07‏/06‏/2014

رسالة من كونفشيوس إلى الأُمّة!!

أ. نشأة غفور سعيد
كنتُ أطالِعُ كتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) من الصفحة (176) للأستاذ مالك بن نبـي (رحمه الله) فوقع بصري على هذهِ الرواية التي ينقلها من كتاب "قصة الحضارة" للمؤرّخ الأمريكي ول ديورانت.. أنقلها بنصها: "أورد ديورانت المؤرخ حواراً حكيماً عن السياسة، دار بين كونفوشيوس وأحد أتباعه هو تسي كوج الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة. فأجابَ كونفشيوس قائِلاً: يجب أن توفّر السياسة ثلاثة أشياء هي: لقمةُ العيش الكافية لكُلِّ فرد.. والقَدْرُ الكافي مِنَ التجهيزاتِ العسكريّة، والقَدْر الكافي من ثقةِ النّاس في حُكّامهم.
فسألَ تسي كوج: وإذا كان لا بُدَّ من الاستغناء عن أحد هذهِ الأشياءِ الثلاثة، فبأيها نضحي.
فيرد الأستاذ: التجهيزات العسكريّة.
ويعود تسي كوج فيسأل: وإذا كان لا بُدَّ أن نستغني من أحدِ الشيئين الباقيين، فبأيهما نضحي؟
فيجيب الأستاذ: في هذهِ الحالة نستغني عن القوت، لأن الموت كان دائماً هو مصيرُ النّاس، ولكنّهم إذا فقدُوا الثقة لم يبقَ أي أساس للدولة.
بقيتُ لحظات صمت وتدبر.. في هذهِ المناقشة الفكريّة القمة في التوجيه السياسي، وبناء السلطة وإقامة الدولة.. ومن ثم أعدت النظر فيما يُقابلها من عقيدتنا وديننا ومنهجنا وشريعتنا من هذهِ الحقُول الثلاثة.. فوجدتُ أن ما وضعهُ الإسلام عن تلك الأسس أسمى وأعظم وأشمل من تلك المبادئ العامّة الحكيمة الصّادقة في عالم الأفكار:-
1- قوت لكل فم: لقد تجاوز الإسلام دائرة كونفشيوس في طلبه الأوّل قوتٌ كافٍ لكُلِّ فم، حيث شمل المفهوم الغذائي الرزقي كل دابة في الأرض، وفي حدود المعلوم المحسوس والمجهول – الذي لا يعلم به إلاّ الله - سبحانه وتعالى - القائل في سورة هود: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ](هود:6). وقوله تعالى: [وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ](العنكبوت:60). وقد وضع الإسلامُ قواعِدَ متينةً في العقيدة والحياة، والتعامُل مع توزيع "لقمة القوت لكُلِّ فم"، وضرب الأمثال التشجيعيّة في ذلك، ففي البخاري عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (دخلت امرأة النّار في هِرّة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض". وفي رواية لمسلم عن النبـي (صلّى الله عليه وسلّم): (أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا). والمراد بقوله: "مُوقها" أي خفها.
ومن جانبٍ آخر يعتبر الإسلام كل نشاطٍ زراعي - أساس قوت البشرية والأنعام - عبادة، ففي رواية لمسلم عن النبـي (صلّى الله عليه وسلّم): (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، إِلاّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ (أي لا ينقصه ولا يأخذ منه)، إِلاّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ)، وفي روايةٍ (إلى يومِ القيامة) كتاب السقاة، الرقم (1552). ولم يكتفِ الإسلامُ بذلك بل أمرَ بزراعةِ الأشجارِ والنباتات والخضروات، لا بل في حالِ قيامِ الساعة يأمرُ بالزرع، كما ورد في روايةِ الإمام أحمد والبخاري (في الأدب المفرد) عن أنس (رضي الله عنه) عن النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم): (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ). (20/296) برقم 12981، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
وفي اختيارِ أنواع الأطعمة: [فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا](الكهف:19). ولا شكّ فإنَّ للإسلامِ فلسفةٌ متوازنة ومتكاملة في توزيعِ الأقوات لكُلِّ فم [وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا(9)](الإنسان: 8-9). وفي الأكل [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ](الأعراف:31). وقال تعالى: [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ](البقرة: 172).
2- التجهيزات العسكريّة:
فإذا انتقلنا إلى الركن الثاني من مكونات السلطة السياسيّة والدولة، فإننا نجد كونفشيوس يؤكّد توفير التجهيزات العسكريّة لحماية الأرض والإنسان من عوادي الدهر والعيش باستقلالٍ وحريّةٍ على أرضِ الواقع.
وهنا أول ما يتبادر إلى الذهن قوله تعالى من سورة الأنفال: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ](الأنفال:60).
وقد استنتج العلماءُ والمفسِّرون من هذهِ الآية المباركة حقائق ساطعة في الاستراتيجيّة العسكريّة الإسلاميّة، ودور الدولة الإسلاميّة في حماية مواطنيها:
1- إعداد التجهيزات العسكريّة أمرٌ تكليفيّ، وهو فرضُ كفاية إسلامية يجب على الأمّة كلّها أن تتعاون في إعداد هذهِ القوّة بالدِربة والتعليم والوعي، وكل ما يربِّي الجنود الأقوياء.
2- التدريب والتربية جزءٌ مكمل بالتعاون بين الدولة والمجتمع. يقول الرسُول الأكرم (صلّى الله عليه وسلّم): (ألا أن القوة الرمي) مسلم، فضل الرمي، 1917، وفي الحديث أن رسولَ الله (صلّى الله عليه وسلّم) مرَّ يوماً في ساحة التدريب العكسريّ، فنزع نعليهِ، ومشى فيه حافياً، ثُمَّ قال: (ارمِ يا حسين وأنا معك). فأمسك الحسن، فقال له (صلّى الله عليه وسلّم): (لِمَ لَمْ ترمِ)؟ فقال: كيف أرمي وأنت معه؟ فقال له: (ارمِ وأنا معكما).
3- يربِّي الإسلام الفرد المسلم على العزّة والكرامة، ويؤكّد على القوّة في البنية والفكر والعمل، يقول المصطفى (صلّى الله عليهِ وسلّم): (المؤمن القويّ خيرٌ من المؤمن الضعيف). ويقول (صلّى الله عليه وسلّم): (رهبانيةُ أمّتي الجهاد في سبيل الله)، وفي الحديث الذي يرويه الطبراني: (من أعطى الذلة من نفسهِ طائعاً غير مكره فليسَ مِنّا).
4- إعداد القوّة العسكريّة من الاستراتيجيّة الإسلاميّة ليست للعدوان والسيطرة، وانتصار قوم على قوم، وشعب على شعب، ودولة على دولة، إنما هو لحماية حدود الدولة الإسلاميّة، وعدم التفكير في الإغارة عليها.
5- ومن أجل الإعداد الجيِّد وديمومة العمل العسكريّ، يجب على المسلمين أن تكون لهم مصانع تصنع لهم السلاح، لا أن يستعينوا بأسلحةِ غيرهم، إن شاء أعطى، وإن شاء منع، وفي عطائه ومنعه يعملُ لمصلحةِ نفسه، ولا يريدُ للإسلامِ خيراً. ومن أجل ذلك يجب على أهلِ الاختصاص منافسة الآخرين في الاختراعات العسكريّة وتطويرها.. ورصد الأموال الكافية للمشاريع والتطوير، ومنافسة أعداء الإسلام في كُلّ أشكالِ الأسلحة وتنويعها.
6- على المسلمين التيقن بأن (الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة)، وأن الصراع سواء أكان احتكاكاً جسديّاً وقتالاً وشهادة، أو تدافعاً فكريّاً في الندوات والمؤتمرات والتجمعات، فإن روح الجهاد تؤكّد تحرير الإنسان من الروح الجاهليّة، وأن الأرض جعلت للمسلمين مسجداً وطهوراً.
وإذا كانتِ الحربُ نهاية السياسة، فإن المسلمين - عبر تاريخهم - جنحوا للسلم والاتفاقيات والصلح مع أعدائهم منذ العصر الأول، ومن خلال التاريخ الإسلاميّ المجيد.
7- لم يعد التدريب العسكريّ، وتوفير مستلزماته قاصِراً على المقاتلين والمجاهدين فقط، بل كانت المرأة المسلمة أيضاً تشارك في جبهاتِ القتال، وتوفّر مستلزماتِ المعركة، وتشدّ من أزر المقاتلين، حتّى أن أحد المؤرخين الغربيين، وهو (ادوارد جيبون) في كتابهِ (سقوط الدولة الرومانية) يكتبُ عن شجاعة المرأة المسلمة التي أظهرتها في حصار دمشق، ومِمّا قاله: "إن هؤلاءِ النساء اللاتي تعوّدن الضرب بالسيف والطعن بالرمح والرمي بالنبل، هنّ اللاتي إذا وقعت إحداهُنّ في الأسر تكون قادرة على حفظِ عفّتها وصون دينها من أيّ إنسان تحدثه نفسه بمراودتها بسوء". مجلة لواء الإسلام، السنة الخامسة، 1951م، ص407.
3- الثقة بين الحاكِم والمحكوم: والخطوة الأخيرة التي يؤكّدها كونفشيوس، هي قاعدة (الثقة)، ويقول لتلميذهِ الذكيّ: "إن الموت كان دائماً هو مصير النّاس، ولكنّم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة..".
والآن لننتقل إلى المرحلة الحاسِمة، مرحلة الثقة المتبادلة بين الحاكِم والمحكُوم، ولنقلب صفحاتِ السيرة النبوية المباركة، لنقفَ جميعاً أمام مشهد (غار ثور) حيث نفذ الرسُول (صلّى الله عليه وسلّم) أمر الله وإرادته بالخروجِ من مكّة متوجّهاً إلى يثرب، بلا قوة ولا حماية ولا جيش ولا عدّة، وأعداؤهُ يحيطُون به من كُلّ جانِب. ومعه صاحبهُ الصدوق أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) الذي يجزع، لا على نفسهِ، ولكن على المصطفى (عليه الصلاة والسلام)، وهو القائِل: "لو هلكتُ فإنما أنا رجل، وأن تهلك فإنما أنت أمّة".
في غمرةِ التعقيبِ والملاحقة، يقول الصديق داخِل الغار: "لو أن أحدَهم نظرَ إلى قدميهِ لأبصرنا".
وهنا تظهرُ الثقة المطلقة بالحاكِم - حاكِم الكون والحياة والإنسان - الله جلّ جلاله، مطمئن النفس، قوي اليقين: (يا أبا أبكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما)، ثم كانتِ السفرة الميمونة، والسلامة المطلقة، والوصُول الآمن إلى يثرب!
[إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](التوبة: 40).
ولننتقِلْ إلى موقِفٍ ثانٍ، من الثقة المطلقة، عندما نزل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ](المائدة:67).
ففي الصحيحينِ عن أمِّ المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان النبـيُّ (صلّى الله عليه وسلّم) يحرس حتّى نزلت هذهِ الآية [وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]. قالت: فأخرج النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم) رأسه من القبّة، وقال: (يا أيّها النّاس انصرِفُوا فقد عصمنا الله عزّ وجلّ).
وبقي (صلّى الله عليه وسلّم) محفوظاً بقدرةِ الله - سبحانه وتعالى - حتّى موعِد الرحيل إلى الرفيق الأعلى، بعد إكمالِ واجباته وأدائها على أكمل وجه وأتـمّ صورة، كما أمره الله سبحانه وتعالى [بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ].
وفي حجّة الوداع، وعلى جبل عرفة هبط جبريل (عليه السلام) ليكمل مهمته ويرحل، وجاء بالوحي المبين [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا](المائدة:3).
قال ابن جرير مات رسولُ الله (صلّى الله عليه وسلّم) بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً. 
ولننتقِلْ إلى يومٍ عصيب من تاريخِ الإسلام والمسلمين، يوم توقيع وثيقة (صلح الحديبيّة) والمناقشات والأحاديث الدائرة بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو الجرأة في الحديث مع رسُول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، كما جاء في كتب السيرة.
ففي الصحيحينِ أن عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) قال: فأتيتُ نبـيَ الله (صلّى الله عليه وسلّم).
فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟
قَالَ: (بَلَى).
قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟!
قَالَ: (بَلَى).
قلتُ: أَلَيْسَ قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهُمْ في النَّار؟
قَالَ: (بَلَى).
قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟
قَالَ: (إِنِّي رَسُولُ الله، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي).
قُلْتُ: أَوَ لَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوف فيهِ؟
قَالَ: (بَلَى). "أفأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تأْتِيهِ عامَك هذا».
قُلْتُ: لا.
قَالَ: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ).
فلم يصبِر عمر حتّى أتى أبا بكر (رضي الله عنهما) فسألهُ مثل ما سألَ النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، فقال له: يا ابن الخطّاب، إِنَّهُ لَرَسُولُ الله وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ، ولن يُضيّعه الله أبداً. 
قَالَ: فَنَزَلَتْ سُورةُ الفَتْحِ عَلَى رَسُول اللّه (صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ) فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَر فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّه، أَوَ فَتْح هُوَ؟
قَالَ: (نَعَمْ). فَطَابَتْ نَفْسه وَرَجَعَ. فقه السيرة، ط(4)، ص345. 
وإذا تتبعنا هذهِ الثقة المطمئنة في نفس الرسُول (عليه الصلاة والسلام) وأصحابه الكرام (رضوان الله عليهم) ظهر لنا قوّة التماسُك الاجتماعيّ والمحبّة والأُلفة في مفاصِل المجتمع الإسلاميّ الذي بات كالجسد الواحِد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى.
ومرّةً أُخرى نعودُ إلى رسالةِ كونفشيوس إلى الأُمّة في زمانه، وإلى الأجيال والمجتمعات والدول حتّى قيام الساعة، مؤكِّداً أهميّة القوت والطعام للأفواه الجائعة، والمصطفى ينادي: (لَيْسَ بِمُؤمنٍ مَنْ بَاتَ شبعانَ وجارُهُ إِلى جَنبه جائِع)(رواه الطبراني وأبو يعلى والحاكم مع اختلاف في اللفظ). ونعود إلى قوله تعالى: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ](العنكبوت:67). وقوله تعالى: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3)الّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ](قريش:3-4).
ولنختتم بمشهدٍ من المجتمع الإسلاميّ الرائِد في خلافةِ الفاروق (رضي الله عنه) وهو على المنبر يُنادي المسلمين: "مَنْ رأى منكم فـيَّ اعوجاجاً فليقوّمه". ويروى أن رَجُلاً قال له: "اتقِ الله يا عُمر"! فقال بعضُ الحاضرين من المنافقين الذين يدهنون في القول: أوَ تقولُ لأميرِ المؤمنين اتقِ الله؟! فغضبَ عمر الفاروق، وقال بصوتٍ صادق: "فلتقولوها.. لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها".
ولقد كان (رضي الله عنه) لفرطِ حبّه للحق، والحرص على أن يقومَ النّاس بواجبِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون العدل هو الذي يسود ويحكم، لا يرضى بالضيم ينزِل بأحدٍ من رعيته، ولا يرضى لأحدٍ من رعيتهِ أن يقبلَ الضيمَ، أو يروّض نفسَه على الرضا به، بَلْ كان يقول: "يُعجِبُني الرجلُ إذا سِيْمَ خُطَّة ضَيْمٍ أن يقولَ: لا، بِمِلْءِ فِيْهِ". رضي الله عنِ الحاكمِ المسلم، والمجتمع المسلم، والمواطِن المسلم، وأدام الثقةَ واليقين بالله سبحانه وتعالى. والحمدُ لله ربِّ العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق