مروان الكردي
كان (جتو) يصارع من مكانه الواقع وسط فناء الدار الريفي، لأنه يرى الآن كابوسا في غاية السخافة والخوف، إنه يرى جنازة زوجته في موكب جنوني، تتقدمهم زوبعة من علماء البلدة، ويركض وراءهم الفتيان برقصات خاصة، والغريب أنه كان يطرب (نعم يطرب) للزمرة، و يغني بملء فيه للمواسين، في حين يرى ابنه ((هوشيار)) من خلال شاشة مثلثة الشكل، جوالة، على أكف نساء عجاف، و هو في لقطة دراماتيكية مثيرة و مهيبة، إذ هو قائد في إحدى المعارك ضد حشرات صيفية سخيفة منفوخة إلى حجم (تراكتور جوندير)، ولم ينته الكابوس إلا بأصوات قرقعات أيقظته من جراء
طرقات
سريعة على الباب الخارجي لبيته.. لم يكن من السهل أن يمر هذا الحلم اللعين سدى.. إنه كسابق المرات يخشى من هكذا كوابيس..
طرقات
سريعة على الباب الخارجي لبيته.. لم يكن من السهل أن يمر هذا الحلم اللعين سدى.. إنه كسابق المرات يخشى من هكذا كوابيس..
في صباح ذلك اليوم، ومع رفرفة جناحي الحمام حول فتحة التنكة، تحت جناح سقف غرفة البقرة، طرق الباب الخارجي للبيت الريفي الجميل (رغم وجود البيت في بلدة متحظرة نوعا ما)، بعنف، مرة تلو أخرى، ليبدد الرفرة الناعمة لفترة وجيزة، ثم تعود مرة أخرى.. وأهل الدار كلهم في أوج النوم غارقون، نائمون، لم يستيقظوا بعد ..
كانت الشمس تسطع بأشعتها الدافئة في تموز سنة 2009، منذرة بلهب أكثر دفئا من ذي قبل لسكان بلدة ((قسروك))، وكان البيت يقع على ناصية البلدة، وتناثرت أمامه عدة بيوت أخريات، إسمنتية صرفة، وفي تلك اللحظة، هناك بضعة عمال يشيدون منارة جامع بالقرب من (حيّ المعارض)، وهنا وهناك سيارة تسير على الشارع العام، عجوز تمشي بلباسها الأسود وراء بقرة صفراء، وهناك طفلان يركضان وراء سرب أوز داجن، و بين حين وآخر زقازق درزينات من العصافير تنشد فوق أغصان الأشجار الصاعدة إلى أعالي السماء، وعلى أطراف البلدة يذهب قليل من السكان إلى مزارعهم، أو إلى دكاكينهم، أو بنايات وظائفهم، بدافع استغلال برودة الصباح الخفيفة قبل أن يبدأ الجو بالسخونة..
و الباب ما زال يطرق بشدة..
و((جتو))، صاحب الدار، بدأ يتثائب، ويلبس بقدميه نعلا حمراء اللون، إيرانية الصنع، وقد تدلى من سرواله الطرف الأيمن من قميصه، بجوار مشد الوسط للسروال ذي الألوان الثلاث..
و مشى نحو الباب صائحا بنغم خشن: "نعم، أنا آت..."، ورائحة نتانة عرقه تفوح من جسمه السمين، وتحت إبطيه ثمة خارطة بيضاء غير مفهومة، صنعها العرق منذ ما يقارب يومين..
استعد ((جتو)) للقاء الطارق، لكن في البداية، تفحص من وراء الباب من خلال ثقب القفل، والكابوس مازال يرن في مخيلته، فرأى ((أبو حيدر)) أحد جيرانه.. تقتقققق.. ياساتر، كم هو متجهم وغير مبشر بالخير، الله يجعله خيرا..
ارتد صوت فتح القفل فور ضربة ((أبو حيدر)) بقبضته على المفتاح الحديدي، لتفتح الباب على مصراعيها، في البداية ترسمت على وجه ((جتو)) بضع علامات من التعجب، ومتفوهاً بكلمة بسم الله، لما رأى الحالة التي بها ((أبو حيدر))، كان ((أبو حيدر)) حزينا إلى درجة، من السهل التعرف عليها، من خلال عباسة وجهه، قال في نبرة حزينة:
_"السلام عليكم، كيف حالكم.."، ولم يدع المجال لـ((جتو)) أن يتحدث، (كانت الخشية من قول حقيقة الأمر كبيرة إلى حد الجنون لهذين الوالدين المسكينين، كيف يمكنه أن يقول لهم ما لا يطاق، ما لا يمكن للسان أن يتفوه به، إن هول ما سيحدث لو قال لهما الحقيقة تتراقص في عيونه).
لذا استمر بالقول:
_ "في الحقيقة أعلم أن الوقت غير مناسب بالمرة، لكن لا أدري، ماذا أأأأ أقول، لك !"
_ "تفضل أبو حيدر، بالله عليك! لا تخف أي شيء، لا تستح، نحن إخوان، مُر، أو تعال إلى الداخل"،
_ "لا لا شكراً، الأمر أهم من ذلك، أقول لك، هل..؟"
و هنا قاطعه ((جتو)) مرة أخرى، وأردف:
_" قل لي ماذا تحتاج، أنا في خدمتك"،
هنا تجرأ ((أبو حيدر)) على إنهاء هذه الدردشة والمجاملة بالقول :
_ "هل ابنك، موجود الآن في البيت؟ أعني بذلك هوشيار؟"
هنا، تراجع ((جتو)) من شدة صعوبة الإجابة خطوة إلى الوراء..
_"((هوشيار))؟!! في الحقيقة، لا أعرف، هل أؤكدها لك؟"
_" بالطبع، أرجو أن تتأكد من ذلك،( فأخشى أن أكون مخطئاً)"
الجملة الأخيرة قالها بخفة وبسرعة.
هنا لم يتمالك ((جتو)) من الانتظار لما يقوله ((أبو حيدر))، وبسرعة، وبلمح البصر، تراجع نحو فناء البيت إلى السرير الصيفي الخاص بـ((هوشيار)).. ومثل هذه الأريكات دائما وأبداً توضع على الأسطح، أو داخل فناء المنازل، في أيام الصيف.. لكنه لم ير ابنه، وقد كانت الوسادة ثابتة في مكانها ولا تبدو أنها استعملت بالليل.
قال ((جتو)) في نفسه: "أي حماقة ارتكبتها يا ترى؟"
و هنا، خرجت ((أم هوشيار)) بشعرها الأشعث المبعثر من تحت ستارة الأريكة الخاصة بها و بزوجها، ضاربة صدرها المليء بالخوف والقلق:
_" ويحك يا ((جتو))، لماذا ((هوشيار)) ليس على السرير، ترى أين ذهب، هل رجع إلى البيت بالأمس؟"
وركض الأبوان كلاهما نحو((أبو حيدر))، وقالا معاً:" هل تعرف أين هو ((هوشيار))؟"
قال ((أبو حيدر)): "لا حول ولا قوة إلابالله، تعال يا ((جتو))، أظن بأني أعرف أين هو، لا تقلقي يا أختي، ستكون الأمور على ما يرام"،
و خرجا من البيت..
كان الاضطراب يستحوذ على مشاعر ((جتو)) كافة، والقلق بادٍ على وجهه، و يقص لـ((أبو حيدر)) تفاصيل ما جرى بينه وبين ابنه بالأمس :
_"(( انطلقت (القوندرة) من يد ((هوشيار)) وفعلت (فرررررر)من دورانها عدة مرات في انطلاقتها الصاروخية في الهواء، واتجهت نحوي، وكنت أحاول بكل ما لدي من قوة أن أتخلص من أصابع الأيادي الستة التي تمسكني، كانت زوجتي وابنتي وابني الأصغر يمسكون بي خشية أن أصطدم في عراك لا تحمد عقباه معه، وسط غرفة انتشر في أركانها الغبار والصراخ والضجيج وكلمات بذيئة وسخط، وفي المقابل، خرج ((هوشيار )) (صاحب الحذاء) كالطلقة من البيت متوعدا ألف مرة بأننا سوف نندم وبشدة على أفعالنا تجاهه، وهو كان قد خرج تلك اللحظة هاربا من معركة بدايتها كانت عبارة عن مشادة كلامية بينه وبين أخته الصغرى حول ريموت كونترول التلفزيون، فور انتهاء حمرة عصارة الشمس الغائبة في البلدة، إذ كانت البنت تريد أن تشاهد الحلقة الأخيرة من مسلسل مدبلج إلى الكوردية، وتصر على مشاهدتها، ولو كلف ذلك روحها، والأخ يمانع أن تنظر أخته إلى شابين يحتضنان بعضهما.. والحقيقة، أنا دافعت عن البنت ..))
و كان ((أبو حيدر)) يستمع بعطف شديد وحزن إلى القصة، والتي كثيرا ما شاهد أعنف من ذلك هنا و هناك، ويرى بأن ((جتو)) ارتكب حماقة مع ((هوشيار))، و هو الآن سوف يلعن روحه وروح أجداد أجداده إذا عرف ماذا حل بـ((هوشيار))..
لكن هناك أمور ربما غير مفهومة بعد، ربما ليس السبب هو العراك، قد تكون هناك أسباب أخرى،
أضاف ((جتو)) مرة أخرى:
_ "بالله عليك، أتوسل إليك بكل ما تقدسه أنت، إلى أين تريد أن تأخذني، هل هناك شيء خافٍ ومهم، وأنا لا أعرفه؟"
أجاب ((أبو حيدر)):
_"المصائب ربما تأتي من غير أن تنتظرها، سيكون الوقع على المرء شديدا إذا تفاجأ بمصيبة كالتي سنراها بعد قليل، أرجو أن تتمالك، يا صديقي"
و مرا بجانب كومة بلوكات بجانب ركن الفرع، وتوجها نحو اليسار، ورويدا رويدا، بدأ ((جتو)) يفقد صوابه، و يتوسل مرة أخرى، لكن صديقه لا يخبره أين هو ابنه.. من الصعب على الإنسان أحيانا أن يتفوه بكلمات وعبارات يعجز القلب والعقل عن تقبلها..
وهناك، وصلا إلى المكان المقصود، حيث الناس مندهشون وشاحبو الوجوه، حيث القلوب منكسرة للذي يرونه أمام أعينهم، وخطوة بخطوة، شق الشخصان طريقهما وسط زحمة الكتل البشرية الواقفة بحزن، واتجها نحو البناية التي منع من الدخول إليها سوى رجال التحقيق، و سمحا لـ((جتو)) أن يقترب من البناية، ويدخل من بابها، ويقف..
وقف أمام أصعب لقطة حزن وقعت عليها عيناه منذ ولدته أمه،
وقف فاغر الفم، مذبوح القلب، شاحب الوجه، مصلوب القامة، أمام ابنه،
بدأ يدق صدره باللكمات، ويضرب أخاديده بعنف، ويجهش بالعويل والبكاء،
بدأ يشد خصلات شعره بقوة، وهو ينوي اقتلاعها من الأصل،
كان ابنه ميتا لا حراك فيه..
لقد وجد ابنه أخيرا، كان واقفا بصورة عجيبة..
لقد كان قد قصد هذه البناية المهجورة، ونزع قميصه بهدوء في الليلة الماضية، ووضع بلوكين تحت قدميه، وعلق رقبته بعقدة القميص المثبت بهوائية الباب، وقفز من هناك، وشنق نفسه، نعم.. شنق نفسه.. يا للكارثة.. !
وهناك وسط حزن الجو، وقطرات دموع بطعم الدم، برق ضوء فلاش الكاميرا العائد لرجل التحقيق على جسد ((هوشيار))، ليتبين للحظة واحدة خيط غريب من الدم الجاف، نازلا من إحدى فتحتي أنفه، ليتلاشى مرة أخرى تحت ظلال هيكل البناية،
وسقط جتو أمام قدمي ابنه نائحا.. يضرب الأرض بقبضتي يديه.. ويمسك بعدها بكومة من التراب ويهيلها على رأسه.. يلطخ وجهه بالتراب، ويتبعها بكومة ثانية، ثم ثالثة.. وعاود ضرب وجهه وعينيه وصدره وفخذيه، وهو يصيح بملء فيه:
_" يااااااااا ويلاه...." ويتجه نحوه ثلاثة من الرجال الحاضرين، ويرفعونه من الأرض، ويؤانسونه بكلمات محفوظة..!
ويختفي ((هوشيار)) عن الدنيا، يلتحق بالملايين الملايين من البشر، الذين سبقوه، ويوارى جثمانه في مقبرة البلدة بعد أربع ساعات،
و تعود الحمام إلى هديلها الجميل، ورفرفة جناحيها حول فتحة التنكة، وصدرها ممتليء بالحبوب والماء لفرختيها العاريتين.. لتعلن للجموع البشرية والخلائق جميعا: أن الحياة لا تنتهي ببساطة أبدا، أبدا، أبدا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق