02‏/09‏/2015

هكذا تكلَّم الوصي

عبد الكريم يحيى الزيباري
أنا الذي ترونني مُعلَّقاً على مشانق الزعيم. أنا الأمير (عبد الإله)، الوصي على عرش العراق، وولي العهد الجديد، بعد ابن أختي: الفريق الركن نائب القائد العام للقوات المسلحة. بحسب شهادة الميلاد صار عمري خمساً وأربعين عاماً. منذ عشرين سنة، أو أكثر، طاردتني فكرة أنني سأموت قبل أنْ يعرفني النَّاس. إنَّهم لا يعرفونني إلا من خلال الإشاعات التي اخترعوها وصدَّقوها. خمساً وأربعين سنة وكأنني لم أعِشْ منها ساعةً واحدة. والآن، وأنا أحاول الكتابة، كأنني أكتبُ عن شخصٍ آخر، شذرات من الذاكرة فقط. أما ما تبقى، فربما تجدونه في أماكن أخرى.
تزوجتُ من التركية (ملك فيضي)، وعمري آنذاك اثنان وعشرين سنة، طلقتها بعد أربع سنوات، لأظلَّ أعزباً لتسع سنوات. ثم تزوجت المصرية (فائزة الطرابلسي)، وطلقتها بعد سنتين، لأعودَ إلى العزوبية سِتُّ سنواتٍ أخرى، ثم تزوجت (هيام). والآن لا أكاد أتذكَّر أنني تزوجت. حكمتُ العراق ثماني عشرَ سنة، مرَّت كأنَّها دقائق، لم أفهم منها شيئاً. كان الملك الصغير يخاف منِّي أكثر من خوفهِ مِن الله، أو مِنْ أيِّ شيءٍ آخر. أنا خاله وأبوه، يرتعد إذا نظرتُ إليه نظرة غضب. هكذا أسرتنا العريقة قامت على احترام الكبير حدَّ العبادة، هذا الاحترام يغتاظ منه الكثير، يحسبه الجاهل ضعفاً، حتى بعض أفراد عائلتنا الملكية يجهلون أهمية الاحترام، كالأميرة (عزَّة).
أبي الملك (علي)، وجدِّي (الشريف حسين)، وموصولٌ نَسَبـي إلى خاتم الأنبياء. حكمتُ العراق بيدٍ من حديد، وأحياناً من خشب. هنا في هذا المكان، حيث ترون جثتي، هنا قبل ثلاثة عشرَ عاماً، أمرتُ بتعليق جثة العقيد (صلاح الدين الصبَّاغ)، بعد شنقهِ أمامَ هؤلاء الناس أنفسهم، كانوا يهتفون، وفي غاية المتعة، كما هم الآن أمام جثتي، يهتفون بحياة الملك، وحياتي، وموتِ (الصباغ)، ويشتمونه. بقيت جثة (الصبَّاغ) مُعلَّقة على باب وزارة الدفاع خمسة أيام بلياليها، أمَّا أنا فسأبقى يومين فقط. لقد رأيت كلَّ هذا في منامي، لم يجرؤ أحدٌ على مراجعتي من أجل دفن جثة (الصباغ)، تفادياً لغضبـي، والشكوك التي قد تنتابني حول إخلاصه وولائه. مَنْ هذا المجنون الذي كان سيبدي تعاطفاً مع الخونة الانقلابيين؟

أنا الذي مدحني الشعراء ورجال الدين. هذا (الجواهري)، شاعر العرب، يقول فِيَّ:
حضن التاج بنيه فتعالى، وتعالى حارسُ التاج جلالا
 وتعالت أمةٌ لم تنحرف، عن مدى الحق ولا زاغت ضلالا
يا حفيظ العهد للوادي ويا، أمل الوادي فتوّاً واقتبالا
 وصليب العود يأبى غمزةً، ورفيع الرأس يأبى أن يطالا
هرع الشعب إلى منقذه، ملقياً في الساحة الكبرى الرِّحالا
 يا أخوتي المتنزهين في (شارع الرشيد)، أنا الوصي على عرش العراق، مُلقىً في الساحة الكبرى صريعاً مجندلاً، أنا وليُّ العهد في العراق، أنا خال الملك، هل نسيتموني؟
أبي ملك، وعمِّي ملك، وجدي ملك، وأبناء عمومتي ملوك، وابن شقيقتي ملك، وأنا الوصيُّ على الملك، ولا أملك من حُطام الدنيا شيئاً. حين كنتُ طالباً في (كلية فكتوريا)، في (الاسكندرية)، غالباً ما كانت الحوالة تتأخَّر، فأضطر إلى الاستدانة من زملائي. كان والدي - رحمه الله- يقول لي دوماً:
- شوف، إذا أعطتكَ الدنيا بيدها اليمين، فترقب أنَّها سـتأخذ منك بيدها الشَّمال. وتذكر جيداً، أنا وأنت والعائلة المالكة كافة مدينون للشعب العراقي، جئنا للعراق ونحن لا نملك من حطام الدنيا إلا سمعتنا ونسبنا ونضالنا، وها نحن والحمد لله أصحاب جاه وملك وسطوة، فاحمد الله، لا بلسانك فقط، بل بفعلك، فلا تمدَّ عينيك لتسرق من نفسك، فالعراق كله ملكك.
حين دخلتُ العراق لأول مرة، سكنت مع أبي في بيت صغير ومتواضع، ليس فيه أكثر من غرفتين، في محلة (الصالحية)، مقابل دار الإذاعة. وفي عصر يوم ربيعي رائق، كنت وأبي - رحمه الله- جالسين أمام باب الدار، وإذا بشخص يمر من أمامنا رث الثياب، أشعث الشعر، حافي القدمين، أشار اليه والدي، مباغتاً إياي بسؤال استغربت منه:
- هل تعرف هذا يا بني؟
- كيف لي أن أعرفه؟
ظننته يعرفه، وسيحكي لي قصته، لكنه فاجأني:
- إذا لم تنشأ النشأة الصالحة في الإخلاص والإيثار والتضحية والزهد كأجدادك، لن تنشأ ذريتك نشأةً صالحة، سيكون مصيركم عندما يُسأل عنك، كهذا الذي سألتك عنه، ولم تعرفه.
بعد عودتي من (مصر)، وجدت أنَّهُ ليس من اللائق أنْ أظلَّ بلا عمل، وكانت أمنيتي أنْ أعملَ في السلك الدبلوماسي. ذهبت إلى مقابلة (ياسين الهاشمي)، وزير الخارجية آنذاك، وعرضت عليه رغبتي، فأجابَ ممتعضاً:
- ماذا ستعمل عندي؟
- أية وظيفة تراها مناسبة.
- لا، هذا غير جائز، أنت من العائلة المالكة، ولا يُستساغُ أنْ تعملَ موظَّفاً، ستضيع بذلك هيبة الملك، ومعها هيبة الدولة.
- ألستُ أحد أبناء الشعب؟
- كلا، لستَ من أبناء الشعب! أنت من العائلة المالكة، ألا تفهم؟
- ولكنها رغبتي.
- اذهب إلى الملك ليصدر مرسوماً بتعيينك، وحال إصدار المرسوم، سأعلن استقالتي.
- لماذا؟
- ولماذا أتعب نفسي، يبدو لي أنَّك لن تفهم، صاحب الحاجة أعمى، وأنتَ لا ترى شيئاً، ولا تسمع إلا ما يؤيد رغبتك الطائشة.
- لا أسمحَ لك بالتجاوز.
- هل رأيت؟ كيف تكون أحد أبناء الشعب، وأنت من العائلة المالكة، وتتحدث مع الوزير الذي سيكون رئيسك في العمل، كما تتحدث مع خادمٍ في قصرك. تفضل، المقابلة انتهت.
- هل تطردني؟
- افهمها كما تشاء.
لا أذكر ماذا قلت له، لكنه تناول دواة الحبر فوق طاولة مكتبهِ ورماني بها، فسال الحبر على بدلتي البيضاء الأنيقة، فخرجت ولم أخبر أحداً بما حدث، لكني احتفظت بملابسي الملطخة بالحبر.
يشيع الناس عنِّي أنني أتحكم وأتدخَّل في شؤون الدولة والوزراء. مجرد أكاذيب. زارني يوماً وفد من شيوخ ووجهاء وأعيان (لواء العمارة)، يشكون لي متصرف اللواء، ونعتوه بالفاسد والسارق والمقامِر، وطلبوا استبداله، فوعدتهم بأنني سأفعل ما بوسعي. اتصلت برئيس الوزراء أمامهم، وشرحت له كل ما قالوه، فردَّ رئيس الوزراء يطلب مهلة ليومين يتحقق من الشكوى، وبعد يومين اتصل رئيس الوزراء ليخبرني بأنَّ موقف (متصرف لواء العمارة) سليم، وما نعتوه من أوصاف افتراء وكذب، لأنَّه يرفض مداراتهم. عاد الوفد بعد سبعة أيام، ليخبرني بأنَّ المتصرف قام بإجراءات انتقامية. فاتصلت بوزير الداخلية أمامهم، وطلبت منه - برجاء أخوي- أنْ يقوم بنقله، أو استبداله، فقال وزير الداخلية:
- سيدي، لقد أخبرني فخامة رئيس الوزراء بكلِّ شيء، وأجريت تحقيقاً أشرفتُ عليه بنفسي، فوجدت هذا (المتصرف) قد أحدث في (لواء العمارة) ثورة في البناء والتعمير.
فقال لي أحد أعضاء الوفد، بعدما أخبرتهم برد وزير الداخلية:
- سيدي، أليس من العدل والمساواة نقله إلى لواء مهمل، يعاني نقص الخدمات، ليحدث فيه ثورة عمرانية؟
أنا الوصي على عرش العراق، أعلى سلطة، عجزتُ عن نقل متصرف إلى لواء آخر، وما زالت بدلتي البيضاء الملطخة بالحبر الأبيض في صندوق ملابسي.
حين وصلتني تقارير عن الانقلاب المزمع حدوثه من قبل العقداء الأربعة، جمعتهم هنا مع (رشيد عالي الكيلاني)، والمناوئين لسياسة القصر، وشرحت لهم:

- ليس من المنطقي أنْ ندخل الحرب العالمية إلى جانب دول المحور، وهم الخاسرين في الحرب، هذه ليست حربنا، هذا انتحار. لسنا دولة قوية تتحمل تكاليف الحرب، ما زال نصف الشعب يعيش تحت خطِّ الفقر. إذا قمتم بالثورة، سيعود الإنكليز إلى احتلال البلد، سيدكُّ (بغداد) بالطائرات والمدفعية، سيتدمر كل ما بنيناه!
حين رأيت رفضهم وتشددهم وإصرارهم على الثورة، أمرتُ العقيد (عبيد عبد الله المضايفي) بأنْ يأخذ (غدارة)، ويقتل القادة الأربعة في داري هذه، إلا أنَّ العقيد (عبيد) اعتذر عن تنفيذ الأمر. وانظروا إلى نتائج رفضه، ماذا حدث؟ لقد خسرنا الكثير، وفضلاً عن الدماء البريئة، عاد العراق إلى الوراء عقدين كاملين.
انظروا هناك، تلك المفكِّرة الزرقاء. قام إليها ماشياً، وضعها في حضنهِ جالساً، وراحَ يقرأ، بدءاً بقوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا}. والحديث الشريف: (اشفعوا تؤجروا). الشفاعات التي تُنجز:
النقيب (ماجد عبد الستار) استحقَّ الترفيع إلى رتبة رئيس، فتحدثت مع اللواء الركن (غازي الداغستاني)، رئيس أركان الجيش بالوكالة، فوعدني خيراً. لكن جدول الترفيعات صدرَ خالياً من اسم (ماجد عبدالستار)، فاتصلت بالداغستاني، فاعتذر:
- سيدي الوصي، لم يحدث في الجيش العراقي ترقية آمر فصيل، في السرية الثانية، في فوج حماية العائلة المالكة، إلى رتبة رئيس، ولو كنتُ فعلت كانت ستكون سابقة لها ما بعدها، وهذه السابقة كانت ستسجَّل باسمك.
- المهم أنْ يترقَّى إلى رتبة رئيس، وليسجِّل التاريخ باسمي. ألا يوجد مُلحق لجدول الترفيعات؟
- إذا كنتَ مُصِرَّاً على ترقيته، فيجب أنْ تخاطب (مجلس النواب) ليجري تعديلاً على قانون خدمة الضباط، وتعديل فقرة الترفيع بحسب المِلاك.
وكان الرئيس (يوسف محمد سليم)، معاون آمر السرية الثانية، من فوج حماية العائلة المالكة، ومقر السرية في القصر الملكي في (سرسنك). وأثناء تواجد العائلة المالكة، طلب الرئيس (يوسف) منِّي أنْ أعينه بمنصب معاون الملحق العسكري في (لندن)، لأنَّ هذا المنصب شاغرٌ منذ أكثر من شهر، وأيضاً رفضَ اللواء الركن (غازي الداغستاني)، رئيس أركان الجيش، تنفيذ أوامر الوصي على عرشِ العراق، لأنَّ مِلاك منصب الملحق العسكري، ومعاونه، يجب أنْ يكون حاصلاً على شهادة الماجستير في العلوم العسكرية، أي خريج كلية الأركان. ولم يكتفِ (الداغستاني) بالرفض، بل أرسلَ يطلب الرئيس (يوسف محمد سليم) إلى مكتبهِ، ووبخه بشدة، لأنَّه لجأ إليَّ، وهدده بالإحالة على التقاعد لسوء السلوك، إذا فاتحته، أو فاتحه أيُّ شخصٍ آخر، بشأنهِ.
سألتُ (عبدالغني الدلي)، نائب رئيس تشريفات البلاط الملكي:
- هل تعرف (صالح بك)؟
- لا، سيدي.
- كيف لا تعرف (صالح بك جبر)، رئيس الوزراء؟
- أعرفه سيدي.
- فاتحْه بخصوص مزرعة الملك فيصل الأول في (خانقين)، لأني لا أريد إحراجه إذا فاتحته بنفسي، ولا أرغب التدخل في الأمور المالية، أو الإدارية، للحكومة. وصلني إنذار من (وزارة المالية) يطالب الورثة بدفع ضرائب لسنوات سابقة، والورثة: الملك (فيصل الثاني)، وبما أنَّهُ قد أُعفي من الضرائب أصحاب المزارع المجاورة كافة، بسبب عدم هطول الأمطار، فلماذا لا تُعفى المزرعة الملكية أيضاً؟
وحين فاتحتُ رئيس الوزراء، استغرب من ذلك، وبدا منزعجاً، وقال:
- سوف أدرس الموضوع قريباً، وأردُّ عليك.
وبعد سبعة أيام، قال لي:
- لم تعفَ المزرعة الملكية، لعدم المراجعة بشأنها.
وظلَّ الموضوع مُعلَّقاً، إلى أنْ انتقلَ (عبدالغني الدلي) إلى المصرف الزراعي، وجدَ أنَّ الإعفاء لم يكن كاملاً كبقية المزارع.
كانت (شركة الغزل والمنسوجات القطنية المُساهمة)، في بيان تأسيسها، ترغب بمشاركة أبناء الشعب كافة، فأسهم الملك (فيصل الثاني)، وأسهمت، وبعض أفراد العائلة المالكة، ببعض مدخراتهم، وتقدمت الشركة بطلب إلى (المصرف الصناعي)، للاشتراك بشراء بعض الأسهم، فوافق مجلس إدارة المصرف على الطلب، إكراماً للعائلة المالكة. وكان الشائع بين الناس أنَّ الشركة يملكها (الوصي)، ولم أكن أملك سهماً واحداً في هذه الشركة، وأسهم فيها الملك بناءً على توصيتي، لا رغبةً في الربح، بل رغبةً في تحريك عجلة الاقتصاد، من خلال تشجيع الناس على الإسهام في دعم القطّاع الخاص. وحين راجعني رئيس مجلس إدارة الشركة، التي لم توزع أية أرباح طيلة ثلاث سنوات من عملها، ومرَّت بظروف صعبة، لكنَّي رفضت التدخل رفضاً قاطعاً.
أنا بشر، ولديَّ أخطاء كثيرة، لكن لولا جهودي لمَا حصلت الحكومة العراقية على نصف إيرادات النفط، ولما باشر (مجلس الإعمار) أعماله بعد سنتين من الجمود، منذ إقراره في مجلس النواب في 25/4/952. وهذا (الداء الهولندي) اكتشفناه قبل العالَم أجمع، بنص قانون مجلس الإعمار على تخصيص إيرادات النفط كلها لمشاريع الإعمار، لأنَّ عائدات الدولة من الزراعة والتجارة والضرائب كانت تكفي لتغطية الميزانية العامة للدولة. واليوم، نفطُ العالَم كلُّه لا يكفيكم!! هذه المشاريع الاستراتيجية: الري والسدود والجسور والمستشفيات الضخمة والمصانع العملاقة، قررت الثورة أنَّها تخدم الاستعمار، فألغت (مجلس الإعمار)، الذي، بعد نصف قرن، سيظلُّ العراقيون ينتفعون من أرشيفه ودراساته وخططه، التي كانت قيد التنفيذ. لم يكن سبب الفقر فساد إداري، أو سوء إدارة، كان سببه: عدم توفر الموارد المالية، لم تكن تحت أيدينا ثَمَّة موارد كبيرة لتُسرق أو تُهدَر. كان طلب الملك لشراء سيارة جديدة يظل في دائرة الانتظار لشهور طويلة، دون أنْ يتجرأ على ممارسة نفوذه.
حذَّرني (عدنان مندرس) من انقلاب وشيك، حذَّرني ابن عمِّي (الملك حسين)، حذَّرني (بهجت العطية) مدير الأمن العام، حذَّرني الصحفي السوري (نذير فنصة)، برسالة شفوية من الجنرال (تيمور بختيار)، رئيس السافاك الإيراني، بدلاً من التزام كلِّ هذه النصائح، والبقاء في (تركيا)، واستعجال (الملك فيصل) لتقديم موعد سفره إلى (تركيا)، عدتُ إلى (بغداد)، لئلا يستغل الانقلابيون غيابي، وغياب الملك، عن (بغداد).


توقفوا أمام جثتي المعلقة على بوابة وزارة الدفاع، رغم محاولاتكم إظهار الفرح والحماسة لموتي، لكنَّ بوسعي رؤية شعورٍ ينغِّصُ عليكم قلقاً وخوفاً، أنتم معلقون هنا بجواري، كما حال الزعيم الآن ينتظر وصول السفير البريطاني، بعد دقائق سيدخل معركةً سياسية مع السفير ستُحدِّدُ مصيره. عدتُ إلى العراق يوم 30/1/1941، كان قلبـي يتمزَّق غيظاً وحقداً على الجيش الذي انقلبَ علينا، نحنُ أولياء نعمتهِ، يتَّهِمنا بالخيانة، يُصدِّق أكاذيب إذاعة العرب، ولا يُصدِّق ما يراه بأعينهِ. لا أحدَ أكثرَ إخلاصاً مِنَّا للقدس وفلسطين. يزايدون علينا في الدين والعروبة، ونحنُ من آل البيت. لن أرحمَ أحداً من الانقلابيين، ولا من الذين وقفوا معهم، سأضربهم بقسوة لا رحمةَ معها، بلا هوادة، شنقتُ العقداء الأربعة، واجتثثتُ العناصر التي اشتركت معهم. لم أهنأ، ولم أترك السفير البريطاني يهنأ، واصلنا الضغط معاً على (تركيا)، لتسليم الصبَّاغ، حتى اعتقلوه، وسفروه بالقيود إلى (قلعة حلب)، التي كان يعسكر فيها الجيش البريطاني. هرب من القلعة، وتخفَّى في القرى المحيطة بـ(حلب). لم أذق طعم النوم، حتى وصلني خبر القبض عليه، وأرسِلَ مُقيَّداً إلى العراق. حين نقلتُ الضباط، الذين دارت حولهم الشبهات، ومنهم ملازم أول (عبدالسلام عارف) إلى (البصرة)، ما كنتُ أعلم أنَّني - بنقلهم - أكون قد استفززت الأفعى، دون تبييت النية، ولا القدرة على قطع رأسها. ليتني كنتُ عفوتُ عنهم، لماذا أقتلُ إنساناً قدَّر الله أنْ يموت في اللحظة التي أقتله فيها؟ اغتالني خوفي من الاغتيال! خوفي من ضباط الجيش، حفَّزهم لحياكة المؤامرة، كأبناء يعقوب: نسجوا من خوفهِ من الذئب تمثيلية: وجاءوا أباهم عشاء يبكون. لم ينفعني حلُّ الكثير من وحدات الجيش، وإلغاء الكثير من عقود التسليح، نحن الساسة صرعى مخاوفنا الوهمية. مجرد ظلال وغُبار. ولطالما شرحَ لنا في درس الدين، إعرابُ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، أولياءه: مفعول به ثانٍ، والمعنى: يخوفكم أولياءه، أي: بأوليائه وأعوانهِ من شياطين الإنس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق