02‏/09‏/2015

جريمة الردة وعقوبة المرتد في الفكر الإسلامي المعاصر

د.صهيب مصطفى ئاميدى
تعريف الردّة لغة واصطلاحا:
الرِّدّة لغة تعني الرجوع عن الشيء، و(ردَدَ): ردَّه عن وجهه يردّه ردّاً ومردّاً، وردّ عليه الشيء إذ لم يقبله. والارتداد: الرجوع، ومنه المرتد. والردّة (بالكسر): مصدر قولك ردّه يرُدّه ردّاً ورِدّة. والردّة: الاسم من الارتداد([1]).
أما في اصطلاح الفقهاء، فهي تعني حصراً الرجوع عن الإسلام.. وقد بيّن بعض الفقهاء معنى الرّدّة من خلال تعريف المرتد، فقد عرف (ابن قدامة المقدسي الحنبلي) المرتدّ، قائلاً: (المرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى
الكفر)([2]).
شروط تحقق الرّدة:
من خلال التعريف، يتبيّن إن شروط تحقق الردّة هي:
الرجوع عن الإسلام:
يقصد بالارتداد في كتب الفقه: الرجوع عن الإسلام إلى دين آخر، أو إلى غير دين، وليس الانتقال بين الأديان الأخرى، كاليهودي - مثلا- إذا تنصر، أو العكس. فيشترط لتحقق الردّة، أن يكون الشخص المرتد مسلماً قبل ذلك، ثم ينطق بالكفر، أو يأتي ما يوجب الكفر([3]).
البلوغ:
البلوغ هو شرط التكليف في سائر العبادات والمعاملات والأحكام، وهو شرط أيضاً لتحقق الردّة، لقول الرسول h: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبـي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)([4]).
العقل:
من المعروف أن العقل شرط من شروط التكليف، أو هو مدار التكليف. وهو محل اتفاق العلماء. وعليه، فقد اشترطوا العقل لصحة الردّة، فلا اعتبار بارتداد المجنون، حتى يفيق([5]).
الاختيار:
ونقصد بها حرية الاختيار، فلكي تكون ردّة المسلم معتبرة، ينبغي أن تكون باختيار صاحبها وحريته، فمن أكره على الكفر، قولاً أو فعلاً، لا يعد مرتداً، إن كان في اعتقاده غير ذلك. لقوله تعالى [مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]([6])
القصد الجنائي:
ونقصد بذلك أن يتعمد الجاني إتيان القول، أو الفعل، وهو يعلم بأنه قول كفر، وفعل كفر. فمن قال كلمة الكفر، وهو لا يعلم أنها كفر، لا يكفر. ومن أتى فعلاً يؤدي إلى الكفر، وهو لا يعلم معناه، لا يكفر. ومن حكى كفراً سمعه، وهو لا يعتقده، لا يكفر([7]).
 الردّة في القرآن الكريم والسنة النبوية
أولاً: الردّة في القرآن الكريم:
وردت الردة بلفظ الارتداد في عدّة آيات، منها:
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَيَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]([8]).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَيَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]([9]).
[إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ]([10]).
كما ورد مفهوم الردة بعبارات وصيغ أخرى، مثل: الكفر بعد الإيمان، وشراء الكفر بالإيمان، والكفر بعد الإسلام، وغير ذلك، في آيات كثيرة، ومنها:
[أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ]([11]).
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ]([12]).
[إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]([13]).
[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُم َّكَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً]([14]).
[وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ]([15]).
[قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ]([16]).
[يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَالَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ]([17]).
[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]([18]).
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ]([19]).
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]([20]).
وعند استقراء هذه الآيات، ودراستها -سواء التي أشارت للردة صراحة، أو بعبارات أخرى- يتبين للباحث ما يلي:
الردّة جريمة كبيرة، والقرآن الكريم شنَّ حملة كبيرة على الارتداد، والمرتدين، ولكن ذلك لا يعتبر دليلاً كافياً على وجود حدّ منصوص عليه في القرآن بهذا الخصوص([21]).
هذه الآيات الكريمة، لم تذكر أي عقوبة دنيوية على ذنب أو جريمة الردّة، ولم تشر - لا تصريحاً، ولا على سبيل الإيماء - إلى ضرورة إكراه المرتد على العودة إلى الاسلام، أو قتله، إذا امتنع ([22]). وإن ما يتواتر في تلك الآيات، هو: التهديد المستمر بعذاب شديد في الآخرة. ويُستثنى من ذلك ما أشارت إليه آية سورة التوبة رقم: 74، التي تتضمن الوعيد بعذاب أليم في الدنيا والآخرة.
إن آية (التوبة: 74) لا تدلّ على تحديد عقوبة الرّدة، لأنها إنما تتحدث عن كفر المنافقين بعد إسلامهم. ومن المعلوم أن المنافقين لا عقوبة دنيوية محددة لهم، لأنهم لا يُظهِرون الكفر، بل يخفونه، ويظهرون الإسلام. والأحكام القضائية في النظام الإسلامي إنما تُبنى على الظاهر من الأعمال أو الأقوال، لا على الباطن الذي انطوت عليه القلوب، أو أسرَّته الضمائر([23]).
من بين هذه الآيات الكريمة آية واحدة فقط هي (مكية)، وهي الآية: 106من (سورة النحل)، وباقي الآيات كلها مدنية، نزل بها الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة بعد الهجرة، وبعد أن أقام الرسول الدولة الإسلامية، وكان هو حاكمها، وكان الإسلام قانونها الذي يخضع له رعاياها، من مسلمين وغير مسلمين، بحكم الاتفاق الذي أبرمه الرسول مع أهل المدينة ومواطنيها عند الهجرة، وهو وثيقة أو صحيفة المدينة، وبحكم السيادة الفعلية والقانونية للإسلام في الدولة([24]).
وبما أن القرآن الكريم لم يحدد عقوبة مقررة للردة والمرتد في الدنيا، فإن الفقهاء استدلوا على جريمة الردّة، وعقوبتها، بمجموعة أحاديث، سنحاول التعرف عليها فيما يلي.
ثانياً: الردة في السنة النبوية:
أولا: السنة القولية:
وردت عدة أحاديث نبوية حول مفهوم الردة، وعقوبة المرتد، لعل من أشهرها الأحاديث الآتية:
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي النعمان محمد بن الفضل: حدّثنا حمّاد بن زيد، عن أيوب عن عكرمة قال: أتى علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله h: (لا تُعذّبوا بعذاب الله). ولقتلتهم، لقول رسول الله: (من بدّل دينه، فاقتلوه)([25]).
وأخرج البخاري: حدثّنا عمر بن حفص: حدّثنا أبي: حدّثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق عن عبدالله قال: قال رسول الله h (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة)([26]).
وأخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله h (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، فإنه يُرجم، ورجل خرج محارباً لله ورسوله، فإنه يُقتل، أو يُصلب، أو يُنفى من الأرض، أو يَقتل نفساً، فيُقتل بها)([27]).
بعد عرض هذه الأحاديث، لا بد من مناقشتها، وبيان الآراء المختلفة حولها، ومدى اعتبارها دليلاً على عقوبة المرتد..
 الحديث الأول:
بالرغم من أن حديث: (من بدّل دينه فاقتلوه) من أشهر الأحاديث، التي يستدل بها في تثبيت عقوبة الردّة، إلاّ أنه لم يسلم من المناقشة والاعتراض والتأويل، سنداً ومتناً، وعليه نشير إلى جانب من هذه المناقشات والاعتراضات.
 سند الحديث:
الاعتراض الذي يوجه لهذا الحديث يكمن في أنه ورد عن طريق (عكرمة مولى ابن عباس)، ولم يرد عن غيره([28]). فالحديث أورده البخاري، وأبو داود([29])،والترمذي([30])، والنسائي([31])، وابن ماجة([32])، وكلهم رووا هذا الحديث عن طريق (عكرمة مولى ابن عباس).
ولم يسلم (عكرمة) من جرح وانتقاد العلماء، وبالرغم من أن أصحاب الصحاح رووا عنه، إلا أن الإمام مسلم لم يرو عنه إلا مقروناً بغيره. فقد ذكر جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي في كتابه (تهذيب الكمال في أسماء الرجال): أن الإمام مسلم روى له مقروناً بغيره([33]). وهو ما ذكره الإمام الذهبـي في (سير أعلام النبلاء) فقال: (خرّج له مسلم مقروناً بطاووس في الحج)([34]). وذكر ابن حجر العسقلاني ذلك في كتابه (هدي الساري مقدمة فتح الباري) فقال: (احتج به البخاري، وأصحاب السنن، وتركه مسلم، فلم يخرّج له سوى حديث واحد في الحج، مقروناً بسعيد ابن جبير)([35]).
كما أن عدداً من كتب التراجم، والجرح والتعديل، أشارت إلى الجرح الذي تعرض له، والانتقادات التي وجهت له، من قبل العلماء. وسنورد بعض ما ورد عنه من جرح، في بعض الكتب:
 كتاب (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للمزّي([36]):
ذكر الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي، في كتابه (تهذيب الكمال في أسماء الرجال)، مجموعة من مناقب وفضائل (عكرمة)، في زهاء سبع صفحات، ثم بعد ذلك أورد آراء العلماء في تجريحه، واتهامه، في زهاء عشر صفحات. ومما ذكره المؤلف في تجريح (عكرمة):
قال عمر بن قيس المكي، عن عطاء: كان عكرمة أباضياً.
وقال مصعب بن عبدالله الزّبيدي: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، وادّعى على (عبدالله بن عباس) أنه كان يرى رأي الخوارج.
وقال أبو خلف عبدالله بن عيسى الخرّاز عن يحيى البكّاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتق الله ويحك يا نافع، ولا تكذب عليّ، كما كذب عكرمة على ابن عباس.
وقال إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن سعيد بن المسيَب، أنه كان يقول لغلام له يقال له بُرد: يا بُرد لا تكذب عليّ، كما يكذب عكرمة على ابن عباس.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، دخلت على (عليّ بن عبدالله بن عباس) و(عكرمة) مقيّد على باب الحُشّ، قال: قلت: ما لهذا كذا؟ قال: إنه يكذب على أبي.

كتاب (سير أعلام النبلاء) للذهبـي([37]):
الإمام الذهبـي أيضاً أطال في ذكر مناقب (عكرمة)، في كتابه (سير أعلام النبلاء)، ولكنه بعد ذلك أطال أيضاً في ذكر تجريح العلماء له، وهنا نقتبس جانبا من هذا التجريح:
قال إبراهيم الجوزجاني: سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة: أكان يرى رأي الإباضية؟ فقال: يقال إنه كان صفرياً، قلت: أتى البربر؟ قال: نعم، وأتى خراسان يطوف على الأمراء يأخذ منهم.
إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، أنه كان يقول لغلام له: يا برد، لا تكذب عليّ، كما يكذب عكرمة على ابن عباس.
قال إسحاق بن الطباع: سألت مالكاً: أبلغك أن ابن عمر قال لنافع لا تكذب عليّ، كما كذب عكرمة على عبدالله. قال: لا، ولكني بلغني أن سعيد ابن المسيب قال ذلك لبرد مولاه، ولم يكن لعكرمة ذكر في أيام ابن عمر، ولا كان تصدى للرواية.
هشام بن سعد، عن عطاء الخراساني، قال: قلت لسعيد بن المسيب: إن عكرمة يزعم أن رسول الله h تزوج ميمونة وهو محرم، فقال: كذب مخبثان، اذهب إليه فسبّه. سأحدثكم: قدم رسول الله h، وهو محرم، فلما حلّ تزوجها.

كتاب (الوافي بالوفيات) للصفدي([38]):
مما ورد من تجريح العلماء لـ(عكرمة)، في كتاب (الوافي بالوفيات)، ما يلي:
قال إبن المديني: كان – أي عكرمة- يرى رأي الإباضية. وقال مصعب الزبيري: كان يرى رأي الخوارج.
قال عبد الله إبن الحارث: دخلت على (علي بن عبد الله بن عباس) و(عكرمة) موثقاً على باب الكنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: إن هذا مكذوب على أبي.
قال إبن المسيب لمولاه برد: لا تكذب عليّ، كما كذب عكرمة على إبن عباس.

كتاب (تهذيب التهذيب) لابن حجر العسقلاني([39]):
ذكر (ابن حجر العسقلاني) مناقب (عكرمة)، وما قيل في وصفه، في كتابه (تهذيب التهذيب)، ثم بعد ذلك أورد ما تعرض له من تجريح من قبل العلماء. ونحن نقتبس فقرات من هذا الجرح، فقد ذكر المؤلف:
قال ابن لهيعة، عن أبي الأسود: كان عكرمة قليل العقل، خفيفاً، كان قد سمع الحديث من رجلين، وكان إذا سئل، حدّث به عن رجل، ثم يسأل عنه بعد ذلك، فيحدث به، عن الآخر، فكانوا يقولون: ما أكذبه.
قال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، وزعم أن مولاه كان كذلك.
قال أبو خلف الخزاز، عن يحيى البكاء: سمعت إبن عمر يقول لنافع: إتق الله، ويحك، يا نافع، ولا تكذب علي، كما كذب عكرمة على ابن عباس.
قال إبراهيم بن المنذر، عن معن بن عيسى، وغيره: كان مالك لا يرى عكرمة ثقة، ويأمر أن لا يؤخذ عنه.
قال الربيع، عن الشافعي: مالك بن أنس سيء الرأي في عكرمة، قال: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه.
قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد بن حنبل: عكرمة بن خالد المخزومي أوثق من عكرمة مولى ابن عباس.
قال إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس: لو أن مولى ابن عباس اتقى الله، وكفَّ من حديثه، لشُدّت إليه المطايا.
كان هذا جزءاً من أقوال العلماء في تجريح (عكرمة)، مولى ابن عباس، الذي هو الراوى الرئيسي لهذا الحديث، الذي تتوقف عليه دماء وأرواح الناس.
ولكن ليس هذا وحده هو ما يعترض به على هذا الحديث، بل إن متنه أيضا تعرض للنقد والتحليل.

متن الحديث:
إذا فحصنا متن هذا الحديث، وموضوعه، وجدنا في روايته بعض الأمور الغريبة، ومنها:
هل من الممكن أن شخصاً في منزلة (علي بن أبي طالب) (رضي الله عنه)، كان يجهل منع الإسلام تعذيب الإنسان بالنار؟ والمشهور عنه أنه كان يتفادى سفك الدماء ما أمكن، ويظهر ذلك في حروبه، وفي تعامله مع الخوارج([40]).
كلمة (الزنادقة)، في هذا الحديث، هي الحالة الوحيدة التي يحتوي فيها حديث على تلك الكلمة. فهي كلمة فارسية – وعكرمة فارسي – وهي تعني بالفارسية (زندو كرو)، أي: القائل بدوام الدهر([41]).
جملة: (مَنْ بَدَّل دينه فاقتلوه)، يمكن تفسيرها بعدة طرق، وهي جملة مطلقة. وهي بهذا الإطلاق تَصْدق على الرجال والنساء والأطفال. ومع ذلك اختلف فقهاء الحنفية في: هل تُقتَل المرأة المرتدة والطفل، أم لا؟([42]).
لفظ: (دينه)، لفظ عام، لا يحدد ديناً معيناً. وعلى هذه الدلالة - في لغة القانون- يُقتَل كل من يترك دينه لدين آخر، وهو رأي بعض الشافعية([43]).
ويبدو مما سبق، أن هذا الحديث وحده لا يكفي دليلاً لقضية خطيرة، تتعلق بدماء الناس، وأرواحهم، خصوصاً إذا استذكرنا قاعدة (درء الحدود بالشبهات)([44]).
الحديثان الثاني والثالث:
الحديث الثاني هو: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله" وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة).
ورد هذا الحديث مجملاً، مع أنه بيّن صفة (المفارق لدينه التارك للجماعة) في لفظ البخاري، وورد بلفظ: (التارك لدينه المفارق للجماعة) في رواية مسلم وغيره([45]). حيث لم يجعل الحديث ترك الدين وحده، سبباً للقتل، بل أضاف إليه صفة أخرى، وهي مفارقة الجماعة، التي كانت ظاهرة في المرتدين آنذاك. حيث كانت الردة يومها تغييراً شاملاً وجذرياً، ليس فقط في الفكر والعقيدة، بل في المعسكر والجماعة.
أما الحديث الثالث: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، فإنه يُرجم. ورجل خرج محارباً لله ورسوله، فإنه يُقتل، أو يُصلب، أو يُنفى من الأرض. أو يَقتل نفساً، فيُقتل بها).
هذا الحديث ورد بروايات مختلفة، وفي بعضها ورد بلفظ مطلق، دون قيد. إلا أنه يجب حمل المطلق على المقيد، كما هو مقتضى القاعدة الأصولية، وخاصة إذا اتحد الحكم والسبب، كما هو حال هذه الروايات، فإنها تتحدث عن نفس الحكم، وهو القتل، ونفس السبب، وهو ترك الدين، أو مفارقة الدين. فإذا ورد في بعض الروايات، تقييد لهذا السبب، وجب حمل المطلق على المقيّد([46]).
فقد فصّل الحديث السابق، وبيّن أن المقصود بـ(التارك لدينه المفارق للجامعة)، هو المحارب لله ورسوله، لذلك فالعقوبة تختص بالحرابة والمحارب. وهي نفس العقوبة التي وردت في قوله تعالى [إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] المائدة33، إلا أن الحديث لم يشر إلى قطع الأيدي والأرجل من خلاف.

ثانيا: السنة العملية:
إن مسألة الردة على عهد النبـي h كانت مقترنةً بعداوة الإسلام وحربه، فمن آمن بالإسلام كان يعمل لنصرته، ومن ارتد عنه كان يعمل على حربه، ويلحق بالمشركين. وفي السنة العملية بعض الوقائع التي تتعلق بموضوعنا، وكلها تؤكد أن من ارتد جمع الحرابة إلى الردة، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
عن (ابن عباس) (رضي الله عنهما) قال: (أسري بالنبـي (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم. فقال ناس: نحن نصدق محمداً بما يقول؟! فارتدوا كفاراً، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل)([47]). هذا الحديث يفيد بأنهم قاتلوا في (بدر)، في صفوف المشركين، ضد النبـي h والمسلمين، فقُتل منهم من قُتل.
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: "كان رجل من الأنصار، أسلم ثم ارتد، ولحق بالشرك، ثم تندم، فأرسل إلى قومه: سلوا رسول الله: هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبـي h فقالوا: إن فلاناً قد ندم، وإنه أمرنا أن نسألك: هل له من توبة؟ فنزلت: [كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]آل عمران/(86-89). فأرسل إليه فأسلم"([48])، والذي يتبين من سياق الحديث أن هذا الرجل، الذي ارتد، لحق بأرض الشرك والمشركين، وانضم إليهم، أي أنه قد ترك أرض المسلمين، فهو قد "أرسل إلى قومه".. وهذا يعني أنه قد تركهم بالكلية، فلما احتاج إليهم أرسل إليهم.
وعن أنس (رضي الله عنه) أنه قال: "كَانَ رَجُلٌ نصرانياً فأسلم، وقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ للنبـي h، فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنوه. فَأَصْبَحَ وقد لفظته الْأَرْض([49])، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فَحَفَرُوا لَهُ فأعمقوا، فَأَصْبَحَ وقد لفظته الْأَرْض. فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا، لما هرب منهم، فألقوه خارج القبر، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصْبَحَ وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه([50]). أي تركوه، ولم يدفنوه.
هذه الأحاديث تدل على أن من ارتد كان يلحق بالكفار، ويصبح محارباً للإسلام، فالردة وقتئذ كانت هي (التعبير) عن (التحول الشامل) لدى المرتد عن الولاء للأمة الإسلامية، والقبول بنظامها، واحترام شرائعها، والانتماء إليها ثقافياً وحضارياً، والخضوع لقوانينها ونظمها، فتأتي ردته بمثابة (الإعلان) عن (القطيعة التامة) مع كل ما يقوم عليه كيان الأمة.. ففكرة الارتداد، كنوعٍ من ممارسة حرية العقيدة، لم تكن واردةً وقتئذ.. إن المرتد كان ينضم إلى أعداء الإسلام، فكان أمر النبـي h بقتل المرتد: على قتاله مع الأعداء، لا على ردته عن الإسلام. فالعقوبة هي على الخيانة العظمى، أو الحرابة، لا على مجرد الارتداد([51]).
إن الإسلام يذم النفاق أشد الذم، ويحذر من المنافقين أشد التحذير، فكيف يصح لنا أن نصنع بأيدينا، وأن نقيم بين أظهرنا فئة من المنافقين، خرج الإسلام من قلوبهم، وأخرس السيف – أو العقاب- ألسنتهم، فيغم علينا أمرهم بعد ذلك، فنحسبهم معنا، وهم -في حقيقتهم- يدٌ علينا، يضمرون للإسلام الشر، ويتربصون به الدوائر؟!! هذا بالضبط هو ما يؤدي إليه تقرير العقاب على المرتد لمجرد ردته.. وحكمة الله في التشريع تتنزه عن ذلك العبث قطعاً([52]).

عقوبة المرتدّ في الفكر الإسلامي المعاصر
اختلف المفكرون المعاصرون إزاء إثبات حدّ الردّة، ونفيه، إلى فريقين: أحدهما، يقول بأن الردّة حدّ، وعقوبتها مقدّرة في الشرع، وهي القتل، مع تفريق بعضهم بين المجاهر بكفره، وغير المجاهر، أو بين الردّة المغلظة والمخفّفة. ولكنهم متفقون، في النهاية، على أن الردّة من جرائم الحدود.
أما الفريق الثاني، فهو الذي ينفي أن تكون الردّة من جرائم الحدود، بل هي من جرائم التعزيرات، التي لم يقدر الشرع فيها عقوبة ثابتة، وأن القتل ليس عقوبة المرتد، بل هو عقوبة الحرابة.
وسنعرض فيما يلي آراء مجموعة من المفكرين، من كلا الفريقين:
الفريق الذي يثبت حدّ الردّة:
الكثير من العلماء والمفكرين المعاصرين يتبنون رأي جمهور العلماء الذين يقولون بأن الردّة من جرائم الحدود، وأن عقوبة المرتد هي القتل. وإن كان هؤلاء اشترطوا في القتل الجهر بالكفر، أو أن يعلن معاداته للإسلام. ومن هؤلاء العلماء: فضيلة الدكتور (يوسف القرضاوي)، والدكتور (محمد سعيد رمضان البوطي)، و(عبدالقادر عودة)، وغيرهم.. وفيما يلي عرض لبعض آراء هؤلاء العلماء، إزاء قضية الردّة وعقوبة المرتد..
الدكتور يوسف القرضاوي:
في مقدمة كتابه: (جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة)، ذكر الدكتور (يوسف القرضاوي) الدوافع التي دعته للكتابة في هذا الموضوع([53]).
ومن تلك الدوافع، أن هناك من قال بأن القرآن لم يتعرض لهذه الجريمة قط، في أي آية من آياته. وقال آخرون إنه لم يرد في عقوبة المرتد إلا حديث واحد، هو: (من بدّل دينه فاقتلوه)، وحاولوا أن يهونوا من شأن الحديث. وحاول آخرون أن يهونوا من شأن هذه الجريمة، وخطورتها على المجتمع، ولم يفرقوا بين المسرّ والمجاهر، ولا بين الداعية وغير الداعية، ولا بين الردّة المخففة والردّة المغلظة.
ثم يقول: وقد استبان لنا أن القرآن لم يهمل جريمة الردة، ولا عقوبتها، بالكلية، كما زعم الزاعمون، وأن السنّة لم يرد فيها حديث واحد عن عقوبة المرتد، بل عدد من الأحاديث، عن عدد من الصحابة.
وذكر القرضاوى أن عقوبة المرتد محل اجماع العلماء وان اختلفوا في تحديدها وقال بأن الجمهور يقول بأنها القتل وهو رأي المذاهب الأربعة، بل الثمانية([54]).
وبعد أن أورد عددا من الأحاديث والآثار عن ذلك، قال:
والذي أراه أن العلماء فرقوا في أمر البدعة بين المغلظة والمخففة، كما فرقوا في المبتدعين بين الداعية وغير الداعية. وكذلك يجب أن نفرّق في أمر الردة الغليظة والخفيفة، وفي أمر المرتدين بين الداعية وغير الداعية. فما كان من الردة مغلظًا، وكان المرتد داعية إلى بدعته بلسانه، أو بقلمه، فالأولى في مثله التغليظ في العقوبة، والأخذ بقول جمهور الأمة، وظاهر الأحاديث، استئصالاً للشر، وسداً لباب الفتنة، وإلا فيمكن الأخذ بقول (النخعي) و(الثوري)، وهو ما رُوي عن الفاروق (عمر).
إن المرتد الداعية إلى الردة ليس مجرد كافر بالإسلام، بل هو حرب عليه، وعلى أمته، فهو من درج ضمن الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا([55]).
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:
الدكتور (البوطي) أيضاً من الذين يثبتون عقوبة المرتد، إذا أعلن عن هذا الارتداد، إذ يصبح حينئذ محارباً، ولهذا يقتل، ليس لكفره، بل لحرابته.
وهو يرى بأن الإنسان إذا ساورته شكوك حول دينه، أو أورثته إنكاراً بعد إيمان، فإنه يستطيع أن يحتفظ بتلك الأفكار لنفسه، أما إذا أعلنها على رؤوس الأشهاد، وبث تلك الأفكار بين الناس، فهو بذلك يعلن الحرب على الإسلام، وعقائده، وينبغي أن ينظر إليه على أنه تحول إلى عنصر حرابة.
والحكم الشرعي، في مثل هذه الحالة، هو أن يؤتى بمثل هذا الرجل، فيُسأل عن الشبهات، أو الأدلة، التي زلّت إيمانه، ثم قضت عليه، والمفروض أن يبوح بها، ويعلن عنها. والواجب، عندئذٍ، على وليّ الأمر، مستعيناً بالعلماء، أن يجيبه عنها، وأن يزيل الغواشي، ويحل المشكلات، التي قد تشكل عذراً له في جحوده وارتداده، فإن أصر على موقفه المعلن هذا، على الرغم من انتهاء مشكلاته، بالإجابة العلمية عنها، استتيب تحت التهديد بالقتل، وأعطي لذلك مهلة، يقدرها إمام المسلمين، أو من يقوم مقامه. وتتحقق التوبة المطلوبة منه، بالانتهاء عن المجاهرة بكفره.
فإن هو تحدى الاستتابة، وتحدّى المهلة التي أعطيها، ومضى في موقفه المعلن.. عندئذ يستقر الحكم عليه، بكل موجباته، ومبرراته. والحكم الذي يجب أن ينفذ في حقه، هو: القتل حرابة.
فالمرتد، إذاً، يقتل - بعد استنفاد السبل التي ذكرناها- حرابة، لا كفراً([56]).
الدكتور (البوطي) وإن كان يجعل علة قتل المرتد هي الحرابة، وليس الكفر، إلا أنه يجعل إعلان كفره، والاصرار على الارتداد، هو بمثابة الحرابة، ولهذا يقتل.
 عبدالقادر عودة:
في كتابه: (التشريع الجنائي الإسلامي، مقارَناً بالقانون الوضعي)، تعرض (عبدالقادر عودة) لموضوع الردة، في أكثر من موضع، وبيّن أنها من جرائم الحدود، وأن عقوبتها هي القتل.
ففي معرض حديثه عن جرائم الحدود، ذكر أن الردّة واحدة من هذه الجرائم، فقال: "جرائم الحدود معدودة في الشريعة، وهي - على سبيل الحصر- سبع جرائم: الزنا، القذف، الشرب، السرقة، الحرابة، الردّة، البغي"([57]).
وأثناء حديثه عن إهدار الدم، ذكر أن الردة سبب لإهدار الدم، فقال: يعتبر المرتد مهدر الدم في الشريعة، وذلك من وجهين: أولهما أنه كان معصوما بالإسلام، فلما ارتد زالت عصمته، فأصبح مهدراً. وثانيهما: أن عقوبة المرتد في الشريعة هي القتل حدّاً، لا تعزيرا، وعلى هذا تعتبر الردة من الجرائم المهدرة([58]).
بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث قال إن قتل المرتد يعتبر واجباً في الشريعة الإسلامية على كل فرد، وليس حقاً. لأن عقوبة الردّة من الحدود، وهي واجبة الإقامة، ولا يجوز العفو عنها، ولا تأخيرها. ولا يعفى الأفراد من هذا الواجب، إلاّ أن يعهد بإقامته إلى السلطات العامة، ولا يسقط هذا الواجب على الأفراد، إلا إذا نفذته السلطات فعلاً([59]).
كما يذكر أن للردّة عقوبتان: عقوبة أصلية هي القتل، وعقوبة تبعية هي المصادرة. وأن التساهل في عقوبة القتل، يؤدي إلى زعزعة النظام في المجتمع الإسلامي، وأن عقوبة القتل هي أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة([60]).
كانت هذه مقتطفات من آراء بعض المفكرين والعلماء المعاصرين، الذين يؤيدون الرأي القائل بأن الردّة من جرائم الحدود، وأن عقوبة المرتد هي القتل، وإن حددّوا لتلك العقوبة شروطاً وضوابط، كالمجاهرة بالردّة، وإعلانها، ويعتبرون ذلك بمثابة إعلان الحرب على الإسلام.
 الفريق الذي ينفي حد الرّدة:
إزاء هؤلاء العلماء والمفكرين، هناك فريق آخر لا يعتبر الردّة من جرائم الحدود، وينفي أن يكون القتل عقوبة ثابتة للمرتد. من أمثال: الشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور طه جابر العلواني، وغيرهم. وفيما يلي نتعرف على أقوال وآراء طائفة منهم.
الشيخ محمود شلتوت:
عبّر الشيخ (محمود شلتوت) عن رأيه في موضوع الرّدة في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة)، ويتبيّن أنه ممّن ينكر قتل المرتد لمجرد كفره، وذلك لأن القرآن الكريم لم يشر إلى أي عقوبة دنيوية لهذه الجريمة، فيقول:
"الاعتداء على الدين بالرّدة يكون بإنكار ما عُلِمَ من الدين بالضرورة، أو ارتكاب ما يدلّ على الاستخفاف والتكذيب. والّذي جاء في القرآن عن هذه الجريمة، هو قوله تعالى: [وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]([61]). والآية - كما ترى- لا تتضمّن أكثر من حكم بحبوط العمل، والجزاء الأخروي بالخلود في النار"([62]).
وعندما يذكر العقوبة الدنيوية، التي أقرّها الفقهاء لهذه الجناية، وهي القتل، استناداً على حديث: (من بدّل دينه فاقتلوه)، يقول: "وقد تناول العلماء هذا الحديث بالبحث من جهات: هل المراد من بدل دينه من المسلمين فقط، أو هو يشمل من تنصر، بعد أن كان يهودياً، مثلاً؟
وهل يشمل هذا العموم: الرجل والمرأة، فتقتل إذا ارتدّت، كما يقتل إذا ارتدّ. أو هو خاص بالرجل، والمرأة لا تُقتل بالرّدة.
وهل يُقتل المرتدّ فوراً، أو يُستتاب؟
وهل للاستتابة أجل، أو لا أجل لها، فيُستتاب أبداً؟"([63]).
وبعد هذه التساؤلات، يعبّر عن رأيه، بصراحة أكثر، فيقول: "وقد يتغيّر وجه النظر في هذه المسألة، إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدّم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين، والعدوان عليهم، ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم - في كثير من الآيات- تأبى الإكراه على الدين، فقال تعالى: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِن ْالغَيِّ]([64]). وقال سبحانه: [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ]([65])([66]).
 الدكتور محمد سليم العوا:
خلاصة رأي الدكتور (محمد سليم العوا) تكمن في أن عقوبة المرتد عقوبة تعزيرية، وليست حدّاً. حيث يرى أن الأمر في قوله h: "من بدل دينه فاقتلوه"، ليس للوجوب، وإنما هو للإباحة. وذلك لوجود قرائن صارفة للأمر من الوجوب إلى الإباحة، ومن ثم تكون العقوبة تعزيرية، موكولة إلى الإمام. ومن هذه القرائن([67]):
الأمرالأول: أن الأحاديث التي ورد فيها أن رسول الله h قتل مرتدًّاً، أو مرتدة، أو أمر بأيهما أن يُقتل، كلها لا تصحُّ من حيث السند. ومن ثم، فإنه لا يثبت أن رسول الله h عاقب على الردة بالقتل.
الأمرالثاني: ما رواه البخاري من أن "أعرابيًّاً بايع رسول الله h على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبـيَّ، فقال: يا محمد، أقلني بيعتي. فأبى. ثم جاءه، قال: يا محمد، أقلني بيعتي، فأبى. فخرج الأعرابي. فقال رسول الله h: (المدينة كالكير، تنفي خبثها، وتنصع طيبها)([68]). فهي حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله الرجل، ولا أمر بعقابه، بل تركه يخرج من المدينة، دون أن يعرض له أحد.
الأمرالثالث: ما رواه (البخاري) عن (أنس) رضي الله عنه قال: (كان رجل نصرانيًّا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران. فكان يكتب للنبـي h، فعاد نصرانيًّاً، فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض…"الحديث([69]). ففي هذا الحديث، أن الرجل تنصر بعد أن أسلم وتعلم سورتي البقرة وآل عمران، ومع ذلك فلم يعاقبه النبـي h على ردته.
الأمرالرابع: هو ما وردت حكايته في القرآن الكريم عن اليهود، الذين كانوا يترددون بين الإسلام والكفر، ليفتنوا المؤمنين عن دينهم، ويردوهم عن الإسلام. قال تعالى: [وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (آل عمران: 72). وقد كانت هذه الردة الجماعية في المدينة، والدولة الإسلامية قائمة، ورسول الله h حاكمها، ومع ذلك لم يُعاقب هؤلاء المرتدين، الذين يرمون ـ بنص القرآن الكريم ـ إلى فتنة المؤمنين في دينهم، وصدهم عنه.
وليس من اليسير علينا أن نسلم- مع وجود هذه الوقائع المتعددة للردة، ومع عدم عقاب الرسول h للمرتدين، في أي منها- بأن عقوبة المرتد هي القتل حدًّاً. إذ من خصائص الحدود، وجوب تطبيقها كلما ثبت ارتكاب الجريمة الموجبة لها.
وإذا كان حديث الرسول h: (من بدل دينه فاقتلوه) حديثًا صحيحًا، من حيث السند، فإننا نقول: إن الرسول h إنما أراد بهذا الحديث ـ والله أعلم ـ أن يبيح لأمته قتل المرتد تعزيرًا.
 الدكتور طه جابر العلواني:
بعد أن تناول الدكتور (طه جابر العلواني) إشكالية الردّة، وبحث في جوانبها المختلفة، وتتبع ما يتعلق بذلك في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه h، القولية والعملية، وآثار الصحابة، وأقوال العلماء والمذاهب المختلفة، بعد ذلك كله توصل إلى جملة من النتائج، دونّها في كتابه: (لا إكراه في الدين).
فهو أولاً ينفي وجود إجماع على حكم الرّدة، وأن الخلاف حول قضية الرّدة، وعقوبة المرتدّ، موجود في القرون الثلاثة الخيرة([70]).
ثم بعد أن ذكر مفهوم الردة في القرآن، وأورد جميع الآيات المتعلقة بالردة، وشرحها، توصّل إلى أنه لا توجد عقوبة دنيوية للردة في القرآن. حيث قال: سائر الآيات المتقدمة، وهي كلّ ما ورد في القرآن المجيد في الردّة والارتداد، لم تذكر أية عقوبة دنيوية على ذنب أو جريمة الردة، ولم تشر، لا تصريحاً، ولا على سبيل الإيماء، إلى ضرورة إكراه المرتد على العودة للإسلام، أو قتله، إذا امتنع([71]).
وفي خاتمة كتابه قال([72]):
تبيّن لنا، بعد البحث الدقيق، ومعايشة هذه الإشكالية فترة طويلة من الزمن: أن القرآن والسنة، بل وفقهنا الإسلامي الأكبر، القائم على كتاب الله مصدراً منشئاً، وسنة نبيه h مصدراً مبيناً: أن الإنسان المكرّم المستخلف، المؤتمن، أكبر عند الله، وأعز من أن يكلّفه ويسلب منه حرية الاختيار.
وبالتالي، فإنه لا يمكن أن يقرّر القرآن المجيد، فيما يزيد عن مائتي آية من آيات الكتاب الكريم، حريّة الاختيار، ثم يعاقب - بتلك العقوبة الصارمة- من مارس تلك الحرية، دون أن يعتدي على أحد سوى نفسه، أو يرتكب أية جريمة أخرى مصاحبة لتلك الضلالة البشعة التي سقط فيها.
ويقول أيضاً: إن شريعة التخفيف، والرّحمة، ورفع الحرج، وتكريم الإنسان، واحترام حريته، والمحافظة عليها، واعتبارها من ضروريات التزكية، أسمى من أن تضع عقوبة دنيوية، تبلغ مستوى القتل، على ممارسة تلك الحرية.
هذا، وبعد عرض آراء كلا الفريقين، يميل الباحث إلى ترجيح الرأي القائل بأن الردّة ليست من جرائم الحدود، وأن عقوبة المرتد ليست هي القتل، وذلك لعدة أسباب، ومنها:
تعرّض القرآن الكريم لقضية الردّة، والكفر بعد الإيمان، في بضع عشرة آية، من دون أن يحدد لها عقوبة دنيوية. فلماذا يهمل القرآن الكريم ذكر العقوبة الدنيوية، خصوصاً إذا كانت العقوبة تتعلق بالقتل وإراقة الدم؟!
الأدلة التي استند إليها جمهور العلماء في إثبات حد الردّة، تبيّن - من خلال البحث- أنها ليست بتلك القوة، التي يمكن الاعتماد عليها في جعل جريمة الردّة جريمة حدّ، وجعل القتل عقوبتها. فالقرآن لم يشر إلى تلك العقوبة، والأحاديث النبوية تبيّنَ أنها ليست متواترة، وإنما هي أحاديث آحاد. والقرآن لا ينسخ إلا بقرآن، أو سنّة متواترة. كما أن الآثار التي استندوا عليها كلها، تبيّن أن حالات القتل التي حدثت، لم تكن لمجرد الكفر، وإنما لأن هؤلاء المرتدين جمعوا مع الردّة جرائم أخرى، مثل: القتل، والحرابة، و.. وأغلب الأحاديث، التي احتج بها الجمهور في حكم الردة، تقرر حكم المحارب، وليس المرتد. والمحارب يقتل، سواء كان مسلماً، أم غير مسلم.
من المعلوم أن الحدود لا شفاعة فيها. حيث ورد أن الرسول h أنكر على (أسامة بن زيد)، حين حاول أن يشفع في حدّ السرقة، وقال: (أتشفع في حد من حدود الله.....)([73]). وقد ثبت أن (عثمان بن عفان) شفع لـ(عبدالله بن سعد بن أبي سرح)، الذي ارتد، وأمر النبـي h بقتله، وقبل الرسول شفاعة (عثمان) فيه([74]).
هناك ما يزيد على مائتي آية في القرآن الكريم تقرر حرية الاختيار، دون أن تحدد: هل أن هذه الحرية هي قبل الدخول في الإسلام، أو بعده. والحديث الذي استند عليه العلماء في قتل المرتد، يتعارض مع كل هذه الآيات. والقول بأن حرية الاعتقاد مكفولة قبل الدخول في الإسلام، أما بعد الدخول فيه، فإن هذه الحرية تنتزع منه، هو قول ضعيف. وهذا الأمر يشوّه الإسلام، ويصوّره على أنه قفص يسجن كل من يدخل فيه. وهل يعقل أن يكون ذلك صفة للرسالة الخاتمة، التي جاءت رحمة للعالمين؟!.
البيئة التي أفتى فيها جمهور العلماء الأجلاء بقتل المرتد، قد تغيرت، من حيث الزمان والمكان والأحوال والظروف والملابسات. وهذه كلها بالتأكيد تؤثر على الحكم والفتوى. فالردة كانت تقع في زمان كان العالم مقسماً فيه إلى: دار الإسلام، ودار الحرب، وفق مصطلح بعض الفقهاء. وكل مرتد كان يقصد دار الحرب، ويصبح محاربا. أما اليوم، فلا يوجد مثل هذا التقسيم. فالمسلمون موجودون في كل بقاع الأرض، وغير المسلمين متواجدون في معظم الدول الإسلامية. ولقد اختلطت الشعوب والثقافات والأديان، وتراجع دور الحدود الجغرافية، والحواجز المصطنعة، في ظل ثورة المعلومات، ووسائل التواصل والإعلام الحديثة.
الإشفاق على المرتد اليوم أولى من الحكم عليه بالقتل، حيث أن المسلم اليوم يولد لأبوين لا يعلّمونه شيئا عن الإسلام، وهو لا يتلقى في تعليمه شيئا عن الإسلام، ولا يرى في وسائل الإعلام سوى إسلام مقترن إما بخطاب تقليدي لا يعيش واقع الناس اليوم، ولا يعالج مشاكله، أو مقترن بالإرهاب وترويع الناس والقتل وسفك الدماء. فأكثر الذين تهتز عقيدتهم اليوم، وكما يصفهم الشيخ (راشد الغنوشي)، هم ضحايا إعداد عقيم، وتربية تقليدية فاشلة، وثقافة إسلامية جامدة، وتدين محنّط ومنحطّ، مكّن لغزو مسلح بثقافة علمية معاصرة، مشحونة بقيم الكفر والتمرّد. أليس هؤلاء ضحايا أكثر من كونهم مجرمين([75]
 الخاتمة والنتائج
عرضنا في هذا البحث موضوع الردة، وعقوبة المرتد، من خلال تعريف (الردة): لغة واصطلاحا، وبيان شروط تحققها. ثم عرضنا هذه المسألة في القرآن الكريم والسنوية النبوية الشريفة.
بعد ذلك تعرضنا لجريمة الردّة وعقوبة المرتد في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث أوردنا آراء مجموعة من المفكرين المعاصرين، الذين يثبتون حدّ الردّة، ويجعلون عقوبته القتل. وكذلك مجموعة أخرى، ينفون أن تكون الردّة من جرائم الحدود، وأن القتل ليس عقوبة المرتد، بل هو عقوبة الحرابة.
وبعد تلك الجولة في بحث هذه المسألة، توصلنا إلى مجموعة من النتائج والتوصيات، ومنها:
تعرّض القرآن الكريم لجريمة الردة، تارة بتعبير (الارتداد)، وتارة بتعبير (الكفر بعد الإيمان)، في بضع عشرة آية، ولكنه لم يحدّد لهذه الجريمة عقوبة دنيوية.
وتعرضت السنة النبوية الشريفة، أيضاً، لجريمة الرّدة، وبيّنت حكم المرتدّ، في مجموعة من الأحاديث، بعضها مطلقة، وبعضها مقيّدة. ولكي نستخلص الحكم الصحيح من مجموع هذه الروايات، يجب حمل المطلق على المقيّد، لأنها تتحد في الحكم والسبب. وعندها يتبيّن أن حكم القتل هو لجريمة الحرابة، وليس لمجرد الكفر والردّة.
هناك فرق بين الخروج من الإسلام، والخروج على الإسلام، فالحالة الأولى - وإن كان صاحبها سيكون من الخاسرين يوم القيامة، إذا لم يتب- إلا أن ذلك يندرج تحت حرية الرأي والفكر، التي أقرها الإسلام، وأرسى دعائمها. أما الحالة الثانية، فهي تدخل في باب (الحرابة)، أو ما يسمى اليوم بالخيانة العظمى، أو الخروج المسلح على السلطة الشرعية، وهذا ما جعل الإسلام عقوبته القتل.
الآيات القرآنية الكثيرة التي أشارت إلى حرية الرأي والفكر، وعدم الإكراه في الدين، وأن الإنسان له حرية الاختيار، كل تلك الآيات تؤسس مبدأ حرية الاعتقاد، ليس ابتداءً فقط كما توهّم البعض، وإنما هي حرية مكفولة ابتداءً وانتهاءً.
أقترحُ على السلطاتِ الرسمية، ووزارة الأوقاف، واتحاد علماء الدين الإسلامي- فضلاً عن منظمات المجتمع المدني، وورش البحث الجامعية - تنظيمَ مؤتمراتٍ سنوية، أو دورية، لتناول القضايا المعاصرة التي تشغل الساحة الفكرية، والتي تثار حولها بعض الإشكاليات، مثل: قضايا الحريات بشكل عام، والقضايا المتعلقة بالعنف ضد المرأة، ونظام العقوبات والحدود في الإسلام، وغيرها. وذلك لإعادة دراسة هذه القضايا، وفق معطيات هذا الزمان، وهكذا يتجدد الخطاب الديني، ويلبّي حاجات العصر.

الهوامش:


([1])الجوهري: إسماعيل بن حماد، الصحاح، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1978، ص 473.
([2]) ابن قدامة المقدسي، موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد، المغني، عالم الكتب، الرياض، ط3، 1997م، ج12، ص 264. وقد جمع بعض الباحثين المعاصرين تعاريف لفقهاء، من مختلف المذاهب الفقهية، تفيد في معظمها بأنها عبارة عن خروج المسلم المكلّف عن دين الإسلام، قولاً أو فعلاً، خروجاً اختيارياً، سواء كان الخروج إلى دين سماوي آخر، أو غير سماوي، أو إلى غير دين.. انظر: السامرائي، د.نعمان عبدالرزاق، أحكام المرتد في الشريعة الإسلامية، دار العلوم، الرياض، ط2، 1983، ص (37-39). وانظر كذلك: الكردي، أوميد عثمان، عقوبة الإعدام في الشريعة الاسلامية، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 2008، ص107.
([3]) الردّة تكون إما بالقول، أو بالفعل، أو بالاعتقاد، ولكن الاعتقاد وحده لا يترتب عليه آثار الردّة، ما لم يترجم إلى قول أو فعل.
([4]) أخرجه أبو داود برقم 4398 في باب (المجنون يسرق أو يصيب حداً)، انظر: السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داوود، بيت الأفكار الدولية، الرياض، لا تاريخ، ص481.
([5]) انظر: السامرائي، د.نعمان عبدالرزاق، مرجع سابق، ص50.
([6]) النحل/ 106.
([7]) النجار، علي رشيد، أحاديث الرّدة والشبهات عليها، مجلة الجامعة الإسلامية (سلسلة الدراسات الشرعية) المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، يونيو 2005، ص304.
([8])البقرة/217
([9])المائدة/54
([10])محمد/25
([11])البقرة/108
([12])آلعمران/90
([13])آلعمران/177
([14])النساء/137
([15])المائدة/12
([16])المائدة/115
([17]) التوبة/74
([18]) النور/55
([19]) محمد/32
([20])محمد/34
([21]) مرسي، د.أكرم رضا، الردة والحرية الدينية، دار الوفاء، المنصورة، ط1، 2006، ص 42.
([22]) العلواني، د.طه جابر، لا إكراه في الدين إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2006، ص 89.
([23]) العوا، د.محمد سليم، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2006، ص 181 بتصرف.
([24]) المرجع نفسه، ص 181.
([25])رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدّين والمعاندين واستتابتهم، باب (حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم)، رقم الحديث6922.. انظر: البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار ابن كثير، دمشق - بيروت، ط1، 2002، ص1712.
([26]) رواه البخاري في كتاب الديات، باب (إذا قتل بحجر أو بعصا)، رقم الحديث 6878.. انظر: البخاري، مرجع سابق، ص1701.
([27]) رواه أبو داود في كتاب الحدود، باب (الحكم فيمن ارتد) رقم الحديث: 4353. انظر: سنن أبي داود، مرجع سابق، ص 476.
([28]) أورد النسائي هذا الحديث عن طريق عكرمة، وأورده أيضا عن طريق أنس عن ابن عباس، في كتاب تحريم الدم باب الحكم في المرتد، رقم الحديث 4064. انظر: النسائي، أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب ابن علي، سنن النسائي، بيت الأفكار الدولية، الرياض، لا تاريخ، ص427.
([29]) رواه أبو داوود في سننه في كتاب الحدود باب الحكم فيمن ارتد، رقم الحديث4351، انظر: سنن أبي داوود، مرجع سابق، ص476.
([30]) أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحدود باب ما جاء في المرتد، رقم الحديث1458، انظر: الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، لا تاريخ، ص345.
([31]) أخرجه النسائي في سننه في كتاب تحريم الدم باب الحكم في المرتد، رقم الحديث (4059، 4060، 4061، 4062)، انظر: النسائي، مرجع سابق، ص427.
([32]) أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الحدود باب المرتد عن دينه، رقم الحديث 2535، انظر: القزويني، أبو عبدالله محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، لا تاريخ، ص432.
([33]) انظر: المزّي، جمال الدين أبو الحجاج يوسف، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1992م، ج20، ص 292
([34]) انظر: الذهبي، الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط11، 1996، ج5، ص 34
([35]) انظر: العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر، هدي الساري مقدمة فتح الباري، المطبعة الكبرى، مصر، ط1، 1301هـ، ص 424
([36]) انظر: المزّي، مرجع سابق، ج20، ص 277 والصفحات التي تليها.
([37]) انظر: الذهبـي، مرجع سابق، ج5، ص 20 والصفحات التي تليها.
([38]) انظر: الصفدي، صلاح الدين خليل بن أبيك، الوافي بالوفيات، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2000، ج20، ص (39-40).
([39]) انظر: العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر، تهذيب التهذيب، دائرة المعارف النظامية، الهند، ط1، 1326هـ، ج7، ص 267 والصفحات التي تليها.
([40]) منصور، أحمد صبحي، حدّ الردّة، الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2008، ص123.
([41]) المرجع نفسه ص124.
([42]) ذكر السرخسي هذا الخلاف في كتابه (المبسوط) باب قطّاع الطرق، انظر: السرخسي، شمس الدين، المبسوط، دار المعرفة، بيروت، لا تاريخ، ج9، ص (197-198).
([43]) انظر: ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد، المحلّى، الطباعة المنيرية، القاهرة، ط1، 1352هـ، ج11، ص194. وانظر أيضاً: العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، لا تاريخ، ج12، ص272.
([44]) هذه القاعدة أسسها الفقهاء على حديث: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله. فإن الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة)، الذي رواه الترمذي برقم (1424). انظر: سنن الترمذي، مرجع سابق، ص336.
([45]) روى الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب القسامة، باب (ما يباح به دم المسلم)، رقم الحديث (1676). انظر: النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1991، ج3، ص1302. ورواه أبو داود في كتاب الحدود، باب (الحكم فيمن ارتد) رقم الحديث: 4352.
([46]) انظر: الزّلمي، د.مصطفى إبراهيم، لا قتل للمرتد غير المفسد في القرآن، لا مطبعة، أربيل، ط1، 2012م، ص28.
([47])رواه أحمد في مسنده في أواخرمسند عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب، رقم الحديث (3546)، انظر: بن حنبل، أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل، بيت الأفكار الدولية، الرياض، ط1، 1998، ص305.
([48])رواه النسائي بسند صحيح في كتاب تحريم الدم باب توبة المرتد برقم (4068)، انظر: سنن النسائي، مرجع سابق، ص (427-428).
([49])أي طرحته ورمته خارجا.
([50]) رواه البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوّة برقم (3617)، انظر: صحيح البخاري، مرجع سابق، ص890.
([51])جاد، يحيى، الردّة والحرية الفكرية دراسة تأصيلية تجديدية في ضوء الكتاب والسنة والمقاصد، بحث منشور في الانترنت عام 2011 على الموقع www.onislam.net بتصرف.
([52])المرجع نفسه بتصرف.
([53])انظر: القرضاوي، د.يوسف، جريمة الردّة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة، دار الفرقان، عمان، ط1، 1996، ص(5-6).
([54]) المرجع نفسه، ص46.
([55]) القرضاوي، مرجع سابق ص(52-53).
([56]) انظر: البوطي، د.محمد سعيد رمضان، حرية الإنسان في ظل عبوديته لله، دار الفكر، دمشق، ط1، 1992، ص (86-87) بتصرف.
([57]) انظر: عودة، عبدالقادر، التشريع الجنائي الإسلامي مقارَنا بالقانون الوضعي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط13، 1994م، ج1، ص78 وكذلك ص 243.
([58]) المرجع نفسه، ج1، ص534.
([59]) المرجع نفسه، ج1، ص536.
([60]) المرجع نفسه، ج1، ص (661-662).
([61])البقرة/217.
([62])شلتوت، محمد، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، القاهرة، ط18، 2001م، ص 281.
([63])المرجع نفسه، ص 282.
([64])البقرة/206.
([65])يونس/99.
([66])شلتوت، مرجع سابق، ص 282.
([67])انظر تفصيل ذلك: العوا، د.محمد سليم، مرجع سابق، ص (187-195). وانظر أيضا: العوا، د.محمد سليم، الحق في التعبير، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2003، ص (64-75).
([68])رواه البخاري في كتاب الأحكام باب بيعة الأعرابي، رقم الحديث (7209). انظر: صحيح البخاري، مرجع سابق، ص1782.
([69]) الحديث سبق تخريجه.
([70]) انظر: العلواني، د.طه جابر، مرجع سابق، ص19.
([71]) المرجع نفسه، ص89.
([72]) المرجع نفسه، ص175.
([73]) انظر: سعيد، جودت، لا إكراه في الدين دراسات وأبحاث في الفكر الإسلامي، العلم والسلام للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 1997، ص35 والصفحات التي تليها.
([74]) انظر: العلواني، مرجع سابق ص105.
([75]) الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1993، ص51.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق