02‏/09‏/2015

الذات الافتراضية (النص الشعري ما بين الذات الافتراضية وافتراضية الذات)

أثير محسن الهاشمي
النص الشعري، باعتباره أنموذجاً لغوياً، ومادته الأساس هي اللغة، ينقسم على محتويات وأسس وخصائص وصور تنطوي ضمن العمود الفقري (الأسلوب) للنص، وهو الذي يجعل من النص الشعري نواة نصية، والنتيجة النهائية من ذلك كله هو الوصول إلى نظام عام يتضمن الشكل والمضمون في النص. ومن هذه الأساسيات، التي يــُبنى عليها النص الشعري: (الذات).
تعتبر (الذات) منشأ الإبداع، في كل المجالات، بشكل عام، وفي الشعر، بشكل خاص. فالشاعر يستدرج
حالاته في محتواه الشعري، من خلال ذاته، والذات مرتبطة بمجموعة (أيقونات عضوية)، هذه الأيقونات عملها يشبه عمل (الذاكرة)، في جهاز الحاسوب، الخازن للمعلومات، فالذات هي نظام عضوي مــُنتــِج ومــُمنتــج للمعلومات التي يستدركها في حياته:

 وهذا يشبه ما أسماه (فرانك) بــ (الفيزيا الحسية)، التي كانت إحدى نتائجه في الأبحاث التشريحية الدماغية، والتي توصل عن طريقها إلى بعض التصورات، التي ساعدته على افتراض وجود مركز سمعي كلامي، يقع في الفص الصدغي من الدماغ. وكان من نتيجة هذا الافتراض، أن هناك خلايا تساعد على تكوين صور سمعية للكلمات. (1)
أما (بافلوف) عالم النفس والفسلجة الروسي، فقد كشف عن ثلاثة أنماط للجهاز العصبـي المركزي عند الإنسان، تستند فسلجياً إلى العلاقة بين المنظومتين الإشاريتين: الإدراك الحسي – رؤية الأشياء المادية مثلا، أو شمّ روائحها، أو سماع أصواتها، من جهة. والإدراك الحسي، عن طريق اللغة – الكلمات –، من جهة أخرى.
تتغلب في النمط الأول – فطريا – المنظومة الإشارية الحسية (للإدراك الحسي)، على المنظومة الإشارية اللغوية (الإدراك المجرد أو العقلي)، وتتغلب عنده أيضا المراكز الدماغية الواقعة تحت المخ (المسؤولة عن الانفعالات والمشاعر، أو العواطف، على المراكز المخية اللغوية (المسؤولة عن التفكير)، وهو نمط الفنانين عموما (الموسيقيون والشعراء والرسامون والنحاتون بشكل خاص)، الذين يدركون العالم الخارجي (الطبيعي والاجتماعي) إدراكا حسيا فضفاضا، مرتبطا بمشاعرهم وخيالهم، ويعبرون عنه أيضا بصورة حية انفعالية. (2) ورأي الدكتور (مصطفى ناصف) قد يكون مشابها بعض الشيء، من الناحية الأدبية، إذ يقول: "فللعمل الأدبي أكثر من معنى، وربما لا يكون أحد التفسيرات الكثيرة متصلا اتصالا واضحا بالمعنى الذي كان يعلقه الأديب في ذهنه تعليقا واعيا، ولكن لا بد أن هناك معان كثيرة موجودة بطريقة لا واعية في الذهن، حينما يشتغل الفنان بتأليف عمله. وليس من شك في أن الذوق النقدي العام أصبح أكثر ميلا إلى رفض التفسيرات البسيطة، والأخذ بالتفسيرات المعقدة، التي قد يدهش لها الفنان إذا وُوْجِه بها، وأن النقاد لا يترددون في استعمال (المعنى المفروض) ونسبته إلى النص". (3) وبالتالي تكون الذات أداة ناتجة (بشكل شعوري، أو لا شعوري) نتيجة العوامل الصاقلة، كالموهبة، والثقافة، ومدى التأثر والتأثير... إلخ. وبذلك تكون الذات عبارة عن نظام افتراضي يفترض الأشياء، بشكل عفوي، أو بشكل متقصد.
الذات عند الشاعر تختلف عن الآخرين في امتلاكها للافتراضية بوصفها (ذاتاً كلامية)، لا مادية أو واقعية حد الواقعية. فالشعر لا يعتمد في طرحه على المادية الحقيقية، بل يتجلى طرحها في بعض الأحيان إلى أبعد من ذلك، ليصل إلى الخيال، فيسمعك صوتاً، حيث لا صوت، ويريك شخصاً، ولا شخص، وهذا ناتج عن الخيال الذهني. وكما جاء في قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}(4)، أو إلى فلسفة عالية، لا يدركها حتى العقل، وهذا ما ينطبق على قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}(5). وهذا ما يذكرنا بقول أحد الحكماء: كل شيء يزينه الصدق، إلا الساعي والشاعر، فإن الصدق يشينهما، فحسبك بما تسمع! ونهى النبـي (محمد) (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإكثار منه، وإنما ذلك لأنه كذب، إلا ما خرج عن حد الشعر، فجاء مجيء الحكم والمواعظ. وأما ما عدا ذلك، فإن قائله إن تحرى الصدق، قال:
الليل ليل والنهار نهار
والبغل بغل والحمار حمار
والديك ديك والحمامة مثله
وكلاهما طير له منقار (6)
الذات الشعرية، مجردة من الفعل أحيانا، بخلاف البناء المعماري، الذي ذكرناه مسبقا، مع بعض التشابه في أحيان أخرى. فالمهندس مثلا لا يستطيع بناء بيته (محلقا في السماء)، لكن الشاعر يستطيع ذلك، بل يستطيع أن يحلق في كواكب أخرى، ولكن عبر مخيلة شعرية، تتولد نتيجة الذات المعبرة كلاميا. وهذا ما يجعلنا نتحقق من أن الشعر هو حالة افتراضية، تزيد افتراضيته على المناهج الإبداعية الأخرى.
تكمن الذات الشعرية رغبتها في بث الرؤى اللغوية عبر مساحة واسعة من المدلولات والصور الشعرية والفنية، وبحجم يكاد يكون كبيرا إلى حد ما.
وهذا يستوحي نتيجة المزج الحاصل ما بين:
(الحولية + الــ ما حولية // زمان + مكان) التي يخضع إليها الشعر، متجاوزا بذلك الواقع، ليصل إلى الخيال، في أكثر الأحيان، ليولد أقساما ثلاثة: الصناعة، والطبع، والبراعة. فالأول: (الصناعة) هي التأليف الجامع للاستعارة بالأشياء، والتحليق على المعاني، والكناية عنها. والثاني: (الطبع) هو ما لم يقع فيه تكلف، وكان لفظه عاميا، لا فضل فيه عن معناه، حتى لو أردت التعبير عن ذلك المعنى بمنثور، لم تأت بأسهل منه ولا أوجز من ذلك اللفظ. و الثالث: (البراعة)، وهي التصرف في دقيق المعاني، وبعيدها، والإكثار فيما لا عهد للناس بالقول فيه، وإصابة التشبيه، وتحسين المعنى اللطيف(7). وقد اهتم الفلاسفة بخيال الشاعر، ومنهم (سقراط)، الذي اعتقد بأن خيال الشاعر نوع من (الجنون العلوي)، وظل هذا الاعتقاد عند (أفلاطون)، الذي كان يرى أن الشعراء (متبعون)، وأن الأرواح التي تتبعهم قد تكون خيرة، وقد تكون شريرة(8).
إن مصطلح (الشعر) يتأثر بالظروف والمتغيرات الزمانية والمكانية لكل عصر. الشعر من حيث تعريفه، ماهيته، لوازمه، وشعائره، يستجيب للدوافع الذاتية.
فالذات الشعرية تتولد نتيجة مراحل متعددة، حتى تصل إلى مستوى معين، وبالتالي تنعكس الصورة الزمنية للذات، وما تحمله من إمكانيات وإشباعات، نتيجة الولوج في زوايا الثقافة، ومدى العمق الدلالي لها، مع الإدراكات الشعرية، الشعورية واللاشعورية، والأسئلة التي تطرح نفسها: ما الشعر؟ ما دلالاته الحسية واللاحسية؟ هل الشعر دافع ذاتي، أم ذاتي الدافع؟ هل الشعر عاطفة، أم عقل؟ أم هو كلاهما؟ هذه الأسئلة، وغيرها، قد تولد لدينا فضولية أدبية، للبحث عن إجابات، أو أدلة، أو حتى أمثلة بسيطة، من خلالها نستوحي ما هية الشعر، ومدى قابلية الشاعر على احتوائه لها، أو بالعكس.
إن الاختلاف في تعريف الشعر هو الذي سيجمع لنا الدلالات الشعرية، أو الماهية الشعرية التي نبحث عنها. يقول (نوفالس): "الشعر نقل للنفس أو للعالم الداخلي بكليته، حتى الألفاظ تثبت ذلك، لأنها فيض من العالم الداخلي للنفس"(9).
فالشعر هو نوع من الاستكشاف، يعدو وراء حدود قوانا التعبيرية، مثلما يسير الاستكشاف ما وراء حدودنا لمعرفة سطح الأرض(10). إن المناخ الشعري لدى الشاعر، عادة ما يكون مترابطا مع متغيراته الحولية واللاحولية. فالشاعر تكمن في داخله صفات وتراكيب اللغة، من حيث المعنى واللفظ، وأيضا دلالات صورية، يحاول الشاعر أن يصنعها عبر طريقته الخاصة، وكلا حسب ثقافته، ومدى قابليته الذاتية في ذلك.
الشاعر دائما ما يرى الأشياء غير ما يراها الإنسان العادي، هو يحاول أن يضع صورا وإيحاءات للأشياء، ويعيش تلك التقلبات في واقع متقوقع تحت وطأة الصور، ذات الدلالات العميقة أو المتوسطة أو الضعيفة. وهو بهذا يجعل من مكونات الأشياء رموزا مترابطة، أو منعطفة بتعبير صوري، أو بماهية إيحائية امتدادية لنسيج من المعاني والألفاظ اللامتناهية.
ثمة تقارب في ألوان الشعر، لكن الحكائية الصورية تختلف من شاعر إلى آخر. فالتعبير هو جزء من واقع ذاتي، والذات هي التي تبدأ بالاندراج وراء مكونات التعبير، لتكون مرآة في بث الكلام (الشعر). أعتقد أن المثالية الحقيقية للشعر تكمن في ما وراء الشاعر، ومكون الشعر هو مدى لا محدود، والشاعر هو جاذب لا محدود أيضا، وبالتالي فالشاعر هو مثال لمغناطيس يجذب الأشياء المتناثرة لتكون واحدة هي (الشعر):
الشاعر --- الأشياء --- الدلالة --- المحتوى
المسميات هي واحدة لكن الاختلاف يكمن في الأسلوب أو الرأي الذي يبثه الشاعر عبر قصائده. والاختلاف في الآراء الشعرية يولد حالة من الثبات. فنفسية المتلقي، أو مدى قابليته، تختلف من شخص إلى آخر. وبالتالي، فإن الآراء أو الأساليب الشعرية المختلفة، عبر قصائده المتنوعة، قد تكون كافية لاشباع المتلقي، الذي يختلف من شخص إلى آخر.
وقد اختلف الشعراء في طرح قضاياهم الفكرية، وآرائهم الخاصة بالكيفية الشعرية، فالكيفية الشعرية قد تتغير من شاعر إلى آخر، وكل حسب أسلوبه، أو رأيه الخاص، وظروفه التي يمر بها. فـ(كولرج) – مثلا- يرى أن الشاعر يجب ألا يحاكي المظاهر الخارجية، وإنما عليه أن يعزل نفسه عن الطبيعة، وبقوة النفس اللاواعية يولد ما تعبر عنه الطبيعة الخارجية. (11)
فالانعزال الذاتي، والانفراد بمعزل عن الجغرافية الطبيعية، سيولد تنامياً في النفس اللاواعية، والتي بدورها ستفرز الطاقة الشعرية التي تعبر عن تلك الطبيعة. فالشعور واللاشعور هما عنصران باطنيان، لكن الأول ربما يستطيع الشخص التحكم به. أما الثاني، فيكون بشكل لا إرادي، وبالتالي فإن القوة الشعرية اللاشعورية ستكون ذات رؤية نفسية أبعد، من ثم تعكس الحالات الباطنية التي يخزنها أو يتصورها العقل الباطني، برؤية جديدة، وصورة أكثر بعداً، ومن غير تأثير لأي عاطفة كامنة.
غير أن الرومانطيقيين اختلفوا في ذلك، وأكدوا على محاكاة الطبيعة، والنقل عنها، على شرط أن يضيف الشاعر إليها من عاطفته، وما يعدل منها، أو يبث الحياة في جمادها.(12) هذا الاختلاف في الرأي، قد يولد حالة الثبات، أو التكامل، عند المتلقي، التي قلنا عنها سابقا. فالشعر يختلف من شاعر إلى آخر. وهذا ما يدل عليه النسيج الشعري عند الشعراء، وأن علامة واحدة تشير إلى فكرة واحدة متميزة.
وبذلك فإن واقع الكلمات، أو الألفاظ، في أية لغة، هو معنى محدد بفكرة محددة. أي أن الكلمات هي الوجه الحسي المشرق حيناً، والمعتم حيناً آخرا، لهذه الفكرة أو تلك.(13) وما رآه الدكتور (محمد مفتاح) قد ينتج لدينا فكرة إضافية أيضا عن ذلك: إن النص الشعري لا يحيل على واقع خارج عنه، يثبت صدقه أو كذبه على ضوئه، وإنما له واقعه الداخلي. فصدقه مستمد من ذاته، وليس من خارجه.(14)
فالشاعر المبدع هو الذي يهتم كثيرا بخاصيتي الإيجاز والتخطيط، ويكون قادراً - كما يقول (أرشيبالد مكليش)- على أن يأسر الأرض والسماء داخل قفص الشكل.(15) وهذا ما يجعل الذات على وفق الحضور الدائم للوعي، بوصفه المبدأ الضروري للمعرفة.
ويبلغ هذا الحضور درجة أن يتماهى أحدهما في الآخر تماماً، بحيث تصبح المعرفة فعلاً وفاعلاً ومفعولاً معاً. وعليه، فإن الذات ليست جوهرا مفكراً، قائماً بنفسه، منطوياً عليها، بل هي فاعلية أو وجود، بكل ما في الكلمة من معاني الصيرورة والتحول والتعين. أي أن الذات تمثل آنية الموجود الإنساني، ووعيه، ووجوده للمعرفة.(16) وقد تتقاسم مصطلح التخييل في نظرية الشعر عند الفلاسفة، استناداً إلى تصنيف معاصر، ثلاثة مفاهيم رئيسة، هي: المفهوم السايكولوجي، والمفهوم المنطقي، والمفهوم البلاغي. فالسايكولوجي يحيل إلى الاستجابة النفسية اللاواعية، للذات المتلقية، التي تـُستفز بالشعر، فيفضي إلى خلق حالة نفور، أو قبول، بحسب ما يخيل إليها. أما المفهوم المنطقي، فيشير إلى أن الشعر قياس منطقي، مؤلف من مقدمات متخيلة، تشكلها مخيلة الشاعر، تبعا لـِما يلاحظه من تناسب أو تماثل. أما المفهوم البلاغي، فيدل على الصياغة الجمالية الخاصة بالشعر، في تركيزها على الجانب التصويري من تشبيه، واستعارة، وكناية، وغيرها.(17) ثم يفيض - فيما ذكره (هلدرن)- من أن الشعر "أكثر المشاغل براءة" بأن "الشعر يتبدى للناس لعباً، وليس كذلك. فاللعب يقرب ما بين الناس، ولكن على نحو يجعل كل واحد ينسى نفسه فيه. أما في الشعر، فالإنسان يركز ذاته على وجوده الإنساني، لا ويصل هنالك إلى الطمأنينة، لا إلى تلك الطمأنينة المتولدة من البطالة، وفراغ الفكر، بل إلى تلك الطمأنينة الضافية، التي يصحبها نشاط في جميع القوى والعلاقات. (18)
الشعر، باعتباره فرضية كلامية، قائمة على أساسيات جمة. وباعتباره منحنى كلامياً، يستوي على أرجوحة لغوية، تهبط، أو تعلو، بحسب كينونة إنسانية صغرى، تتماهى مع ذات جمعية أكبر منها، تتمثل بالهوية. فالإنسان – أي إنسان – إنما يبدأ بإدراك ذاته، ضمن مكون مجتمعي ذي ملامح ثقافية خاصة ومميزة، ومنه يتزود بالنظام القيمي والثقافي العام. (19)
هذه المنحنيات الكلامية، هي منحنيات افتراضية، تنمو تدريجياً، إلى أن تصل إلى مستوى طولي، قائم على منحنيات عرضية ذات نسب متعددة.
هذا الامتداد الطولي، لمجموعة الكلمات المركبة افتراضياً، والمـُعدة لاستنهاض الشكل العام للنص اللغوي، يؤثر على نسيج الاختيارات القرائية، سلبا أو إيجابا، وبالتالي تكون النسبة المئوية للمنحنيات الشعرية الافتراضية ذات مدى طولي وعرضي غير ثابت.
فنرى أن النسبة المئوية للافتراضات الشعرية، هي نسبة متفاوتة تختلف من قصيدة إلى أخرى، ومن بيت إلى بيت آخر، في القصيدة الواحدة. مما يدلل على أن الشعر هو مجموعة افتراضات، قائمة على منحنى كلامي، بنسب متعددة. واليك الأنموذج التالي، يبين افتراضية لغوية، تضمنها هذا البيت من الشعر :
وفرْعٍ*ٍ يزين المتن أسودَ فاحمٍ
أثيثٍ* كقنو*ِ النخلةِ المتعثكلِ (20)

هذه الأفكار الناتجة عن افتراضية كلامية، تقودنا إلى أن الشعر قد بــُني، وما زال يــُبنى، على اختلافات افتراضية جمة، تنشأ من ذات الشاعر نفسه، والمشبعة بالعوامل الكامنة في بيئته، وهذا ما فعله تشبيه امرئ القيس لحبيبته
المتمثلة بالنخلة. وهذه الافتراضية – التشبيهية - تحيلنا إلى نبوءة على لسان (فرويد)، الذي كثيرا ما يلجأ إليها لدعم الفكرة القائلة بأن التعقل والموضوعية أوهام، فإذا رفضناها كنبوءة، ظلت لنا تعبيراً، المثال الوحيد الذي ترتكز عليه حياة إنسان، ينظر إلى الأمور نظرة جد: "إن لنا أن نصرّ، ما شاء لنا الإصرار، على أن الفكر البشري ضعيف، إذا هو قيس بالغرائز البشرية. وقد نكون على حق في هذا، ومع ذلك فإن لهذا الضعف ميزة خاصة، هي أن صوت الفكر خافت، ولكنه لا يفتأ يتحدث حتى يظفر بالإسماع، ويكلل سعيه، بعد أن يصطدم مرات لا حصر لها، بإكليل الفوز في النهاية. فهذه واحدة من الحجج القليلة، التي تحملنا على التفاؤل حول مستقبل البشرية.."(21) يبدو أن هذه الارتكازية الكلامية لـ(فرويد)، ما هي إلا صورة واضحة تبين أن الوهم والخيال مرتبط بذات الإنسان، فمن غير المعقول أن يستولي الفكر الواحد على ذات واحدة. بمعنى آخر: إن الإنسان هو شخص افتراضي بطبيعته، فالحب والكره والحياة والموت والبيئة وغيرها، جميعها عوامل تساعد في هيمنة أفكار مختلفة، وهذا ما ينشئ حالة (الافتراضية – للأشياء). ولو أخذنا مثالا شعريا آخر، وليكن بيت (طرفة بن العبد)، إذ يقول :
لها فخذان أكمل النحض فيهما
كأنهما بابا مـُنيفٍ ممردِ (22)

الشاعر في هذا البيت يقول لهذه الناقة فخذان أكمل لحمهما، فكأنهما مصراعي باب قصر عال مملس أو مطول. هذا التشبيه هو تشبيه شاعر لما تشبعت به ذاته من محتوى البيئة التي عاش بها، فلو كان هذا الشاعر نفسه يعيش في العاصمة (لندن)، مثلا، هل تراه يصف ناقة؟ والجواب: طبعا لا، لأنه يعيش في مدينة وبيئة لا تسود فيها مظاهر الريف، أو بتعبير آخر: تختلف عن البيئة التي يعيشها ابن البادية، وبذلك سيكون وصف الشاعر اللندني، بما هو موجود داخل المدينة، كما فعل الشاعرالأنكليزي (وليم بليك)، في قصيدته (منظف المدخنة)، والتي كانت أداة رسالية، دافع فيها عن الأطفال الفقراء، الذين كانوا يــُستغلون من أجل تنظيف المداخن في تلك الفترة، وهذا ناتج لذات تأملية لأي شاعر كان. أو كما فعل الشاعر (ووردز ورث) في قصائده، فنظرة (وورث) – مثلا- في شعره كانت
عميقة جداً، لأنها كرست جانبا مهماً من الحياة التي كان يعيشها. وهذا ما وصفه الشاعر نفسه في وصفه لطريقته في النظم، إذ يقول:
"كانت خطتي أن أنظر طويلا إلى الشيء أريد النظم فيه، وأن أستوحيه هزة من الأحاسيس القوية، وأن أطيل التفكير العميق فيما علق بنفسي منه، حتى أستعيد الذكريات التي كانت لي معه. ثم أدع الفرصة بعد ذلك لمشاعري، تنساب فيضاً اختيارياً. ولذلك لن يجد القارئ في قصائدي، كثيرا من زور الوصف وباطله، وسيجد اللغة التي أستعملها مناسبة للأفكار، حسب أهميتها".(23) وله قول آخر في معنى الشعر: "إن كل شعر جيد، إنما هو انسياب تلقائي لمشاعر قوية".(24)
كلام (وورث) يدلل على أن الإنسان يعيش ويعمل في عالم يلوح له بأنه بلا معنى، إذا لم يكن إنسانا صانعاً، أو واعياً، أو بأن نفسه (وعي سلبـي)، فهناك مستوى آخر من ذاته، يعيش في الناحية ذات المعنى للعالم، وهو أكثر ما يكون فعالية. وقد أشار (برنتانو) إلى أن كل الوعي قصديٌّ، ولم يعن ذلك له، إلا أن العمل العقلي مميز دائما عن غرضه. وتحقيق (هوسرل) من أن ذلك قصديّ، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وأن العقل منشغل دائما بما يعرف بالإدراك الوجداني، وعلى مستوى (الكوجيتو) غرفة في أعلى البرج، ووجود الإنسان أسفل هذه الغرفة، بعدة طوابق، يشبه معملا مليئا بالنشاط والحيوية، وأنه لا يشبه (الفارس الأبيض)، بسبلاته المختلفة وراء المروحة.(25) ذلك أن قصدية الوعي تظل موجهة ومسبوقة في آن، فالوعي إذ يقصد فإنه يبدأ من وحدته، وينتهي بها. وهذه الوحدة هي ذاته التي يوجد لأجلها، وبفعلها (26)، وبمردودها المادي الذي يتوخاه العقل الإنساني.
إن قصيدة الوعي الذاتي ناتجة عن مواقف وتجليات إعلامية، تفصح الشاعر، وأحواله، وبالتالي يكون الشعر إليه صوته ومنزلته. يقول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم لـيبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازاً، وناء بكلكلِ
ألا أيها الليل الطويل، ألا انجلي
بصبح، وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل، كأن نجومه
بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبــــــل (27)
هذا المشهد يصور موقفا نفسياً للشاعر، فهو لا يكتفي بسرد المشاهد، بل يشخص الليل، ويناجيه، ويفصح في مناجاته عما يجثم على صدره من هموم (28). إضافة إلى الحوار الذي يبرز صوت المخاطـِب (الشاعر) بشكل جلي وواضح، فما نعيه قد لا يفهمه المتلقي، وما يفهمه المتلقي قد لا يعيه الشاعر. وبالتالي تنعكس صفة الخلط بين عدة صور، تنبئ للنص الشعري بذلك المزج الحاصل ما بين الأنا القلقة، وما بين الأنا الثابتة، كما في تصور (طرفة) للموت في قوله:
ألا أيُّهذا الزّاجري أحضر الوغى    
وأن أشهد اللذات، هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني، أبادرها بما ملكت يدي (29)
فما هو إلا تصور من (يحرص عليه، ويسعى إليه)، بعد أن التبس عليه الحق بالباطل، وامتلأ وفاضه بالحيرة، واستبد به القلق، فجأر: أيها اللائمون: ما كنه هذا الوجود؟ ما حقيقة هذا الموت؟ هل أنا خالد، أم لا محالة فانٍ، وإذا كنت لا محالة ميّتٍ، فلأسع للموت(30).
أيضاً ثمة حركية للذات، باعتبارها مــُستنهضاً للخطاب المباشر. فما يدور في واقع الشاعر، وما ينعكس بداخله من تجليات واضحة، تهيمن على ازدواجية النص، كما نرى ذلك عند (عنترة)، إذ يقول:
وسألتُ طَيـْر الدّوح: كم مثلي شجا
بأنينهِ وحنينهِ المتردد
ناديته ومدامعي منـْـهلة
أين الخليُّ من الشجيّ المكمدِ
لو كنت مثلي ما لبثت ملوّنـاً
وهتفتَ في غـُصـْن النّقا المتأوّدِ (31)
إن عملية القمع الذي يمارسه المجتمع على اللبيد والمتموضع (الذي يستهدف موضوعا)، الأمر الذي يحمله على النكوص، ليتموضع على الذات(32). وذات الشاعر لن تحقق انسجامها وتوازنها، في ظل القيم الجاهلية، إلا بعد أن يتمكن من نيل الموافقة على زواجه من (عبلة)، لأن قبول زواجه منها، يعني تحرره من العبودية. فحبه هنا يعني التحرر والانطلاق، أكثر مما يعني بلوغ هدفه المادي، وهو مجرد الاقتران بمن أحب(33). وهكذا يحصل لكل تجليات الذات، باعتبارها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإحساس ووجدان الشاعر. فالواقع وما يبثه من يوميات مختلفة، يقيم مسرحاً متواصلاً بينه وبين الشاعر، والشاعر باعتباره شاهداً حياً، أو مشاهدا مباشرا لما يجري داخل هذا المسرح، عبر تأملات، يستحضر فيها الماضي، والحاضر، لبلوغ مستوى الذات في الشعر، كمرتكز رئيس.
------------------------------------------------------------- 
الهوامش:
1- د. مصطفى فهمي،أمراض الكلام، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1955، ص49.
2- قاسم حسين صالح، الإبداع في الفن، بيروت، دار الطليعة، 1981، ص27.
3- د. مصطفى ناصف، دراسة الأدب العربي، ط2، 1981، دار الأندلس، بيروت، ص136.
4- سورة طه 20.
5- سورة الشعراء آية 226.
6- تحقيق: إحسان عباس، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، ابن حزم الأندلسي، بيروت، 1959، ص 207.
7- المصدر نفسه، ص 207.
8- د. إحسان عباس، فن الشعر، بيروت، 1959، ص 142.
9- المصدر نفسه، ص30.
10- جاكوب كرج، ترجمة: رياض عبد الواحد، مقدمة في الشعر، ص20.
11- د. إحسان عباس، المصدر السابق، ص30.
12- المصدر نفسه، ص30.
13- د. عناد غزوان، أسفار في النقد والترجمة، ص125.
14- عبد العزيز إبراهيم، استرداد المعنى (دراسة في أدب الحداثة)، ص89.
15- د. محمد صابر عبيد، عضوية الأداة الشعرية، ص29.
16- د. هلال الجهاد، جماليات الشعر العربي (دراسة في فلسفة الجمال في الوعي الشعري الجاهلي)، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007، ص 266.
17- د. عباس رشيد الددة، الانزياح في الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب، بغداد، ط1، 2009، ص99.
18- د. لطفي عبد البديع، الشعر واللغة، ط1، 1997، القاهرة، ص3.
19- عباس العلي، صناعة الهوية (الآخر في الخيال العربي – تمثيل المرأة في ألف ليلة وليلة أنموذجا)، مجلة الأقلام، العدد 1، بغداد، 2009، ص33.
20- عبد الكريم راضي جعفر، مفهوم الشعر عند السياب، بغداد، 2008، ص30.
21- تحقيق وإشراف: د. حسن نور الدين، ديوان أمرئ القيس، بيروت، 2003، ط1، ص51.
22- تشارلز فرنكل، ترجمة: د. نقولا زيادة، مراجعة: عبد الحميد ياسين، أزمة الإنسان الحديث، بيروت – نيويورك، 1959، ص151.
23- شرح المعلقات السبع للزوزني، سوريا، 2005، ص73.
24- محمد خلف الله، من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده، القاهرة، 1947، ص54.
25- كون ولسون، ترجمة: يوسف شرور وعمر يمق، ما بعد اللامنتمي، ط2، بيروت، 1969.
26- د. هلال الجهاد، مصدر سابق، ص 265. ص 182
27- ديوان امرؤ القيس، ص 52.
28- د. محمد الصادق عفيفي، النقد التطبيقي والموازنات، القاهرة، 1978، ص148.
29- شرح ديوان عنترة بن شداد، ص79.
30- ديوان طرفة بن العبد، ص32.
31- د. محمد الصادق عفيفي، النقد التطبيقي والموازنات، دار الخانجي، مصر، 1978، ص201.
32- يوسف اليوسف، مقالات في الشعر الجاهلي، مطبوعات الجزائر، ص33.

33- د. بوجمعة بوبعيو، جدلية القيم في الشعر الجاهلي، ط1، مطبعة اتحاد الكتاب العرب، سوريا، 2001، ص 93.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق