07‏/06‏/2014

ثورة بين الحلم والواقع


عبدالكريم يحيى الزيباري


 لماذا تتمرد الجماهير على السلطة؟ متى انتهى عصر المواطن المسكين القانع بحياتهِ؟ لماذا لا يفهمون التمييز بين التفكير في مستقبل الثورة كحلم، وصعوبة التكهن بالاحتمالات السيئة؟ لماذا تعاملَت شعوب العالم مع الثورات بعقول لا تختلف عن العقول التي حاربت لأربعين سنة بسبب ناقة البسوس؟ وأربعين سنة بسبب فرسي السباق داحس والغبراء، والعقول التي كانت ترمي كلَّ عام فتاةً في النيل؟ هي عينها عقول القرن العشرين، التي تروم التحول الطبقي السريع من الأسفل إلى الأعلى. 



إنَّ من البيان لَسِحْراً
الجمهور يحتشد بكلمة، ويتفرق بأخرى، وإذا انضمَّ أحدهم إلى الحشد، يكون قد تنازل عن عقلهِ الفردي لصالح العقل الجمعي، الغارق في حالة انغلاق فكري، والمائل إلى مزيد من العنف والغضب. في 16/1/1979 غادرَ شاه إيران في إجازة، كان قادة الغرب مجتمعين في قمة الكاريبي، وقرروا أنَّ الشاه بات قضية خاسرة، وأنَّهم لن يتورطوا في إعادته كما فعلوا 1953. 1/2/1979 هبطت طائرة الخميني الفرنسية في مطار طهران وانقلبت الطاولة. بعد الثورة مباشرة شعر البيت الأبيض بالندم على تفريطه: لقد ضاعت إيران، كيف نستعيدها؟ لم يكن قادة الغرب يفهمون كيف يمكن لرجلٍ يبلغ الثمانين أنْ يُسَبِّبَ قلقاً ويهدد مصالحهم ضارباً بعرض الحائط جميع البرتوكولات والمعاهدات والقواعد الدبلوماسية، لا زال قادة إيران يرددون ما قاله الخميني: أينما حلت أمريكا وجد الإرهاب والفساد والطغيان والاغتيالات. التفَّ العلمانيون والليبراليون حول الخميني، باعتباره القائد الذي وحَّد الجماهير، وبدورهِ احتضنهم بحذر. لقدَ ضَيَّعَ الغرب دولاً كثيرة، بدعمهم للانقلابيين، أو الاكتفاء بمراقبتهم، انتقاماً من أصدقاء الأمس، وحفاظاً على مصالحهم. حَدَّدَ النظام الجديد للثورة الإسلامية، أعداد الشهداء الذين قتلوا على يد نظام الشاه بستين ألف، وبدأت إيران الخميني تعدم آلاف المؤيدين للشاه انتقاماً لهؤلاء الشهداء، ثم (أجرت مؤسسة الشهيد إحصائية، فوجدت أنَّ عدد من قتلوا من الحركة الثورية، منذ حزيران 1963، ولغاية شباط 1979، بلغ(2781). هذه الإحصائية التي لم تنشر أبداً) ، بينما نالت عمليات الانتقام عشرات أضعاف هذا الرقم، فضلاً عن تفكيك البنية التحتية: عسكريا، واقتصادياً، وسياسياً.
بمقدورنا تناول الثورات من قاعدة ذات وجهين: القدح نصف مملوء، القدح نصف فارغ، و" إنَّ من البيان لَسِحْراً"، يمدَحُ الإنسانُ مسألةً كالثورة، فَيَصْدُقُ في كلامهِ وَيُصَدَّق، حتى يصرِفَ القلوبَ إلى رأيهِ، ثم يذُمَّه كذلك، حتى يَصرِفَ القلوبَ إلى نقيضهِ. ومن الصعب التأكُّد فيما لو كان القدح فارغاً أم مملوءاً، ما لم تنسدل الستارة على الحقبة الزمنية، وتستقر الثورة، كالثورة الفرنسية التي تأخر نقدها كثيرا من قبل الفرنسيين أنفسهم.
القدح نصف فارغ
كانت إيران تُصَدِّر ستة ونصف مليون برميل يومياً من نفطها الخام، بمبلغ ربع مليار يومياً، ولديها خامس أقوى جيش في العالم، وحرية تعبير إلى حدّ ما، واقتصاد قوي، وأرصدة في بنوك العالم، وعلاقات جيدة مع الغرب والشرق. جاء الخميني، فوافق مجموعة طلبة شباب طائشين احتلوا السفارة الأمريكية، واحتجزوا 52 مواطناً أمريكياً لمدة 444 يوماً، وأبلغَ الطلبة الذين احتلوا السفارة: لقد سيطرتم على المكان الصحيح، تمسكوا به. وخطب في الشعب مفتخراً: (لقد سيطر شعبنا على بؤرة الفساد، واحتجزوا الأمريكيين هناك، ولا تستطيع أمريكا عمل شيءٍ). استعرضَ الطلبة أسراهم من الدبلوماسيين الأمريكيين، فشعرَ الغرب بالذلِّ والهزيمة، كان الخميني يعاقب جيمي كارتر بقوة وقسوة، لسماحه للشاه بالدخول إلى أمريكا لغرض العلاج، وخرجَ الشاه من أمريكا، لكن الخميني لم يطلق سراح الرهائن، ومات الشاه في مصر بتاريخ 27 تموز 1980، ومع ذلك لم يوافق الخميني على إطلاق الرهائن. ولم يطلق سراحهم إلا بعدما غادر جيمي كارتر البيت الأبيض بتاريخ 20/1/1981، وتحت طائلة ضغوط كبيرة، أهمها: أن الجيش العراقي كان قد احتلَّ الأهواز وقصر شيرين والمحمرة ومساحات شاسعة. ربما ظنَّ الخميني أنَّ الرئيس المقبل رونالد ريغان لن ينسى أبداً دوره في فوزهِ في الانتخابات. لا زالت إيران إلى اليوم تدفع ثمن هذه الغلطة، ولم تتحسَّن علاقات إيران مع الغرب، ولا زالت الثقة مفقودة، وأقحموه في حربٍ دامت ثماني سنوات، استنزفته وشعبه.
القدح نصف مملوء
بسبب هذه الأزمة استطاع الخميني أنْ يتخلَّص من التيار اليساري داخل حكومته، والذين كانوا شرارة بدء الثورة، وكان لهم دورٌ كبير في استقرارها، وَبَدَا للعالَم أنَّهُ أذلَّ الولايات المتحدة، وأنه غير خائفٍ، ولا مبالٍ بتهديداتها، كما وعزَّز موقفه بتخلصه من المناوئين، أو الذين يشككون في حكمته. في الجانب الآخر وجدَ الغرب التبرير الذي ينتظرونه للدخول بالقوة إلى المنطقة، ولم يخرجوا منها إلى الآن، انتشرت في العالَم عمليات خطف الرهائن، وفرض الشروط، مع استفادة كل الأطراف: أمريكا تزود إيران بالأسلحة في (إيران كونترا) بحجة الرهائن. إيران تحصل على حاجتها من الأسلحة عن طريق إسرائيل. واستخدام أموال صفقة تهريب السلاح، لتمويل حركات "الكونترا"، المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا. 
احتلَّ الحلفاء(بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) إيران في 25/8/1941، وأطاحوا بالشاه رضا بهلوي، خوفاً على منابع النفط، لأنَّهُ أفصحَ علناً عن ميولهِ إلى هتلر، وقاموا بتنصيب ابنهِ محمد رضا بهلوي، البالغ أربعة وعشرين سنة، الذي عزل حكومة جمشيد آوموزكار، وأمرَ جعفر شريف إمامي بتشكيل حكومة جديدة، أسمت نفسها بحكومة الوحدة الوطنية. تعامل الشاه مع الجميع بغطرسة: حالما يظهر، أو يتحدث، ينحنون راكعين، وإذا اقترب ينحنون ثانيةً لتقبيل يدهِ، التي لا يسمح بتقبيلها إلا لرئيس الوزراء والوزراء ورفيعي الدرجات. ينادونه بشاهنشاه، أي ملك الملوك. عاشَ بعيداً عن شعبهِ، كنصف إله، محاطاً بجهاز أمني قمعي، وخامس جيش في العالم. لم يخفِ أبداً إعجابه وترويجه للثقافة الغربية، غير مبالٍ بمشاعر شعبهِ المسلم. أنفقَ المليارات في شراء أسلحة متطورة، أهملَ الجبهة الداخلية، غروراً بجيشهِ، واستغناءً بقوته، التي ظنها ستمنحه سيطرة تامة، لكن القوة والأمن ليسا رديفين دوماً. الشعب الإيراني اعتبرَ الشاه انقلابيا عميلاً، لأنَّ المخابرات الأمريكية ساعدته ضد مُصَدِّق 1953، الذي أمَّم النفط. وانقلبَ الشاه ضد طبقة الأعيان وملاك الأراضي، من زعماء القبائل، الذين كانوا ناقمين لفشله في إنجاز وعودهِ بتحسين الخدمات والاهتمام بتطوير القطاع الزراعي، فحدثت هجرة من الريف إلى المدينة، وانتشرت العشوائيات، مع زيادة النمو السكاني. ولوقوفهِ علناً مع أمريكا في قضايا حساسة، كفلسطين وفيتنام، وافتخارِه بكونِهِ رجل شرطة الولايات المتحدة في الخليج. اعتبره الشعب كياناً أجنبياً غريباً عنه، تراخت قبضته الحديدية بعد رحيل مستشاريه الدهاة، وإصابته بالسرطان الذي أحبطه. كُتِبَت مظالمه ومفاسده في ورقة نشرتها المعارضة في باريس 1976، بمناسبة نصف قرن على حكم أسرة بهلوي، بعنوان: (خمسون عاماً من الخيانة)،كتبها أبو الحسن بني صدر، متهما النظام بخمسين جريمة اقتصادية وسياسية، كان أهمها تدمير القطَّاع الزراعي، بفتح الطريق أمام التجار لاستيراد المنتجات الزراعية الأجنبية، مع نشر ثقافة إمبريالية رأسمالية، سيطرت على المؤسسة الدينية. ومع مجيء جيمي كارتر، وتركيز سياسته على حقوق الإنسان في العالم، هاجمت صحف الغرب نظام الشاه، باعتباره الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان في العالَم، فاضطرَّ لتقديم تنازلات: أصدرَ عفواً، وأرخى الحبل الأمني. انتشرت مقالة بني صدر بين الناس. كان الخميني يشنُّ حربا مقدسة ضد الشاه من العراق، لغاية أيلول 1978، عندما أبلغه وزير الخارجية العراقي بوجوب مغادرة العراق، فلجأ إلى الكويت، التي تعرضت لضغوط، فلجأ إلى فرنسا. بدأ يُحرِّض الشعب الإيراني من فرنسا، فأحرجَ الرئيس جيسكار صديق الشاه وحليفه، فاضطرَّ للتصريح أنَّ فرنسا لم تمنح الخميني حق اللجوء السياسي، إنَّما هو أجنبي مقيم، وأرسلَ موظفا لتحذير الخميني بوجوب وقف نشاطهِ الإعلامي المضاد للشاه، فأجاب أنا أكتب رسائل إلى إيران، وما يفعله الناس هناك لا دخلَ لفرنسا به. بدأ اليسار إضراباً مدنيَّاً بمباركة الخميني.
المنايا على الحوايا
أرسل السفير الأمريكي رسالة عاجلة إلى واشنطن: الشاه في خطر. عقد جيمي كارتر اجتماعاً طارئاً، قال مستشار الأمن القومي زبيغنيو بريجنسكى: إذا سقط الشاه، ستضطرب المنطقة كلها، يجب أنْ يَستخدم القبضة الحديدية. اقترح سايروس وزير الخارجية، ومساعده وارن كريستوفر، مساعده لشؤون الشرق الأوسط، أنْ يعلن الشاه عن انتخابات مبكرة، مع بعض الإصلاحات، لاستعادة ثقة الشعب. كانوا متفقين حول وجوب إنقاذ الشاه، منقسمين حول الكيفية. كانت رسالتهم إلى الشاه مزيجاً لعدة مقترحات، بدت غير واضحة، فاستدعى السفير الأمريكي، وسأله: هل تريد أمريكا أنْ أتَّخِذَ تدابير حاسمة بقمع الثوار، أم لا؟. أجاب السفير: ليست لديَّ تعليمات بهذا الخصوص، يا صاحب الجلالة. بقي الشاه قلقاً محتاراً، وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفرصتهِ. وقبل ذلك بسنوات رفض الشاه عِدَّة مقترحات بضرورة اغتيال الخميني، خوفاً من ردَّة فعل المجتمع الدولي، وتحوله إلى رمز. كان الملك مرهقاً كئيباً، وظهر على شاشة التلفزيون يخاطب شعبه: (بصفتي شاه إيران، وكإيراني لا يمكنني الاعتراض على ثورة شعبـي، وأتعهد بالالتزام بالدستور وإرادة الشعب، ولن أسمحَ بالظلم والفساد). وذهب الشاه في إجازة طويلة. تحركت أمريكا لتثبيت موقف قادة الجيش الإيراني، بإرسال الجنرال روبرت هايزر، ليتباحث مع جنرالات إيران بوجوب حماية نظام الشاه، بسؤال: هل لديكم خطة بديلة لاستعادة النظام، إذا تفاقمت الأوضاع؟ لم يكن لديهم خطة، لأنَّ الشاه كان سيعتبر خطة من هذا النوع محاولة للإطاحة بعرشهِ. غادر الجنرال روبرت هايزر طهران دون مقابلة الشاه، الذي كاد يجن، وفهم هذا بصورة خاطئة: أنَّ أمريكا قد تخلت عنه، وقال: هذا النكرة جاء لمقابلة قادتي، كأنَّهُ يقول لي وداعاً. قبل أنْ يغادر الشاه، قام بتعيين رئيس وزراء جديد، ومعارض سابق لنظامهِ، وهو شابور بختيار، الذي وعد بتسوية الخلافات بين الشعب والملك، وكان مهمة مستحيلة، خاصة وأنَّ الشعب يزداد قوة، والملك يزداد تراجعاً. غادر الشاه وزوجته طهران، والبلد يغلي، وقال لوسائل الإعلام: أنا أشعر بالإرهاق، وبحاجة إلى استراحة. أحد قادة الجيش رمى بنفسهِ عند أقدام الشاه، وطلب منه ألا يغادر، فوعده الشاه: سأعود. منتظرا من حلفائه أنْ يعيدوه إلى عرشهِ، وقديما قالوا: ما حكَّ جلدك مثل ظفرك. وجَّه كارتر رسالة إلى الخميني، يطلب منه تأجيل عودته إلى إيران، لمنح رئيس الوزراء بختيار الفرصة لاستعادة النظام، الذي إذا سقط، سيتدخل الجيش، ويقع ما لا يُحمد عقباه. الخميني فهم الرسالة، وانتبه لخطورة تدخل الجيش، فاشتغل بالضد منها، طلب من الشعب عدم استفزاز الجيش، وطمأنتهم بتقديم الزهور لهم، تحت شعار: (نرميكم بالزهور، وترموننا بالرصاص)، وطلب من قادة الانتفاضة طمأنة قادة الجيش وكسبهم. كثير من أنصار الخميني، وخاصة الجنود المكلفين بالخدمة الإلزامية، انسحبوا إلى منازلهم، فأنشئت مراكز لاستقبال المنسحبين. وصلت الأنباء بأن طهران أمينة ومستعدة لاستقبال عودة الخميني، وخوفاً من استهداف الطائرة اصطحب الخميني صحفيين أجانب معه في الطائرة، والقى خطاباً: (لن أنسى أبداً حسن ضيافة فرنسا، وشعبها الصديق، ودعمهم للحرية)، وغادر بطائرة فرنسية إلى طهران. في الطائرة سلم مستشاره الطبطبائي ملفا فيه رؤيته لدستور الجمهورية الإسلامية، والذي بدوره سلم الملف إلى صحفي ألماني، وقال له: احتفظ بهذا الملف، إذا قتلنا أو اعتقلنا. في 1/2/1979 وضعَ الخميني نهاية للحكم الملكي في إيران، والذي استمرَّ آلاف السنين، هذا الاستمرار الذي كان الشاه يُبرِّرُ أخطاءه للغرب: هؤلاء لا يريدون إلا ملكاً بهذه الصورة، لقد اعتادوا على هذا النوع من الحكم منذ آلاف السنين. في أول خطاب قال الخميني: (سوف أحدد نوع الحكومة، وستكون حكومة لخدمة الشعب، وسوف أوجِّه صفعة للحكومة الحالية). بدأ الثوار يهاجمون مراكز الشرطة والجيش، وكلما سقط أحدها استولوا على الأسلحة، وازدادت أعدادهم وقوتهم، بعد عشرة أيام اجتمعَ قادة الجيش، وكتب الجنرال حاتم مسودة قرار بقاء الجيش على الحياد، منعاً لوقوع حرب أهلية، ووقَّع الجميع عليها، واتصل أحدهم بمكتب الخميني لإيقاف القتال. هرب رئيس الوزراء، وتمَّ إعدام الكثير من المقربين للشاه بسرعة. وجَّه البيت الأبيض بتخفيض أعداد العاملين في سفارته من ألفي موظف إلى مائة. الشاه طلب اللجوء إلى أمريكا، رفض الجميع وأصرَّ كارتر على الموافقة، وسأل: ماذا سنفعل إذا احتجزوا موظفينا كرهائن؟ في الأول من نيسان صَوَّت الإيرانيون على تحويل إيران إلى جمهورية إسلامية، وطالبت بعودة الشاه، لإعادة محاكمته. كان الشاه يطوف بلدان العالم طالباً اللجوء، والجميع يرفض، فوجَّه رسالة ثانية إلى كارتر عن إصابته بسرطان في مراحل متأخرة، وطلب العلاج والتشخيص. وافق كارتر على دخول الشاه للعلاج. أخبرت أمريكا وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي بذلك، وطلبوا تأمين السفارة الأمريكية، فأجاب: سأفعل ما بوسعي، لكنكم تلعبون بالنار، أنتم تفتحون صندوق باندورا. في 1/11/1979 التقى يزدي مع بريجنسكي في الجزائر، وكانا حاضرين بمناسبة الاحتفال بعيد الاستقلال، طمأنَّه الأخير بعدم وجود خطط لاستغلال وجود الشاه ضد النظام الحالي في طهران، طلب يزدي السماح لأطباء إيرانيين بفحص الشاه. وجد بريجنسكي هذا الطلب تشكيكاً في مصداقية أمريكا، فرفضه. رد يزدي: نحن نفهم أنكم تنطلقون من أسباب إنسانية، لكن الشعب الإيراني لا يصدق. مجموعة طلبة اقتحمت السفارة الأمريكية، وأفسدت العلاقات إلى يومنا هذا، لإرغام أمريكا على تسليم الشاه، لحاجة الثورة إلى هذا النصر الرمزي على أقوى دولة في العالم. كان أحمدي نجَّاد ضمن المجموعة، لكن يقال إنَّه اعترض على العملية، مبررا(ذلك سيقوي نفوذ الاتحاد السوفيتي، التهديد الأكبر للثورة من الروس والماركسيين، وسيحقق الشيوعيون من حلفاء الثورة مكاسباً حقيقية على الأرض). الخميني أيَّدَ الفكرة، وأعجبته صرخات الجماهير الغاضبة، وهي ترى الطلبة يستعرضون أسراهم من موظفي السفارة الأمريكية: الموت للرهائن، الموت لأمريكا. أحد الرهائن قال: كنا كقرود سجينة في حديقة الحيوانات. لو أنَّ الخميني استنكر احتلال الطلبة للسفارة الأمريكية، لكانت نفس الحشود قد خرجت تهتف بإنسانية الإمام ورحمته، وتهتف: الموتُ للمختطفين، الموت للمجرمين. ضرب الخميني بقواعد السلوك الدبلوماسي عرض الحائط. عقد مجلس الوزراء الإيراني جلسة طارئة، وتقدموا باستقالة جماعية، فرح بها الخميني، إذ تخلَّص من العناصر المعتدلة، ومن الشخصيات ذات الميول اليسارية، وبعد شهرٍ واحد أعلن نفسه المرشد الأعلى للثورة، مما أتاح لنفسه سيطرة تامة على مصادر القرار إلى أصغر المستويات. وجَّه جيمي كارتر إنذاراً: (إذا تأذَّى أحد الأسرى، سنحاصر الموانئ، ونوقف جميع التعاملات التجارية لإيران مع العالم الخارجي، وسنرد بعمل عسكري في حال قتل أيَّاً من الرهائن). وبدأت وفود الإعلاميين الأجانب تترى على طهران لمقابلة الخميني، سأله أحد الإعلاميين: (- س: هل أنتم في حالة حرب مع الولايات المتحدة؟ ماذا تعني بحالة الحرب؟ إذا كنتَ تعني أنَّ جيشنا في مواجهة الجيش الأمريكي، الجواب: لا. إذا كنت تعني حرب الأعصاب، الجواب: نعم، لكنها من صنع الرئيس كارتر. س: كارتر يرفض إعادة الشاه، والخميني يرفض إطلاق سراح الأسرى، ماذا بعد؟ ج: لن أناقش هذه المسألة معك، ولن أصغي لهذا السؤال). ثلاثة شهور من المحاولات الدبلوماسية الفاشلة لإطلاق سراح الأسرى، فرضت أمريكا عقوبات اقتصادية على إيران، وجمدت أرصدتها، وحظرت وارداتها النفطية، فخطبَ الخميني في شعبهِ: (نحن لا نخشى العقوبات، نحن لا نخشى الغزو العسكري، الذي نخشاه هو غزو الانحلال الأخلاقي الغربي). كان الأسرى يتعرضون للتحقيق والتعذيب، ونشرات الأخبار في أمريكا والعالم تتابع يوميا تطور الموقف. كان الشاه قد أنهى فحوصاته، وغادر الولايات المتحدة، لكن الخميني ظلَّ مصراً على موقفه. بَدَا العالم يسخر من أمريكا، القوة العظمى، وهي عاجزة عن التعامل مع أزمة الرهائن، وخطبَ كارتر: (لا أعلم كم من الوقت علينا الجلوس هنا ننتظر، بينما يعاني أسرانا في طهران). وضعَ الجنرالات خطة عسكرية لإنقاذ الرهائن: 14 طائرة تقطع مئات الأميال داخل إيران، تتزود بالوقود جواً، ثم تنطلق ثمان طائرات مروحية تحمل الكوماندوس، لعملية إنزال جوي على السفارة، مجموعة أخرى تسيطر على قاعدة جوية خارج المدينة، ليتم منها نقل الرهائن، هذه الخطة المعقدة لم يطلع عليها غير الرئيس وكبار مستشاريه. شَكَّكَ وزير الخارجية سايروس: هذه المهمة لن تنجح. سأل كارتر مساعده كريستوفر: ما هي الخيارات الدبلوماسية المتاحة؟ انطلقت المروحيات من الخليج العربي مسافة خمسمائة كيلو متر عن موقع السفارة، حلقوا منخفضين، لئلا يكشفهم الرادار، فتعرضوا لعاصفة رملية، تحطمت مروحيتان، وصلت البقية إلى نقطة التزود بالوقود في الصحراء، اكشتفوا أنَّ طائرة ثالثة قد أصيبت بأضرار، لم يبقَ غير خمس مروحيات من أصل ثمانية، صدر قرار إلغاء المهمة، وترك المعدات في الصحراء، وإعادة الجنود، وعندما حلَّقوا عائدين اصطدمت إحدى المروحيات بطائرة التزود بالوقود، لقيَ خمسة طيارون وثلاثة جنود كوماندوس مصرعهم. هذه المأساة في عام الانتخابات اعتبرها كارتر كارثة سياسية. كان الكونغرس لا يعرف شيئاً عن هذه الكارثة. كلَّف كارتر نائبه بإبلاغ بعض أعضاء الكونغرس، قبل نشرة الأخبار الصباحية. في السادسة صباحاً خطبَ الرئيس الأمريكي كارتر، وحمَّل نفسه مسؤولية الخطأ: (كان قراري تنفيذ مهمة الإنقاذ، كان قراري سحب القوات بعد وقوع الخسائر البشرية). وخطب الخميني: (مَنْ الذي أسقط مروحيات كارتر؟ لم نكن نحن، إنَّها إرادة الله). وكان الجيش الإيراني في حالة فوضى، بعد تغييب قادته بالإعدام أو النفي والإبعاد. هذه المعلومات المؤكدة وصلت العراق عن طريق دول الخليج، وفرح بها صدام حسين، فراح يهدِّدُ بالحرب، ردَّاً على السلوك العدواني الذي انتهجته طهران، بخطابها الموجَّه إلى الشعب العراقي بوجوب الثورة على النظام العلماني الكافر في بغداد، بعد أسبوعٍ واحد من وصول الخميني إلى طهران. كانت إيران في فوضى عارمة، لكنها تسببت بكثير من المشاكل الأمنية في بغداد. وفي نفس الوقت اتخذت طهران خطوات تقارب مع نظام البعث في دمشق، باعتباره حليفاً إستراتيجياً، ولا زال. وقبل ذلك أرسلت واشنطن نائب وزير الدفاع الأمريكي للقاء الرئيس البكر في بغداد، لتحريضهِ ضد إيران، وإنهائه الوحدة مع سوريا، التي كانت تسبب قلقاً لإسرائيل، لم يقتنع البكر، وبدا صدام مقتنعاً بالفكرة أكثر منه، حين التقى به المبعوث الأمريكي. وقال في أحد خطاباته قبل الحرب: سوف أسحب الخميني من لحيته إلى خارج إيران. قيل للخميني من قبل مستشاريه: يجب أنْ تتجنَّب حرباً مع العراق، نحن محاصرون وجيشنا بحاجة إلى قطع غيار، ولا دولة صديقة بالجوار، فاقـتنعَ الخميني بضرورة إجراء مفاوضات مع أمريكا على أرض محايدة في ألمانيا الغربية. وعرض صادق طبطبائي شروط الخميني: استعادة الأموال المجمدة، استعادة الأموال المدفوعة للبنتاغون، في عقود الأسلحة، التي لم تصل أبداً. المجمدة كانت خمسة مليارات دولار. وافق كريستوفر، وانتهت مفاوضات اليوم الأول. في اليوم التالي طلب صادق طبطبائي استعادة أموال الشاه في المصارف الأمريكية، والمقدرة عشرين مليار دولار، أجاب كريستوفر: (هنا توجد مشكلة، بموجب دستورنا ليس بمقدورنا إعادة أموال مملوكة لآخرين، ولكن سوف أستشير حكومتي وأرد عليكم). في 22/9/1980 بَدَا كارتر مرتاحاً من مسألة إمكانية إعادة الأسرى، ليدخل الانتخابات في تشرين الأول، لم يستطع صادق طبطبائي الهبوط في مطار طهران، لأنَّ العراق قام بقصفه، وأنَّ سبعين ألف جنديّ عراقي عبروا الحدود، طهران قطعت المفاوضات، متهمين أمريكا بالوقوف وراء الحرب، وكانوا على صواب إلى حدّ ما. كان صدَّام قد وعدَ بحرب لستة أيام يصطاد فيها الخميني، كما وعدته أمريكا، ووافقه جنرالاته. وكانت فرصة للغرب لاختبار الأسلحة الروسية على أرض الواقع. بعد ستة أيام من توغل الجيش العراقي بسرعة داخل إيران، قرر مجلس الأمن وقف إطلاق النار، كما وعد الغرب، لكن دون الإشارة إلى وجوب انسحاب الجيش العراقي. شعرت إيران بالظلم، لماذا لا يدين مجلس الأمن دولة تغزو دولةً أخرى؟ شعرَ العراق أنَّ الغرب غير جادٍ في مسألة إيقاف الحرب، هذا الشعور الذي لم يجرؤ أحدٌ على التصريح بهِ، ولا حتى صدام، كي لا يبدو لشعبهِ بمظهر الأمير ميشكين.
الهوامش:
  أروند إبراهيميان- تاريخ إيران الحديثة- ترجمة مجدي صبحي- عالم المعرفة- شباط 2014- الكويت- ص221.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق