07‏/06‏/2014

التسامح والتعصب.. رؤية من الداخل

أ.محمد رشدي عبيد
التسامح بمعنى الصفح والمغفرة forgive وقبول الاختلاف tolerance له جذور كامنة في النص المقدس، وله تاريخه الفكري والسياسي والاجتماعي، وهو جسر المستقبل، وقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها المرقم 51/ 95 - في ديسمبر 1996، وبمبادرة من مؤتمر اليونيسكو سنة 1995- اعتبار يوم 16 نوفمبر يوماً عالمياً للتسامح. وقد كتب كتاب غربيون عن التسامح، مثل: (اسبينوزا) الذي دعا إلى حرية التفلسف، وأنها لا خطر منها على التقوى والسلام.. و(جون لوك) الذي لم يجد عذراً لاقتحام الحقوق المدنية باسم الدين، وأكّد (كانت) دور العقل في التنظير الديني، بينما كتب (فولتير) رسالة في التسامح سنة 1763، مبيناً أن اللاتسامح هو الذي يؤدي إلى الاقتتال، أمّا (مِل) فقد نفى أن يمتلك أحد الحقيقة الدينية الوثوقية المطلقة.. وكل هذه النظرات يمكن مقاربتها والاستفادة منها لتأسيس منهج للحوار والتعليل والتفاهم بين الحضارات والأديان والفرق والأقوام والجماعات والأفراد. وهو أي مبدأ التسامح وإن لم يكن عصا سحرية لإنهاء كل خلاف، لكنه بداية وخطوة في طريق التعايش والتلاقي.. 
وبما أن عالمنا بتحولاتٍ فكرية يكاد يقترب من الأزمة، ويتخذ طابعاً إشكالياً، فظروف الحياة، والنشأة، والعائلة، ومناهج التعليم والإعلام والثقافة، ومذاهب الفكر و السياسة.. أنتجت وتنتج طرقاً مختلفة في التفكير والحكم على الأشياء.. وفي غياب المفكرين ذوي الرؤى الجامعة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، نخشى أن يذكرنا -ونقولها بمرارة، ومع الاعتذار- بقصة العميان الذين وصفوا الفيل عن طريق اللمس، كلٌّ وصفه بشيء محسوس من عالمه، حسب الجزء الذي لمسه من جسده.. وتنبع تلك المرارة في كون التصلب على رؤية جزئية للأمور، قد يؤدي إلى التعصب من قبل الرائي، والنفور والكراهية من الآخر.. ومن ثم توظيف الفكر والطاقات والنصوص لشرعنة هذه الرؤية ومنهجتها والذب عنها، وإغفال حق الآخر في التفكير بنمط مخالف، أو مكمل لنمطه.. فالكلّ ينادي بالإصلاح.
وكلٌّ يدعي وصلاً بليلى 
وليلى لا تقر لهم بذاكا
ففي المجال الفكري نجد مدارس شتى في إطار التوجهات الإسلامية.. وفي البعد الآخر الوضعي نلقى مذاهب متعددة، وهذا يذكرنا بتقييم موضوعي لـ(النورسي) للفرق الإسلامية، بأن كلاً منها يحمل حبة من الحقيقة، وكذلك النسبة لأصل التوجهات ذات المرجعية الإنسانية، فالعلمنة إذا كانت تعني التمذهب بمذهب العلم، فالعلم لا يناقض الإيمان، وإن كان يراد به جعل الدنيا بؤرة الاهتمام والبحث والانتفاع، فذلك لا يعارض توجهات دينية أصيلة، تؤصل للدنيا بحجم ومساحة لا يستهان بها، وللميتافيزيقا تجعل وزنها ومداها في التصور، ومراعاة ندائها في الفكر والحركة.. ومن قبل غيّر (د.زكي نجيب محمود) عنوان كتابه من "خرافة الميتافيزيقا" إلى " الموقف من الميتافيزيقا".. وقرر (جارودي) أن الإسلام كموقف من الحياة وعراكها وحراكها، ليس أفيوناً للشعوب، بل خميرة لتقدم العالم.. وعتب الكثير من العلمانيين على الوسائل الفظة، المحسوبة على المذهب العلماني، في تحديث شعوب المنطقة.. منهم (د.برهان غليون)، وقد دعا (د.علي حرب) إلى الاهتمام بالمشاعر والرؤى الدينية في عمليات التنمية والتطور، كما لم ينكر أثر الدين (د.أركون) و(نجيب محفوظ)، وغيرهم، في مقابلات خاصة. 
أما الليبرالية فلا ينكر أحد أصل دعوتها إلى الحرية، لكن عدم ضبط النمو الاقتصادي، وتأليه السوق، وقانون العرض والطلب، يفقد الشعار ذوقه الجمالي، وإطاره المجموعي، وحجم التنظير للآخر في تقنيناته. ومن هنا نجد بعض المفكرين يدعون إلى ضرورة الرؤية الاستراتيجية للشعوب، وتنمية أفرادها، ومواهبهم، ومواردهم، وأن يكون هناك تكافؤ في الفرص، ومساواة في توفيرها.. فلا تتضخم حرية البعض على حساب الآخرين، وخاصة عموم الشعب، ومصالحه، وعقله الجمعي.. وإذا كان البعض قد دعا إلى عالم ذي عقول مفتوحة، وحدود مفتوحة، وأسواق مفتوحة، وحكومة عالمية، فإن ذلك لا يجب أن يكون على حساب هُويات الشعوب ومصالحها. 
فإذا جئنا إلى الخارطة المذهبية، نجد اتجاهات مختلفة: سلفية، وصوفية، وحركية، وفقهية، حتى درج بعض الكتاب على القول: إن هناك إسلامات شتى، وأضافوا إلى تطبيقاته في الحقل العام أسماء أخرى، كالتجربة التركية، والماليزية، والعربية، وهناك الإسلام السني، والشيعي، والسعودي، والمصري، والباكستاني، وإن كان ينكره (القرضاوي)! ويرى (د.نصر حامد أبو زيد) أن سبب ذلك هو أن حضاراتنا حضارات نص، وأن التمحور حوله هو الذي أنشأ هذه الخرائط المذهبية، ويشبهون المدارس الحالية بالمدارس التاريخية، كالخوارج، والمعتزلة، وأهل الحديث، والشيعة.. لكن النص يأمر بالوحدة، وينهى عن التفرق والاختلاف، فهل أن سبب ذلك أن النص في تفاصيله حَمّال أوجه، كما يُروى؟! إذ استشهد (د.الطيب تزيني) في رده على (د.البوطي) بهذه الرواية، التي تروى عن الإمام علي (كرّم الله وجهه)، في معرض محاولة إثبات مرونة النص، ودواليه، التي يراها مفتوحة، كما يقرر (رولان بارت) في مذهبه، وهل نتفق على أن لا نتفق؟ 
إن حديث الفرق حديث ليس في مرتبة روائية تسمح - حتى على فرض صحته- أن تثار به الانقسامات، ما وسع الأمر الدخول في ملة واسعة، تستوعبها الأصول المحكمة للدين.. فهو لم يروه الإمامان (البخاري ومسلم)، مما يدل على كون رواته في سلم توثيقي أوطأ، فقد صحح الإمامان أحاديث أُخرى غير هذا الحديث، بل نفى (ابن تيمية) أن تكون الفرق التاريخية السالفة، التي تقاس عليها الفرق المعاصرة، هي المراد بهذه الفرق، واستشهد بآيات على أن القرآن توعد بالنار مرتكبـي بعض الذنوب، لكنهم لا يحتم عليهم أن يشملهم العذاب، لحسناتهم المكفرة، أو لتوبتهم. وفضل (الشاطبـي) في (الموافقات) عدم تعيين هذه الفرق، أو مثيلاتها. واعترض البعض على هذا العدد، مع كون الأمة - بنص القرآن - خير أمة. 
ويمكن مراجعة كتاب (أضواء على حديث افتراق الأمة) لمؤلفه (عبد الله يوسف) لمزيد من وضوح الرؤية وعمق النقد التحليلي. وإذا كان أصحاب كل مدرسة قابلين للخطأ، فما على العلماء إلا مناصحتهم والرفق بهم. فالعلامة (زاهد الكوثري) استدرك على خمسمائة حديث صحّحها (الألباني). كما صدر كتاب من ثلاثة أجزاء لبيان تناقضات (الألباني). فإذا فهم البعض بعض الآيات التي تحض على المشاركة السياسية، التي هي نشاط بشري لا يستغنى عنه لإدارة أمور المجتمعات، فَهِمُوا منها لوناً من التجمع لصالح المجتمع المادي والمعنوي والحضاري، ولفتح رؤية الشعوب على منافعها، مع عرض برامج واضحة، ومشاريع مقنعة، لرفد التقدُّم والتنمية، وإبقاء جدولة القيم، بدون تعصب، أو انغلاق، أو استعلاء، أو تهميش للآخر، أو تمزيق لوحدة المجتمع، فإن وجودها قد يكون نافعاً. 
وقد اعتبر (البوطي) السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهباً، وأنه انبعث من جديد كردّ فعل على البدع والخرافات وشكليات المذاهب والجمُود الفكري. وكان قدراً أن يتظلل المفكرون الإسلاميون، مثل: (الأفغاني) و(عبده) و(رشيد رضا) بمظلة السلفية، خاصة في (مصر) و(الحجاز)، كموديل مذهبـي، في مواجهة الفلسفات الغربية، وتحدياتِ المعاصَرة. وهذا لا يعني فرض هذا المذهب، بكل حيثياته وانبعاثاته، على الجميع، بحيث يتحوّل التمذهب إلى أرجوحة نوم ورقاد وبُعد عن صراع الحياة، كما يقول (البوطي). أو يغدو سبب القطيعة المعرفية والحياتية بين المسلمين، وسيفاً مصلتاً لإلغاء الآخر، أو الحط من تدينه، ما دام لا غبار عليه ولا شبهة ولا خيانة. كما أن هناك قواعد قرآنية، واستدلالات حديثية، على أن المؤمن يكفّر عنه بأعماله الإيجابية الصالحة، وبما يصيبه من إشكالات ومصائب يصبر عليها، كما أنه هناك الاستغفار والتوبة، التي لا تغلق أبوابها، إلا إذا حضر أحدهم الموت، كما أشار (ابن تيمية). 
فحتى (الإمام علي) لم يكفر (الخوارج)، وقال إنهم إخواننا بغوا علينا، كما هو معلوم.. ونقل (الآلوسي) عن (ابن تيمية): "فليس كل من أخطأ يكون كافراً، ولا فاسقاً، ولا عاصياً، بل عفا الله لهذه الأمة الخطأ والنسيان"(1). وذكر في (منهاج السنة) ج5 ص 104 أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول لا يكفّر، بل ولا يفسق، إذا اجتهد فأخطأ في المسائل العملية، وعمّم ذلك على مسائل العقائد، أنه لا يكفر المخطئون فيها. وقد اعتبر المذاهب الظاهرة في عصره من أهل البدع والأهواء، ولم يدع إلى استئصالهم، بل إلى الحوار معهم. كما أن (الإمام أحمد)، الذي يعتبر ناصر السنة، طلب أن يكف عن أهل القبلة، ولم يكفر أحداً منهم بذنب، ولم يخرجه عن الإسلام بعمل، كما ورد في (طبقات الحنابلة) لـ(ابن أبي يعلى). إن بعض دعاة الإصلاح، في العصر الحديث، تورّطوا، لأسباب يعلمها الله، أو لانخداع بدعوتها إلى الشعارات الإنسانية، في تنظيمات الماسونية، وهم قد أفضوا إلى ما قدموا، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. كما أن البعض من الراغبين في عدم تهدم بنى الدولة والمجتمع، ومؤسساته، وضرب أمنه واستقراره، يعتبون على الدعوات الثورية ما أحدثته حركاتهم من مضاعفات أمنية واجتماعية، فعسى أن يتخذ الإصلاح قنوات آمنة ورسمية لدعواتهم، وأن يستجيب المسؤولون لطلباتهم المشروعة في الإصلاح والتقدّم والتنمية والعدل والرفاه والحرية وثبات القيم. 
إن المدرسة السلفية بحثت عن جذورٍ لمواجهة الآخر، ولغرس فكرة التوحيد، لكنّها أحياناً تغلو في الحكم على الآخر، ويقدس بعضهم التراث كله، وتبرز الجزئيات القائمة على علم الرواية، الذي هو في جانبه الفني علم إنساني، على حساب مصالح عديدة للمجتمع، وتحديات، تحاول اقتلاع أصول الإيمان، فضلاً عن أنها صارت سلفيات عدة: سياسية وحركية. وبعض الاتجاهات السلفية، كسلفية (رشيد رضا)، أقرّتِ الاهتمام بتمدن الغير المعرفي والتقني والذرائعي، وأقرّت -كما يقول (د.فهمي جدعان)- على أن مُضاهاة العالم الحديث لا بُدَّ أن تتوسّل بأدواته، وببعض قيمه أيضاً. كما أن السلفية التاريخية نزعة إنسانية، تنكر التضييق والشدة والتقنيط، ولا تحرم أحداً من رحمة الله، والشعوب التي في المنطقة بحاجة إلى جميع الجهود البارَّة، لإخراج المنطقة مِمّا تعانيه من تخلّف وعنف وبِطالة وجهل وفقد وفقر وفساد. كما نجد مفاهيم عدة للبدعة، بين المدارس الإسلامية، منها: تقسيمها إلى بدعة حسنة وسيئة، كما تصرف (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) في بعض الأمور العبادية والإدارية. وكذلك قسّم (الشافعي) البدعة إلى محمودة ومذمومة. وأكّد (ابن حجر العسقلاني) الشرع بوصفه معياراً لتعريف نوعية البدعة، وإلاّ فهي من المباح. لذلك فإن لجوء بعض أئمة السلفية إلى التذرع ببعض السنن، التي قد لا تصح يقيناً، أو تصح عند بعض المحدثين، مع التركيز على سنن مظهرية، وترك آيات محكمات، وفروضاً عينية، لرد كل رأي فلسفي، أو اجتهاد عقلي، أو تأويل، إنما هو مجرد بحث عن مظلة آمنة، ويقين، مصدره الخبر الذي يحتمل الخطأ والنقص، أو هو له سياق خاص، وسبب ورود. ثم هناك سنة نبوية متعلقة بذوق النبـي البشري وأقضيته، لا رسالته، كما ورد في حديث: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْكُمَ لَهُ بِقَدْرِ مَا أَسْمَعُ مِنْ حُجَّتِهِ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)، وحديث: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)رواه البخاري ومسلم. 
فلا بُدَّ من التزام رؤية جامعة تحكم العقل، الذي يعتبر حفظه من الكليات الخمس، وتعمل المصالح فيها عملها، لحل الإشكالية الموهومة بين العقل والإيمان، فنتجنب التكفير بذنب، أو خطأ، يرتكبه الإنسان تحت ضغوطات شتى، مراعاة لمصلحة كبرى من مصالح الدين، وهي مصلحة التآلف والشفافية مع الآخر، وتقديم النصيحة للحاكم، بدون انتظار مكاسب محدودة، وإعانته على تجاوز تحديات الواقع، حتى لا يزداد الأمر سوءاً. ومن قديم كان (ابن تيمية) ينعى على الحرفيين حرفيَّتَهُم، فكيف والعالم مأزوم، ويكاد يُصبح عالماً واحداً، لسرعة تداول المعلومة والحدث والفكرة والصورة والرأسمالات الرمزية، بسرعة هائلة، حتى ليكاد المرء لا يسعه التحقق من حقيقة بعض الأفكار، فيتعامل مع الفكرة باللاوعي أو نصف الوعي؟! وفي القرآن ذكر لتكفير السيئات غير الكبائر، والتسامح والعفو عن اللمم، وذكرٌ لاستغفار أو مغفرة الله لذنوب الأنبياء، التي تليق بمقامهم، قبل البعثة، أو بعدها، أو في الحقبيتين والمرحلتين. ولو أنه من المطلوب أن يتكامل الإنسان، وينتفع من تجارب السابقين، ومن تراكم معرفته، وثراء تجاربه، ما يجعله أقرب للتقوى والعفاف.
لقد تعب الكثير من هذا الهدير الإعلامي، الذي يكرر التاريخ، ويشير بالأحمر والأخضر على مكوناته، لكن ما هو الحل؟ الإسلاميون يرى بعضهم أن الحل في العودة إلى الوحي، أو النص المؤسس، كما سماه (د.أركون)، ومنهم (د.محسن عبد الحميد) الذي ألقى محاضرات عن هذا المفهوم، مُعترِضاً على تعويم الطرح السابق للإسلاميين بأن الإسلام هو الحل، وكأنه - إذا لم نخطئ التفسير- يرى بأن الإسلام حمل ما لا يحتمل من الفهومات والتحيزات والممارسات، التي يبرأ منها. كما نجد السلفيين يدعون إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، دون أن يطرحوا الوسائل والبرامج والمراحل لتفعيل هذين المصدرين، معتذرين بأن الرسول (عليه الصلاة والسلام) نفسه قضى 23 سنة في تغيير العالم من حوله، بعد معاناة طويلة واجتهادات، لم تخل من عنصر بشري، سمّاها (البوطي) بأحكام الإمامة. كما فرق (د.شحرور) بين السنة النبوية والرسالية، فللرسول آداب وقيم شخصية، لا علاقة بها بصميم الرسالة، بل هي عوائد شخصية، اختص بها، لا تحمل طابع الرسالة والإلزام(2). 
وقد طرح (الألباني) رؤية للعمل السياسي، تجعله من المحذورات، أو الاجتهادات الخاطئة، بحجة أنه يضعف نشاطهم في الدعوة إلى التعرف على إسلامهم، ودعا أتباعه إلى التعاون مع من يدعوهم إلى التفاهم والتعاون، بشرط أساس وهو الكتاب والسنة(3). وكان يثني على رموز الصحوة، ويؤثر عنه أنه قال: "لو لم يكن للشيخ حسن البنا (رحمه الله) من الفضل على الشباب المسلم، سوى أنه أخرجهم من دور الملاهي والسينما، وجمعهم على دعوة الإخوان المسلمين، لكفّه فضلاً وشرفاً"(4)، ويتعجّب من تأخر قطوف دعوته. كما أن (عبد العزيز بن باز) أثنى على عملهم، وصبرهم، وعملهم الجاد في سبيل الدعوة، وإصلاح النشء، ومقاومة الفساد والإلحاد(5). ومن بعده دعا (د.محسن عبد الحميد) إلى فصل العمل السياسي عن عمل الدعوة إلى الله. 
وقد ذكر عن رمز إسلامي صحوي، ألصقت به تهمة التكفير: "هذا رجلٌ نجلّهُ على جهاده، لكنه لا يزيد على كونه كاتباً، كان أديباً منشئاً، لكنه لم يكن عالماً، فلا غرابة أن تصدر منه أشياء وأشياء تخالف المنهج الصحيح"(6). وهذا يقترب من قول (القرضاوي) فيه، فقد تعقب عليه، هو وصاحب كتاب (دعاة لا قضاة)، و(محمد عمارة) و(البهنساوي) في بعض القضايا، ومنها: تكفير المسلم، الذي تكون فيه جاهلية، أو ذنب. كما أن هذا الرمز نفسه في تفسيره، لم يستبعد أن تصدر من المسلم كبيرة، بشرط أن يتوب منها. إنما هو السجن وآلامه، وفضاؤه الكئيب، وخلافه مع من تبنّى بعض المذاهب، ذات المرجعية البشرية. ويفهم من الكتاب الذي ألف عنه، أنه خطا خطواتٍ عملية لبثِّ روح التفاهم هذه، وأنه كان يرى أن في كل فئة خير ونقص يجب إتمامه، أو أخطاء يمكن علاجها، في سبيل تكوين أمة واحدة، رغم التحديات. 
ويرى بعض الكتاب أن من أسباب الخلاف الفكري بين الصحويين والسلفيين، عدم حل إشكالية العقل والنقل، وللأمانة العلمية فإن العقلانية ليست جديدة علينا، وإنما هي من صلب أفكار مفكرينا القدماء، لا سيَّما من أصحاب المذاهب العقلية الفلسفية، وأن هذه العقلانية لا تشكل خطراً على الإسلام، ولا تصطدم معه، وقد ألّف (د.محسن عبد الحميد) كتاباً أثبت فيه أن كثيراً من أئمة السلف قد أوّلُوا الصفات، بينما يعلق على الإشكالية بين العقل والنص، بالتأكيد على عدم وجود مفارقة بين التفلسف والانتماء إلى النص، مُقرِّراً: "أن ابن رشد كان يُفكِّر في إطار الحضارة الإسلامية، وأن قوله: طريق العقل وطريق الدين "أي أن لكل بناؤه الداخلي"، يعني من وجهة نظره: أن للعقل أساليبه الخاصة في التفكير، وللدين طريقه في الوصول إلى الحقيقة، لا أنهما لا يلتقيان في الحقيقة عينها"(7). فالنشاط المعرفي المادي له حقله وتجاربه، والحفر في حقل الدين حاجة إنسانية، ورؤية فلسفية للمعرفة، ومبادئ قيمية، وتنظيرات أصولية عامة، تسير بموازاة نشاط الفكر في تطوير الواقع، ولا تصطدم بمقرراته الموضوعية. 
ولا شك أن المثقفين يعلمون أن التاريخ المعرفي لهذا الفيلسوف قد جمع بين منهجين، فهو مؤلف كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الذي لم يخرج فيه عن الفضاء الفقهي الاجتهادي للوحي، ومؤلف "تهافت التهافت"، الذي لجأ فيه إلى البرهان العقلي، لنقض النظرية الغزالية في تفسير بعض معطيات النص. فهل لجأ (ابن رشد) إلى تلك التأصيلات الفقهيّة، ووفق ذلك المنهج السلفي، لأنه رآها أقرب إلى النظرة الاجتماعية والحضارية للشعوب الإسلامية، رغم عيشه في الأندلس، بخلفياتها الثقافية الأوربية ذات الرؤية الغربية؟ أم كان ذلك مرحلة من مراحل تطوره الفكري؟! 
ومفكّر أصولي وفقيه مثل (ابن تيمية) مثلاً، خاض من جهة معامع الفلسفة، لدرء تناقض العقل والنقل، رغم أنه قدم رؤية جدالية منطقية، لا يوجد فيها أثر واضح لفلسفات المعرفة الراهنة، بحكم اشتغالاته ومخاضاته وزمنية بعض اجتهاداته، أو مخاطبة الذات الوجودية بكل نقائضها. لكنه -وفي الوقت نفسه - خاض مجالات الفقه والتفسير والسياسة، وشارك الجمهور آلامه وآماله، وتصّدى لعُنف المشاغبين عليه، وواجه قوى الظلام، وكان ينعى على الجمود والتعصب المذهبـي والابتداع الصوفي، وبيّن ثغرات أهل البدع والأهواء والحرفيين والمتطرفين في عصره، ونقاط الضعف في تفكيرهم وخطابهم، وقال الحق المرّ في شأنهم، فخطابه السياسي يظهر فيه البعد السيكولوجي والواقعي، وبه استطاع لمس الروح الذاتية لجمهوره، المتجلين في أهل السنة والجماعة، وحل إشكالياتهم. فكل من هذين العلمين حاول التوفيق بين الدين والعقل، وكل منهما، مع (الغزالي)، في إنتاجهم التاريخي تعبيرٌ وانعكاسٌ لعصرهم وحضارتهم وظروفهم النفسية والاجتماعية. 
وقد حاول بعض الكتاب الإسلاميين حل الإشكالية المفترضة بين العقل والنقل، في مجال التنظير والأحكام التشريعيّة، وتناولوا ما أثير من مناقشات حول حتمية الجدل بين الوحي وبين الوعي والتفكير الإنساني، فذهب بعضهم مثلاً إلى أن التأمل في بنية العقل يظهر أن التعارض بين أحكام الوحي وأحكام العقل الفطري غير ممكن، نظراً لخلوّ العقل الفطري من الأحكام المضمونيّة، واقتصاره على الأحكام الإجرائية. فالعقل الفطري ذو الطبيعة الإجرائية، لا يملك أن يقضي بصدق أحكام مضمونية منفردة، أو بكذبها، لكنه قادر على الطعن في مصداقية منظومة من الأحكام، من خلال إظهار تناقضها الداخلي. فلا يملك العقل الفطري مثلاً أن يعارض حكم القرآن بخلق الإنسان من طين، لكنه يملك أن ينظر في اتساق الحكم مع الواقع الموضوعي. 
فإذا امتنع قيام تعارض بين الوحي والعقل الفطري، هل يمكن قيام تعارض بين الوحي والعقل المكتسب؟(7). يجيب هؤلاء على هذا التساؤل بتوجيه النظر إلى "البنية الداخلية" للآيات القرآنية، وكيف أن هذه الآيات تتبادل مستويات ثلاث من الوجود: عالم الغيب، عالم الشهادة، عالم الإنسان المعيش.. وقد فسّرُوا العلاقة الإشكالية بين هذه المستويات الرؤيوية، بأن الأحكام القرآنية أحكام متضمنة في التنزيل، وتحتاج إلى تدبر وإعمال عقلي وجهدٍ نظري لاستخراج دلالاتها، وحين يحدث تعارض بين الآيات، وبين العقل المتدبر المكتسب، الذي استمد قواعد تدبره وموازينه ومفاهيمه وبيّناته من الدلالات الواسعة المحتملة للكتاب، يؤوّل أحدهما بما يخدم الحقيقة المعرفية، التي تتقدم بالإنسان نحو آفاق جديدة في التفكير والكشف والسعادة.
أما إشكالية الإسلاميين مع الحداثة، وما بعدها، نجد أنه بينما نعى بعض الكتاب على القراءات التاريخية للنص، رائين أن القرآن قد أصبح مدونة رسمية مغلقة، يرد الإسلاميون على ذلك بأن المشكلة لا تكمُن في هذا الغلق، بل إن القرآن بحاجة إلى قراءة معاصرة، فالمشكلة ليست في النص، بل في القارئ، ملمحين مراراً وتكراراً إلى أن من المداخل الناعمة لمنع التعامل البحثي مع القرآن بمعاصرة، جعله "تراثاً" ماضوياً، والاكتفاء بعرضه في المتاحف والمعارض، وجعله من المخطوطات القديمة، وكتابته على شواهد القبور، وقراءته سردياً في مناسبات معينة، أو الاكتفاء بقراءة لجانب من جوانب هذا الدين فيه، كالجانب السياسي، أو الاقتصادي، أو الفقهي… أو بالعكوف على نتاج فلاسفة، قدّموا رؤى ومبانيَ فكرية لزمانهم، وفقاً لفهمهم له، وأن تفكيك هذه المداخل، واستبدالها، تدفع المثقف إلى مزيد من التأصيل لفكرة مركزيّة، وهي أنه لا بُدَّ من التعامل مع القرآن بعقلية تأويليّة منفتحة على العصر وتجلياته، بدون تطرّف أو سطحيّة أو جُمود تاريخي، أمّا العلوم الطبيعية التي تنشأ من حركة الوعي والتي حصّلها الإنسان بجهوده، وتوصلّ إليها من خلال الاتصال العلمي والحسّ التجريبـي بالواقع الملكوتي والإنساني، فإنها يستفاد منها إذا لم تتناقض مع قيم أخلاقية عليا، هي جوهر الأديان ولحمتها، ويؤوّل النص حسب المعطى المعرفي المتطور. 
وبشكل عام فقد اجتهد علماء الإسلاميات في قراءة النص وتفسيره وتأويله، وتركوا لنا تراثاً قابلاً للفحص والمراجعة، كما ظهرت ملاحظات عصرية على بعض هذه الاجتهادات، وهذا ليس أمراً عجائبياً غير مألوف، فالحقيقة لا يحتكرها أحد، ولا مانع من إقامة بناء معرفي، تتجاور فيها الرؤية العقلية المنهجية مع الشفافية، بدون ضيق في التفكير، أو هوى في الجمود، أو متابعة تقليدية للتراث. وحسب القرآن لا يوجد أي جدل بين الوحي وبين العمل العقلي، فقد جاء ذكر هذا العمل 49 مرة في القرآن. فالعقل، ومقارباته في النص، كاللب، والفؤاد، والحجر، والنهى، دالات على أنشطة ورموز سيميائية، تؤشر إلى ضرورة ضبط النظام العلميّ والإيمانيّ والمعرفيّ والاجتماعيّ للفرد، وتقويم رؤيته للأخلاق، والتاريخ، والماضي، والوثائق، وإحكام كل شؤونه، ويزيل عنه الخُرافة والوهم والخوف والتكلّس، ويمثل له الوجود كدائرة معارف كبرى وجامعة مفتوحة. فلماذا لا نستفيد من مقولة (كانت)، ومنهجه في تلقي الدين في حدود العقل، دون فرض منهج فلسفي يضاد مبدأ الألوهية وغائية الكون. ومثل هذه العقلانية تصادم رؤيتنا، إذ نحن نؤمن باللامرئي، وبعدم وجود تعارض بين مراداته المتصورة افتراضياً، وبالقياس إلى موديل العالم المنظم والغائي، وصناعة الله له لمنافع الإنسان، حيث تتجلّى فيه كثير من صفاته وسماته، وبين مصالح هذا الإنسان، والنظام الاجتماعي، والتي تقتضي العيش وفق مفاهيم معقولة وعملية، تعزز الحياة وتطورها وتسعد هذا الإنسان. فالتفكير عملية تنظيم للمعلومات، ولا يتصور أن يكون مصادماً للوعي الديني، كوسيلة من وسائل النمو المعرفي، ومصدر من مصادر الحقيقة. أمّا الأبعاد الأخرى للحقيقة، كالحقيقة الدينية، أو التاريخية، أو العلوم الإنسانية، فلها مناهج لا ينبغي أن تتناقض مع منهج النظر والملاحظة والتجريب. وحين يحدث تعارض ظاهري، يرجح المعرفي أو الديني، حسب موافقته المقدمات المنطقية للاستقراء، وسنة التغيير الإيجابي للواقع والمعرفة، نحو مستقبل أفضل لهذه القرية الكونية، أو يُرجأ ملفه، لأبحاث ومناهج أكثر جدة واستيعاباً وعُمقاً.. وقد ذكر (البوطي) أن (ابن تيمية)، رغم حملته على علماء الكلام والمناطقة والفلاسفة، لم تخل كتبه من لجوء إلى الجدل الفكري، بشرط أن لا تحوي باطلاً، وبهدف إحقاق الحقيقة، وأنه دخل "أقصى أودية التعامل مع المقاييس والموازين الفلسفية، موغلاً إلى أبعد حد في التعامل مع قواعد الفلسفة ومقولاتها ومفاهيمها"(8).

فضاء الاجتهاد الفقهي.. لمحة تاريخية:
قسّم (د.محمد عابد الجابري) مناهج المعرفة، في تاريخنا الثقافي والمعرفي، إلى ثلاث مناهج: المنهج البياني، والبرهاني، والعرفاني. وبين نقاط الضعف أحياناً فيها، وهي كلها مناهج تعتمد إما على اللغة أو الفكر أو المنافع، ولا تخلو من إنتاج نسبـي، يعتريه ما يلابس كل إنتاج، من بعد إيديولوجي تاريخي، متأثر بالإنسان والزمان والمكان والحضارة، في تجلياتها، وأطرها المرجعية، للتصور والتفكير والحكم. 
وفيما يتعلّق بمنهج البيان، الذي يغلب على الإنتاج الفقهي، نشير إلى بعض الملاحظات على العلاقة بينه وبين الحقيقة والواقع الموضوعي والمصالح الإنسانية المتغيرة والمتقلبة أحياناً. في أنموذج الإسلام قدّم علم الأصول إطاراً من الرؤى لتنظيم عملية الاجتهاد، وفق ضوابط وقيم عليا، سُمّيت بالمصالح. وبما أن الناس يتفاوتون في المقدرة الاستنباطية والاجتهادية، أو لا يملكون الوقت الكافي للتخصص العلمي، فإن ظهور طبقة من الفقهاء الراسخين في العلم، والقائمين بالاجتهاد والتعليم، كان أمراً واقعاً، ولم يكن هناك التزام تفصيلي بكل ما يقوله إمام معين. ثم ظهرت الحلقات العلمية، التي كان بعض الشيوخ يلقون فيها الدروس، وينيبون كبار الطلاب للمسائل التعليمية والإفتائية، حين يُلاحظون منهم النبوغ. ثم تطوّر الأمر إلى تأثر الطالب النابه بمذهب العالم المكتسب لشهرةٍ علمية، والتفريع على أصوله، والاجتهاد ضمنه، جزئياً أو كلياً، مِمّا سُمّي بالاجتهاد في المذهب. وقد سبق ذلك ظهور المدونين للمذهب، وما يتصل به من فروع وتخريجات، والسيرة الشخصية لصاحب المذهب، بدون ترجيح، ثم تبعهم المقلدون الناقلون للمذهب، الذين لا يملكون القدرة الكافية على الاستنباط. وهكذا تكونت المذاهب، ومنها المذاهب الأربعة لأهل السنة، والمذهب الإمامي للشيعة، وقد اندثرت بعض المذاهب عمليّاً، أو كادت، لعدم امتدادها في الحياة الاجتماعية، أو عدم حيازتها لدعاة نشطين.
ولم تكن هذه المذاهب، في بدايات إنشائها الأولى، ذات سمة خصاميّة أو تعصبيّة، لأن أئمتها -كما يروى عنهم - كانوا بمستوى من سعة الأفق، يؤهلهم لتقدير التنوع ومستويات الخطاب والمخاطبين. فقد كان (أبو حنيفة) مثلاً يقول: "عِلمُنا هذا رأي، وهو أحسن ما قَدَرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه، فهو أولى بالصّواب"، ويقول عندما يسأله أحد تلاميذه: أهذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شكَّ فيه؟: "والله لا أدري، فقد يكون الباطل الذي لا شكَّ فيه". ويروي لنا (ابن القيّم) أن (أبا حنيفة) و(أبا يوسف) قالا: "أيحلُّ لأحدٍ أن يقولَ بقولنا، حتى يَعلمَ من أين قُلنا!"، وكان (مالك) يقول إذا استنبط حُكماً: "انظروا فيه، فإنه دين.. وما من أحدٍ إلاّ ومأخوذٌ من كلامه، ومردودٌ عليه، إلا صاحب هذه الرَّوضة".
وهذا (الشافعي) يقول لصاحبه (الربيع): "يا أبا اسحق لا تقلدني في كلّ ما أقولُ، وانظر في ذلك لنفسك، فإنه دين". وجاء في مقدمة (الرسالة) لـ(الشافعي): "وكفاني فخراً أن أنشر بين الناس علم الشافعي، مع إعلامهم نهيه عن تقليده، وتقليد غيره..". ويقول الإمام (أحمد بن حنبل) لأحدهم: "لا تقلدني، ولا مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"(9). وعلى سبيل المثال، فإن المذهب الشافعي قد اعتنقه (صلاح الدين الأيوبي)، وروّج له في المناطق التي كان يحكمها.
لكن هذه المدارس نالها من أمراض التجمعات الإيديولوجية في العالم ما نالها، فقد غدت بنى أقرب إلى الانغلاق والتحزُّب.. وأصبحت بعض مفرداتها ذات سمة تاريخية، أو ذرائعية ميتة، رغم أنه كان هناك رفض لتبني الدولة لبعضها، ومحاولتهم تعميمها والدعاية لها. وحين بدأت الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية تميل نحو الركود، فإن الاجتهاد بدأ بدوره يتضاءل، وركن الناس إلى التقليد، حتى قُفِلَ باب الاجتهاد، وفُرضَ على الفقيه أن يلتزم مذهباً معيناً، ووجدت فتاوى تمنع انتقال المقلِّد من مذهب إلى مذهب! وانحصر التلقي في الترجيح بين الروايات المذهبية داخل المذهب، والتمييز بين الضعيف والقوي منها، وظهرت النزعات السجالية، والمشاعر النافرة، التي تتناسى أو تنسى، في أحيان كثيرة، الأصول التي لا يُعقل أن تحبّذ الجمود المذهبـي، أو تُقرَّ بخسَ الناس أشياءهم، أو تُضفي سلطة معرفية مقدّسة على إنشاءات قابلة للتنويع، أو تمنح العصمة لإمامٍ، أو تجعل المذاهب والإيديولوجيات أدياناً متصارعة، أو تسبغ على المجتهدين سمات أسطورية، أو تلجأ إلى الدعاية، بل التأصيل المنهجي للإنتاج المعرفي، أو تحاول فرض المذهب عن طريق الإعلام، أو القهر السياسي، أو تؤصل قضايا معينة من وحي ضرورات المراحل الحضارية، والطبقية، بشكل مفرط، على حساب غيرها. حتى ألمح كاتب مثل (محمد الغزالي) إلى هذا النمو السرطاني، في قضايا فقه العبادات، كالوضوء وشرطه، وذلك أدّى إلى القلق، ونشوء ذهنية التحريم، واستهلاك الفكر في قضايا احتماليّة بعيدة، كما أولت بعض الآيات إذا خالفت الأقوال الفردية.. حتى قال أحدهم، وهو فقيه حنفي: "كلُّ آيةٍ أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا، فهو مؤولٌ، أو منسوخ". وقد وصل الخلاف أحياناً لحدّ تعديل محاريب المسجد، وفقاً لتعدد مذاهب المصلّين، وتكفير من يلتزم مذهباً، غير الذي يقتنع به أحدهم، وتخطئة كل ما أنتجه الغير، والنظر إليه نظرة دونيّة، بل تقاتل أهل المذاهب، فيما بينهم. وعلى سبيل المثال، استنجد بعض أصحاب المذاهب بالمغول في (أصفهان)، ففتكوا بأصحاب المذهبين. 
وقد ظهرت صور من الغلوّ والتعصب للمذهب الإمامي، وفقاً لنظرية الإمام المعصوم، لا تنسجم مع العقل، ومقتضياته، وذلك بادعاء انحصار إصابة الحقيقة فيه وحده، وشطب كل ما سواه من الاجتهادات الواقعة خارج اجتهاده. وكل هذه الصور، تُحسب على أصحابها، وقراءاتهم غير النهائية، أو المغلوطة. وقد ألّف (د.مصطفى الشكعة) كتاباً عنوانه" إسلام بلا مذاهب"، لتقريب صورة مجتمع إسلامي أقرب إلى التجانس، كما ألف (رشيد الخيون) -الكاتب العراقي- كتاب "لا إسلام بلا مذاهب"، ليصف هذا الخلاف التاريخي، الذي له امتدادات مقاربة في خريطتنا الثقافية، والكل يُدلي بدلوه في قراءة الظاهرة الأيديولوجيّة، وتفسير سياقاتها ورؤاها، مِمّا يقتضي عملاً مؤسسياً حيادياً، يضع هذه المذاهب ضمن إطارها وفضائها، ويكشف عن جذورها النفسية والاجتماعية والطبقية والسياسية والفكرية، للقضاء على التصلّب الآرائي، وفك العزلة التاريخيّة بين المدارس والفرق، من أجل رؤية أكثر حضاريّة وانفتاحاً وعقلانية.

المذاهب ليست أدياناً
من الخطأ اعتبار المذاهب مدونات مغلقة لا يجوز الانتقال عنها، كلاً أو جزءاً، لم يقل بذلك أحد من أئمة هذه المذاهب، الّذين أكّدوا وحدة المرجعيّة، وركّزوا على صوابية الاستدلال، ونهوا عن التقليد، لمن يملك أدوات الاجتهاد وعقليته. أمّا ما حدث في تاريخ المسلمين، من صور الاستقرار المذهبـي، وما قام به بعض المقلّدين، من ادّعاء كون إنتاج أئمتهم، بكل تفاصيله، ومقولاته، المتقدّمة والمتأخرة، المصيبة والمخطئة، هي خلاصة الصواب، والكلمة الأخيرة، والنهائية، والصحيحة، فإنه يحسب على شخصياتهم المقلّدة، ولا يحسب على الأئمة المتبوعين، الّذين كانوا رغم اجتهادهم وتقواهم، لا يذهبون إلى انفرادهم بقول الكلمة النهائية في كُلِّ شيء، واتهام غيرهم بالهرطقة، أو التطفّل، إذا ما مارس حقّ التعقيب عليه، أو الاجتهاد فيما لا يُوافق رؤيته. 
وحين نذكر صور إعادة إنتاج بعض الأقوال الاجتهادية، وتحشيتها، وتهميشها، في عصور الاستبداد، والجمود النسبـي، يجب أن لا ننسى أيضاً، أن المدونات الفقهية، التي أُتخذت دليل فقه وعمل، في بعض بلاد المسلمين، قد أعقبتها كتابات فقهية مقارنة، غنية بالاجتهاد المجدِّد، والموازنة والترجيح، والإبعاد للروايات الضعيفة، والاجتهادات المتعثرة، والتأشير إلى العوامل الزمانية والمكانية، التي أثّرت في عملية الاجتهاد، وكوّنت فضاءه.
أما إطلاق كلمة الفقه على الاجتهادات العلميّة في مجال الأحكام، فإنما هو من باب تسمية الجزء باسم الكل، فالفقه -كما هو معلوم- يستوعب الدين: [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ](التوبة: 122).
إن الإنتاج الفقهي الغني الواسع، في تراثنا، يدلُّ على خصوبة تفكيرنا الحضاريّ، لكنه لا يملك سلطة معرفية مقدّسة، بكل إنشاءاته. وما حصل من إنتاج فكري ظهر خطؤه، يدلُّ على أن العقل الذي اشتغل عليه، لم يكن مُؤدّى وفقاً لآلية تتسم بالموضوعيّة الكاملة، أو تأثر بمؤثرات، داخلية أو خارجية، تنقص من صوابيته، وهو لا يشكل مستنداً دلالياً لإلغاء الموازين المحكمة في التفقه، تشبثاً ببعض المقولات التي جانب الصواب أصحابها، أو اتسمت بالتاريخية في مذهبيتها، أو كانت ذات سمة غرائبية، أو احتمالية لم تقع، أو معتمدة على المعارف النسبية لعصر المجتهد، أو المؤول. ولا شك أن التفاصيل الاجتهاديّة، في مجال الأحكام، التي سمّيت بالشريعة، هي تراث فقهي قابل للمراجعة النقدية، لأن هذه التفاصيل قد تضم تنوعات اجتهاديّة ذات سمة افتراضية، فهي غير ملزمة للآخرين.

الآراء والرؤى تحسب على أصحابها
ثم إننا يجب أن نفصل بين النصوص المؤسسة، وبين الاستنباطات والآراء والمذاهب، التي يكون الزمن قد تجاوزها، أو كشف العلم والعقل خطأها، أو تاريخيتها، وبُعدها المذهبـي، أو عدم اتساعها لحاجات العصر، أو إنشائها لرؤى ضيّقة، وخلافات، تمزق الأمة، وتلبسها شيعاً، وأحزاباً، مبتدعة، مِمّا دخل تحت مصطلح الفكر والفقه الإسلاميين. ولذلك فإن "الصحابة الكرام (رضوان الله عليهم)، والمجتهدين، الذين جاءوا من بعدهم، كانوا لا يقبلون قول القائل في المسائل الاجتهاديّة: هذا حكم الله، بل كانوا يقولون على سبيل المثال: هذا ما حكم به (أبو بكر)، وهذا ما قضى به (عمر)، وذلك ما رآه (علي). ويتحصّل عندنا، من هذه المقدمة، أمرٌ مهم، هو أن الفترة التي أعقبت الوحي المحمدي (عليه الصلاة والسلام)، إلى اليوم، وإلى قيام الساعة، ليست فترة مُقدّسة، وإنما هي فترة خاصة باجتهاد العقل الإنساني في مناحي الحياة كلّها"(10). وقد ركّز (د.محسن عبد الحميد)، المفكّر العراقي، في محاضرات له، على العودة الواعية للنص، دون التاريخ، لما لابسه من تطبيقات، تتسم بالنسبية في الفهم والممارسة. وقبله كان (سيد قطب)، المفكر المصري، قد ألمح إلى هذه النقطة نفسها، في كتابه "نحو مجتمع إسلامي"، وأشار إلى أن الصورة التاريخية للمجتمع الإسلامي، في كثير من ملامحها ومشاهدها، لا تستوعب التطورات المنجزة في العصور اللاحقة، كما كان يؤكد أن فقه الأوراق لا يُلبـّي كل حاجات البناء الجديد للمجتمعات، التي تصحو على واقع مرّ، تراكم عليه الخلل والعطب، واقعٌ قد يؤدي التغيير السريع فيه إلى مُضاعفات اجتماعيّة، لا يتحملّها الوعي الجماعيّ، والمصالح المعتبرة. المهم لا بُدَّ من توحيد صف المؤمنين، وتفاعلهم الإيجابي، وتحاورهم، وتناصحهم، حرصاً على بقاء الإيمان، وقيمه، في عالم يكتسح كثيراً من القناعات والثوابت، ويجعل المرء أحياناً في ذهول، حتى كأن الساعة قد اقتربت. لقد ألف كاتب سعودي كتاباً سماه "داعية وليس نبياً"، انتقد فيه النزعة التكفيريّة الغالية لدى (محمد بن عبد الوهاب)، وذكر أمثلة على تكفيره لأهل الكلام والمعتزلة، والممارسين لصناعة الفقه، وعلماء الحنابلة في عصره، والأشاعرة، والعثمانيين، والشام واليمن والعراق ونجران وحضرموت والموصل والأكراد، ومصر، وأن مكة والمدينة في عصره ديار كفر، وكذلك السواد الأعظم من المسلمين، ولم يستثن من الكفر إلاّ المُكْرَه، مع أن المضطر والخائف والمتأول والجاهل لا يجوز تكفيرهم، كما يقول (د.حسن فرحان المالكي) في كتابه هذا. كما حلّل الكاتب أسباب غلو هؤلاء بالتقليد، والخلافات المذهبية والسياسية. وقد ذكر (د.علي الوردي) أن علماء السنة في العراق، وقفوا موقفاً مُعترِضاً على ما قام به بعض المدعين للسلفية، من قتل الشيعة، ونهب الأموال، وغير ذلك(11).
إنه دون البحث عن قواسم مشتركة بين أفراد المجتمع، وتقديم رؤية جامعة لمصالح الناس، وتشكيل حديث للعقل، وجعل الإيمان والأخلاق الأساس لبناء المجتمع، وتعزيز قيم التقدّم والرفاه والتنمية والجمال، والعدل والكرامة والحرية والذكاء، والمعرفة في إطار هذين الأُسَّيْن، يمكن للإلحاد والإباحية تفكيك ما بقي من أبنية الفكر، وتصبح مؤسسات المجتمع المدني خاويةً على عروشها، وتسود الفوضى، أو تكون الثورات، ذات الطبيعة القلقة، غير المنهجية، القائمة على العنف، ثم تأكل الثورة أبناءها، وهلّم جراً. وإذا كانت جماعات الإسلام السياسي قد اختلفت في المناهج والطرق والأفكار، فإن السلفيات قد تباينت "في الماهية والدرجة والمقاصد والوسائل، مِمّا يُلقي بظلال عدم اليقين والشك واللبس على حالة المفهوم نفسه، طالما يتعذر التسليم والاتفاق، على نحو قاطع، أن السلفية الحقيقية هي هذه بالذات، لا تلك الثانية، أو الثالثة، أو غيرها"(12). فلم يبق إلاّ الإخلاص، والبحث عن الحقيقة، والحوار الموضوعي، ومصلحة الأمة، هي رائدة الجميع. كما أن الجماعات القومية والعلمانية والليبرالية والاشتراكية، التي تشارك في حكم المجتمع المدني، أن تقدر الدور الديني للجماعات، التي تلتزم الحكمة في عملها. 
إن الاقتصاد القائم على قانون العرض والطلب وحده، والربح، يدوس على كل القيم، ويحق قول أحد الرأسماليين: "إن رجل الحاشية الشهواني، الذي لا يضع حداً لترفه، وفتاة الليل الهوائية، التي تبتدع أزياء جديدة أسبوعياً، والدوقة المتعجرفة، والرجل الخليع المسرف، والوريث المبذر، والوغد الطماع الكاذب، هم من نحتاج إليهم، لنوفر حياة كريمة للحشود الضخمة من الفقراء الكادحين"(13). وينطبق وصف (ديفيد هيوم) الترف، بأنه يصقل الشخصية، ولا يفسدها. بينما النظرة الاجتماعية المتوازنة تقوم على حفظ منظومة القيم، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وما وجدت إسرافاً، إلا وجدت بجانبه حقاً ضائعاً. ويقول عالم الجمال إن الإسراف الجمالي يؤدّي إلى تعاسة لا حدّ لها، ويعترف عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، أن الإسراف في اتباع الشهوات يؤدِّي إلى عذاب رهيب، وما خُلق الإنسان إلا ليجسد كل رغائبه بتوازن، ويُفعّل سائر طاقاته بتناغم. إن المشاعيّة، التي يروّج لها اليساريون، ليست حلاً، إذ تسود الحياة النمطيّة والرتابة، وافتقاد الحماسة، التي تمنحها الدوافع الفردية للتملّك والتجديد في كل شيء. بل المنهج، الذي يضخ رؤية، ويُلهم حلولاً، تشبع كل دوافع الإنسان وميوله، لا المذهب الاقتصادي الغربي، الذي تبنّاه (هيوم) و(آدم سمث)، في التهوين من شأن العمل التجاري لخير الآخر، وتفضيل فتيات الليل على العفيفات.

------
الهوامش:
(1) الظاهرة السلفية، تحرير: بشير موسى نافع، وآخرون، نقلاً عن: الآلوسي في غاية الأماني في الردّ على النبهاني، ط(1)، سنة 2014م، الدوحة، ص96.
(2) السنة الرسالية والسنة النبوية، د.محمد شحرور، ط(1)، دار الساقي، بيروت - لبنان، ص 99.
(3) منهج الألباني في التعامل مع المخالفين، هادي عصام، ط(1)، الرسالة العالمية، سنة 2013م، ص77. 
(4) من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، المستشار عبد الله العقيل،ط(8)، دار البشير، سنة 2008، دار البشير، 2008م، 1/ 451. 
(5) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
(6) منهج الألباني في التعامل مع المخالفين، ص93. 
(7) المذهبية الإسلامية، د.محسن عبدالحميد، ص114- 115. 
(8) السلفية، د.محمد سعيد رمضان البوطي، ط(14)، دار الفكر، دمشق، سنة 2010م، ص162. 
(9) الوحي والعقل.. بحث في إشكالية تعارض العقل والنقل، د.لؤي صافي، مجلة إسلامية المعرفة، العدد (11)، سنة 1988م، ص68.
(10) المدخل إلى الفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، ص95.
(11) داعية وليس نبياً، د.حسن فرحان المالكي، ط(1)، عمان، سنة 2004م. 
(12) رياح التغيير، د.فهمي جدعان، ط(1)، بيروت - لبنان، سنة 2002م، ص268.
(13) آدم سميث.. حياته وأفكاره، جيمس بوكان، ترجمة: سمية ممدوح الشامي، كلمات عربية، ط(1)، القاهرة، سنة 2008م، ص96.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق