03‏/09‏/2015

مراعاة فقه الواقع في تطبيق الشريعة الإسلامية

د. أياد كامل الزيباري
إن الجمود، وتغييب النفس عن الواقع، يعد من أهم معوقات نهوض الأمة الإسلامية، وعدم لحوقها بركب الأمم الأخرى، التي أحرزت السبق في أغلب المجالات.
وإن وجود طائفة من الساسة، الذين لا تربطهم بدينهم الرابطة القوية، مع وجود طائفة العلماء، الذين لا تربطهم بواقعهم الرابطة القوية، ليحدث انفصالاً كبيراً في جسم الأمة. وهذا الانفصال يحتاج إلى معرفة العلماء بالواقع، ورجوع الساسة إلى دينهم(1).
وإن واقع المسلمين اليوم يختلط فيه الحلال بالحرام، وتتعدد فيه القوانين والأنظمة المختلفة، المستقاة من تشريعات، تعود إلى فلسفات مختلفة، ليس لها علاقة بالشريعة الإسلامية، إلا في بعض المسائل التي تتعلق بالأسرة، أو ما يسمى بالأحوال الشخصية، مع تشويه بعض أحكامها. بل إن المسلمين في هذا العصر، يقفون بكل ما أوتوا من قوة، ضد أية فكرة تتجه إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ويعدونها عودة إلى الماضي، وإلى التخلف، بل ويقاتلون، ويقتلون، من أجل عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، والواقع شاهد على ذلك. وإن المجتمع اليوم لا يمكن تسميته مجتمعاً إسلامياً، وبالتالي فلا يمكن تطبيق الأحكام الشرعية عليه دفعة واحدة، ولا بد من التدرج والرؤية.
وإذا كان من المستحيل أن يطبق هذا النظام على مجتمع لا يدين بالإسلام، فإنه من العسير تحقيق أحكام هذا القانون في مجتمع إسلامي، تكدرت فيه بعض المشارب الأسرية والاجتماعية، وبعدت عنه في بعض النواحي، فلا بد من إزالة هذا الكدر، وتقريب هذا البعد، حتى يزاول التشريع الإسلامي مهمته(2). وفي خضم هذا الواقع، لا بد لكل ربّان يريد النجاة، أن يعرف الواقع جيداً. ولقد أحسن (ابن تيمية) في هذا المجال، فقال: "تقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين، بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين، بالتزام أدناهما"(3)، ولا يكون هذا إلا بمعرفة الواقع.
مفهوم الفقه
أولاً: الفقه في اللغة:
 له ثلاثة أقوال:
أحدها: مطلق الفهم.
والثاني: فهم الأشياء الدقيقة.
والثالث: فهم غرض المتكلم من كلامه(4).
والفقه مصدر من الفعل: فقه، وهو إدراك الشيء، وفهمه، والعلم به. والفقه في الأصل، هو: الفهم، وقد غلب استعماله لعلوم الدين، لشرفها، وفضلها، وسيادتها على سائر العلوم(5). ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}(6) أي: ليكونوا علماء به(7)، ومنه قوله () : ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))(8).
ثانياً: الفقه في الاصطلاح:
وهو (الأحكام الشرعية، العملية، المكتسبة من أدلتها التفصيلية )(9).
لقد احترز بقوله: (الأحكام)، عن العلم بالذوات والأفعال. واحترز بقوله: (الشرعية)، عن العقلية والهندسية، واللغوية. واحترز بقوله: (العملية)، عن العلمية، وهي: أصول الدين. وبقوله: (المكتسبة)، عن علم الله تعالى. واحترز بقوله: (من أدلتها)، عن علم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وعن علم الملائكة، فإنه حاصل بالوحي، ويسمى علماً، وليس فقهاً. واحترز بقوله: (التفصيلية)، عن العلم الحاصل للمقلد، فإنه لا يسمى فقهاً، بل تقليداً(10).
وقيل: الفقه: معرفة النفس مالها وما عليها. ويزاد: عملاً، لتخرج الاعتقادات والوجدانيات، فيخرج الكلام والتصوف. ومن لم يزد، أراد الشمول(11).
مفهوم الواقع
أولاً: الواقع في اللغة: من الفعل: وقع. وقد جاءت بمعنى: حدث. نقول: وقع الأمر، أي: حدث(12). وكذلك تأتي بمعنى: سقط. نقول: وقع المطر، أي: سقط(13).
ثانياً: الواقع في الاصطلاح: ولعلماء الإسلام، في القديم والحديث، تعاريف عن فقه الواقع. أورد بعضها باختصار:
قال (ابن قيم الجوزية): "ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى، والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علماً.
الثاني: فهم الواجب في الواقع. وهو فهم حكم الله، الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله، في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.
فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه، في ذلك، لم يعدم أجرين، أو أجراً. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع، والتفقه فيه، إلى معرفة حكم الله ورسوله"(14).
ولقد عبر (الإمام الغزالي) عن فقه الواقع بـ(فقه النفس)(15) .
ويرى بعض المعاصرين: "أن فقه الواقع مبني على دراسة الواقع المعيش، دراسة دقيقة، مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات، وأدق البيانات والإحصائيات"(16).
ويرى آخر أن فقه الواقع يعني: "الوقوف على ما يهم المسلمين، مما يتعلق بشؤونهم، أو كيد أعدائهم، لتحذيرهم، والنهوض بهم، واقعياً، لا كلاماً نظرياً"(17).
ومنهم من يرى أن فقه الواقع "هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة، ورقيها، في الحاضر والمستقبل"(18).
والتعريف الذي أميل إليه، هو: "العلم بالأحكام الشرعية، العملية، وتطبيقها، بأدلتها، على الوقائع والنوازل. واعتباره لمآلات أفعال المكلفين"(19)، وذلك لأن هذا التعريف اشتمل على العلم بالأحكام الشرعية العملية، ومعرفة الواقع، وربط الأحكام الشرعية بالواقع، عبر تطبيق الفقه بأدلته، على الوقائع والنوازل، وأيضا النظر لمقاصد الشريعة، عبر النظر في مآلات الأمور.
أهمية فقه الواقع
من خلال سياسة التدرج، يتبين أهمية فقه الواقع، في النقاط الآتية(20):
1- إن فقه الواقع مهم لعموم أبناء الأمة، وذلك لأن العاقل ليس هو الذي يميز بين الخير والشر، بل هو من يختار خير الخيرين، ويتجنب شر الشرين. وهذا ارتقاء بالعقلية الإسلامية، مما يزيد في عملية تصحيح المخزون المعرفي للأمة، وتنقيته.
2- إن فقه الواقع ضرورة حضارية، وفريضة شرعية، لأنه ضروري لكل عمل ناجح. وكذلك، فإنه ضروري لكل دعوة للإصلاح.
3- التأكيد على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وذلك عبر مراعاة واقع الأمة، فيظهر بذلك يسرُ الشريعة، ومراعاتها لمصالح العباد.
4- تحقيق المعاصرة الإيجابية المرتكزة على الثوابت، والمواكبة لما يجد من تطورات.
5- لا بد للمجتهد من مراعاة فقه الواقع، لأن عدم معرفته بفقه الواقع، يؤدي إلى الاضطراب في استنباط الأحكام، وعدم إمكانية تحقيق مصالح الناس.
6- إن التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، والذي لا بد من مراعاته في فقه التمكين، لا بد له أن يكون مبنياً على المعرفة الجيدة بفقه الواقع.
7- لا يمكن الوصول إلى الهدف المنشود لكل مسلم، وهو التمكين، وتطبيق الشريعة، ومقاومة أعداء الأمة، إلا عبر فقه الواقع، والتدرج فيه .
8- إن فقه الواقع مهم للمجتهد، وهو أشد أهمية لمن يتولى أمور المسلمين. وتظهر أهميته في تحديد الأهداف، ووضع الخطط، ثم الموازنات والأولويات، ثم التدرج في تطبيق الشريعة.
9- إن لسياسة التدرج المحافظة على مصالح العباد. ولا يمكن أن يكون تطبيق الشريعة، والتمكين في الأرض، سائراً في الاتجاه الصحيح، ما لم يكن مراعياً لواقع الحال الداخلي والخارجي.
--------------
الهوامش:
1.      علي بن نايف الشحود، المفصل في شرح أية لا إكراه في الدين، 1429هـ-2008م، ج3، ص 57.
2.      د. عجيل النشمي، التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، ص 1.
3.      ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط2، 1411هـ- 1991م، ج4، ص 332.
4.      ينظر: ابن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 522 ؛ والفيروز آبادي، القاموس المحيط ،ص 1260.
5.      ابن منظور، لسان العرب ، ج13، ص 522.
6.      سورة التوبة: الآية ( 122).
7.      الأزهري، تهذيب اللغة، ج2، ص 239.
8.      البخاري، الجامع المسند الصحيح، ك العلم، ب: من يرد الله به خيراً، رقم الحديث 71.
9.      السبكي، تقي الدين علي بن عبد الكافي (ت 756هـ)، وولده: تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي (ت 771 هـ)، الإبهاج في شرح المنهاج، تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1425هـ - 2004م، ج1، ص 85. وشرح البدخشي، منهاج العقول، للإمام محمد بن حسن البدخشي، ومعه: شرح الأسنوي نهاية السول، للإمام جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي (ت 772هـ)، كلاهما: شرح منهاج الوصول في علم الأصول، القاضي البيضاوي (ت 685 هـ)، دار الفكر، بيروت،ط1، 1421هـ- 2001م، ص 19. وأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي (ت 676 هـ)، روضة الطالبين، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ على محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت ،ج1، ص 9. والشربيني، شمس الدين محمد بن محمد الخطيب ( ت 997هـ)، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، تحقيق: علي محمد وعادل أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1427هـ- 2006م، ج1، ص30. والجرجاني، التعريفات، ص119.
10.  الأسنوي ، جمال الدين أبي محمد عبد الرحيم بن حسن الإسنوي (ت 772هـ)، التمهيد في تخريج الفروع الأصول، تحقيق: د. محمد هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت ، ط1، 1400هـ1980م، ج1، ص 50.
11.  سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي( ت792هـ)، شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (د.س)، ص 16.
12.  الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، ج5، ص212. إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ج1، ص159.
13.  الفيومي، المصباح المنير في غريب شرح الكبير، ج2، ص 668. والفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص 1772.
14.  ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج1، ص 69.
15.  الغزالي، أبي حامد محمد بن محمد بن محمد (ت505هـ)، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، ط3، 1419هـ- 1998م، دار الفكر، دمشق، ج1، ص 573.
16.  د. يوسف القرضاوي، أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1430هـ-2009م، ص 30.
17.  ناصر الدين الألباني (ت 1420هـ)، سؤال وجواب حول فقه الواقع، المكتبة الإسلامية، عمان، ط2، 1422هـ2001م، ص 29.
18.  د. ناصر عمر، فقه الواقع، دار الوطن، الرياض، ط1، 1412هـ1992م ، ص 10.
19.  د. عبد الفتاح أحمد قطب، فقه الواقع دراسة أصولية، مؤسسة قرطبة، ط1، 1422هـ-2002م، ص66.

20.   ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج1، ص 88 . ود. يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية ، ص 287-288. والألباني، فقه الواقع، ص 15. وعلي نايف الشحود، الفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، ج1، ص 121. ود. حبيبة أبو زيد، الاجتهاد الفقهي المعاصر في السياسة الشرعية، ص261. ومحمد الهسنياني، التأصيل الشرعي لفقه الواقع، ص17-21. وفاتح محمد سليمان، معجم مصطلحات الفكر الإسلامي المعاصر، ص 357- 358. ومحمد الوكيلي، فقه الأولويات دراسة في الضوابط، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بيروت، ط1، 1427هـ- 1997، ص ق . ود. عبد الكبير حميدي، مجلة البيان، سنة 1428هـ-2007م، عدد 234، ص4.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق