئين لمفاهيم العلمانية والديمقراطية والمدنية، وعدم إدراك التشابه والاختلاف في تاريخ التطور الاجتماعي والفكري بين الغرب والعالم الإسلامي، ولا التغيرات التي طرأت على التيار الإسلامي، والمجتمعات الإسلامية، والأوضاع السياسية. هذا عدا عن تأثير الثورات على إعادة صياغة أسس الأنظمة السياسية، وتوزيع العناصر الأيديولوجية في تمظهرات تكوينية جديدة.
إن عدم الاعتراف الفكري والنفسي بالتيارات الإسلامية، من قبل العديد من المثقفين والسياسيين والقوى العلمانية في المنطقة، يُظهر -إضافة إلى ما ذكرناه- جذور وبنية هذا البغض والحقد غير المبررَين. فالمسألة تتجاوز عند المتطرفين المتشددين منهم، الإسلاميين، لتصل إلى الإسلام نفسه، فهم يتحدثون عن (فاشية) الإسلام أو، على الأقل، يعتبرون مشاركة الإسلاميين في الشبكات الاجتماعية، ومؤسسات الثورة في المنطقة، دليلاً على عدم تكامل هذه الثورات، والمجتمعات. فمثقف معروف مثل (هاشم صالح) يرى أن الفرق بين الثورة الفرنسية وثورات الربيع العربي، هو أن الثورة الفرنسية قامت ضد رجال الدين، ولم تُرفع صورهم خلالها، بل رُفعت صور من عُرفوا بمعاداة الكنيسة، كفلاسفة التنوير، وخاصة: (جان جاك روسو) و(فولتير). يقول (صالح): إن رجال الدين المسيحيين تواروا عن الأنظار خوفاً من سطوة الثوار، لكن الجماهير عندنا تجمعوا حول الرموز الدينية، ومنحوهم المجد، ورددوا الطقوس الدينية خلفهم
*** *** ***
إذا ما اعتبرنا هذا النمط من التحليل نموذجاً لما يقوم به نوع من المثقفين العلمانيين في المنطقة، وهم ليسوا بقلة، ولا يبلغ أكثرهم المستوى الفكري لـ(هاشم صالح)، نفهم الإشكالية المنهجية لذلك التفكير السطحي وغير المنسق، ويتضح لنا المدى الخطير الذي تؤثر فيه القناعات الفكرية، والمسائل الأيديولوجية، والمواقف المسبقة، على التفكير الفلسفي والأكاديمي لبعض الكتاب والمفكرين والأكاديميين، وكيف أنهم يغضون الطرف عن الواقع، والكثير من الحقائق التاريخية، من أجل إثبات قناعاتهم، ويسوقون أمثلة وأحداثاً، ويعقدون مقارنات بينها، في حين لا يوجد ترابط بينها. ويجري هذا على ضوء قناعات فكرية وسياسية محددة سلفاً، يراد لها توجيه وتفسير مسيرة التطور التاريخي باتجاه يؤكد تلك النتائج والمسلمات، وإن أدى ذلك إلى تشويه التاريخ وفلسفته، عن طريق إسقاطات المرحلة والبيئة التاريخية والحضارية المختلفة. فإن لم تكن المسألة حكماً أيديولوجياً، وقناعة مسبقة، أنى يكون لـ(هاشم صالح) الوقوع في تلك المغالطة الفكرية والتاريخية، وقبول المتناقضات في تفسيره؟ وأنى له التغافل عن الكثير من الحقائق الواقعية والتاريخية، والتي تناقض تفسيراته للثورات، على الأقل في بعض أوجهها ومستوياتها؟ 
ما يجب أن نتذكره هو أن ثورات المنطقة قامت ضد مجموعة من الأنظمة العلمانية، ونمط من الحداثة السياسية والقانونية. فالثورة الأولى، والتي ألهمت بقية الثورات، قامت ضد نظام علماني، هو الأعتى في المنطقة، بعد نظام العلمانية التركية زمن تسلط الكمالية. إن القوى والنخب السياسية التي قامت ضدها الثورات، والمتهمة بالظلم، واحتكار السلطة، وانتهاك الحريات، وإهدار المال العام، والفساد بأنواعه، كانت صاحبة هوية وخلفيات يسارية وقومية، وكانت في المجمل نخبا حداثية علمانية، قامت لعشرات السنين بمجابهة الإسلاميين، وحماية مصالح الدول الغربية - مهد العلمانية - في إطار المحافظة على أنظمة ما بعد الاستعمار والحرب الباردة. وهذه الدول هي التي ساعدتها في بناء المؤسسات القمعية، ولم تتوانَ في ذلك، وتغاضت عن قيمها الكونية من أجل الحفاظ على مصالحها الأنانية، وهي معاكسة لواقع الغرب التاريخي، وطبيعة نهضته، والثورة الفرنسية، التي ضرب (هاشم صالح) النموذج بها.
ولقد تعرض العديد من الرموز الدينية، وقادة التيارات الإسلامية، في أزمنة وأماكن مختلفة، للسجن والمعاقبة والتعذيب والحرمان، بل التنكيل والقتل والإعدام، وكانوا رموزاً وضحايا لانعدام الحريات، وانتهاك حقوق الإنسان، في أكثر من مرحلة من تاريخ بلدانهم. الإسلاميون، ومناصروهم، ومؤيدوهم، هم أكثر من وجهت لهم الضربات في بعض البلدان، حيث تعرضوا للملاحقة والتعذيب والإعدامات، ومع ذلك لم يخلوا الساحات، ودافعوا بكل قوة، ولم تثنهم الضغوطات والاعتقالات والإعدامات عن سبيلهم، وقدموا في ذلك تضحيات كثيرة، وتاريخ بلدان كمصر وتونس والجزائر وسوريا وغيرها يشهد على هذا الواقع، ويثبت صحة ما نقول.
وإذا كانت هذه الظروف، وهذا الظلم والقمع والفساد، قد قام ونتج باسم العلمانية والحداثة، وإذا كانت الثورة قامت ضد سلطة نخبة علمانية، فأين المنطق في أن يقوم الهجوم على الرموز الدينية، وتتكررَ قصة الثورة الفرنسية، ويُرفعَ شعار كمثل: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"؟!.. الرمز الديني هنا هو الضحية، ومن يدّعي حمل قيم الثورة الفرنسية، والسير على نهجها، هو الذي ينتهك الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والعدالة وسيادة القانون، وينتهج القمع!! والمطلع على التاريخ الفكري والسياسي للمنطقة، يعلم أن (تونس) كانت متأثرة تأثراً مباشراً بنمط العلمانية الفرنسية، ومنها استمدت تطرفها.
كل هذا يسرد لنا قصة خيانة فكرية وسياسية، ويقول لنا إن العلمانية المجردة من الديمقراطية تقوم بخلق وإنتاج مقدساتها، على العكس من، وبما يضاد، جوهر العلمانية نفسها. وهذا ما دفع أكثر من مفكر وكاتب إلى تشبيه هذا النوع من العلمانية بالدين، أو على الأقل، بأيديولوجيا مقدسة، تبشر بها الدولة، عن طريق آليات وأدوات القوة والسيطرة، وتفرضها على المجتمع. وباستقراء سريع للتاريخ الحديث، والمعاصر، للمنطقة، نفهم أن من أقحم القداسة بالمجال السياسي، مشوهة وممسوخة، لم يكن الدين والمتدينون، فقد كان وكانوا تحت الضغط والملاحقة، ومبعدين عن السياسة، بل من أقحمها هو الأيديولوجيا العلمانية، من: قومية واشتراكية وشيوعية.
القادة السياسيون، الذين خلعت عليهم صفات القداسة في التاريخ الحديث والمعاصر للمنطقة، ككمال أتاتورك وصدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي وجمال عبد الناصر، وغيرهم، هم من ادعوا تمثيل قيم الحداثة والعلمانية والدولة الحديثة، ولم يتوانوا في محاولاتهم لإضعاف الهوية الإسلامية لمجتمعاتهم، وقمع القوى المتبنية لتلك الهوية. وهذا التقديس يختلف عما تقمصته الشخصيات السياسية في العصور الوسطى في أوروبا، إذ كانت المؤسسات الكنسية ورجال الدين مصدر ذلك التقديس لكثير منها.
لو لم تكن هذه العلمانية بالضد من الديمقراطية، في العالم الإسلامي، ربما لم يكن ليتعرض لجزء كبير من موجة العنف والتطرف الديني، التي تعرض لها خلال تاريخه الحديث. فالمصدر الأساس لهذا التطرف هو التطرف العلماني والقمع والعنف غير القانوني، الذي انتهجته النخب الحاكمة تجاه المجتمع والتيار الإسلامي. فعلى سبيل المثال: هل كان للفكر التكفيري والمتطرف، الذي ظهر خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي في (مصر)، أن يظهر لولا القمع الوحشي الذي مارسته سلطة عبد الناصر؟ وهل كان هناك شيء اسمه (الثورة الإسلامية في إيران)، وما تمخض عنها، لولا ظلم الشاه واستبداده وتبعيته وسياساته المناهضة للإسلام والديمقراطية؟ أم هل كان لـ(الجهاد الأفغاني) وجود من الأساس، لولا الانقلاب الدموي، وما تعرض له الأفغان من القمع، ودعوة الجيش الأحمر الى احتلال البلاد؟ ذلك الجهاد الذي استقطب المحاربين المسلمين من كل أطراف العالم، وأصبح منبعاً للأصولية الإسلامية والفكر الجهادي.. الجواب بالتأكيد: كلا.
إذن، العلمانية المجردة من الديمقراطية، ونمط متدهور من الحداثة، هما المسؤول الأول أيضا عن ذلك التطرف الديني، الذي وجه ضربات موجعة لجسد شعوب المنطقة، والذي لا زالت تعاني من آثاره. وإذا لاحظنا أن الذي قامت عليه، وضده، ثورات المنطقة، هو نمط من العلمانية، ومقدسو دنيا السياسة، في المنطقة، وهم القادة العلمانيون، بالدرجة الأولى، لاتضح وتجسد لنا وجه آخر من الأخطاء المنهجية في ذلك التفسير، المؤدلج، لطبيعة هذا التيار، ومصادره السياسية والفكرية والاجتماعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق