مسعود عبد الخالق
هناك فرق واضح بين دخول العلمانية في العالم المسيحي والعالم الإسلامي،لأن التعاليم
المسيحية في الإنجيل لا تحتوي على الشريعة، ويعترف بذلك (الكتاب المقدس-جزء: جدول وشروح)
نفسه، إذ جاء فيه حول معنى الإنجيل: "إنه يحتوي على أهم أعمال المسيح وأقواله
..."، أي يحتوي على أعمال وأقوال المسيح، وليس على الشريعة، وذلك لم يقتصر على
الأناجيل الأربعة (مرقص، يوحنا، لوقا، بولص)، بل وقع الأمر نفسه مع (إنجيل برنابا)،وبهذا
ترك الإنجيل فراغاً مهمّاً لكل من يريد
ملئه، وكان رجال الدين يملؤونه باجتهاداتهم،
وآرائهم، حسب مصالحهم. وهذه الشريعة، التي أفرزتها اجتهاداتهم، هي بحد ذاتها زيادة
وبدعة في المسيحية. في الحقيقة أن ما جرى في أوروبا (العلمنة) لم يكن ثورة على المسيحية
بالكامل، بل على هذه الزيادة. وبعد الثورة على الكنيسة، وإحداث تغييرات في المسيحية،
عادوا من الصراع إلى الوحدة، والموائمة بين كل من: العلمانية والمسيحية والتراث، كل
في مكانه، وأدى ذلك إلى بناء حضارة جديدة ومتقدمة. هكذا دخلت العلمانية بصعوبة إلى
المجتمع الأوروبي، ولكنها استقرت بسهولة فيه.
أما في المجتمع الإسلامي، فإن هناك قرآناً حياً [إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له
لحافظون]، فيه عقيدة وشريعة في صلب الدين، دون فصل بينهما. وعلى الرغم من وجود جوانب
من الفقه الإسلامي تفتقر إلى الدقة العلمية، لكنه في النهاية لم يترك أي فراغ في طياته،
حتى تأتي العلمانية لتملأه، لذلك من الصعب إدخال العلمانية بشكل طبيعي إلى العالم الإسلامي،
في ظل وجود أحكام القرآن.
وعملية (العلمنة) قد تحتاج إلى قوة خارجية لفرضها، وزحزحة القرآن من قلوب المسلمين.
لذلك ذهب كثير من الباحثين إلى الربط بين العلمانية والمشاريع الاستعمارية والصهيونية([1]). والدليل
على ذلك أقوال قادة الغرب حول الإسلام، والقرآن، والكعبة، والقدس، حيث لم يترددوا في
قولهم إن الإسلام هو العائق الرئيس أمام المشاريع الاستعمارية. فقائد الحملة البرتغالية
ضد المسلمين في الأندلس عام1515م، كان شعاره (طرد المسلمين، وإخماد النار المحمدية
إلى الأبد)، كذلك قول الجنرال (اللنبـي)، عند دخوله القدس عام1918م: "الآن انتهت
الحروب الصليبية"([2]). وقد
رفع (جلادستون) -رئيس وزراء بريطانيا – القرآن بيده مخاطباً زملاءه من الوزراء:
"ما دام هذا القرآن في أيدي المسلمين، يتدارسونه، ويقبلون على العناية، لن تقوم
لنا قائمة، فلا بد من العمل على انتزاع هذا الكتاب من عقولهم وقلوبهم"([3]). وقد
أدركت أطراف الحرب العالمية الأولى أيضاً أهمية القرآن، كوسيلة للجهاد في ساحة القتال،
لذلك اتخذت الاستعدادات اللازمة ضده([4]).
هكذا تكون العلمنة في العالم الإسلامي بحاجة إلى خطة وبرنامج معقد وطويل الأمد،
وأحياناً إلى حملات عسكرية استعمارية، وغزوات فكرية وحضارية وثقافية، وأحياناً أخرى
تبشيرية.
دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي:
إن أسباب ووسائل ومبررات العلمانية في الغرب، تختلف كلياً عن الحالة الموجودة
في العالم الإسلامي. حيث دخلت العلمانية إلى العالم الإسلامي من الغرب، في بداية القرن
العشرين، مع الحملات العسكرية، وفي ظلِّ الظروف السيئة للعالم الإسلامي، في النواحي
السياسية والاجتماعة والحضارية والعسكرية، وكالآتي:
1- انهيار الخلافة الإسلامية، وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأُولى
1914-1918م.
2- احتلال العالم الإسلامي، وتقسيمه من قبل الدول التي رفعت راية العلمانية.
3- وفي الداخل، كانت الأمة الإسلامية تعاني من انقسام إلى قوميات وطوائف وأعراق،
أدى ذلك إلى تجزئة دار الإسلام (الوطن الإسلامي)، إلى دويلات وأوطان متفرّقة.
4- هيمنة الحضارة الغربية على الحضارة الإسلامية، بشكل حاد.
وبموجب قاعدة (ابن خلدون): "بأن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب"([5])، وفي
هذه الحالة (غير الطبيعية): حالة هيمنة الغرب على العالم الإسلامي، عسكرياً وسياسياً
وثقافياً وعلمياً، سادت العلمانية فيه.. بعد أن كان الإسلام هو الغالب والمهيمن، وكان
أنموذجاً للتقدم والحضارة، وشاهداً على عصره. يقول (شبلي العيسمي) في هذا الصدد:
"إن أول موجة من النور أضاءت أوروبا، كانت مؤلفات ابن رشد، لذا حرمت الكنيسة الاطلاع
على كتبه"([6]). وجاء
في الوثائق التاريخية أن ملك بريطانيا (جورج) كتب إلى (هشام الثالث)، خليفة الأندلس،
وطلب منه مساعدة الطلاب البريطانيين، للتعلم في جامعات الأندلس.
استمر صعود النجم الإسلامي حتى حوالي القرن (17– 18م)، وكانت الآلة العسكرية العثمانية
هي الأقوى، وبدأ التخلف الثقافي والديني والحضاري يسود العالم الإسلامي، في الوقت الذي
بدأت أوروبا فيه تمر بمراحل نحو الصعود: من عصر الظلمات، إلى (العصور الوسطى)، ومنها
إلى عصر النهضة وعصر التنوير، ثم العهد الحديث (العلماني). بعكس العالم الإسلامي، حيث
بدأ يسير نحو النزول، وعادت رواسب الجاهلية، والثقافة الغربية والشرقية، القديمة منها
والحديثة، تدخل إلى العقل المسلم، في جميع الجهات، تمهيداً لنشر العلمانية.
ونلخص أهم المراحل والمحطات التاريخية لهذه العملية التي أسهمت في نشر العلمانية
في العالم الإسلامي وكالآتي:
* تاريخياً: أول حملة استعمارية يرافقها غزو فكري وثقافي، كانت هي حملة (الأسكندر
المقدوني) على الشرق في القرن (4-3ق.م)، حيث رافقتها هيئة من العلماء، ونتج عنها الحركة
المسماة فيما بعد بالهلنيستية([7]). وقد
جاء في (الملل والنحل): "..لفيثاكورس تلميذان رشيدان، يدعى أحدهما (ملتسكس)، ويعرف
بـ(مرزنوس)، وقد دخل (فارس)، ودعا الناس إلى (حكمة فيثاكورس)، وأضيفت حكمته إلى (مجوسية
القوم). ويدعى الآخر (فلانوس)، دخل (الهند)، ودعا الناس إلى (حكمة فيثاكورس) أيضاً،
وأضيفت حكمته إلى (برهمة القوم).. إلا أن المجوس أخذوا جسمانية قوله، والهند أخذوا
روحانية قوله([8]). هذه
الحركة تركت أثرها في الشرق الأوسط إلى المحيط الهندي، ونتيجة لذلك نجد أن أكثرية الأديان
والعقائد القديمة فيها نوع من الفصل بين سلطة السماء والأرض، انعكاساً للفلسفة اليونانية.
هذا الفصل عاد ودخل تدريجياً إلى العالم الإسلامي، بعد الخلافة الراشدة، مع التجارب
والأفكار والعادات اللاإسلامية الأخرى، والتي كان بعضها إيجابياً مصنفاً على تجارب
البشرية العلمية، والآخر سلبياً، مصنفاً على كونها بدعة في المنهج، ولكنها في النهاية
فتحت الأبواب لاستيراد هذه التجارب على حساب المنهج الإسلامي، نورد بعضاً منها:
- أوّل انحراف جاء به (معاوية)، عندما غصب الخلافة، وحوّلها إلى حكمٍ وراثي.
- وفي عهد العباسيين، دخلت العادات غير الإسلامية، كما سادت الفلسفة الإغريقية
على الحياة الفكرية([9]).
- أوّل تجربة وزارية دخلت إلى الحكم الإسلامي، في عهد العباسيين في الفترة132-232هـ،
مأخوذة من فارس([10]).
- بدأت مراكز الخلافة تتعدد، ففي وقت واحد (مثلاً) وجدت ثلاث خلافات باسم الإسلام:
(العباسيون في العراق، الأمويون في الأندلس،
الفاطميون في إفريقية وصقلية وجنوب إيطاليا، ثم مصر، وقسم كبير من الشام)([11]).
- بدأ هارون الرشيد يتعاون مع المرابطين المسيحيين في الأندلس، ضد الخلافة الإسلامية،
وهناك حديث تاريخي حول العلاقة المشبوهة بين هارون الرشيد بـ(شارلمان)*، مباشرة، أو
عبر التجار سراً. ولكن بسبب قوة الخلافة لم يتبين أثر هذه الظواهركثيراً، إلا بعد ضعف
الخلافة في العهد العثماني، التي سميت فيما بعد بالرجل المريض، والتي استمرت هي الأخرى،
بشكل أوسع، في اتباع سياسة الباب المفتوح والتغريب.
التغريب في عهد العثمانيين:
في عهد السلطان محمود الثاني قضى على الانكشارية سنة 1826م، وأمر بتشكيل جيش آخر
بزي عسكري على النمط الأوروبي.
تنازل السلطان عبدالمجيد عام1839م لدستور مختلط بين الشريعة الإسلامية ومبادئ
الثورة الفرنسية، بذلك جاءت أول شراكة للشريعة مباشرة.
منذ 1830م بدأ المبعوثون العائدون من أوروبا، بترجمة كتب فولتير وروسو ومونتسيكو،
في محاولة منهم لنشر الفكر الأوروبي، الذي ثار ضد الدين المسيحي في القرن 18.
في سنة 1856م انضمت الدولة العثمانية إلى (العائلة الأوروبية)، وخصوصاً بعد (صلح
وستفاليا) سنة 1648م، القائم على أساس علماني.
وفي مصر (وهي ولاية عثمانية) بدأ (محمد علي) (والي مصر)- الذي تولى الحكم عام
1805م - ببناء جيش على النظام الفرنسي([12])،
ومنذ تلك السنة المذكورة اعتبرت إصلاحات (محمد علي) جذوراً للعلمانية، كما عمد إلى
ابتعاث الأزهريين من أجل التخصص في أوروبا.
وفي تونس أنشأ (أحمد باشا باي الأول) جيشاً نظامياً، وفتح مدرسة العلوم الحربية،
وفيها ضباط وأساتذة فرنسيون وإيطاليون وإنجليز.
وفي إيران- مع أنها ليست ضمن الدولة العثمانية، لكنها ضمن العالم الإسلامي- افتتحت
سنة 1852 كلية للعلوم والفنون على أساسٍ غربي.
وفي لبنان، منذ عام 1860م، بدأت حركة التغريب عن طريق الإرساليات. ومنها إلى مصر،
في ظل حكم الخديوي إسماعيل، الذي كان هدفه أن يجعل مصر قطعة من أوروبا. وفي 1867م زار
الخديوي باريس، تزامناً مع زيارة السلطان عبدالعزيز، حينما لبيا دعوة الإمبراطور نابليون
الثالث، لحضور المعرض الفرنسي العام، وكلاهما كانا يسيران في تيار الحضارة الغربية.
أما نصارى الشام، فكانوا أول من اتصلوا بالبعثات التبشيرية والإرساليات، وتلقوا
الثقافة الفرنسية والإنجليزية. كماكانوا يشجعون العلمانية التحررية، وذلك لعدم إحساسهم
بالولاء تجاه الدولة العثمانية، ويظهر منهم ما يدل على إعجابهم بالغرب، ودعوتهم إلى
الإقتداء به، وقد ظهر ذلك في الصحف التي أسسوها، وعملوا فيها. ومن هؤلاء: (ناصيف اليازجي
1800-1871م، بطرس البستاني 1819-1883م)، والأخير هو أول مسيحي دعا إلى العروبة والوطنية،
إذ كان شعاره (حب الوطن من الإيمان)، وأسهم في ترجمة البروتستانتية للتوراة مع الأمريكيين
(سميث وكانديك)([13]).
من الناحية العسكرية: وهي عبارة عن نكسات عسكرية أمام الغرب،
في الأندلس أولاً، ثم في إفريقيا، وصولاً إلى الهند، ولكن الذي ترك أثراً بالغاً هوالفقدان
التدريجي للولايات العثمانية منذ القرن (18)، وفق تسلسله الزمني، وكالآتي:
المجر 1774م، مصر 1808م، صربيا 1870م، رومانيا 1878، اليونان 1882م، بلغاريا
1908م، طرابلس (ليبيا) 1911م، ألبانيا 1913م([14])،
وكانت آثار هذه النكسات قوية ومباشرة في تعزيز الفكر العلماني، وبالمقابل تقهقر الفكر
الإسلامي. أما على الجبهة الروسية، فإن الحرب ضد الدولة العثمانية في سنة 1875م، أدّت
إلى خلع السلطان، بسبب الديون الحربية، وقيام إدارة دولية للإشراف على قضية هذه الديون،
وأمر سدادها.
إن أول تحدٍّ داخليّ خطير، هو بروز مسألة استقلال (لبنان) عن مركز الخلافة. والقصة
كالآتي: كان النفوذ الفرنسي والإنجليزي موزعاً بين المارونيين والدروز على التوالي،
وأدّى ذلك إلى فتنةٍ طائفيّة بينهما، وفي النهاية تنازل السلطان للدول الأوروبية، بمنح
(جبل لبنان) نظاماً إدارياً خاصاً، يحكمه نصراني. هكذا أخذت تفلت الولايات من يد العثمانيين
هنا وهناك، إمّا بالحركاتِ الداخلية، أو نتيجة غزوٍ استعماريّ، من المحيط الهندي وأفغانستان
إلى المغرب والخليج العربي ومصر وشمال إفريقيا وبلاد الشام، وأخيراً وقعت الدولة العثمانية
في فخ الحرب العالمية الأولى، وهزمت، ثم انهارت.
على الصعيد الفكري: وهو ليس أقل أهمية من الميدان العسكري،
فقد عجز الفكر الإسلامي*عن مواجهة
تحديات وأسئلة العصر. ومن جهة أخرى، استمرت التناقضات الفكرية الداخلية (بين المدارس
والمذاهب الإسلامية) دون حسم، فلجأت إلى الفلسفة اليونانية في سبيل إيجاد الحلول. وقد
أتت جذور هذه الأزمات من داخل الفكر الإسلامي نفسه، الذي عجز عن تفسير بعض الظواهر
السياسية الغريبة، ولا سيّما الصراعات السياسية على السلطة، التي أدّت إلى نشوب الاختلاف،
وسوء استخدام الدين الإسلامي، من أجل تغطية الدوافع السياسية، بخاصة بعد تمرد (معاوية)
على الخلافة، ثم اغتصابها. وأدّى ذلك بدوره، إلى ابتعاد العلماء تدريجياً عن السلطة
والسياسة. وهي بداية الشرخ بين: الدين والسياسة، القرآن والسلطان، العلماء والأمراء
(أهل القلم وأهل السيف). وساعد هذا الشرخ على سوء الفهم لبعض الأحاديث، مثل: (..أَلا
إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ، فَلا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ**)، وكذلك بعض الأقوال:
"إذا رُؤي الأمراء على باب العلماء..."، وكذلك مقولة: "اعمل لدنياك
كأنك تعيش أبداً ..."، وهذهِ كأنها تتحدث عن الكتاب والعلماء والآخرة من جهة،
وعن السلطان والأُمراء والدنيا من جهة أُخرى، وتحقّق هذا بالفعل بعد أن سيطر (معاوية)
بالقوة والحيلة، وحوّل الخلافة إلى الوراثة والاستبداد، مِمّا أدّى إلى ابتعاد مجموعة
من القادة والعلماء، مثل (سعد بن أبي وقاص، وأبو موسى الأشعري، وأبو أيوب الأنصاريّ...)
واعتزال السياسة، وقد دفع هذا بـ(علي ابن أبي طالب) (كرّم الله وجهه) إلى أن يعلق على
هؤلاء المعتزلين عن السياسة، بقوله:"هؤلاء خذلوا الحق، ولم ينصروا الباطل".
هذا النفور والابتعاد عن السياسة، أدّى إلى فصلٍ تدريجي بين المفاهيم الموحدة التالية:
الدنيا والآخرة، العلماء والأمراء، العقل والنقل، الشريعة والقانون، أو الدين السماوي
والقانون الأرضي، سلطة الأرض وسلطة السماء، الدين والوطن، بالتالي فصل بين الإسلام
والمسلمين.. واستمرت سلسلة الفصل هذه حتى شملت معظم أمور الحياة البسيطة والمعقدة،
اليومية والبعيدة، وفي النهاية توجّه العلماء نحو القلم، والمنابر، والمسائل الروحية
والآخروية، للأمة، ورجال السياسة (الأمراء) إلى منابر السلطة، والسيف، والأمور الدنيوية.
وكان يقال أحياناً: إن الحكم للعرب، والعلم للعجم. وقد رافق ذلك ظهور مصطلح (الشعوبية)،
ومنع التفكر والتعمق. لذلك نجد في التراث الإسلامي شحة في الكتب السياسية، وهبطت منزلة
السياسة من (أشرف العلم)، إلى (أعوذ بالله من الشيطان والسياسة)، وقد تحقّق في العالم
الإسلامي ما سُمّي بـ(اتفاق البابا- موسوليني)عام 1929م، وأصبح المسلمون خاضعين لحكّامهم،
طيلة فترة حياتهم، ويأتي دور الدين في حالة الوفاة.
ومن جهة أُخرى، عند التقاء الثقافة بين الحضارتين (الغربية والإسلامية)، فإنه
من الطبيعي أن يؤدي الأمر إلى التفاعل بينهما. في البداية كان الغرب أكثر استفادة([15])، وهو
شيء طبيعي للغرب، وهذا لا يغيّر من معنى علمانيتهم، وجوهرها (الذي لا يلغي الدين، ولا
يأخذه كمصدرٍ وحيد)، لكن العكس ليس صحيحاً. أي أن الأمر بالنسبة للإسلام ليس طبيعياً،
فإن أي أثرٍ بشري يحدث في المنهج الإسلامي يعدّ بدعة، طالما الشريعة لا تقبل شريكاً.
وهذا لا يعني أن المجتمع الإسلامي، وبنيته المعرفية والحضارية، مغلقة، بل أبواب العلم
مفتوحة، ما لم يمس المنهج([16])، لا
سيّما في فترات الضعف المعرفي، الذي لا يميز بين ما هو علمي وما هو منهجي، كما جرى
في أواخر ضعف الخلافة، والهيمنة الأوروبية. وهكذا كان من السهل على الغرب تكريم كل
من: ابن رشد، وابن خلدون، والغزالي، وغيرهم... لقاء ما قدّمُوه من خدماتٍ لهم، وللبشرية،
وتصنيفهم ضمن العلمانيين، كتكريمٍ لهم. لكن هيمنة الفلسفة اليونانية على الثقافة الإسلامية،
تعني أن الشريعة الإسلامية ناقصة، وبحاجة إلى ترتيبٍ وإكمال.. وهذا مرفوضٌ بنص الآية
الكريمة: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ
إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ
مُعْرِضُونَ]([17]). على
الرغم من هذا، عادت الفلسفة اليونانية، والتجربة الغربية، تدقُّ أبواب الثقافة الإسلامية،
منذ العصر العباسي، بشكل واسع، حتى رأينا في (رسائل إخوان الصفا)([18]) شعارهم:
"متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال"، بحجة أن
الشريعة تدنس بالجهالات، فلا تغسل إلا بالفلسفة([19])،
كذلك الأمر بالنسبة للمعتزلة، وغيرهم. والأمر لم يقتصر على التيارات الفكرية فحسب،
بل وصل إلى التيارات الاجتماعية كالدروز، أو الصوفية، والشيعة والسنة، والإباضية والأشعرية...
واستمرّ توسّع اعتماد العالم الإسلامي على التجارب الغربية، في نواحٍ أُخرى: علمية
وتكنيكية وسياسية... ولا سيّما في فترة خلافة (الرجل المريض)، وبات التغريب دواءً لكُلِّ
داء الخلافة!!
أما داخلياً: فقد جرت مظاهر مشابهة لما حدث بين العلمانية واللاهوتية في أوروبا،
فقد جرى مثلاً في عام 1737م اتفاق بين العالم الديني (محمد بن عبد الوهاب) مع (حمد
بن سعود)، على أن يتولى الأول الإمامة الدينية، والثاني زعامة الدولة([20])، ولا
تزال هذه الاتفاقية سارية بشكلٍ غير رسمي، بعد أن ألغي عام 1929م من قبل السعودية([21]). ويعدّ
هذا أول إقرار مجاني بالحكم العلماني، ويعترف بفصل: الدين عن السياسة والدولة، والعلماء
عن الأمراء. وقد تأسّستِ الدولة السعودية على أساسه.
وفتح الأبواب المغلقة لمثل هذهِ الدعوات، كان أخطر فيما بعد، وذلك من قبل بعض
علماء الدين، وقد تمثل هذا في سياق تحليل أسباب انحطاط العالم الإسلامي، الذي قدّمه
(عبدالرحمن الكواكبـي)، وسجّل فيه 86 سبباً([22])،
وفي النهاية أقرَّ صراحةً بأن الشريعة غير صالحة لكل زمان ومكان، والأجناس المختلفة.
وفي كتابه (أم القرى)، يربطُ بين العروبة والإسلام، وفي بعض الأحيان يفرط، ويقول: إن
العرب أنسب الأقوام لكي يكونوا قدوة([23])،
بذلك جدّد الدعوات الجاهلية (فضل العرب على العجم)، التي أطلقت من قبل بعض الفقهاء.
ودعا بعض العلماء إلى الأسلوب العلماني في إدارة الدولة([24]).
يقول (محمد عبده): "ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة للدعوة
إلى الخير والتنفير من الشر"، وهذه الآراء قريبة من آراء كل من (سبينوزا)، و(فولتير)،
وغيرهما من الثائرين على الدين في أوروبا. وبهذا الصدد يقول (شبلي العيسمي):
"حركة الإصلاح الديني في القرن 19، التي قادها رجال الدين المتحررين، ضد شيوخ
الإسلام، الذين دعموا السلطة العثمانية الاستبدادية، أمثال: الأفغاني، والكواكبـي،
ومحمد عبده، مهدت لانتشار المذاهب السياسية المعاصرة، كالقومية والاشتراكية والديمقراطية
والعلمانية". وقد رفعت أحياناً الشعارات نفسها، أثناء الانقلاب ضد الدين، والتحوّل
إلى العلمانية في أوروبا. فمثلاً عندما كان (سعد زغلول) يطرح شعارات (تعانق الهلال
والصليب)، ويُردّد معه أيضاً: "الدين لله، والوطن للجميع"، وهناك قول مأثور
آخر منسوب إلى (محمد عبده)، وهو: "إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل"،
وهو قريبٌ من آراء كل من: هوايتهيد، وأبي العلاء المعري، وإخوان الصفاء، وابن رشد،
التوفيقية. والأخير هو صاحب مقولة: "لا يوجد أي تناقض بين العقيدة الدينية والعقل،
لكنه قال علينا أن نؤول الدين بما يتفق ومقتضيات العقل"([25]).
وأخيراً صدر للشيخ (علي عبدالرازق)، شيخ الأزهر في وقتها، كتاب باسم (الإسلام ونظام
الحكم)، حيث أنكر فيه وجود الدولة في الإسلام، لذلك لم يتردّد بعض الكتاب أن يصنفوا
هؤلاء على الماسونية([26]).
هكذا دخلت العلمانية إلى العالم الإسلامي، ولا سيّما بعد هزيمة الدولة العثمانية،
وانتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الأُولى (1914-1918م)، ودخلت المنطقة
في مرحلةٍ جديدة، وهذا ما سيكون محور حلقتنا القادمة معه.
الهوامش:
[1]- بالإضافة إلى هذا، جاء في البروتوكولات، من المادة (2-5) ما يماثله،
وهو التنبؤ بما حدث، وكأن ماجرى في العالم الإسلامي قد تم تخطيطه من قبلهم.
[4]- للتوسع ينظر
إلى
الكتب التالية: عباس محمود عقاد، ما يقال عن الإسلام:
91. جورج كامبل، إفريقيا الإستوائية: 2/
276.
مايكل ريبون، النار السوداء.. حرب العصابات فى روديسيا: ص76-،
ص117.
معذبو الأرض:6. عبدالكريم العبيدي، تصفية المصالح الإمبريالية
الأمريكية: ص48.
المعتقدات الدينية لدى الشعوب: ص7. إدوارد سعيد (الاستشراق والثقافة والإمبريالية -Orientalism 1978،Culture & Imperialism ,new york 1993). روجيه
غارودي، ماركسية القرن العشرين، ص149، وص195. هاري ماجدوف، الإمبريالية من عصرالاستعمار
إلى اليوم، ص67. التبشير والاستعمار، ص104.
[7]- مصطلح يتكون من لفظين (هيلن =أجداد+ ئيست=الشرق)، ويعني التزاوج بين
الثقافة اليونانية والشرقية. يذكر أن القدماء الإغريق كانوا يطلقون عن بلاد اليونان
بـ(هيلاس). انظر: ويل ديورانت، أبطال في التاريخ،
ص96.
[8]- أبي الفتح الشهرستاني، الملل والنحل، تحـ: محمد عبدالقادر الفضل،
بيروت، الطبعة الأولى، ج3، ص79. (كذلك يورد قصة الحضارة – ج13 قصة فرار كثير من الفلاسفة
اليونانين في 529م عند غلق مدارس أثينا).
[9]- موسوعة الأديان في العالم، المشرف العام: جميل مربك، الطبعة الأصلية
2000، بيروت، مجـ: الإسلام، ص15.
[12]- محمد علي كان أقرب إلى فرنسا، كما يظهر فيما بعد، عند صراعه مع الخلافة،
وسيطرته على الشام. وبقرار من مؤتمر لندن سنة 1860م أعيد إلى حيث أتى، ولم تشترك فرنسا
فيه، بسبب معارضة القرارات ضد محمد علي.
[13]-هذه المعلومات مقتبسة من الكتب التالية: أ- الموسوعة الميسرة، ص145-147،
ب- محمد مهدي شمس الدين، العلمانية، ص91-92،
ج- بنى مرجة، صحوة الرجل المريض، ص165- 261.
[14]- د. وميض جمال عمر نظمي وآخرون، التطور السياسي المعاصر في العراق،
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، ص31-32.
*- الفكر الإسلامي شبيه بالفقه الإسلامي: فالفقه هو ذلك العلم الذي يفهم
الإنسان من الشريعة. أما الفكر الإسلامي، فهو ذلك العلم الذي يفهمه الإنسان من العقيدة
والإيمان.
[18]- حمل عنهم (51) رسالة، مركزهم البصرة، وهم معجبون بالأفكار اليونانية،
لا سيّما فيثاغورس، واهتموا بالحساب أكثر. أما رسالة إخوان الصفاء في الفلسفة، فتشمل:
(رياضيات المنطق، الطبيعيات، علم النفس، والأخلاق...).انظر: المعجم الشامل، المصدرالسابق،
ص33. ومنجد اللغة والإعلام، ص28.
[20]-د. صالح العابد، حركة الاستقلال العربي، رسالة ماجستير، جامعة المستنصرية،
بغداد، 1988م، ص12-13. (هذه الاتفاقية مشهورة بالتحالف الوهابي - السعودي).
[23]- وهي دعوة شبيهة، من حيث الأساس، بالدعوات الفاشية والنازية والطورانية،
ودعوات الأحزاب القومية العربية (مثل حزب البعث العربي الاشتراكي).
[25]- شبلي العيسمي، ص105. جاء في موسوعة أديان العالم: ج الدروز الموحدون، ص40-41، جذور مسألة العقل المفرطة جاءت من القصة التالية: يورد
أن الله أظهر نفسه على شكل (العلي الأعلى)، وقال للعقل: لا يدخل أحد جنتي - يقصد به
الدين الصحيح- إلا بمحبتك، فمن أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاك فقد عصاني).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق