02‏/09‏/2015

ماذا يبقى من الداعية الصامت الحاج سليمان القابلي؟

نشأة غفور سعيد
كلما مر يوم 7/7 على الزمان.. تذكرنا أخاً عزيزاً علينا جميعاً.. له من الفضل الكبير، والعطاء الدائم، والتوجيه الإيماني الكبير، والذكريات العبقة في حياتنا الإسلامية المعاصرة، ما دمنا نعيش على الأرض..
ولإعادة الذكرى – في نظري – أهميتها الكبرى، والتي لا تخالف الشريعة والعقيدة والإيمان.. فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول في حديث صحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية.. أو علم ينتفع به.. أو ولد صالح يدعو له..) البخاري.
وهذا دليل ساطع على بقاء الذكر الحسن لموتى المسلمين، والإشادة بأعمالهم الجليلة، إذا كانت في محيط العمل الدعوي والإنساني.. ويقول (صلى الله عليه وسلم) أيضا: اذكُروا محاسنَ موتاكم، وكفُّوا عن مساوئِهم. (صحيح ابن حبان: 3020).
فماذا يبقى من أستاذنا الجليل الحاج (سليمان القابلي)، في دائرة الدعوة والداعية، واستمرار النشاط الإسلامي المجيد؟!!
يقول الشاعر أحمد شوقي - رحمه الله–:
دقـــات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائـــــق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثان
رحم الله شوقي.. وحقاً.. إن للإنسان عمراً ثانياً على هذه البسيطة، عندما تذكر مناقبه.. وهل أولئك الأعلام دفنوا حياتهم مع أجسادهم..كلا، وألف كلا..!! إنهم أحياء يعيشون بيننا، ونتحدث معهم، ونتذكر أقوالهم، ونناقش آراءهم..كما ورد في الرواية: "أرسل أحد الخلفاء في طلب بعض العلماء ليسامره، فلما جاء الخادم إليه، وجده جالساً، وحواليه كتب، وهو يطالع فيها.
فقال له: إن أمير المؤمنين يستدعيك.
قال: قل له: عندي قوم من الحكماء أحادثهم، فإذا فرغت منهم حضرت!!
فلما عاد الخادم إلى الخليفة، وأخبره بذلك، قال له: ويحك من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده؟!
قال: والله – يا أمير المؤمنين – ما كان عنده أحد!!
قال: فأحضره الساعة كيف كان!!
فلما حضر ذلك العالم قال له الخليفة: من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك؟!!
قال: يا أمير المؤمنين.
لنا جلساء ما نمل حديثهم
أمينون مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
رأياً وتأديباً ومجداً وســــــــــــــؤددا
فعلم الخليفة أنه يشير بذلك إلى الكتب، ولم ينكر عليه تأخره.
هكذا يعيش المرء بعد موته حياة ثانية.. حياة جديدة، مع كل لحظة من علمه وفنه ودرايته وتأثيره وبقائه في حياة مؤيديه ومحبيه، وعشاق أدبه وفكره ونتاجه..
فماذا يبقى من مفكرنا شيخ الدعاة، التقي النقي الصامت الحاج (سليمان محمد أمين القابلي) – رحمه الله -.
في الذكرى التاسعة عشرة من رحيله عنا في عالم الأجساد والمادة، المرافق لنا في كل جلسة، وكل خاطرة، وكل ذكرى، حتى نلتقي في رياض الجنة – إن شاء الله – فقد بشرنا المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن المرء مع من أحب، ويشهد الله – سبحانه وتعالى – أننا تحاببنا في الله، وكانت زياراتنا
لبعضنا لله، وكان دوماً مثال المجتمع الأخواني في حبه لنا، ومبادلته المودة والاحترام، وكان دوماً يحدثنا بحديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن من عباد الله ناساً، ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، يوم القيامة، بمكانتهم من الله تعالى.
قالوا: يارسول الله، تخبرنا من هم؟
قال: قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور. لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. رواه أبو داود.
كان - رحمه الله - يؤكد على الإخوان في الدروس، والتوجيه الفردي، على (المحبة في الله)، ويشرح لهم معالم المحبة في الرعيل الأول من الصحابة –رضوان الله عليهم-، مستشهداً بقوله (صلى الله عليه وسلم): (لاتؤمنوا حتى تحابوا). والنماذج الحية في حياة الصحابة من خلال أحاديث المحبة عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم): يقول الله تعالى: (المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء). الترمذي وصححه.
فأصبح لنا نموذج (الحب في الله)، لكل مكونات الإخوان في كركوك. وكان يروي لنا قصة عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟
قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟
قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ». (رواه الإمام مسلم في صحيحه.النووي في رياض الصالحين363-383).
هذا الجانب الأول، الذي يبقى عند تلامذة الداعية سليمان القابلي – رحمه الله – حياً وميتاً، وقد عشنا معه هذه المحبة الصادقة، عند ترددنا إلى بيته بعد صلاة الجمعة، أو عند عقد جلسات الأسر، أو الزيارات العفوية، التي كان، هو وأسرته، يرحبون بكل أخ مسلم يجد هذه المحبة في أركان أسرته -رحمة الله عليه-.
أما عن كيفية التعامل مع القرآن الكريم، فقد كان للأستاذ سليمان القابلي -رحمه الله- نظرة مقدسة إلى كتاب الله، تبدأ بالغلاف، ولا تنتهي بالأحرف والكلمات.. وإليك بعض آرائه، التي كان يوجهها إلينا في السلوك اليومي من التعامل مع الذكر الحكيم.
1.       نظرة الاحترام والتقديس للكتاب، وكان يؤكد على ما وصف الله به كتابه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} الأنعام: 155. {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ}الأنبياء:50 {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ص: 29.
2.       الاحترام والتقديس عند اللمس والحمل والجلوس: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الواقعة: 77-79. {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} البينة: 2.
3.       كان يوصينا بالامتناع من وضع المصحف في حقيبة الملابس – عند السفر– مع الأحذية والنعال، داخل محتويات الحقيبة.
4.       كان يمتنع من كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) في بداية العريضة، والكتب الرسمية، خشية وقوعها على الأرض، أو تمزقها، وهي تحمل اسم الله – سبحانه وتعالى–.
5.       كان يحاول جمع أغلفة سكاير (تركيا)، لأنها تحمل اسم صاحبها (عبدالله لطفي).. وقصاصات أوراق الصحف والمجلات. ناهيك إذا وقع نظره على جزء من ورقة المصحف.. وكان يقول: الصحف والمجلات تحتوي على لفظ الجلالة، أو آية، أو حديث، فلا يجوز تركها مبعثرة على الأرض.
6.       عندما يرد إلى المكتبة طبع القرآن الكريم، كان -رحمه الله- يوزع نسخاً منه على مجموعة، ليتأكدوا من سلامة الطبع: حرفاً أو كلمةً أو إشارةً، قبل عرضه للبيع، وكان يصر على تسميته بـ(الهدية).
7.       كان يصر على وضع المصحف في موقع أعلى من الجلوس على الأرض، أو الكرسي، أو المنضدة والمكتبة.. ويرفض وضع أي شيء على المصحف، إلا من جنسه.
8.       وكان ذو علم ودراية ودراسة عميقة بمعاني القرآن الكريم. وأذكر مرة أنه حدثنا عن أهمية (الـ) في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} النساء، فقال: لو أن الله –سبحانه وتعالى – قال: [الرشد] لتغير المعنى والحكم، ولأخذ الناس بالتلاعب في تطبيق هذا الحكم.. فإن الفرق شاسع بين (رشداً) و(الرشد)، وهذا جانب عظيم للإعجاز التشريعي في القرآن الكريم. وأمثاله كثير في أثناء دروسه ولقاءاته وتدبره لآيات الذكر الحكيم.
9.       كان حريصاً على التلاوة الصحيحة لآيات الذكر الحكيم.. وكان معه مصحفه الصغير يقرأ في المكتبة وعهدي به انه كان يحفظ الشيء الكثير من القرآن الكريم بدليل انه كان يصحح التلاوة للاخوان في اي موقع من مواقع قراءاتهم وتلاوتهم للذكر الحكيم.
10.   في زيارة له إلى (السليمانية)، حيث زارني في موقع عملي، ولم يجدني في (المعهد)، وحرص على التأكيد على ما كان يردده دوماً مع ترجمة كلمة (قرآن) و(محمد)، فكتب لي رسالة جميلة، مؤكداً فيها هذه العبارة: أخي نشأة.. علمت أنك في لجنة ترجمة كتب التربية الإسلامية، وكتب أخرى، إلى اللغة الكوردية. فأرجو عدم الوقوع في أخطاء الآخرين في كلمتي (قرآن) و(محمد)، والاحتفاظ برسمهما كما هما، أي عدم كتابتهما كالآتي: (قورئان) و (موحممهد).
وكان هذا من حرصه وحبه وتقديسه للقرآن الكريم، في رسمه وشكله وبنائه. وكان يوصي بذلك كل من يترجم الكتب إلى اللغة الكوردية، والتركية، من اللغة العربية -رحمة الله عليه-.
تلك هي من بعض ملامح حياته وسلوكه في التعامل مع القرآن الكريم، أسجلها هنا لكل ما من شأنه زيادة الاحترام والتقدير لكتاب الله العظيم.
ولنأتي إلى جانب آخر من تأثيراته الفكرية والثقافية على عموم منتسبـي (مكتبة الأخوة الإسلامية)، خلال العقدين الأول والثاني، أي في الفترة ما بين (1951- 1968). فقد كان بثاقب بصيرته يختار الكتاب، أو الكتب، التي تتلائم مع الأخ، ويشجعه على تجربة الكتابة والتأليف.. وهو في بداية العمل في المكتبة، تمكن من إصدار كتيب عن الاقتصاد الإسلامي، الذي كان النقاش محتدما حوله آنذاك، وأكد بأن الإسلام دين ومنهج حياة، وشريعة واقتصاد، ومجتمع ودولة، وفرد وأسرة، وسلوك في الدنيا، وجزاء في الآخرة..
ومن ثم أصدر برفقة الأستاذ المحامي (نورالدين رضا الواعظ) ترجمة لكتاب (أسرار الماسونية)، عن التركية، للجنرال (محمد جواد آتيلخان).. وكان يؤمن إيمانا عميقا بدور (الحركة الماسونية) في المؤامرات المتتالية لتحطيم الخلافة والدولة، وتحريف الأسرة والمجتمع، بهدم الأسس الأخلاقية الإسلامية. وكان يشجعنا لدراسة كتاب (التبشير والاستعمار في البلاد العربية) لـ(عمر فروخ ومصطفى الخالدي)، وكتاب (تاريخ الجمعيات السرية) لـ(محمد عبدالله عنان)، وكتاب (الخطر اليهودي: بروتوكولات حكماء صهيون) ترجمة (محمد خليفة التونسي)، وكتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمون) للعلامة (الندوي)، وكتباً في نفس المستوى والموضوع. وكان يهدي مجموعة الرسائل إلى الزائرين، هدية للتشجيع وحب المطالعة.
وقد أنتجت مكتبة (الأخوة الإسلامية)، في تلك الحقبة، مجموعة من الكتاب، نشروا زبدة أفكارهم، في مقالات مناسبة، وألفوا كتبا في الدفاع عن الإسلام.. وعاماً بعد عام ازدادت آثار مواقعهم في المحيط الإقليمي والعالمي. والمجموعة الأولى من الكتاب كانوا: الأساتذة (المحامي نور الدين رضا الواعظ. المحامي فاضل عز الدين القاضي. محمد عبدالله الحسو. نظام الدين عبد الحميد. عابد توفيق الهاشمي).
أما المجموعة الثانية، فقد تعلموا الكتابة ومارسوها بتشجيع من الأساتذة في المكتبة، وطبيعة اختصاصاتهم الجامعية. أذكر منهم: (الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح. الدكتور محسن عبد الحميد. الدكتور نجم الدين علي مردان. الدكتور رمزي محمد جميل الخياط. الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ. الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. الأستاذ عابدين رشيد. الأستاذ عادل زينل. الأستاذ عباس العطار. الأستاذ المهندس مأمون رشيد الهرمزي. الأستاذ المهندس أورخان محمد علي. الأستاذ صبحي محي الدين الداودي. الدكتور عبدالستار طاهر شريف. الدكتور صبحي محمد جميل الخياط. الدكتور شاكر سعيد عمر. الأستاذ إكرام صديق. الدكتور كنعان علي صائب. الصيدلي يوسف صدقي إسماعيل).
وأختم هذه الذكريات بواقعة أن (جمعية الأخوة الإسلامية) أقامت حفلة بمناسبة المولد النبوي الشريف، عام 1955، في قاعة المكتبة العامة، وحضرها جمع من المثقفين وعشاق المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ألقى فيها الأستاذ (سليمان القابلي) قصيدة عصماء، في حب النبـي (صلى الله عليه وسلم)، ولم تكن له تجربة شعرية، لا قبلها، ولا بعدها، وشبهناها بقصيدة البوصري (نهج البردة)، نالت استحسان الحضور وإعجابهم.. من رجل لم يعترك بحور الشعر، ولا مارس نظمها.. وتمكن من هذه التحفة النادرة. رحم الله الداعية سليمان محمد أمين القابلي.
------------------------------
*يعتبر الأخ الأستاذ (فاروق رسول يحيى) إحدى بركات (مكتبة الأخوة الإسلامية)، وعلاقته المباشرة بالأستاذين: (إحسان القاسمي) و(سليمان القابلي)، وفي قيامه بترجمة رسائل النور – جزاه الله كل خير، وأحسن إليه – كما أحسن إلى الإسلام والمسلمين.
------------------------------
* ولد عام 1926 في مدينة كركوك، من عائلة عريقة، عرفت بالتقوى والصلاح، ووالده أحد عرفاء الجيش العثماني.
* درس الابتدائية والثانوية في محافظة كركوك، والتحق بكلية الحقوق عام 1946، وفي هذا العام تعرف على دعوة الإخوان المسلمين، وأصبح أحد أعضائها منذ ذلك اليوم.
* ساهم بشكلٍ فاعل في تأسيس نواة للعمل الدعوي في مدينته، وأسس (مكتبة الأخوة الإسلامية)، تيمناً بمسمى الجمعية آنذاك.
* تميز باطلاع واسع وثقافة كبيرة في مختلف العلوم والمعارف. واتصف بالجرأة والشجاعة في الذود عن الحق، حتى أنه رفض بيع كتب (حزب البعث) في مكتبته، وهم في أوج طغيانهم، ولما سأله المحافظ، وكان يشرف على تنظيم مكتبات كركوك، قال: "إن هذه الكتب فيها كفر، ولا يجوز بيعها".
* ورث الكثير من الأموال، لكن سخاء يده، وبذله المعروف، والإنفاق على الفقراء، كانت شغله الشاغل، حتى أنه كان يقسم راتبه إلى نصفين: يضع نصفاً لأهله، والنصف الآخر للمعوزين.
* تعرّض للمضايقات والاعتقال لكنه صمد بوجه الترغيب والترهيب أمام السلطات المتعاقبة، ولم يتنازل عن دعوة الحق.
* قضى شطر عمره الأخير في (مكتبة الأخوة الإسلامية)، التي أسسها بنفسه عام 1953، ينشر الكتب الشرعية والدعوية إلى أن وافاه الأجل عام 1995.
المصدر: مجلة الرائد..
--------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق