07‏/06‏/2014

استكشاف الآخر: ملاحظات دقيقة حول رحلة الطهطاوي إلى فرنسا 1826 ــ 1831

عمر جاسم محمد
منذ مدة ليست بالقصيرة ولا بالطويلة - لكنها قد تكون كافية - يؤرقني سؤال لا يفارق مخيلتي، جعلني أنغمس بين طيات الصحف والمجلات والوثائق التي صدرت في فترة تعتبر من أخطر الفترات التي مرت على العالم العربي، ألا وهي مرحلة ما بعد الحملة الفرنسية على مصر، ولأن رسالتي للماجستير في صلب القضية، في مؤرخ الحملة الفرنسية على مصر، عبد الرحمن الجبرتي، وكتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، فقد آثرت المكوث طويلاً في هذه الحقبة المؤرقة والغامضة. والآن دعوني أعود إلى السؤال، والحقيقة هي عدة أسئلة، لكنها مرتبطة ببعضها: هل تمت تسمية الأشياء كما هي في ما اصطلح على تسميته "عصر النهضة"؟ هل كان الطهطاوي حقاً من رواد النهضة؟ ما علاقة رحلة فرنسا في تنمية فكر الطهطاوي؟ هل أثرت هذه الرحلة في تطور الوعي بمفاهيم العدالة والإنصاف والحرية لديه؟ ولأني أشتغل على هذه الفترة، فقد واجهتني معضلة أخرى، ليس في زمن الطهطاوي فحسب، بل ينسحب الأمر على مجمل اللاحقين عليه، بدءاً بها ووصولاً إلى بطرس البستاني وفرح انطون ورشيد رضا ومحمد عبده والأفغاني وأنستاس الكرملي، لكني سأقتصر في هذه المقالة الضئيلة على الطهطاوي، باعتباره من رواد المرحلة التأسيسية لفكرة عصر النهضة، والتلاقي الحضاري بين الشرق وفرنسا، تلك هي معضلة فرنسا وأثرها ودورها فائق الجسامة في الشرق.
بدءاً، يقول (شاول كريبك) في كتابه "التسمية والضرورة/ Naming and Necessity" (1): لا بد لكل شيء اسم، مهما كان ذلك الشيء، شارع، بيت، بلد، وحتى الرياح، ولكن ما هي ضرورة التسمية؟ وما قيمة التسمية؟ ولماذا هناك ضرورة للتسمية؟ إن الضرورة مفهوم "ما وراء طبيعي"، يجب فصله عن المفهوم المعرفي للبداهة، وإن هناك حقائق ضرورية هي حقائق استهلالية، مثل "الماء هو H2O"، ولهذا فإن ما ينطبق على ما وراء الطبيعيات، ينطبق تماماً على التسمية باعتبارها ضرورة. وتأكيداً على قول (شاول كريبك)، ينبغي أن نستذكر تصور (أفلاطون) لطبيعة اللغة: الأسماء إذا تم التلفظ بها لوحدها لا تشكل أبداً خطاباً، وكذلك الأفعال التي يتلفظ بها دون أن يرافقها اسم(2).
قد تبدو هذه المقدمة غير مألوفة، ولا علاقة لها بالموضوع من قريب ولا من بعيد، ولكن، لأن (الطهطاوي) اشتغل على اللغة، فلا بد من مدخل كالذي بدأت به، ولن أتحدث عن حياة الطهطاوي، فالكثير يعرفها، لذا سأشرع مباشرة في الموضوع.
اختير (الطهطاوي) بعد وصوله إلى فرنسا ليتدرب على فن الترجمة تلك المهارة التي سيستخدمها طوال حياته المهنية(3)، وكجزء من تدريبه، ترجم مختارات من مجموعة كبيرة من المؤلفات الفرنسية، ومنها أعمال كبار فلاسفة السياسة مثل مونتسكيو وروسو وفولتير(4).
استمر (الطهطاوي) بعد عودته إلى (مصر) عام 1931 في العمل كمترجم في شتى المناصب الرسمية، ومن ضمنها مدير مكتب الترجمة الرسمية، وأشرف على العديد من المترجمين(5)، ووصفت هذه الفترة في التاريخ المصري بحركة الترجمة العربية الثانية، بعد حركة الترجمة عن اليونانية في العصور الوسطى، وكان (الطهطاوي) الأبرز في دفع هذه الحركة للنمو والتطور(6). وخلال ذلك، نحت (الطهطاوي) العديد من الكلمات العربية الجديدة لترجمة الكلمات الفرنسية التي لم يكن هناك ما يقابلها بالعربية، وقدم (محمد الصاوي) مسحاً للطرائق التي استخدمها (الطهطاوي) لنحت الكلمات. كان التعريب أول أسلوب استخدمه، وهو كتابة الكلمات الأجنبية بما يقابلها من الحروف العربية بنفس اللفظ، وعادة ما يستخدم هذا الأسلوب لنحت كلمة عربية واحدة، مثل: جرنال (newspaper)، والبيانو (piano)، ويمكن أيضاً نحت كلمات مركبة من العربية والأجنبية، مثل: أهل الجرنال (editors)، وأكاديمية الحكمة ( medical academy)(7).
يستخدم التعريب حين يعجز المترجم عن ايجاد مصطلح مناسب باللغة العربية للكلمة الأجنبية، أو حتى مصطلح دلالي قريب من المعنى، مع ذلك فإن الكتاب العرب فضلوا تجديد الكلمة العربية الفصحى عبر توسيع دلالتها، أو تضييقها، لتتوافق وتقترب من المعنى للمصطلح الأجنبـي.
ويمكن أن يتم ذلك بنحت كلمة عربية واحدة، مثل: الإرسالية (the mission missionary)، المتولي (ruler) الْمَحَمُّ (bathtub)، وإذا لم تكف كلمة واحدة من اللغة العربية، يمكن لكلمتين عربيتين مجتمعتين أن تشكلا مصطلحا مركبا جديدا. وهناك بعض الأمثلة على ذلك: كرسي المملكة (capital)، فن الميه (hydraulics)، وبيت الصحة (hospital)، وإناء القرعة (ballot box)(8).
وكانت هناك طريقة أخرى لترجمة الكلمات الأجنبية، هي اعتماد كلمات عامية، باستثناء ما يمكن إيجاد ما يقابله بالعربية الفصحى، ومن الأمثلة على المصطلحات العامية: جراح (surgeon)، القهوة (coffee house)، الفرجة (sightseeing)(9).
ومثال على التوسع الدلالي في اللغة العربية الفصحى، هي ترجمة (الطهطاوي) لكلمة (liberté) إلى الحرية، وكما ذكرت سابقاً حول دلالة كلمة الحرية في العربية الفصحى، بأنها بالمقام الأول كانت مصطلح قانونٍ بمعنى حر أو غير عبد، كما استخدمت أيضاً لدلالة أخلاقية، لتدل على المهن والسلوكيات النبيلة (10)، وإن الحرية في استخدامها التقليدي كانت مصطلحاً قانونياً، وأحيانا اجتماعيا، ولكنه أبداً لم يكن مصطلحاً سياسياً لدى العرب، كما ذكر (برنارد لويس)(11). وهذا هو المقصود بالمعنى التقليدي للحرية، حين وظف (الجبرتي) كلمة الحرية تفسيراً للكلمة الفرنسية liberty (يعني أنهم ليسوا أرقاء كالمماليك)(12)، وبالتالي فعندما ترجم (الطهطاوي) المصطلح ذاته إلى كلمة (الحرية)، كان يحاول توسيع الدلالة لإعطائها معنى ودلالة سياسية.
إن أول استخدام لمصطلح (الحرية) كمصطلح سياسي عند (الطهطاوي) كان في كتابه المشهور "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"(13)، ونشرت الرحلة بعد عودته إلى مصر، إلا أن الرحلة قد كتبت بشكلها النهائي أثناء إقامته في (باريس)(14). أسهم (الطهطاوي) بوصف انطباعاته عن المجتمع الفرنسي بدقة عالية، ولم يغفل تقريباً أي جانب من الحياة الباريسية بعمله الواسع. وفي القسم الثالث من الكتاب يقترح ويناقش القوانين الفرنسية والنظم السياسية، ويشير إلى كونها صالحة تماماً وقابلة للتطبيق في الدول الأخرى (15). وبعد وصف عام للدولة، ضمن (الطهطاوي) ترجمته للقانون الفرنسي، وفي المادة الرابعة من الدستور: "ذات كل واحد منهم يستقل بها، ويضمن له حريتها، فلا يتعرض له إنسان إلا ببعض حقوق مذكورة في الشريعة، وبالصورة المعينة التي يطلبه بها الحاكم"(16)، وهذا أول استخدام لمصطلح الحرية بمعناه السياسي، ويشرح (الطهطاوي) المعنى الجديد للحرية لقرائه:
"ما يسمونه الحرية، ويرغبون فيه، هو عين ما يطلق عليه عندنا: العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة، فهذه البلاد حَرِيَّةٌ بقول الشاعر: 
وقد ملأ العدل أقطارها 
وفيها توالى الصفا والوفا(17)
إن مصطلحي (العدالة) و(الإنصاف) هما من المفاهيم الإسلامية التقليدية، والتي يفهمها قراء الطهطاوي لانتمائها إلى محيط الخطاب العربي الإسلامي. وإن العلاقة بين الحرية وهذين المصطلحين في كتابات (الجبرتي) تظهر في وصفه لانخفاض مستوى العدل والإنصاف نتيجة للاحتلال الفرنسي. حدد (الطهطاوي) هذا المفهوم بدقة، والذي لم يستطع (الجبرتي) أن يحدده ويعرفه سابقاً. وجدير بالذكر إن (الطهطاوي) هو ليس بالضرورة أول من استخدم مصطلح الحرية بمفهومها السياسي.
وإنه لأمر مدهش حقاً كيف كان للطهطاوي قدرة على تحديد مفهوم الحرية بإيجاز، عبر ربط الحرية السياسية بالمفهومين الآخرين: بالمفاهيم التي اختارها هو: (العدالة) و(الإنصاف)، والتي هي مناسبة تماماً للفهم العربي، ومألوفة لديهم، وهي تعبير واضح ودقيق عن الحرية السياسية، وكلا المفهومين (العدالة) و(الإنصاف) تصب في حماية الأفراد من التدخل غير المبرر، والتي هي من صميم الحرية(18).
لم تكن ترجمة (الطهطاوي) للحرية موضع تقدير لدى الجميع، فيذكر (دانيال نيومان) إن في (تلخيص الإبريز) لا نتعامل مع الليبرالية على أنها الحرية التي تساوي العدل والإنصاف، فهذان المفهومان هما حجر الزاوية في النظرية السياسية الإسلامية، وهي نقيض لما رآه (الطهطاوي) في الممارسة السياسية في (فرنسا) (19). وهذا تعليق غريب جداً لعدة أسباب، أولاً: إن (نيومان)، وبدعوى أن (الطهطاوي) لا ينبغي اعتباره ليبراليا، فإن التسمية متجذرة في الفكر السياسي الغربي، وتنطبق تماماً على (مصر) في بواكير القرن التاسع عشر، ثانياً: يبدو من تعليقه أن العدل والإنصاف يتعارض بطريقة أو بأخرى مع الحرية (الليبرالية)، أو على الأقل التصور الليبرالي للحرية (مهما يكن ذلك التصور)، ثالثاً: فإنه قد فشل تماماً في تقدير قصدية (الطهطاوي) في شرح وتفسير معنى الليبرالية للجمهور العربي، هذا التفسير الذي من شأنه أن يكون مفهوماً وذا صلة بطريقة تفكيرهم. وهذا يجعل (الطهطاوي) جديراً بالتقدير لفهمه مستويات الخطاب آنذاك.
وطبقاً لـ(نيومان)، فإن الدليل الآخر على لا ليبرالية (الطهطاوي) هو أنه لم يبذل جهداً لمعالجة التعارض الجوهري بين مفهوم الحرية والعبودية التي ما زالت قائمة في وطنه. حقيقة إن هذا التعليق أكثر غرابة، لأني لا أدري لماذا ينبغي على (الطهطاوي) أن يكون مسؤولاً عن استمرار العبودية في (مصر)، أو حتى كيف يؤثر ذلك في إضعاف قدرته على شرح مفهوم الحرية، فإن هذه الحجة غير منطقية، فهو استطاع شرح المفهوم، ولم يكن استمرار العبودية ليؤثر عليه في تفسيره، بل إن ذلك محاولة منه أيضاً لتوضيح أن الحرية هي المسار الأشمل لحياة الإنسان، وهي بالضرورة تنقض مفهوم العبودية في بلاده.
وفضلاً عن تقديمه شرحاً عاماً للحرية، فقد وصف (الطهطاوي) عدة أنواع من الحريات، بما في ذلك الحرية الدينية، وهي من ضمن المبادئ الواردة في القانون الفرنسي، وقد ترجم المادة الخامسة التي تنص على أن: "كل إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يحب، لا يشاركه أحد في ذلك، بل يعان على ذلك، ويمنع من يتعرض له في عبادته"(20). "ومن الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية، أن كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة، ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته.. وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات، أو في مادة الأديان، بشرط أن لا يخل بالانتظام المذكور في كتب الأحكام"(21). 
بهذه الطريقة أقام (الطهطاوي) علاقة مباشرة بين الحرية وحماية ممارسة الشعائر الدينية، في حين أن القانون نفسه لم يوفر شرحاً لها، وعلم أيضاً أن هناك بعض الحدود الواجب وضعها على هذه الحريات.
إن تعليقات (الطهطاوي) عن الحرية، والحرية الدينية بشكل خاص، كانت وصفية في المقام الأول، ولا يعني ذلك بالضرورة موافقتها أو معارضته لها. ومع ذلك ففي مقاطع أخرى من (تلخيص الإبريز) يظهر اعتقاده بأن الحرية ضرورية ومفيدة للمجتمع، ويمكن معرفة ذلك من تقديمه للقانون الفرنسي:
"وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، لتعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك، حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلماً أبداً، والعدل أساس العمران"(22).
وعلى هذا، فإننا بالإمكان أن نفسر أن الحرية هي مصدر عظمة الحضارة والازدهار والمعرفة والسعادة، وهذا يكتشف بالعقل وحده، كما فعل الفرنسيون، وليس بالأقدار، و(الطهطاوي) يقرر ذلك بأنه لم يجد من هذه القوانين شيء في النصوص الإسلامية، إلا أنه يدرك قيمتها وجدواها، ويعلن قبوله لهذه الأفكار، حين يذكر أن المواد الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة مفيدة للشعب الفرنسي، ولغيره من الشعوب، ولأجل هذا نمى السكان في (فرنسا) والأجانب أيضا بشكل كبير. فالحرية لا تعرف شكلاً، أو لوناً، ولا تحتاج لنصوص ثبت وجودها، بل هي تتقرر بداخل الإنسان حين يدركها ويدرك ضرورتها (23).
لذا فإن الحرية، التي ضمنتها المادة الرابعة، والحرية الدينية في المادة الخامسة، هي التي ساهمت في ازدهار (فرنسا)، وهذا الاستنتاج من الأهمية بمكان، إذ أن البعثة المصرية التي أرسلها (محمد علي) كان من أهدافها تحديد مصدر الرخاء والازدهار في أوروبا، على أمل محاكاة ذلك في مصر. وهنا يشرح (الطهطاوي) كيف ساهمت الحرية الدينية في جذب الأجانب إلى (باريس) في النص الآتي:
"ولو رأيت تدبيرها ستفهم معنى الشعور بالراحة والطمأنينة لما يتمتع به الغرباء فيها من سكينة وترحاب، وحتى لو لم تشاركهم في نفس الدين، وذلك لأن معظم سكان المدينة من المسيحيين بالاسم فقط، ولا يلتزمون بتعاليم دينهم، ولا يبدون أي تأثر بها، وإذا ذكرت الإسلام لأي شخص فرنساوي، أو حتى دين آخر، سيظهر احترامه، لأنهم لا يجبرون أحداً على فعل ما لا يريده، وكل الأديان لها حرية ممارسة شعائرها في فرنسا، ولن يعترض أحد على بناء جامع أو كنيس لليهود"(24). 
يقدر (الطهطاوي) الانفتاح الفرنسي على الأديان الأخرى، ويفسر أن هذا الانفتاح هو نتيجة لاختفاء التعصب الديني لدى الشعب الفرنسي، ورغم ذلك ليس دقيقاً الاستنتاج بأن (الطهطاوي) يعتمد الإلحاد كشرط للتسامح والازدهار، فقد كان حريصاً في مقدمة كتابه (تخليص الإبريز) على أن ما يذكره موافق للشريعة الإسلامية، وكما ذكرنا سابقاً موقف (الطهطاوي) من مفهوم الحرية، فإنها - بما فيها الحرية الدينية - هي الأساس لدى (الطهطاوي) للازدهار ونمو الحضارة والسعادة، على الرغم من عدم وجودها كمفهوم في القرآن والسنة، إلا أن هذا لا يعني تعارضها مع الفكر الديني الإسلامي، بل يمكن استنباطها، إلا أنه جدير بالذكر أن هناك بعض العبارات في مفهوم الحرية الدينية اعتبرت مخالفة للشريعة الإسلامية، من وجهة نظر الطهطاوي، فعلى سبيل المثال: أدان بشدة الردة عن الإسلام، ولدى وصوله (فرنسا) عبر (ميناء مرسيليا)، روى عن لقائه مع المصريين الذين رافقوا الفرنسيين بعد جلائهم عن مصر عام 1801، فيقول: من النادر أن تجد بينهم مسلماً، ومات بعضهم، وتحول البعض الآخر إلى المسيحية، حفظنا الله من ذلك(25).
في كتاب (مرشد الأمين)، الذي طبع بعد 30 عاماً من (تخليص الإبريز)، يعطي (الطهطاوي) قراءة مماثلة للحرية الدينية(26)، ويقدم فلسفة سياسية منظمة، على الرغم من أن كثيراً من أفكاره تنبع من (تلخيص الإبريز)، وكرس فصلاً كاملاً لمناقشة الحرية السياسية، التي تأسست عليها حقوق المواطنين في الممالك الحضرية(27)، ويميز خمسة أنواع عامة من الحرية: الحرية الطبيعية، وحرية السلوك، والحرية الدينية، والحرية المدنية، والحرية السياسية(28).
وهذا التمييز بين الحريات يبين الاتساع الدلالي الكبير في المفردات العربية، منذ نشر كتابه الأول تخليص الإبريز، وبينما قد فسّر الحرية باستخدام كلمة واحدة، صار الآن يجمع بين المفردات لنحت مصطلحات أكثر سهولة واتساعاً، مثل: حرية التعبير، وحرية التجارة، ويعطي في هذا النص تعريفاً جديداً للحرية الدينية:
"الحرية الدينية هي حرية العقيدة والرأي والمذهب، بشرط أن لا يخرج عن أصل الدين، كآراء الأشاعرة والماتريدية في العقائد، وآراء أرباب المذاهب المجتهدين في الفروع" (مناهج الألباب46)(29).
وهنا أيضاً في فكر (الطهطاوي)، فإن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم (حرية العقيدة)، مع شرط عدم الخروج عن أصل الدين(30)، وهذا يثير تساؤلاً حول تبنيه اتجاهاً محدداً من أصول الإسلام، ومع ذلك فإنه يبيح للطوائف الأخرى الدينية والمذهبية حرية الاعتقاد والرأي تحت (الحرية الدينية)، وهو يثير مسألة (الردة عن الإسلام) في مقابل (التنوع الديني)، فهو أعطى الحرية الدينية لغير المسلمين. ووفقاً لـ(البرت حوراني) فإن (الطهطاوي) ينطلق بنظرته إلى غير المسلمين من المفهوم الإسلامي لليهود والمسيحيين باعتبارهم أهل ذمة، ويتبنى الموقف الأكثر ليبرالية تجاههم، الذي يدعو فيه إلى تسامح أكبر ضمن الحرية الدينية، وعدم فرض الإسلام عليهم(31)، وتوسيع نطاق الحرية للأجانب، وكذلك للمسيحيين واليهود المصريين. وينطلق من تجربته في فرنسا، ودور الوافدين الأجانب في الازدهار، ويشدد على ضرورة تبني (مصر) لمثل هذه الأفكار، وجذب الأجانب إليها، وتبادل المعارف معهم(32). وبما أن العرب حازوا الحضارة مرة واحدة فقط، فينبغي عليهم التعلم الآن من الأوربيين، لاستعادة عظمة حضارتهم، وهذا هو الطريق الذي يراه (الطهطاوي) في الحرية بأنها سبب للتقدم والازدهار ونمو الحضارة

---------
الهوامش:
(1)Saul Aaron Kripke, Naming and Necessity. Twelfth printing, 2001, Cambridge, Mass: Harvard University Press.
(2) سيلفان أورو، فلسفة اللغة، ترجمة: عبد المجيد جحفة (ط1، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2010).
(3)Rifa'a Rafi' Al-Tahtawi, Takhlis al-Ibriz fi Talkhis Bariz (An Imam in Paris: Account of a Stay in
France by an Egyptian Cleric), trans. Daniel Newman (London: Saqi, 2004), 75-77.
(4)Ibid, 86.
(5) البرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص 71.
(6) الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي، السياسة و الوطنية والتربية، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الجزء الثاني، دراسة وتحقيق: محمد عمارة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973)، ص 15-67.
(7) المصدر نفسه، ص 402.
(8) المصدر نفسه، ص 403.
(9) المصدر نفسه، ص 404.
(10)Encyclopedia of Islam, 2nd Edition, s.v. "al-Hurriyya," by Franz Rosenthal.
(11)Bernard Lewis, Political Words and Ideas in Islam (Princeton: Markus Wiener Publishers, 2008),186.
(12) Al-Jabarti, Tarikh Muddat al-Faransis bi-Misr, 43. 
(13) الطهطاوي، تلخيص الإبريز، ص 100.
(14)Encyclopedia of Islam, 2nd Edition, s.v. "Rifa'a Bey al-Tahtawi," by K. Ohrnberg.
(15) الطهطاوي، تلخيص الإبريز، ص 189.
(16) المصدر نفسه، ص 195.
(17) المصدر نفسه ، ص 206.
(18)Encyclopedia of Islam, 2nd Edition, s.v. "al-Hurriyya," by Bernard Lewis.
(19) Berlin, 6.
(20) الطهطاوي، تخليص الإبريز ، ص 89.
(21) الطهطاوي، تخليص الإبريز ، ص 89.
(22) الطهطاوي، تخليص الإبريز ، ص 196.
(23) الطهطاوي، تخليص الإبريز ، ص 201-211.
(24) المصدر نفسه ، ص 194.
(25) الطهطاوي، تخليص الإبريز، ص 208.
(26) المصدر نفسه ، ص 126.
(27) الطهطاوي، تخليص الإبريز، ص100.
(28) المصدر نفسه، ص 154.
(29)Encyclopedia of Islam, 2nd Edition, s.v. "al-Hurriyya," by Bernard Lewis.
(30) الطهطاوي، تخليص الإبريز، ص 473.
(31)Encyclopedia of Islam, 2nd Edition, s.v. "al-Hurriyya," by Bernard Lewis.
(32) الطهطاوي، تخليص الإبريز، ص 470-5.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق