07‏/06‏/2014

جدلية الحرية الدينية بين الإسلام والمسيحية .. نظرات في جهود المستشرق البريطاني توماس آرنولد

أ.م . د. زاهدة محمد طه
جامعة دهوك/ كلية التربية الأساسية
السير توماس (آرنولد) Sir Thomas Walker Arnold من كبار المستشرقين البريطانيين، له اهتمامات واسعة بالحضارة الإسلامية، فضلاً عن عنايته الخاصة بموضوع الحكم والسياسة في الإسلام.
ألف كتباً عديدة تكشف عن عمق ثقافته ووعيه واطلاعه الواسع، ومن أهمها كتاب "المحمدية"، و"كتاب الخلافة الإسلامية"، ثم كتابه الشهير "الدعوة إلى الإسلام"، عدا بحوث ومقالات نشرها في الدوريات البريطانية. وهو من مؤسسي "مدرسة الدراسات الاستشراقية"، ومن أعمدة الكُتاب "في الموسوعة الإسلامية The encyclopedia of Islam"، و"نشرية الدراسات الاستشراقية البريطانية Bulletin of School of Oriental Studies".
السير توماس آرنولد
ولد في بريطانيا عام 1864، والتحق بكلية (ماجدولين) للفترة من (1883-1887)، ثم انتقل إلى (الهند)، وهناك قام بتدريس مادة "الفلسفة" في (الكلية المحمدية) في (عليكرة) عام 1888(1). وفي عام 1917 التحق للعمل في مدرسة الدراسات الشرقية، وأسند إليه منصب أمين مكتبة المكتب الهندي(2)، ثم رئاسة قسم اللغة العربية في المدرسة، حتى وفاته عام 1930(3).
برزت جهود (آرنولد) في قضية التسامح الديني في الإسلام، عبر كتابه الشهير "الدعوة إلى الإسلام" الذي نشره عام 1896، وقد لقي هذا الكتاب ترحيباً شديداً في العالم الإسلامي، لامتيازه بالاعتدال مقارنة مع كتابات مستشرقين آخرين. والكتاب مخصص للنظر في انتشار الإسلام بين المسيحيين، وإن ما فيه من مقارنة بين انتشار الإسلام، وانتشار المسيحية، عمل يدخل ضمن مقارنة الأديان. 
حاول (آرنولد) إلقاء تبعة انحسار المسيحية، في المناطق التي كانت تخضع لنفوذها، على عاتق الكنيسة اللاتينية، حيث وجد العقل المسيحي نفسه في متاهةٍ من معتقداتٍ رمزية ولاهوتية، قامت على تغييب الروح المسيحية الخالصة، أمام الكم الهائل من التقديس لصور القديسين والمخلفات الأثرية، التي كانت الكنيسة تشدد على قدسيتها، مقارنة بالإسلام الذي دعا إلى الوحدانية الخالصة لله (عز وجل).

منهج (آرنولد) للمقارنة بين انتشار الإسلام وانحسار المسيحية
ومن هنا بدأ انتقاداته لـ(التبشير)، في مقابل عنصر التسامح لدى المسلمين.. يقول (آرنولد):
"ظهرت الفوضى التي ملأت عقول المسيحيين الذين وقفوا أمام هذه المصائب المتراكمة والآلام المعنوية، التي أثارها قيام الصراع العنيف بين هذه العقائد المتنافرة، فمالوا إلى هذا النظام العجيب من التنسيق العقلي الذي ينمو فيه الدين الجديد... وهكذا قدر للإسلام أن يبدد كل هذه الغيوم، ويفتح أمام الناس سبلاً واضحة من الآمال الكبيرة"(4).
ثم كان هناك العامل الأخلاقي، وعنصر القدوة الذي أسهم في نشر الدعوة، لكن غالب الدراسات الغربية عن انتشار الإسلام تجاهلت العنصر الأخلاقي فيه، متمثلاً بالتجار والرحالة الذين تطوعوا ذاتياً لخدمة الدعوة، وامتلكوا قلوب الناس بحسن سلوكهم وسيرتهم وأمانتهم. 
ويضرب (آرنولد) مثلاً على أنموذج القدوة بشخصية (صلاح الدين الأيوبي) فيقول: "يظهر أن أخلاق صلاح الدين، وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيراً سحرياً، حتى أن نفراً من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانة قومهم وانضموا إلى المسلمين"(5).
وجَّه (آرنولد) نقلة نوعية في مسار البحث الأكاديمي ذي الطابع التعصبـي، مؤكداً على أن رسالة نبـي الإسلام محمد (عليه الصلاة والسلام) وحَّدت القبائل المتناثرة في الجزيرة العربية ضمن دولة واحدة، وأن هذه الوحدة كان أساسها الرابط الديني، وأن تطابق الحدود الدينية والسياسية هي التي عززت دور الدين، بوصفه السمة المميزة للأمة الإسلامية.
وخلال التوسع الإسلامي، وتأسيس الدولة، كان هناك عنصر إنساني مهم هو الذي جذب الناس إلى الإسلام، وليس القوة، لأن القوة مهما كانت غاشمة قاهرة فهي عاجزة عن كسب قلوب الناس والتغلغل في مجتمعاتهم بهذه السرعة والكيفية العميقة.
وهذا العنصر في رأيه هو عنصر التسامح، الذي عبر عنه القرآن الكريم، وبدت معالمه جلية في موقف الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) مع القبائل المسيحية، حين أقام "حلفاً مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة"(6).

القيمة الأخلاقية للتسامح في انتشار الدعوة الإسلامية
بيّن (آرنولد) في مستهل حديثة عن انتشار الإسلام، أن هناك أسباب عدة لانتشار الإسلام، منها: "اجتماعية وسياسية ودينية، لكن هناك عاملاً من أقوى العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة العظيمة، تلك هي الأعمال المطردة التي قام بها دعاة من المسلمين، وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الإسلام، متخذين من هدى الرسول مثلاً أعلى وقدوة صالحة"(7).
لذلك حاول أن ينتقد الآراء الغربية التي فسرت تحول المسيحيين إلى الإسلام، على أساس إكراه الشعوب والأمم للدخول إلى المعتقد الإسلامي في بلادهم(8)، مبيناً أن الإسلام يقوم على مبدأ التسامح، ولا يمكنه أن يقوم بحمل الشعوب على التحول إلى الإسلام بغير رغبة حقيقية.
إن (آرنولد) هنا يدعم النص القرآني بسيرة شخصيات إسلامية كبرى، كان لها أثر أخلاقي في انتشار الإسلام، وعرفت بمبدأ التسامح الديني، مثل الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وسياسته تجاه النصارى وأصحاب الديانات الأخرى، وكيف أن التسامح لديه بلغ حداً أنْ "أمر أن يُعطى قوم مجذومون من النصارى من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت"(9)، وكذلك سياسته في تعامله مع الأقباط، بعد فتح (مصر)، وكيف "جلب الفتح الإسلامي إلى أولئك القبط حياة تقوم على الحرية الدينية، التي لم ينعموا بها من قبل ذلك بقرن من الزمان"(10).

الحرية الدينية بوصفها عنصراً من عناصر الانتشار
ثم ناقش (آرنولد) بتوسع قضية الحرية الدينية في الإسلام، من خلال القانون الإسلامي، في مجال فرض بعض الالتزامات على أهل الذمة، ورأى أن القيود التي فرضت على المسيحيين، والتي اتخذ منها قسم من الغربيين إدانة للإسلام، كانت مظهراً من مظاهر التسامح، لكونها فرضت من أجل حماية الحرية الدينية لغير المسلمين، في مقابل حقوقهم المدنية التي كفلتها لهم الدولة، وأعفتهم من واجب الخدمة العسكرية.
وفي مقابل الزكاة المفروضة على المسلمين - وهم غير معفويين من أداء داعي الجهاد والنفير وبذل المال والأنفس، حين يتطلب الأمر هذا - يحاول (آرنولد) تفنيد ما ذهب إليه بعض الباحثين الغربيين والمبشرين من أن تحوَّل قسم من الشعوب المسيحية إلى الإسلام كان بدافع التخلص من الجزية المفروضة عليهم، فتلك الضرائب لم تكن مجحفة، بل كانت كل بحسب قدرة الناس الاقتصادية لقاء حمايتهم. كما أن التسامح الإسلامي في أمر الجزية يظهر جلياً حين الأخذ بعين الاعتبار أنها لم تكن "تجبى إلا من الذكور القادرين، ولا تجبى من النساء والصبيان، وكذلك كان يستثنى من أداء الجزية: المسكين الذي يتصدق عليه، والشيخ الفقير الفاني، الذي لا يستطيع العمل، كما أعفي الأعمى والأعرج والمريض، الذي لا يرجى شفاؤه، والمغلب على عقله ..."(11).
إن شجاعة (آرنولد) تتمثل هنا في مقارنته بين انتشار الإسلام وسياسة الكنيسة آنذاك، والتي تجاوزت التعاليم الحقيقية للمسيحية، فعملت على دخول الناس في الإسلام لذاته، وليس بسبب القوة. وهذه القضية من أخطر الشبهات التي وجِهت للإسلام، والتي ما يزال البعض ممن يجهل تاريخ الإسلام، أو يتحامل عليه، يتخذ منها حججاً لا سند تاريخي حقيقي لها، وتنم عن تعميم وجهل بطبيعة وسياقات الجزية ودوافعها وكيفيتها. ومن هؤلاء المستشرق ماكدونالد، الذي رأى أن معالجة (آرنولد) كانت تفتقد عنصر الموضوعية، لأن الصورة الحقيقية كانت بحسب - ماكدونالد - تستدعي "صورة المسلم الفاتح، والسيف في يد، والقرآن في الأخرى، وفي أن الصورة الحقيقية ليست السيف والقرآن، وإنما السيف والقرآن والضريبة"(12).
وهنا يقوم التساؤل الموضوعي الآتي: "لماذا بقى الآلاف من المسيحيين على دينهم في مصر ولبنان والعراق وغيرها من بلاد الإسلام الأخرى، فهؤلاء كانوا يتمتعون بكامل الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية، ويتساوون مع المسلمين في كل المزايا، رغم أن دين الدولة الرسمي ونظامها هو الإسلام. لقد عبر عن هذه القضية (كيرك) حين قال: "إن غالبية أهل الشام ومصر السفلى، في القرن التاسع الميلادي، كانت ما تزال مسيحية، على الرغم من أن الإسلام كان قد مضى عليه في هذه البقاع أكثر من قرنين"(13).

نقد منهج (آرنولد)
قدم (آرنولد) دراسة ذات جانب مغاير للنسق الاستشراقي القائم على تسليط الضوء على الجوانب العسكرية واستخدام القوة فحسب، متجاهلاً الجوانب الأخرى في انتشار الإسلام(14)، وناقش أولئك بقوله: 
"تعوّد بعض الباحثين أن ينسبوا اختفاء المسيحية من تلك البلاد إلى اضطهاد الفاتحين المسلمين. ولكن هناك اعتبارات شتى تدفع ما استقر عليه الرأي في هذه المسألة. أولها: عدم وجود الدليل الذي يؤيد مثل هذا الرأي... أما فيما يتعلق باضطهاد ديني حدث فعلاً، فإن المؤرخين لم يذكروا عنه إلا شيئاً قليلاً. وإن إبقاء الكنيسة المسيحية الوطنية، بعد الفتح، أكثر من ثمانية قرون، لشاهدٌ على روح التسامح، التي استطاعت وحدها أن تجعل مثل هذا البقاء ممكناً"(15).
و(آرنولد) في هذا يؤكد على سياسة التسامح التي عرفت عن المسلمين، وهي من أبرز العوامل التي سهّلت عمليات الفتح: "في الحق إن سياسة التسامح الديني، التي أظهرها الفاتحون نحو الديانة المسيحية، كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد"(16).
مثَّل كتاب "الدعوة إلى الإسلام"، من وجهة نظر المسلمين، عملاً استشراقياً نابهاً، ركز على المسار السلمي للإسلام، وأسهم في تشكيل رؤية جديدة منصفة عن الإسلام، من خلال تصوير الإسلام على أنه دين دعوة انتشر بفضل جهود المسلمين الأخلاقية، سواء كانوا دعاةً أو تجاراً، أخذوا على عاتقهم مهمة الدعوة إلى الدين الإسلامي بين الأمم والشعوب المختلفة عامة، والمسيحيين بخاصة.
وإذا رجعنا إلى موقف الغربيين من قيمة الكتاب ومنهجه، فسنجد أن الكتاب قد قوبل أيضاً باهتمام بالغ، فقد أشاد به المستشرق الإيرلندي استانلي لين بول (1854-1931) قائلاً عنه أنه: عمل بالغ الأهمية والشمول(17)، كما أن ماكدونالد نفسه المعارض لطروحات (آرنولد) في قضية الجزية، رأى في الكتاب دراسة تصحيحية عن الإسلام، وعمل على سد "ثغرة طالما شعر بها المتخصصون بالدراسات العربية والإسلامية، إذ يكشف عن جانب جديد من حياة المسلمين مثير للدهشة"(18).
لم يكتف (آرنولد) بتبيان مواقفه من الإسلام وحقيقته في كتابه "الدعوة إلى الإسلام"، بل راح يعمل على تصحيح مسار الاستشراق البريطاني بين أبناء قومه، خصوصاً أنه كان من الرواد في نشوء نشرية مدرسة الدراسات الشرقية، وهي نشرية بالغة العمق والسعة، شارك فيها كبار العلماء، وفي مختلف قضايا الشرق الإسلامي، ففي افتتاح تلك النشرية، وبحضور ملك بريطانيا ذاته، ألقى كلمة بعنوان: دراسات عربية The Study of Arabic وضحت طبيعة وجهات نظره وأخلاقياته في التعامل مع الشرق والإسلام، مؤكداً على "قلة عناية الجامعات البريطانية بدراسة الإسلام، دراسة صحيحة، وعزا ذلك إلى التأثيرات التي مارسها رجال الدين... ومع أن بعض الجامعات البريطانية قامت بإنجاز بحوث عديدة لتبييض صورتها، لكن بقي عدد من الكتابات الإنكليزية تناولت الإسلام بتعصب، متأثرة بأفكار رجال الدين أولئك. مدللاً على حجم التعسف الذي وقع على المسلمين جراء هذه المناهج. لقد بقي الإسلام حتى في المراجع الكبرى - التي كرست لاستعراض ديانات العالم - الديانة الوحيدة التي جرى تناولها بقسوة وتعصب، كما أن هنالك العديد من الشواهد على عدم موضوعية السياسة والصحافة البريطانية في تناول الإسلام..."(19).
ومن هنا نلمح قيمة هذا التوجه الاستشراقي، الذي أسهم في توضيح قيمة الإسلام في أهم عنصر من عناصره الإنسانية، ألا وهو التسامح والحرية الدينية، التي نشهد لها في تاريخ الإسلام أمثلةً من النادر أن نجد لها شبيهاً لدى الأمم الأخرى، مما هو حري بنا نشره بين الناس، والتعبير عنه في سلوكنا ومواقفنا وكتاباتنا، ونشاطاتنا الثقافية والإعلامية، لأنه يكشف عن حقيقة معتقدنا وسمو منهج ديننا (الإسلام).

-----
الهوامش:
(1) , p.25. Gibb, H.A.R, Sir Thomas Arnold, DNB, 1921-1930.
(2) للمزيد ينظر: زاهدة محمد الشيخ طه المزوري، النظرية السياسية الإسلامية في دراسات المسشترقين البريطانيين (بيروت: مكتبة البصائر،2011)، ص35-36.
(3) Arnold, Sir Thomas Walker. George The dictionary Of Biography, p.25-26 
(4) الدعوة إلى الإسلام، ص236-237.
(5) محمد فتح الله الزيادي، ظاهرة انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منها (طرابلس،1984)، ص214.
(6) الدعوة إلى الإسلام، ص65.
(7) المصدر نفسه، ص27.
(8) T.W. Arnold, the Study of Arabic, BSOS, 1917-1920, Vol. 1, pp. 113-114.
(9) الدعوة إلى الإسلام، ص75.
(10) المصدر نفسه، ص124.
(11) المصدر نفسه، ص79.
(12) Macdonald, Review of the Thomas Arnold,p133
(13) الزيادي، المرجع السابق، ص215.
(14) William Muir, the Life of Muhammad, (Edinburgh, Edinburgh University Press, 1924),pp.520-521.
(15) الدعوة إلى الإسلام، ص144.
(16) المصدر نفسه، ص157.
(17) Lane-Poole, Review of Thomas Arnold, p.756.
(18) Macdonald, Review of the Thomas Arnold, p129.
(19) Arnold, the study of Arabic, pp.112-121.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق