الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية المتمرّس في كلية آداب
جامعة الموصل-العراق
مقدمة
ترجع أزمة التعليم الجامعي في ديارنا الإسلامية إلى
بدايات القرن الماضي ونشوء أولى المعاهد والجامعات فيها والتي اختار معظمها أن
يتشكل أو يبحر في اتجاهين متضادين يتمحض أولهما للعلوم أو المعارف الإنسانية،
ويمضي ثانيهما للتعامل مع العلوم أو المعارف الإسلامية، دون أن يعقد بين الطرفين
جسر يعين كلاً منهما على التفاعل والأخذ والعطاء وتبادل الخبرات بين المعرفتين.
عملية تنزيل للقوالب المعرفية الجاهزة، وباستسلام تام لمعطياتها،
ليس فقط في معاهدنا وجامعاتنا، بل وحتى في مدارسنا الابتدائية ومتوسطاتنا
واعدادياتنا.
وبما أن تلك المعرفة كانت تنبثق في الأعم الأغلب عن رؤية
علمانية، وأحياناً، بل وفي كثير من الأحيان، مادية ذرائعية ترفض الإيمان بالغيب،
وتلتصق بالمنفعي والمنظور، فيما يتناقض ابتداءً مع تأسيسات المعرفة الإسلامية
المبنية على الإيمان بالغيب، وعلى منظومة القيم الأخلاقية، فلنا أن نتصور كيف
سيكون الحصاد مريراً، وكيف ستتخرج أجيال الطلبة وقد فكت ارتباطها بكل ما هو إسلامي
أصيل.
وزاد الأمر سوءً أن هذه المعرفة المستوردة التي فعلت كما
يقول (محمد أسد: ليوبولد فايس) فعل السم في التكوين الثقافي للأمة، لم تتقبل في
برامجها التربوية والتعليمية أي شيء عن المعرفة الإسلامية لكي تكون بمثابة الضابط
والمرشد، ولو في حدوده الدنيا، لمأساة الإبحار في خضم الثقافة الأجنبية، اللهم إلا
فيما يسمى دروس الدين التي تم التعمد، لسبب أو آخر، في أن تنطوي على قدر كبير من
الهزال، والتهميش، بل والتنفير، فيما يزيد من حالة التقبل النفسي للمعطى الغربي،
والجهل المطبق بالمعطى المعرفي الإسلامي.
في الطرف الآخر تصطف المعاهد والجامعات الإسلامية التي
فرضت على نفسها العزلة عن المعارف الإنسانية، فيما نتج عنه تخريج أجيال من الطلبة
منفصلة عن مطالب الواقع وتحدياته وضروراته؛ ذلك أن التخصص في علوم كعلوم القرآن
والحديث والفقه وأصوله والعقيدة... إلخ لا يمكن أن تؤتي أكلها وتمارس فاعليتها إلا
في واقع الحياة، عندما يقدر لها أن تنزل إلى الأرض وتعيد تشكيل الخبرات الاجتماعية
وفق مطالب هذا الدين؛ ولن يتأتى ذلك إلا بأن يكون المتخصص بالعلوم الإسلامية على
قدر كبير من الإلمام بمعارف العصر التي تمسك برقبة العالم، وتشكل مصائره: السياسة
والإدارة والاقتصاد والقانون والنفس والاجتماع والتاريخ والحضارة والفلسفة والآداب
والفنون...إلخ، إذ كيف يتأتى لهذا الخريج أن يضع يده على الدواء الإسلامي المناسب إن
لم يخبر مواطن الداء جيداً؟ وكيف يتأتى له أن يعيد صياغة الحياة وهو منعزل عما
يضطرب في جنبات هذه الحياة ومفاصلها الأساسية؟
صحيح أن محاولات عديدة سعت عبر القرن ونصف القرن
الأخيرين، لتجاوز الأزمة وتحقيق اللقاء المنشود بين المعرفتين، لكنها في نهاية
الأمر لم تشكل سوى بقع محدودة ومبعثرة على مساحة واسعة تعاني فيها المعرفتان من
قطيعة غير مبررة على الإطلاق.
سيحاول البحث أن يشخص الأزمة في أبعادها كافة: الدور
الخطير الذي مارسته المعرفة الغربية في التكوين التربوي والعلمي لأجيال الخريجين،
باعتبارها معرفة احتمالية لا تؤمن بالغيب ولا تصل إلى حافات اليقين، وبالمقابل تلك
الخطيئة التي فرضناها على أنفسنا بعزل طلبة الدراسات الإسلامية أو العلوم الشرعية
عما يجري في الدنيا.
وسيسعى البحث إلى وضع يده على جملة من المرئيات للخروج
من الأزمة، فيما يجعل من التعليم العالي مدرسة فاعلة لتخريج نخب مبدعة قديرة على
الإسهام في التصدي لمشاكل الأمة، وإعادة بناء الحياة في ضوء خبرة يلتحم فيها
وبالتوازن المطلوب والضروري: الديني بالمدني.
إن اللقاء المنشود بين المعرفتين يمكن أن يتحقق وفق صيغ
شتى... فهناك المؤسسات الجامعية التي تلتحم في بنية مناهجها هاتان المعرفتان،
وهناك المؤسسات المعنية بتدريس العلوم الإنسانية، وتلك التي تتولى تدريس العلوم
الإسلامية، ومن الممكن الإبقاء على استقلالية كل مؤسسة ولكن شرط أن تنفتح على
المؤسسات الأخرى وتتبادل معها الخبرات والمواد الدراسية، بحيث يتخرج طلبة كل من
المؤسستين وهم يملكون معرفة متكاملة في الاتجاهين معاً.
إن إعطاء مادة (الثقافة الإسلامية) وحدها في الكليات
الإنسانية لا يكفي، وهي تذكرنا بمادة الدين المعطاة في المدارس الابتدائية
والإعدادية في عدم قدرتها على تقديم الحد الأدنى من المعرفة الإسلامية الضرورية
لطلبة الكليات الإنسانية؛ وقد يحدث ما يزيد الأمر سوء وهي أن توضع هذه المادة في
الدرجة الثانية من الأهمية، وقد لا تدخل درجاتها في المعدل العام، الأمر الذي يجعل
الطلبة لا يتعاملون معها بالجدية المطلوبة، وقد تتأتى عن ذلك نتائج سلبية أسوة بما
يحدث في الاعداديات مع درس الدين.
وفي المقابل فإن هناك العديد من الخبرات الأكاديمية
الغائبة في المؤسسات الجامعية الإسلامية وسيتم الوقوف عندها في سياق البحث، فيما
يعين هذه المؤسسات في حالة التعامل معها بالجدية المطلوبة، على أن تكون أكثر
فاعلية وأن يكون خريجوها أكثر قدرة على البحث والإبداع والتألق التدريسي والمساهمة
الإيجابية في واقع الحياة الاجتماعية.
البحث ينسج خيوطه وفق مستويين: تشخيص الأزمة في أبعادها
كافة، ثم تقديم الحلول والمقترحات والمرئيات التي تعين على الخروج منها؛ والهدف في
كل الأحوال هو التحقق بمبدأ التكامل المعرفي، وتمكين التعليم الجامعي من الإسهام
في جهود النهوض الحضاري في العالم الإسلامي، حيث يشكل الانفصال المحزن بين
المعرفتين واحداً من أهم أسباب التخلف الذي تعاني منه الأمة.
بين زنزانة التخصص والفضاء المعرفي
يوماً بعد يوم تزداد الحاجة الأكاديمية والثقافية إلى
التحقق بمبدأ التكامل المعرفي، وبخاصة بعد ذلك الاندفاع المرتجل وغير المدروس
باتجاه الاكتفاء بالمعرفة التخصصية، في هذا العلم الإنساني، أو الإسلامي، أو ذاك،
بل والذهاب أبعد باتجاه ما أطلق عليه التخصص الدقيق الذي يعني الإلمام بهذه الحلقة
أو المفردة أو تلك من حلقات ومفردات هذا العلم أو ذاك، وهي مسألة ضرورية بكل تأكيد
من أجل إتاحة الفرص المعمقة للكشف والإضافة والإبداع في ذلك المجال؛ ولكن هذا لا
يبرّر - بحال من الأحوال - الاعتقال في خانة التخصص الدقيق الذي لا يملك معه
أصحابه فضاءً علمياً واسعاً، ولا خزيناً ثقافياً خصباً يمكنهم، ليس فقط من المزيد
من الإبداع في مجال تخصصهم الدقيق، بل والحضور المؤكد في ساحات الثقافة، والقدرة
على إرفادها بالمزيد.
إننا نتذكر هنا علماء الرياضيات والفيزياء والكوزمولوجي
الغربيين الكبار (اينشتين، والفردنورث، وايتهيد، وبرتراند درسل)، كما نتذكر فلاسفة
العلم الكبار (الكسيس، كاريل، وسوليفان، وأغروس، وستانسيو، وهويْل) وغيرهم
كثيرون... كانوا جميعاً يملكون رؤية معرفية متكاملة مكنتهم، ليس فقط من الإمساك
جيداً بحلقات تخصصهم الدقيق، وتقديم الكشوف المدهشة في مجاله، وانما منحتهم الفرصة
للإسهام الفعال في معترك الحياة العلمية والثقافية على امتدادها.
ونتذكر - قبالة هذا - حشداً هائلاً من المتخصّصين في
العلوم الإنسانية أو الإسلامية، من حملة الماجستير والدكتوراه، بل وحتى من
الحاصلين على درجة (الأستاذية)، تسمع لهم جعجعة ولا ترى لهم طحيناً، فهم يعانون من
الضمور وعدم القدرة على الاكتشاف والإبداع والإضافة في الاثنين معاً: تخصصهم
الدقيق وثقافتهم العامة، فهم أشبه بالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وانك
إذا أخرجتهم من دائرة تخصصهم الدقيق باتجاه هذا الحقل المعرفي الموازي أو ذاك،
ضاعوا وضلّوا الطريق لأنهم لا يكادون يملكون من خرائطه شيئاً... بل إنك - حتى في
مجال تخصصهم الدقيق هذا - إذا سحبت من بين أيديهم النصوص الحرفية المستمدة من
المراجع والمصادر، فقدوا القدرة على كتابة سطرين.
كسر جدران الزنزانة، وتحرير المختصين من الاعتقال في
سراديبها الضيقة، تلك هي - أغلب الظن - المهمة الأساسية لمبدأ التكامل المعرفي،
ومطالب الاشتغال عليه.
إتجاهات
التكامل المعرفي
يتحرك التكامل المعرفي في اتجاهات ثلاثة:
أولها:
التكامل بين نمطين متغايرين من المعرفة وهما الإنسانية والإسلامية.
وثانيهما:
التكامل بين علوم كل معرفة على حدة (بأن يكون المؤرخ - على سبيل المثال - ملّماً،
على الأقل، بالمطالب الضرورية من العلوم الإنسانية: الجغرافيا وعلم النفس وعلم
الاجتماع والاقتصاد والإدارة والسياسة والآداب والفنون... الخ، وأن يكون المحدّث -
على سبيل المثال - ملماً، على الأقل، بالمطالب الضرورية من العلوم الإسلامية: علوم
القرآن والفقه وأصوله والعقيدة... الخ).
وأما ثالثها: فهو ذلك التكامل بين مفردات التخصص الدقيق؛ فالمختص
بالتفسير - مثلاً - يتحتم أن يكون ملماً بعلوم القرآن الأخرى كأسباب النزول،
والإعجاز البياني، والإعجاز العلمي...، والمختص بالعصور العباسية المتأخرة يتحتم
أن يكون ملماً بعصور ما قبل الإسلام، وعصر الرسالة، والراشدين والأمويين، والعصور
العباسية المبكرة، وعصر الدويلات الإسلامية، والعصور المتأخرة، والعصر العثماني...
إلخ.
وكلما كان التكامل المعرفي في اتجاهاته الثلاثة أكثر
إحكاماً، وجدنا أنفسنا أمام "علماء" بمعنى الكلمة... علماء يملكون
القدرة على الإضافة النوعية في حقل تخصّصهم الدقيق، ويسهمون في الوقت نفسه في
مصطرع الحياة الثقافية العام، وذلك هو الحصاد الذي يتحتّم أن تعد به المعاهد
والجامعات، وإلاّ فهو العقم الذي لا يضيف جديداً، ولا يحرّك ساكناً، ولا يملك
القدرة على التجديد والابتكار، كالذي يحدث عبر العقود الأخيرة في معظم الأقسام
العلمية لمعاهدنا وجامعاتنا العربية والإسلامية.
التكامل المعرفي وأسلمة المعرفة
إن المختصين يتكاثرون بصيغة متوالية هندسية، وإذا بالقسم
العلمي الواحد يتلقى السبعين والثمانين من المنتمين إليه من حملة الشهادات العليا،
والحاصلين - ربما - على (الأستاذية)، لكن النتاج العلمي، والمشاركة الثقافية، تكاد
تكون صفراً! أو انهم - في أفضل الأحوال - ينجزون العدد المطلوب والمفروض عليهم من
البحوث التي يسمونها (علمية) والتي تؤهلهم للترقية العلمية؛ ولكن أية بحوث هذه؟
إنك لا تكاد تقرأ فيها سطراً أو سطرين حتى تكتشف عوارها وبوارها، وتضحّل أصحابها
حتى على مستوى القدرة على التعبير وصياغة الأفكار.
فما لم
تتدارك جامعاتنا هذا السرطان الخبيث، فإنه سيمضي لافتراس الأخضر واليابس، ولن يكون
بعدها عطاء علمي مشحون بالإبداع والابتكار، ولا جدل ثقافي محتدم يملأ الساحات
بعصفه الفكري، وعطائه الخصب الأصيل.
في ضوء
هذا كله يجيء التكامل المعرفي لكي يعالج خللاً ملحاً، ويعيد الأمور إلى نصابها
الحق، ويمنح المعاهد والجامعات الفرصة لأن تعود مرة أخرى فتمّد الحياة العلمية
والثقافية معاً، بعطائها الموصول.
ليس هذا فحسب، بل إن التكامل المعرفي يعد ضرورة من
ضرورات التأصيل الإسلامي للمعرفة، أو أسلمتها بعبارة أخرى، إذ كيف تتم إعادة بناء المعرفة
الإنسانية في ضوء تصورات وقيم ومبادئ المعرفة الإسلامية، وكيف يتم تحريرها من
هيمنة المؤثرات العلمانية، وأحياناً المادية، التي انحرفت بمعطياتها ونتائجها فيما
يتعارض وأسس التصوّر الإسلامي للكون والعالم والحياة والإنسان والوجود والمصير،
وكيف يعود الالتحام بين الحقائق والتأسيسات المتشكلة بقوة (الوحي)، وبين كشوف
العقل البشري وخبراته المتنامية في هذا الحقل أو ذاك؟
إن علميْ النفس والاجتماع، وعلوم الإدارة والسياسة
والاقتصاد، والتاريخ والحضارة، والآداب والفنون، بأمس الحاجة إلى التعامل معها،
بدءً وصيرورة ونتائج ومعطيات، وفق أسس وضوابط المعرفة الإسلامية التي لا تبخل
بتقديم تأسيساتها وثوابتها ومعاييرها لأداء هذه المهمة من أجل الوصول - وبالطرائق
العلمية الصارمة - إلى نتائج أكثر دقة وإحكاماً؛ وهكذا يجيء تزويد الطالب الجامعي
بالمعرفتين معاً، في ضوء رؤية تكاملية، فرصة ضرورية لتمكينه من هضم وتمثل مفاهيم
التأصيل الإسلامي للمعرفة، والإعانة على تحقيق أهدافها، فيما ينقلنا إلى الخطوة
التالية وهي البدء بنسج المشروع الحضاري الذي يستهدف انبعاث الحضارة الإسلامية،
ومشاركتها في إعادة صياغة المصير البشري، وفق معادلتها المتميزة التي يلتقي فيها
الوحي بالوجود، والتعليم الديني بالكشف العقلي، ويتحقق التوازن الضائع في الحضارة
الغربية الراهنة، فيما نبه إليه وأكده كبار فلاسفة وعلماء ومؤرخي ومفكري الغرب
أنفسهم.
وهكذا، وحيثما تلفتنا، وجدنا كيف يصير (التكامل المعرفي)
ضرورة "إسلامية" و "حضارية" في الوقت نفسه، لا تخص نتائجه
عالم الإسلام وحده بل يمضي لكي يسهم في إعادة بناء العالم الذي جنحت به رياح
التشريق والتغريب.
قلق المعرفة الإنسانية وعدم يقينيتها
إن ظاهرة
التكامل المعرفي ترتبط في جذورها بثنائية العلاقة بين الوحي والعقل، بين المعرفة الإسلامية
المستمدة من الوحي، والمعرفة الإنسانية المستمدة من العقل، وبما أن الأخير لا
يمكنه بحال من الأحوال، أن يتجاوز نسبيته واحتماليته وقصوره، فلا بّد له من نقاط
ارتكاز يستند إليها فيزداد انضباطاً ومقاربة للحقائق المطلقة.
العلم الديني علم يقيني في أصوله وثوابته، والعلم العقلي
علم احتمالي في كشوفه ونتائجه، فلابّد - إذن - من التحقق بالتكامل بين العلمين،
إذا أردنا أن نصل إلى نتائج أكثر انضباطاً؛ فهي - إذن - الضرورة التي لا خيار
فيها، لأنها ترتبط أساساً بتحقيق المنفعة البشرية، وحماية الإنسان من غوائل الخطأ
والانحراف.
لنقف قليلاً عند ظاهرة احتمالية المعرفة الإنسانية وعدم
انضباطها ot Exact Sciences قدر
ما يسمح به المجال، وضرورة اتكائها - إذا صحّ التعبير - على ثوابت المعرفة الدينية
التي يحمل مصدرها الموحى به مصداقيته المطلقة.
سوليفان في (حدود العلم) Limitation of Science، على سبيل المثال، يؤكد، بعد سبر
عميق لجوانب من هذه المعرفة، قلقها وظنيّتها، وعدم قدرتها على الوصول إلى حافات
اليقين المطلق، وهو أمرٌ يكاد أن يكون مستحيلاً: "إنه ليس في نظريات علم
النفس كافة شيء من شأنه أن يغيّر جدّياً من قناعتنا بأن هذا العلم لا يمكن اعتباره
علماً حتى الآن؛ وللمعارف الأخرى أيضاً، مثل علم الاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك،
بعض النواحي التي لا تعتبر مرضية من وجهة النظر العلمية، والعلم هو أقوى ما يكون
عليه عندما يتناول العالم المادي، أما مقولاته في المواضيع الأخرى فتعتبر نسبياً
ضعيفة ومتلجلجة" ص 61-60.
وهي النتيجة نفسها التي ينتهي إليها (الكسيس كاريل) في
(الإنسان ذلك المجهول)
Man The Unknown: إن السيطرة على عينة من العالم المادي لغرض فهمها ممكنة إلى حدّ ما، أما السيطرة على عينة يدخل فيها الإنسان، والعقل، والحياة، طرفاً، فتكاد تكون مستحيلة. والنتيجة التي نصل إليها في هذا المجال "ضعيفة ومتلجلجة"([1])، الأمر الذي يذكرنا بما سبق وأن قاله الاقتصادي البولندي المعروف (أوسكار لانكه)، أحد أكبر أخصائيي الدول النامية، لدى استعراضه جهود الكتاب الذين اهتموا بدراسة اقتصاد مجتمعات ما قبل الرأسمالية، منذ عصر (ماركس) وحتى عصر (بورشييف) وهو "أن هذه الدراسات جميعها مفككة، لذلك فان الاقتصاد السياسي للنظم الاجتماعية ما قبل الرأسمالية لم يخرج بعد إلى حيّز الوجود باعتباره فرعاً منظماً من فروع الاقتصاد السياسي"([2]).
Man The Unknown: إن السيطرة على عينة من العالم المادي لغرض فهمها ممكنة إلى حدّ ما، أما السيطرة على عينة يدخل فيها الإنسان، والعقل، والحياة، طرفاً، فتكاد تكون مستحيلة. والنتيجة التي نصل إليها في هذا المجال "ضعيفة ومتلجلجة"([1])، الأمر الذي يذكرنا بما سبق وأن قاله الاقتصادي البولندي المعروف (أوسكار لانكه)، أحد أكبر أخصائيي الدول النامية، لدى استعراضه جهود الكتاب الذين اهتموا بدراسة اقتصاد مجتمعات ما قبل الرأسمالية، منذ عصر (ماركس) وحتى عصر (بورشييف) وهو "أن هذه الدراسات جميعها مفككة، لذلك فان الاقتصاد السياسي للنظم الاجتماعية ما قبل الرأسمالية لم يخرج بعد إلى حيّز الوجود باعتباره فرعاً منظماً من فروع الاقتصاد السياسي"([2]).
واضع أسس الفلسفة الوضعية: (أوغست كونت) يتخذ، بسبب من
دوافعه الذاتية التي لا تقوم على أي أساس موضوعي، موقفين متناقضين من المرأة، وهو
عالم الاجتماع المعروف! ففي بحث بعنوان: (رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي) يبعث
به كونت "إلى محبوبته (كلوتيلددي فو)، يغيّر رأيه في المرأة ومكانتها
الاجتماعية تغييراً تاماً! "فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه (ستيوارت مل)
فيرى أنه ليس في المرأة أمل ولا خير، أما الآن فهو يرى المرأة عنصراً أساسياً في
الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه"([3]).
والسبب في هذا الانقلاب الفجائي من النقيض إلى النقيض،
هو أنه في الأولى كان يحب امرأة قبلت الزواج منه، ولكنها خدعته فدفعته إلى محاولة
الانتحار والالتحاق بمستشفى المجانين حيناً من الدهر، وفي الثانية أحب فتاة لم يتح
له الزواج بها، لكنها منحته نفسها وأحبته حباً صادقاً ([4]).
ونقارن هذا التأرجح الفكري بالموقف الديني من المرأة...
الموقف الثابت الواضح المنبثق عن علم إلهي محيط بتكوين هذا الجنس وخصائصه ووظائفه
المناسبة، فنراه شاسعاً، ونرى الذين يتجاوزونه صوب الأحكام النسبية المتغيرة،
كأحكام (كونت)، ويريدون أن يتعاملوا على أساسها المتقلب مع المرأة، يستحقون الرثاء
وعدم التسليم بمقولاتهم.
وإذا كان موقف (كونت)، مؤسس واحدة من أشد الفلسفات أهمية
وانتشاراً في أوربا، يغيّر رأيه بسبب دوافع ذاتية صرفة، وفي إحدى المسائل الأساسية
في الحياة البشرية: المرأة، فكيف يرجى لفلسفته أن تمنح اليقين لتلامذتها والمعجبين
بها، بل كيف نفسّر تحولها، وغيرها كثير من الفلسفات البشرية العاجزة، إلى ما يشبه
الدين الذي ينحني الغربيون لمسلمّاته، ويعتقدون أنه الحق المطلق الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ألا ينسحب الأمر على معظم الفلسفات والعقائد
الوضعية؟
فالصيرورة الديالكتيكية التي جاء بها (هيغل) قد علّمت
الناس عبادة القوة؛ وقد ساند هو نفسه كل رجل ارتقى عرش السلطان "فحين حاول
(نابليون) بحراب جيشه أن يدخل العلاقات البورجوازية إلى ألمانيا، كان (هيغل)، الذي
كان في ذلك الوقت يضع أسلوبه الديالكتيكي، يتجاوب مع الثورة الفرنسية، ورحّب بدخول
جيش (بونابارت) إلى (يّنا) باعتباره التجسيد التاريخي لشكل جديد للروح المطلقة؛ ثم
سّمى (نابليون): (الروح المطلقة على جواد أشهب) ولكن بعد عشرين سنة من ذلك، حين
قوي الحكم الملكي الإقطاعي في ألمانيا، والذي كان على رأسه فردريك وليم الثالث،
كان (هيغل) قد فقد أفكاره الثورية وأصبح فيلسوف الدولة في مملكة بروسيا"([5]).
وكان الدكتور (وليم رايخ)، وهو رجل ماركسي من اتباع
(فرويد)، ومؤسس معهد (السياسة الجنسية)، قد أصدر تحت تأثير (مالينوفسكي) كتاباً
أسماه (وظيفة الشهوة الجنسية)، شرح فيه النظرية التي تزعم أن الفشل الجنسي يسبب
تعطيل الوعي السياسي لدى الطبقة العاملة، وأن هذه الطبقة لن تتمكن من تحقيق
امكانياتها الثورية ورسالتها التاريخية، إلاّ بإطلاق الحافز الجنسي دون حدود أو
قيود، وطرح نظريته التي أسماها (نظرية كأس الماء)، وخلاصتها أن على المواطن
السوفياتي إفراغ شهوته في أية امرأة تصادفه من أجل التحرّر من العطش الجنسي وما
يقود إليه من كبت مدمّر! ولكن وبعد مضي أقل من سنتين أعلن (لنين) حملته ضد هذه
النظرية التي كانت ستؤول إلى تحوّل الجيل الجديد في الاتحاد السوفياتي إلى أولاد
حرام، ودعا - بدلاً من ذلك - إلى الاحتشام والتعفّف واحترام الأسرة والإقبال على
الزواج، رغم أن مؤسسي النظرية الماركسية (ماركس وانغلز) أعلنا في المنشور الشيوعي
المعروف حربهما ضد فكرة الأسرة واعتبراها عرضاً بورجوازياً زائلاً ([6]).
ثم ها هو (جان بول سارتر)، زعيم الفلسفة الوجودية
الملحدة، في محاورته الأخيرة مع (سيمون دي بوفوار)، قبيل أسبوعين من وفاته يعترف:
"أنا لا أشعر بأني مجرد ذرة غبار ظهرت في هذا الكون، وانما أنا ككائن حسّاس
تم التحضير لظهوره وأحسن تكوينه. أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إلاّ من
خالق"([7]).
وقد تكفي
هذه الشواهد - وهناك غيرها الكثير - للتأكيد على قلق المعرفة الإنسانية الغربية،
ونسبيّتها، وضرورة ألاّ نجعلها الحكم الفصل في مناهجنا التعليمية، وأن نتولى - بدلاً
من ذلك - إعادة صياغتها وفق ثوابت التصوّر الإسلامي الذي لا يخضع للتقلبات
والنسبيات والأهواء التي أدانها القرآن الكريم بالحسم الواضح: {إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن
سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ
جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (سورة النجم: 23).
شيء عن العمق الغيبي
ونستطيع أن نذهب خطوات أبعد من هذا، بعدما أكدت الكشوف
الفيزيائية والكوزمولوجية الأكثر حداثة، العمق الغيبي للظواهر الطبيعية الكبرى،
وكيف أن العالم المادي لا يعدو أن يكون مجرد قشرة سريعة الانكسار. فبعد تفجير
القنبلة الذرية، ومن بعدها الهيدروجينية والنيوترونية، تأكدت هذه الحقيقة، وأن ما
وراء القشرة الهشّة، تحتها تماماً، على بعد خطوات منها، مخفية عن العيان، ومنطوية
في عالم الغيب، قوى هائلة تفوق التصوّر، وتؤكد الحقيقة القرآنية التي طالما أشار
إليها كتاب الله مراراً وتكراراً، من أن عالم الغيب أشد ثقلاً وحضوراً من العالم
المشهود.
والظاهرة لا تقتصر على الغيب الفيزيائي وحده - إذا صح
التعبير - ولكنها تمتد لكي تشمل الخلائق كافة، والقوى والطاقات الهائلة التي ينطوي
عليها الكون، مروراً بالملائكة والجان، ووصولاً إلى كلمة الله التي إذا أرادت
شيئاً فانما تقول له (كن فيكون).
أية قوة هائلة، مطلقة الإسار، غير محدودة، تنطوي عليها
كلمة (كن) هذه؟ أية فاعلية جبارة لا يقف أمامها شيء، تملك هذه القدرة اللامحدودة
على الخلق والإنشاء؟ (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي
لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا
بِمِثْلِهِ مَدَداً) (سورة الكهف:109)... (وَلَوْ أَنَّمَا فِي
الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ...) (سورة لقمان: 27).
والعقل البشري الذي لا يزال، رغم كشوفه المدهشة، طفلاً
يحبو عند حافات الكون، لن يكون بمقدوره إدراك ما تعنيه كلمة (الغيب)، وما تنطوي
عليه من قوى خلاّقة هائلة، غير محدودة.
هايزنبرغ وشرودنجر واينشتاين وماكس بلانك، والفيزيائيون
والكوزمولوجيون الذين جاءوا بعدهم، فتحوا في القشرة المنظورة ثغرات ضيقة جداً،
فرأوا الأعاجيب، وكانت القنبلة الذرية واحدة من ثمار هذه الأعاجيب... ترى ماذا لو
رفع الغطاء كلّه؟ ما الذي سنراه؟
الشاهد
القرآني
(إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ !
وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ !
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ !
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ !
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ !
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) (سورة التكوير: 6-1). (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ !
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ !
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ !
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (سورة الانفطار: 4-1)([8]).
"وأما
تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه. وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات
كالتي يقال أنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها. وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل
الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض. وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها،
كما قال في موضع آخر (وإذا البحار فجرت)، فتفجير عناصرها، وانفصال الايدروجين عن
الأوكسجين فيها، أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة، وهو أشد هولاً.
أو على أي نحو آخر. وحين يقع هذا فان نيراناً هائلة لا يتصور مداها تنطلق من
البحار. فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الايدروجينية يحدث
هذا الهول الذي عرفته الدنيا، فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر،
فان الإدراك البشري يعجز عن تصوّر هذا الهول، وتصوّر جهنم الهائلة التي تنطلق من
هذه البحار الواسعة"([9])
محدودية
عالم الشهود
هذا عن
العالم والكون، فماذا عن الإنسان؟
(الكسيس
كاريل) في (الإنسان ذلك المجهول)، ومن أجل تأكيد عجز الإنسان، ونسبية معرفته عن
معجزة العقل، وطرائق عمل الدماغ البشري، يؤكد أن العلم الطبيعي إذا كان قد أوغل في
كشوفه، وقطع المسافات الطوال بخصوص الظواهر الطبيعية، فإنه يكاد يحبو ويتعثر في
فهمه لخبايا النفس البشرية... يقول: "اننا بتعلمنا سرّ تركيب المادة وخواصها
استطعنا الظفر بالسيادة تقريباً على كل شيء موجود على ظهر البسيطة، فيما عدا
أنفسنا... إن علم الكائنات الحية بصفة عامة - والإنسان بصفة خاصة - لم يصب مثل هذا
التقدم... إنه لا يزال في المرحلة الوصفية... فالإنسان كل لا يتجزأ وفي غاية
التعقيد، ومن غير الميسور الحصول على عرض بسيط له، وليست هناك طريقة لفهمه في
مجموعه أو في أجزائه في وقت واحد... فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير في
وسطها حقيقة مجهولة! وواقع الأمر أن جهلنا مطبق، فأغلب الأسئلة التي يلقيها على
أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب. إن هناك مناطق غير محدودة
في دنيانا الباطنية، ما زالت غير معروفة... ونحن لا نملك أي فن يمكننا من النفوذ
إلى أعماق المخ وغوامضه، أو إلى الاتحاد المتناسق بين خلاياه... وعلينا أن ندرك
بوضوح أن علم الإنسان هو أصعب العلوم جميعاً"([10]).
بل إن الفيزيائيين الكبار الذين أشرنا إليهم كشفوا عن حقيقة أخرى: أنه حتى الكشوف
الفيزيائية المتعاملة مع المادة والطاقة والضوء والكتلة... لم تبلغ حافات اليقين،
وأن نسبة الاحتمال فيها كبيرة وكبيرة جداً، وأنها تنطوي على أعماق غائرة مغيّبة عن
الأنظار، وعن أكثر الأجهزة التقنية قدرة على الكشف والايغال.
ومن
الواضح، كما يقول (سوليفان)، أن حقيقة كون العلم مقصوراً على معرفة البنى، وليس
الماهيات، هي حقيقة ذات أهمية إنسانية عظيمة لأنها تعني أن مشكلة طبيعة الحقيقة لم
يبت فيها بعد، ولم يعد يطلب إلينا الآن أن نعتقد بعدم وجود مقابل موضوعي
لاستجابتنا للجمال... إن تطلعاتنا الدينية وحسّنا الجمالي ليسا بالضرورة ظواهر
وهمية، كما جرى الافتراض في السابق([11]).
ما الذي نخلص إليه من هذا العرض الموجز سوى أن عالم
الشهود لا يعدو أن يكون بقعاً صغيرة ومنحسرة في البنية الكونية، وهو كذلك في النفس
البشرية، بتقلباتها التي لا حدود لها، وبطرائق عمل الدماغ البشري، حيث لا يبدو في
معظم الأحيان سوى الخمس من كتلة الجليد العائمة، بينما تظل الأخماس الأربعة الأخرى
مغيبة عن الأنظار باعتبارها عالماً غيبياً.
ثنائية
الغيب والشهود
في ضوء ذلك كلّه الا يتحتم أن نرجع إلى القرآن الكريم
لمتابعة ما الذي يريد أن يقوله بخصوص ثنائية الظاهرتين الكونية والإنسانية، ما بين
الشهود والغيب؟
أربع وخمسون مرة ترد كلمة (الغيب) باشتقاقاتها المختلفة،
في كتاب الله، مما يدلّ على الثقل الكبير والحضور المؤكد اللذين أولاهما القرآن
الكريم لعالم الغيب، بل إن نقطة الارتكاز الأساسية في الإيمان، والتي وردت في
الآية الثالثة من سورة البقرة، هي الإيمان بالغيب: (الم !
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ !
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ) (سورة البقرة: 13-).
بعدها تتوالى الآيات لكي تعرض الحقيقة الغيبية وتتعامل
معها، من أكثر من زاوية، وعلى أكثر من مستوى ([12]).
إننا - على سبيل المثال - عندما نقرأ: (وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ...) (سورة الأنعام: 59) أو
(قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...)
(سورة الفرقان: 6)، يتجه فكرنا على الأغلب إلى العالم اللامنظور، الكائنات
اللامرئية، الوجود المغيّب عن الأنظار: الملائكة، الجان، الشياطين، الجنة،
النار... الخ، أو – حتّى - الأرزاق المقدّرة من السماء، ولكنه نادراً ما يتجه إلى
ما ينطوي عليه الكون من طاقات وأسرار مغيّبة، فيزيائية هائلة لا يتصورها عقل. ولقد
قدّر للإنسان أن يطلع على جانب ضئيل منها عندما فجّر الذرة، ولكن ماذا بخصوص الذي
لم يكتشف، أو يفجّر بعد من طاقات وأسرار الكون التي يمسك الله سبحانه بمفاتيحها،
أو ينزّلها بقدر معلوم؟
إن الانقلاب الكوني الكبير يوم القيامة، والذي أشرنا إلى
بعض شواهده، قد يقّربنا بعض الشيء. تلك الآيات التي تحّدثنا عن انفطار السماء،
وانتثار النجوم، وتكوير الشمس، ودك الجبال، وتسجير البحار.
إن علينا أن نقف طويلاً عند عبارة (مفاتح الغيب) وعبارة
(السرّ في السموات والأرض)، ونتجاوز تسطيح التفاسير القديمة، ونستدعي أكثر الكشوف
الفيزيائية والكوزمولوجية جدّة وحداثة، لكي ندرك أبعادهما المدهشة والمذهلة، ولكي
يتبيّن لنا – بحق - أن كتاب الله سبحانه، وكما حدثنا رسول الله (صلى الله عليه
وسلم): (لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الردّ).
"إن حقيقة الغيب من مقوّمات التصوّر الإسلامي
الأساسية، لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية، ومن قواعد الإيمان
الرئيسية، وذلك أن كلمات (الغيب) و (الغيبية) تلاك في هذه الأيام كثيراً - بعد
ظهور المذهب المادي - وتوضع في مقابل (العلم) و(العلمية) والقرآن الكريم يقرر أن
هناك (غيباً) لا يعلم (مفاتحه) إلا الله، ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم
قليل، وهذا القليل انما آتاه الله به بقدر ما يعلم هو - سبحانه - من طاقته ومن
حاجته وأن الناس لا يعلمون - فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه - الاّ ظناً،
وان الظن لا يغني من الحق شيئاً. كما يقرر سبحانه أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل
له سنناً لا تتبدل، وأنه علّم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها، ويتعامل
معها في حدود طاقته وحاجته وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده
يقيناً وتأكداً أن الذي جاءه من عند ربّه هو الحق، دون أن يخلّ هذا بسنن الله التي
لا تبديل لها، بحقيقة (الغيب) المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولاً..."([13]).
شهادات كبار العلماء
لن يتسع البحث لإيراد الشواهد الكثيرة على تداخل ظاهرتي
الغيب والشهود في البنية الكونية، وعلى المساحة الواسعة التي يحتلها (الغيب) في
نسيج هذه البنية، لذا سيتم الاكتفاء بثلاثة منها قد تغني عن المزيد:
(سوليفان):
"لقد أصبح العلم شديد الحساسية ومتواضعاً نسبياً، ولم نعد نلقّن الآن أن
الأسلوب العلمي هو الأسلوب الوحيد الناجح لاكتساب المعرفة عن الحقيقة. إن عدداً من
رجال العلم البارزين يصرّون بمنتهى الحماس على حقيقة مؤداها أن العلم لا يقدم لنا
سوى معرفة جزئية عن الحقيقة، وأن علينا لذلك، أن لا نعتبر أو يطلب إلينا أن نعتبر
كل شيء يستطيع العلم تجاهله مجرد وهم من الأوهام"([14]).
(اينشتين):
"إني أدين بالتبجيل كله لتلك القدرة العجيبة التي تكشف عن نفسها في أضأل جزيء
من جزيئات الكون"([15]).
(الفرد
كاستلر): "إننا كلما أوغلنا في دراسة المادة أدركنا أننا لم نعرف عنها
شيئاً... فسوف يظل دائماً شيء مخفياً عنا"، فلما سألوه: "مخفي بمن؟
"أجاب: "بالله!"، ثم وصف متاعبه في استمرار البحث بالقوانين
المعروفة، إذ اكتشف أنه بعد التوغل إلى أمد بعيد، توقفت القوانين عن العمل، وأنه
دخل مرحلة لم تعد تسري فيها هذه القوانين الطبيعية المعروفة في الأرض، مما جعله
يسأل نفسه: "أترى علم الفيزياء الذي نمارسه في الحقيقة ليس علماً واحداً؟ أي
أنه يوجد علمان كل منهما يعمل مستقلاً عن الآخر: علم للمرئيات وعلم للمخفيات... أو
بعبارة أخرى: علم للمحسوسات أو لهذه الدنيا، وعلم فيزياء آخر لغير المحسوسات، أي
لغير دنيا البشر، أي للآخرة... وكل منهما له قوانينه الخاصة التي لا تسري الاّ على
عالمه؟!"([16]).
هذه
الحقائق تقودنا مرة أخرى إلى ضرورة التكامل المعرفي في أكثر صيغه انفساحاً، والذي
يتساند فيه عالم الغيب وعالم الشهادة، أو الوحي والوجود، أو بعبارة أدق: المعرفة
المنبثقة عن عالم الغيب وتلك التي نتعامل مع عالم الشهادة.
فنحن - إذن - أمام ضرورات التكامل عبر حلقات تنداح فيعقب
بعضها بعضاً، وهي في اندياحها تزداد اتساعاً، بدءً من الحلقة التربوية في المدرسة،
مروراً بالحلقة الأكاديمية في الجامعة، وبالحلقة المعرفية في دائرتها الأشمل،
وانتهاء بحلقة الكشوف الفيزيائية والكوزمولوجية.
فلا يخطرن على البال أن الدعوة إلى التكامل المعرفي، عبر
هذا المؤتمر أو ذاك، تنصب فقط على علاج مشكلة تربوية، أو أكاديمية، أو حتى معرفية
صرفة، وانما تمضي لعلاج أزمة الإنسان في كون يتطلب منه البحث عن إضاءة فوقية تعينه
على بناء معرفة أكثر قدرة على مقاربة الحقائق، واستجابة لمطالب الإنسان.
عزلة
المائتي عام بين المعرفتين الإنسانية والإسلامية
سواء كان هناك قصدية مسبقة، أم هو الجهل بالمطالب
والضرورات التعليمية والتربوية، فإننا منذ ما يقرب من القرنين من الزمن، أنشأنا
نمطين من المؤسسات التعليمية، وأقمنا بينهما جداراً كونكريتياً صلباً يصعب تخطّيه.
المؤسسات المعنية بالعلوم أو المعارف الإنسانية، وتلك
المعنية بالعلوم أو المعارف الإسلامية، حيث لم يتح لخرّيجي الأولى أن يتلقوا شيئاً
ذا بال من العلوم الإسلامية التي تمكنهم من التأصيل الضروري لما يتلقونه من علوم
إنسانية، قدمت إليهم جاهزة من الغرب، بكل ما تنطوي عليه من تضادّ - في بعض حلقاتها
- مع أسس التصوّر الإسلامي ومقوّماته. كما أنه لم يتح لخرّيجي الثانية أن يتلقوا
شيئاً ذا بال من العلوم الإنسانية التي تمكنهم من أن يكونوا في قلب العصر، ملمّين
بالحدّ الضروري من معارفه، قديرين على المشاركة في إعادة صياغته برؤية معاصرة،
تملك في الوقت نفسه معاييرها التصوّرية التي تحفظ لها شخصيتها وتحمي خصوصياتها.
على مدى أربعين عاماً وأنا أمارس تدريس عدد من العلوم
الإنسانية في العديد من الجامعات: التاريخ وفلسفته، الحضارة، مناهج البحث،
التربية، الاجتماع، الأدب، الاقتصاد... إلى آخره... فكنت ألحظ هذا الفراغ المحزن
في عقل الطالب الجامعي إزاء العلوم الإسلامية. إنهم وهم يدلفون إلى مرحلة
الدكتوراه لا يحسنون حتى قراءة الآيات القرآنية، ولا يعرفون شيئاً عن مصطلح
الحديث، أو العقيدة، أو أصول الفقه، ناهيك عن علوم القرآن الكريم.
رؤية العالم بعين عوراء، بل بعيون الآخرين، دون أن تضبط
الرؤية، ولو بالحدود الدنيا من المعرفة الإسلامية. ولنا أن نتصوّر كيف سيكون هؤلاء
الخرّيجون أرقاماً هجينة مضافة إلى الساحة الثقافية التي تعجّ بأنصاف المتعلمين...
وكيف أن تعاملهم مع مطالب مجتمعاتهم وتحدياتها، سيزيدها فوضى واضطراباً. وهم في
نهاية الأمر سيكونون ممن ينطبق عليهم مضمون الحديث الشريف عن ذلك المسافر المنبتّ
الجذور، الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى!
فماذا عن خريجي علوم الشريعة، أو العلوم الإسلامية؟ إنهم
- بالتأكيد - ليسوا بأفضل حالاً من زملائهم (الإنسانيين)! لأنهم غادروا معاهدهم
دون أن يملكوا مقومات التعامل الفاعل مع الحياة، أو القدرة على إعادة صياغتها، بل
وقيادتها كذلك! وأنى لهم ذلك وهم لا يكادون يعرفون شيئاً عن معارفها الإنسانية
التي بدونها لن يكونوا قادرين على الإلمام بمطالبها، والاستجابة لتحدياتها، لأنهم
لم يسبروا غورها العميق، بل لم يبلغوا - حتى - شواطئها.
لم يعقد جسر بين المعرفتين يعين كلاً منهما على التفاعل
والأخذ والعطاء وتبادل الخبرات. وزاد الأمر سوءً أن معاهدنا وجامعاتنا قبلت
المعرفة الإنسانية على عواهنها، وكما تشكلت في ديار الغرب، بمنطلقاتها، وفلسفتها،
وأهدافها، ومعطياتها وتأسيساتها ونتائجها... تقبّل كامل لعلم الاجتماع الغربي،
ولعلم النفس الغربي، ولعلوم الإدارة والاقتصاد الغربية، وللقانون والسياسة
الغربيين، وللآداب والفنون الغربية، وللتاريخ وفلسفته، والدراسات الحضارية، وفق
نموذجها الغربي.
عملية تنزيل للقوالب المعرفية الجاهزة، وباستسلام تام
لمعطياتها، ليس فقط في معاهدنا وجامعاتنا، بل وحتى في مدارسنا الابتدائية
ومتوسطاتنا واعدادياتنا. وبما أن تلك المعرفة كانت تنبثق - في الأعم الأغلب - عن
رؤية علمانية، وأحياناً، بل وفي كثير من الأحيان، مادية ذرائعية، ترفض الإيمان
بالغيب، وتتنكر لله واليوم الآخر، وتلتصق بالمنفعي والمنظور، فيما يتناقض - ابتداء
- مع تأسيسات المعرفة الإسلامية المبنية على الإيمان بالغيب، وعلى منظومة القيم
الأخلاقية، فلنا أن نتصوّر، وقد عزلت هذه المعرفة عن معادلها الإسلامي، كيف سيكون الحصاد
مريراً، وكيف ستخرج أجيال الطلبة وقد فكت ارتباطها بكل ما هو إسلامي أصيل.
والحق أنه "لا يوجد عربي مسلم مخلص يقف ضد تعلّم
الجوهر الحقيقي في الحضارة الحديثة واستيعابه، من اكتشافات ومخترعات وعلوم نافعة
وكل جديد مفيد يتفق مع جوهر عقيدتنا السمحاء. ولكن الذي حدث بالنسبة لحملة
(التعليم العصري) في العالم الإسلامي أنها لم تبدأ البداية الصحيحة، ولم تتخذ شكل
القرار الذاتي الحضاري المستقل والنابع من إرادة عربية مسلمة حرة، ومن تخطيط يمتلك
الرؤية والوعي ويعرف مواقع أقدامه. لقد بدأ ما سمي بالتعليم العصري على أنقاض نظام
التعليم الأهلي الذي كان سائداً في العالم الإسلامي، ولم يأت انبثاقاً منه
وتطويراً له، كما كان يجب أن يبدأ ويكون، وكما حدث في الغرب ذاته في مطلع
نهضته"([17]).
وزاد الأمر سوءً أن هذه المعرفة المستوردة، التي فعلت
فعل السمّ في التكوين الثقافي للأمة (كما يقول محمد أسد: ليوبولد فايس)([18])،
لم تتقبل في مناهجها التربوية والتعليمية، أي شيء عن المعرفة الإسلامية، لكي تكون
بمثابة الضابط والمرشّد، ولو في حدوده الدنيا، لمأساة الابحار في خضم المعارف
الأجنبية، اللهم إلاّ فيما يسمى دروس الدين، وأحياناً الثقافة الإسلامية، والتي
تعمد - لسبب أو آخر - في أن تنطوي على قدر كبير من الهزال، والتهميش، بل والتنفير،
فيما يزيد من حالة التقبل النفسي للمعطى الغربي، والجهل المطبق بالمعطى المعرفي
الإسلامي.
صحيح أن محاولات عديدة سعت عبر العقود الأخيرة، لتجاوز
الأزمة وتحقيق اللقاء المنشود بين المعرفتين، لكنها في نهاية الأمر لم تشكل سوى
بقع محدودة ومبعثرة على مساحة واسعة، تعاني فيها المعرفتان من قطيعة غير مبرّرة
على الإطلاق.
شيء عن
الحصاد المرير
لنقف لحظات عند جانب من الحصاد المرير لعزلة المائتي عام
مع هؤلاء الخرّيجين: الحالة النفسية والاجتماعية والوظيفية التي عانوا منها ولا
يزالون، مقارنة بالحالة نفسها في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، يوم أن كان
المعني بالعلوم الشرعية، أو الفقيه، يقود الحياة، ثم ما لبث أن انسحب إلى هامش
الحياة، فأصبحت تقوده بضغط الضرورات النفسية والاجتماعية والوظيفية. وكان يملك
عقلاً ابتكارياً متوقداً، يقدر في لحظة على تكييف هذه المفردة أو تلك وفق مقاصد
الشريعة، فيعين على تمكين الخبرة الإسلامية من التواصل والاستمرار بالالتحام
بالحياة، ثم ما لبث أن فقد هذا التألق، أو تعمد أن يطفئه استجابة لحالة اجتماعية
يحكمها تقليد السابقين، واتباع خطى الآباء والأجداد، وتعين على نسج خيوطها الكالحة
ضغوط السلطة الاستعمارية (الخارجية) تارة، والمحلية (الداخلية) تارة أخرى، وهي
الضغوط التي استهدفت عزل الشريعة عن الحياة، ونسف الجسور المقامة بين الطرفين، بما
فيها "الفقيه" الذي أريد له ألاّ يشارك في عملية التغيير، أو الصياغة،
أو إعادة تعديل الوقفة، وأن يتحول إلى واعظ، أو خطيب جمعة تقليدي، أو مدرّس دين أو
لغة عربية، يتلقى في معظم الأحوال أجره الشهري من الحكومات. وإذ تعمّد أن يكون
الأجر زهيداً لا يكاد يسدّ الرمق، وكان العالم أو الفقيه غير قادر على أية حرفة
إضافية تعينه على الارتقاء بمستواه المعيشي صوب الحدّ الأدنى من سويته المعقولة،
انعكس ذلك كله عليه: فأصبح مسحوقاً، ممتهناً، ضعيفاً، لا يملك في معظم الأحيان
"الشخصية" الآسرة القوية المؤثرة التي تمكنه من أداء دوره المطلوب.
لقد رأينا جميعاً هذا بأم أعيننا... ثمة حالات إستثنائية
بكل تأكيد، ولكنه الاستثناء الذي يعزز القاعدة ولا ينفيها.
في محاضرة عن "قيمة التاريخ" ألقيتها على طلبة
كلية آداب جامعة الموصل، أشرت إلى ما يمكن اعتباره إحساساً بالنقص "مركب
نقص" يعاني منه طلبة أقسام التاريخ تجاه الفروع المعرفية الأخرى: إنسانية
وصرفة وتطبيقية، بينما نجد هؤلاء الطلبة في جامعات العالم المتقدم يتمتعون بأعلى
وتائر الثقة والطموح، والاعتقاد بأنهم يمضون للتخصّص في واحد من أكثر فروع المعرفة
الإنسانية أهمية وفاعلية، ونحن نعرف جيداً كيف أن العديد من قادة الغرب وساسته
ومفكريه، والمهيمنين على مفاصل الحياة الحسّاسة فيه هم من خريجي أقسام التاريخ.
الحالة نفسها تنطبق - بدرجة أو أخرى - على طلبة العلوم
الإسلامية، بل إننا قد نجد بعضهم ينحدر باتجاه وضعية من الإحساس بالامتهان النفسي
والاجتماعي لم يأذن بهما الله ورسوله لعلماء هذه الأمة ودارسي علومها الشرعية.
نحن - إذن - قبالة حالة نفسية - اجتماعية - وظيفية تتطلب
العلاج والتجاوز، وإيجاد البدائل المناسبة لعالم متغيّر يدخل قرنه الحادي
والعشرين... عالم تشاء إرادة الله سبحانه أن تشتعل فيه على مدى البصر، في مشارق
الأرض ومغاربها، صحوة إسلامية تتطلب ترشيداً، من أجل الاّ تنعطف بها السبل وتضل
الطريق بين الإفراط والتفريط... بين تشدّد لا يشكمه ويعيده إلى الجادة الاّ العلم
الشرعي المنضبط الصحيح، وتسيّب لا يكفّه عن الترهل والارتجال الكيفي الاّ العلم
الشرعي المنضبط الصحيح. وفي الحالتين لا بّد من عودة الفقيه، أو العالم، إلى قلب
الحياة، وتسلّمه كرة أخرى مواقع الريادة والقيادة... لا بّد من التحقّق بأقصى
وتائر الفاعلية والتألقّ من أجل تحقيق الهدف الملّح، قبل أن يفلت الزمام، وتتشرذم
الصحوة، ونفقد جميعاً القدرة على توظيفها تاريخياً من أجل الإعانة على البدء بنسج
خيوط المشروع الحضاري الإسلامي الذي آن له أن ينزل إلى الحياة لكي يجيب - كما يقول
كارودي - على كل الأسئلة الكبيرة التي تؤرق الإنسان في العصر الراهن، ويقدم البديل
المناسب بعد انهيار جلّ النظم والايديولوجيات الشمولية والوضعية التي لم تعرف
الله.
وإذا كان الاستعمار يوماً، قد مارس دوره الماكر في لعبة
تجهيل العالم وإفقاره وتعجيزه وتغريبه، ومضى أكثر لكي يعزله تماماً عن الحياة،
و(يفصّله) على الصورة التي يريد، فما يلبث أن يصير "حالة" يتندّر بها
المتندّرون، فان هذا "المؤثر" السّيء قد غادر بلادنا في نهاية الأمر،
فلسنا ملزمين بالاستمرار على تقاليده، ولا بّد من التداعي لتعديل الوقفة الجانحة
التي صنعناها بأيدينا - أولاً - ما في هذا شك، ثم جاء الاستعمار لكي يزيدها
انحرافاً وجنوحاً.
مقترحات تطبيقية لتجاوز الازدواجية
ابتداءً
لا بد من إعادة النظر في مسألة وجود كليات أو معاهد للعلوم الإسلامية
منعزلة عن تلك المعنية بالعلوم الإنسانية. ألا يمكن - مثلاً - أن تخترق "موضوعات" أو "مفردات" العلوم الإسلامية سائر الكليات والمعاهد المعنية بالعلوم الإنسانية أو أن تؤسس أقساماً أو فروعاً لها في تلك الكليات والمعاهد لكسر العزلة وتحقيق التحام أكثر بين مقاصد الشريعة وبين سائر المعارف الإنسانية، كالإدارة والاقتصاد، والقانون والسياسة، والنفس والاجتماع، والجغرافيا والتاريخ، واللغة والآداب والفنون، فيكون هذا فرصة مناسبة للتحقق أكثر فأكثر بالتأصيل الإسلامي للمعرفة، أو على الأقل، تنفيذ بداية صحيحة قد تؤول، مهما طال الوقت، إلى نتائجها المنطقية المتوخاة في التعامل مع سائر المفردات المعرفية في شتى التخصّصات من خلال الثوابت الإسلامية نفسها؟
منعزلة عن تلك المعنية بالعلوم الإنسانية. ألا يمكن - مثلاً - أن تخترق "موضوعات" أو "مفردات" العلوم الإسلامية سائر الكليات والمعاهد المعنية بالعلوم الإنسانية أو أن تؤسس أقساماً أو فروعاً لها في تلك الكليات والمعاهد لكسر العزلة وتحقيق التحام أكثر بين مقاصد الشريعة وبين سائر المعارف الإنسانية، كالإدارة والاقتصاد، والقانون والسياسة، والنفس والاجتماع، والجغرافيا والتاريخ، واللغة والآداب والفنون، فيكون هذا فرصة مناسبة للتحقق أكثر فأكثر بالتأصيل الإسلامي للمعرفة، أو على الأقل، تنفيذ بداية صحيحة قد تؤول، مهما طال الوقت، إلى نتائجها المنطقية المتوخاة في التعامل مع سائر المفردات المعرفية في شتى التخصّصات من خلال الثوابت الإسلامية نفسها؟
قد يعترض على هذا بضرورة أن يكون هناك - في نسيج الأنشطة
الجامعية - مؤسسات أكاديمية مستقلة لعلوم الشريعة، من أجل تخريج المتخصصين في هذا
الفرع المعرفي بالذات، الذي قد تلحق به، قدر ما يسمح به المجال، موضوعات معرفية
أخرى، في هذا الحقل أو ذاك، ولكن تبقى مهمة هذه المؤسسات منح الشهادة في علوم
الشريعة وليس في أية علوم أخرى.
وهذا حق، وهو ضرورة من ضرورات التخّصص العلمي، ولكن هل
يمنع هذا من تنفيذ صيغة مضافة تتمثل في مغادرة العلوم الشرعية لمؤسساتها التخصصية،
والتحامها مع الفروع والأقسام والمعاهد والكليات الإنسانية، بل وحتى العلمية
الصرفة والتطبيقية، لتحقيق هدفين ملحّين: أوّلهما ذلك الذي سبق وأن أشرنا إليه
بخصوص محاولة وضع التأسيسات الأولى لإسلامية المعرفة التي لن تتحقق ما لم يتم
اللقاء بين النمطين المعرفيين، فيصير الوحي والوجود معاً، أو الدين والعلم، مصدرين
لصياغة المفردات؟
وثانيهما كسر جدار العزلة بين علوم الشريعة والحياة،
وإعادة الدم إلى شرايينها المتصلبة، ومنحها الحيوية والمرونة التي تمكنها من
التموضع في قلب العصر لا بعيداً عنه.
قد يعترض - أيضاً - بالقول في أن ساعات الفروع والأقسام
الإنسانية لا تسمح باستضافة العلوم الشرعية، أو بأن مادة (الثقافة الإسلامية)
أصبحت البديل المناسب للّقاء بين الطرفين.
وهذا حق كذلك، لكن تبقى هنالك تساؤلات في هذا السياق قد
تخطيء وقد تصيب: إن "ساعات" الفروع والأقسام الإنسانية ليست قدراً
نهائياً لا فكاك منه، ولطالما جرى تكييفها واستبدالها وإعادة جدولتها في العديد من
الكليات لتحقيق غرض أشد إلحاحاً. ومن ثم فإنه ليس مستحيلاً إذا كنا حادين في إيجاد
مواقع مناسبة لعلوم الشريعة في الكليات الإنسانية أن نعيد الترتيب فيما يعطي لهذه
العلوم الفرصة المناسبة في خارطة الموضوعات المقررة على مدى سنوات الدراسة
الجامعية.
وبالنسبة للثقافة الإسلامية، فانها حققت ولا ريب قدراً
طيباً لدى استضافتها في المعاهد والكليات المختلفة، ولكنه - على أية حال - ليس
القدر المطلوب لأنها لم تتجاوز - في معظم الأحيان - ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً في
الأسبوع، لا تكاد تغطي سوى جوانب محدودة من فكر الإسلام وثقافته، فضلاً عن معارفه
الشرعية، ويتم فيها التعامل ركضاً على سطح الظواهر والمفردات، دونما أي قدر من
التعّمق والايغال. ويتخرج طالب القانون أو السياسة أو الإدارة أو الاقتصاد أو
الآداب... إلى آخره، وهو لا يملك عن الإسلام سوى شذرات وقطوف وخطوط عامة في أحسن
الأحوال.
إن مادة "الثقافة الإسلامية" ضرورية لتكوين
بعض الأطر الفكرية الأصيلة في عقل الطالب الجامعي، لكن هذا وحده لا يكفي إذا أردنا
أن يكون القانوني والاقتصادي والإداري والمؤرخ والأديب، متوافقين في نبضهم
ومعرفتهم وأنشطتهم التخصصية مع مطالب هذا الدين ومقاصد شريعته.
قد يكون هذا حلماً، أو هدفاً بعيد المنال، ولكن الأعمال
الكبيرة تبدأ دائماً بالحلم، بالطموح للوصول إلى الأهداف البعيدة... ورحلة الألف
ميل - كما يقول المثل - تبدأ بخطوة واحدة.
من ناحية أخرى، فإن على المعاهد والكليات المعنية بعلوم
الشريعة، أن تتقبل بدورها استضافة أكبر قدر ممكن من موضوعات المعرفة الإنسانية
المذكورة، من أجل تمكين طلبة هذه المعاهد والكليات من المعارف المعاصرة، في أحدث
كشوفها ومعطياتها، ومنحهم الخلفيات الكافية عنها، الأمر الذي يتمخّض ولا ريب عن
جملة نتائج منها - على سبيل المثال - الإعانة على إزالة حواجز العزلة والتغريب بين
الشريعة والمعرفة الإنسانية، وبينها وبين الحياة.
ومنها جعل خريجي هذه المؤسسات أكثر حيوية وقدرة على
الخطاب، ووضعهم، بتمكينهم من معارف العصر، في قلب العصر قديرين على النقد
والمقارنة والتمحيص، قديرين - أيضاً - على ايصال مطالب المعرفة الشرعية، والتحقق
بمقاصدها، في ضوء تناقضات واحباطات المعرفة الوضعية، وعلى إسهام أكثر فعالية في
صياغة المشروع الحضاري الإسلامي البديل.
إن هذا سيقدم - بدوره - ثمرة أخرى هي تجاوز الإحساس
بالنقص الذي سبق وأن أشرنا إليه، والذي هيمن على أجيال المعنيين بالعلوم الشرعية
عبر القرنين الأخيرين، والتحقق بالثقة والاعتزاز بالذات، في وتائرها المعقولة التي
تتجاوز بهؤلاء الخريجين حالات العقم والشلل، وعدم القدرة على الإبداع والإحسان
والابتكار والإضافة والتجديد...
إن علينا
أن نتجاوز الاستسلام لتقاليد منهجية قادمة من عصور عتيقة هي غير عصرنا، محملة
بموضوعات ومفردات لم تعد تصلح للقرن الجديد، واستبدالها بمناهج أكثر مرونة، تملك
القدرة على استضافة واستيعاب المعارف الحديثة، وتمكّن المتعاملين معها على تجاوز
العزلة، والتغرّب والانقطاع، إلى تنفيذ حوار فعال مع تحديات العصر وهمومه المعرفية
والثقافية، والإعانة - بالتالي - على بلورة وصياغة المشروع الحضاري المرتجى.
وفي السياق نفسه يستحسن أن نكون حذرين من الانسياق وراء
التقسيمات التقليدية لأجدادنا أنفسهم وهم يتحدثون عن علوم "نقلية" وأخرى
"عقلية"، وكأن هناك جداراً فاصلاً بين العلمين.
ويتساءل المرء: ألم يدخل الإسلام لكي يصوغ العلوم
العقلية ويتوغل في جزئياتها ومسالكها، برؤيته المتميزة وتحليله الخاص؟ ويتساءل -كذلك
- ألم تكن العلوم النقلية نفسها عقلية بمعنى من المعاني؟ أي بكونها استجابة ناجحة
متفردة لمطالب العقل البشري في هذا الفرع المعرفي أو ذاك؟
إننا بحاجة إلى التريّث قليلاً، ونحن نتعامل مع
التقسيمات والمصطلحات، وأن نتجاوز الكثير منها - إذا اقتضى الأمر - لكي ننحت ونصوغ
مفرداتنا المنسجمة ورؤيتنا العقدية المتميزة.
إن الحلقات الإسلامية لا تزال تعاني - إلاّ في حالات
استثنائية - من ثنائية يمكن لمؤسسات علوم الشريعة، أن تعين على تجاوزها: ففي أحد
الطرفين يقف إسلاميون متمرسون بالمعرفة المعاصرة، ولا يكادون يعرفون شيئاً عن علوم
الشريعة. وفي الطرف الآخر يقف إسلاميون متمرسون بعلوم الشريعة، ولكنهم لا يكادون
يعرفون شيئاً عن العلوم الإنسانية والمعارف الحديثة.
والخندق عميق، والهوّة محزنة ولا ريب، والنتائج السيّئة
لهذا الانفصال، أو الثنائية، تنسحب على مساحات واسعة من الجهد الإسلامي المعاصر
الذي يلتحم بالحياة الثقافية والمعرفية دونما عمق فقهي، أو يمضي بالايغال في هذا
العمق حيناً آخر، بعيداً عن مجرى الصراع الفكري المحتدم قبالته صباح مساء.
ولقد أوقعت هذه الثنائية، الطرفين، في مشاكل عديدة، قد
يقود تراكمها إلى تشكل إرث من الأخطاء التي يصعب تداركها ما لم نسارع بإيجاد الحلّ
المناسب، بالتحقق بتقارب بين الطرفين من خلال بذل جهود استثنائية، والاتفاق على
منهج أكثر توازناً يضع في حساباته قطبي المسألة، حيث يصير التعامل الأكاديمي مع
علوم الشريعة، فرصة طيبة لتحقيق الوفاق.
وما من ريب في أن فقه الحياة التي أراد لنا هذا الدين أن
نعيد صياغتها وفق مقاصده، وأن نمسك بزمام قيادتها كي لا يعبث بمقدّراتها المضلّون
عن سبيل الله، ويميل بها الذين يتبعون الشهوات والأهواء والظنون، الميل العظيم
الذي حذّر منه كتاب الله (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) (سورة
النساء: 27)... إن فقه الحياة هذا ليس حالة بسيطة ذات وجه واحد، وانما هو
حالة مركبة ذات وجوه شتى. فهناك الفقه الشرعي الذي يتعامل مع الجزئيات والكليات،
أي مع مفردات الشريعة في هذا الجانب أو ذاك، ومع مقاصدها الكبرى التي تجعل
المعطيات الفقهية تصبّ في هدفها الكبير ذي الفضاء الواسع سعة الحياة نفسها.
هناك الفقه الدعوي الذي يمنح الناس في كل زمن ومكان
القناعة بأحقية هذه الشريعة في حكم الحياة وقيادتها.
وهناك، فضلاً عن هذا وذاك، الفقه الحضاري الذي يعيد
تشكيل الحياة وفق مقاصد الشريعة في ضوء إدراكه لقوانين الحركة التاريخية، وسنن
الله في الخلق والعالم والوجود، وعلى هدى رؤية مقارنة نافذة لخرائط العالم
الحضارية ومن أجل صياغة المشروع الحضاري المتميز، والتحقق - في الوقت نفسه - بصيغ
مناسبة في التعامل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً...
إن الفقه الحضاري، كما أنه عمل في التاريخ للبحث عن أصول
وقوانين التشكل الحضاري، فهو عمل في صميم العصر، وتطلع للمشاركة في المصير البشري
من خلال صياغة المشروع الحضاري البديل الذي يستمد حيثياته ويتلقى توجيهاته من
مقاصد الشريعة وآلياتها الفقهية، والذي يجاهد من أجل التجذّر في الأرض والانتشار
فيها بقوة الفقه الدعوي وآلياته الفاعلة.
والآن، فان إحدى مشاكل المناهج الجامعية بصدد علوم
الشريعة أنها تعطي طلابها الفقه الشرعي، وتمضي معهم في الفقه الدعوي إلى منتصف
الطريق، ولكنها لا تكاد تعطيهم شيئاً عن الفقه الحضاري. فها هي ذي الحلقة الضعيفة
في "عقل" خريجي المعاهد الشرعية، والتي تساعد بدورها على حفر الخنادق
وتعميق الهوّة بين الشريعة والحياة، وتعين على تأكيد تلك الثنائية المقيتة التي
عزلت ولا تزال حشود الخرّيجين عن الدخول في نسيج الحياة، وإعادة صياغتها، فضلاً عن
تسنّم مراكز القيادة فيها، والشهادة عليها.
إن الفقه الحضاري يستدعي دراسة علمية منهجية لتاريخنا
الحضاري، من أجل استمداد مؤشرات العمل في الحاضر والمستقبل، وهي -كما هو واضح -
ليست مسألة ترفيه، ولا حتى أكاديمية صرفة، وانما هي مسألة حيوية ترتبط أشد
الارتباط بالاشتغال التربوي، لأن حلقة كهذه معنية باستخلاص البدائل التي يمكن أن
نتقدم بها إلى ذوات أنفسنا كأمة، وإلى العالم على امتداده، في سياق مشروع حضاري
يشارك في صياغة المستقبل. فضلاً عن أن فقهاً كهذه يمنحنا صورة عن مصداقية تحوّل
الشريعة بمقاصدها وتأسيساتها التصورية والاعتقادية، إلى واقع تاريخي متحقق في
الزمن والمكان، أي في التاريخ، كما أنه سيعرّفنا على عوامل الانهيار الحضاري التي
ساقتنا إلى المواقع المتخلقة في خرائط العالم.
هناك - بكل تأكيد - نقص في محاولة توظيف بعض الحلقات
الجامعية للارتفاع بوتائر العمل إلى مستويات أعلى.
بعض هذه الحلقات قد وظف بالفعل ولكن في حدوده الدنيا،
وبصيغ مترعة بالشروخ والأخطاء (وربما الكسل العقلي)، وحلقات أخرى لم تمسها يد في
هذه الجامعة أو تلك. وفي كلتا الحالتين فإن المطلوب، هو الإفادة من كل الفرص
المتاحة لتخريج عالم الشريعة الأقدر أكاديمياً والأكثر فاعلية وقدرة على الابتكار
والعطاء.
هناك - على سبيل المثال - (البحث الخاص) أو (بحث التخرج)
الذي يكلف به طلبة المرحلة الأخيرة من البكالوريوس (الليسانس) على مدى عام دراسي
بأكمله، ويشرف عليه - في الغالب - أستاذ المادة الأقرب في تخصصه الدقيق، إلى
الموضوع مجال البحث.
إن البحث الخاص هذا، فرصة جيدة، في حالة الاختيار
المدروس لموضوعاته، لتحقيق تلاحم أكثر مع المعرفة المعاصرة والحياة، ولجعل علوم
الشريعة تغادر رفوف المكتبات العتيقة وتنفض عنها التراب، تتحرك وتنبض وتتنفس في
قلب العصر، مقدمة الشاهد (العلمي) على قدرتها التي لا يأسرها زمن أو مكان، على
متابعة المتغيرات والشهادة عليها.
والمسألة قد لا تكلف كثيراً، فبمجرد أن يبذل الأستاذ
جهداً مخلصاً لترتيب منظومة من موضوعات البحث الخاص، في بدء كل عام دراسي،
وتوزيعها على طلبة المرحلة المنتهية وفق توجهاتهم ورغباتهم وقدراتهم المعرفية قدر
الامكان، تم متابعة عملهم أوّلاً بأول، من أجل أن تأتي بحوثهم بشكل أكثر احكاماً
وإبداعاً.
وبمجرد أن يتحقق هذا وذاك فإن حصيلة طيبة قد تتمخض عنه
متمثلة بحشود من البحوث التي تمرّن الطالب على البحث، وتمنحه الدربة المنهجية
الكافية، والتي تقدم - في الوقت نفسه - نويّات أو مشاريع بحوث قد ترفد المكتبة
الإسلامية أو تعدها بالمزيد من العطاء.
والذي يحدث - في كثير من الأحيان - اعتبار البحث الخاص،
مفردة اعتيادية في مناهج المعاهد والكليات، كأية مفردة أخرى، قد لا تقتضي وقفة
خاصة أو جهداً مضافاً أو اهتماماً كبيراً، وبالتالي فإن التعامل معها سيتحرك عند
السفوح الدنيا، فلا يبدع ولا يعلّم ولا يبتكر ولا يضيف جديداً. بل قد تنعكس الحالة
أحياناً لما هو أسوء من هذا، وهي تأكيد عقلية التقليد والاجترار، والتعلّق بتقاليد
عصور تجاوزها التاريخ، بل - ربما - تعميق "النفرة" في نفسية الطالب ازاء
كل ما يتعلق بعلوم الشريعة، واندفاعه - في المقابل - صوب ما يعتبره تحققاً أكثر مع
الحياة التي يعيشها بعقله ووجدانه، بعيداً عن مطالب الشريعة ومقتضياتها.
وبموازاة هذا، وفي حلقة تالية، أكثر أهمية، لم يحسن
التعامل مع مرحلة الدراسات العليا: (الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه) ولم
توظف هذه الفرصة الفريدة للتعامل مع موضوعات غير تقليدية، تعين على تحقيق الهدف
المنشود. وها هنا أيضاً، يتحتم "الإحسان" في اختيار الموضوعات المناسبة
لهذه الرسائل والأطاريح وتوضيح مبرراتها، وترتيب خططها، بما يجعل الطالب أقدر على
التعامل معها وفق منهج أكثر دقة وإحكاماً.
ويتذكر المرء في هذا السياق ما فعلته وتفعله مؤسسة
(كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي) من وضع منظومة بحوث للدراسات العليا: بعناوينها،
ومفرداتها، وخططها، ومسوّغاتها، ومستوياتها الأكاديمية، بين أيدي الباحثين، ليس
هذا فحسب، بل الإعانة - أحياناً - على اختيارها وتنفيذها، ونشرها في نهاية الأمر،
من أجل دعم أهداف المعهد وتوجهاته الأساسية في التأصيل الإسلامي للمعرفة.
فلا يكفي - في هذه المرحلة - أن نترك الطالب يختار
موضوعه، فقد يكون هذا الموضوع تكراراً لما سبق وأن عولج أكثر من مرة، وقد يكون غير
مناسب، كمشروع عمل لمرحلة الماجستير أو الدكتوراه، وقد يأتي - وهذا هو الأهم -
بنتائج معاكسة قد تدفع الطالب، والقارئ معاً، إلى تأكيد العزلة والانفصام بين
الشريعة والحياة.
ولا يتطلب الأمر أكثر من بذل اهتمام أكبر في مسألة الاختيار،
وأن يدخل الأساتذة المشرفون، الذين يفترض فيهم الإخلاص والعلم والجدية، في مجال
تخصصهم، بشكل أكثر فاعلية في إعانة الطالب على العثور على الموضوع المناسب، والأخذ
بيده قدر الإمكان، من أجل تنفيذ رسالة أو أطروحة ذات مستوى عالٍ منهجاً ومضموناً
وتوثيقاً.
هناك ضرورة تنمية الخبرات التدريسية لطلبة الشريعة، قبيل
تخرّجهم، وتعميق قدرتهم على الخطاب الإسلامي من خلال الدورات التدريبية،
والاستفادة من علوم النفس والتربية وأصول التدريس، ومنحهم الفرصة
"التطبيقية" المناسبة في التدريس في المتوسطات والاعداديات أسوة بما تفعله
كليات التربية التي تبذل جهداً مضافاً على المطالب الأكاديمية، من خلال منح طلبتها
المعرفة والخبرة والآليات التي تمكنهم من أن يكونوا "مدّرسين" أكفاء.
وقد ينضاف إلى الخبرة التدريسية بالنسبة لطلبة العلوم الشرعية، الخبرة الخطابية
التي يمكن أن تحفز وتمنح الدربة الكافية من خلال فرص التطبيق عبر سني الدراسة
الجامعية.
هناك - أيضاً - ضرورة تحفيز كليات الشريعة ومعاهدها على
صياغة وتنفيذ برامج عمل مؤسسية تضعها في قلب العصر، وتزيد من فاعليتها، وتدفعها،
إدارة وأساتذة وخرّيجين، إلى المواقع القيادية المؤثرة في المجتمع.
لقد أخذ هذا التقليد، الذي يعمل تحت شعار "الجامعة
والمجتمع" ينتشر أكثر فأكثر على مستوى العديد من الكليات والأقسام العلمية
عبر العقود الأخيرة، فصرنا نجد مكاتب أو مؤسسات استشارية في هذا القسم أو ذاك من
كليات الهندسة، أو العلوم، أو الطب، أو الزراعة، أو القانون، أو الإدارة، أو
الاقتصاد، أو السياسة، أو - حتى - التربية والآداب. وأصبحت هذه المكاتب تحقق - بمرور
الوقت - أكثر من هدف، ففضلاً عن الالتحام أكثر بالمجتمع والحياة، وفضلاً عن منح
الفرصة للكفاءات الميدانية للتنفيذ، والإضافة، والاكتشاف والإبداع، فإن هذه المؤسسات
تجيء بمثابة فرصة مضافة لتعميق القدرات التخصصية والمعرفية للتدريسيين، وربما
لطلبتهم كذلك. هذا إلى أن ممارسات كهذه تدرّ دخلاً موفوراً يعين الأقسام والكليات،
والإدارة الجامعية في نهاية الأمر، على توظيف هذا المردود لمزيد من العطاء
والإبداع.
لماذا تظل معاهد الشريعة وكلياتها - في معظم الأحيان -
بمعزل عن هذا كله؟ في الوقت الذي يتحتم أن تكون أكثر إفادة من هذه التجربة بسبب من
كثرة القنوات التي تصل بينها وبين المجتمع الذي طالما انتظر الإشارة من علمائه
وفقهائه لكي يعدلوا وقفته هنا، ويعينوه على المضي هناك وفق أكثر الصيغ التزاماً
بمطالب هذا الدين؟
لا يسمح المجال في الاستفاضة، فلابّد - إذن - من
الاكتفاء بالتأشير على بعض الحلقات الممكنة في ممارسة كهذه من مثل: النشر، مشاريع
التأليف المشترك، التحقيق والفهرسة، الأعمال الموسوعية، الحلقات الدراسية، الندوات
والمؤتمرات، الإنتاج الفني والإعلامي، إقامة الجسور وتوسيع التعامل مع المؤسسات
المعنية بالمعرفة الإسلامية، المشاركة الفعالة في أنشطة التأصيل الإسلامي للمعرفة
وصياغة حيثيات المشروع الحضاري، البحوث والدراسات والمقترحات الاستشارية.
سأقف
لحظات عند إحدى هذه الحلقات كمقترح للعمل يمنح كليات الشريعة فرصة ميدانية أخرى
للتحقق، ويدفعها باتجاه مزيد من الالتحام بالحياة الاجتماعية، وبالواقع اليومي
لجماهير المسلمين.
يتضمن
المقترح إصدار دورية، أو سلسلة كتب ميّسرة في الفقه، تعالج المسائل المعاصرة
والمستجدة، فضلاً عن القضايا الثابتة، وتعتمد أسلوباً حديثاً في اللغة، ومنهجاً
يسعى لتوحيد المواقف في الحالات الخلافية الحادة التي تحيّر المسلم وتربكه.
يمكن تسمية المحاولة المقترحة بالمورد، أو الدليل الفقهي
للمسلم المعاصر، أو المنهاج الفقهي، أو كتاب الجيب الفقهي لمفردات المسلم
اليومية... أو غيرها من التسميات... والمهم أن يبذل المشروع جهداً حيوياً في تقديم
البدائل الفقهية الواضحة المحددة لعدد من مفردات الحياة والسلوك، وبخاصة تلك
القضايا الملحة من مثل (شروط الزكاة في زمن تحوّل النشاط المالي والاقتصادي، إلى
شبكة معقدة من المعطيات التي تنطوي على عشرات الحالات وهي جميعاً تنتظر الجواب
الفقهي... ومن مثل قضايا الزواج والأحوال الشخصية، والتعليم والعمل الوظيفي، وعمل
المرأة والمساحة المتاحة لها للتحرك في الحياة العامة، وشروط الحجاب، ومعضلات
الجاليات الإسلامية في الديار غير الإسلامية، ووسائل الترفيه... إلى آخره).
إن
المحاولة ترتبط ولا شك بمسألة فتح باب الاجتهاد أو توسيع قنواته، فلابدّ - أولاً -
من تنفيذ جهد عملي وآخر دراسي لإضاءة هذه المسألة، وقد يجيء الدليل المقترح محاولة
عملية لاختبار إمكان تحقيق تغطية فقهية لأهم المستجدات.
ويستحسن
من أجل نجاح المحاولة، أن يقتصر الدليل، أول الأمر، على مسائل محددة وربما مسألة
واحدة، كالزكاة، لكي تكون أشبه بجهد تجريبي لغرض اختبار مدى نجاحه وانتشاره،
وبعدها يمكن التحول لإصدار جزء آخر يعالج مسألة أخرى كقضية الزواج، أو العمل
الوظيفي، أو دور المرأة، أو التوظيف الإعلامي... الخ.
على المستوى الفني يمكن أن ينفذ المشروع بصيغة دورية أو
مجلة فصلية تمضي أعدادها لتغطية المفردات الملحة واحدة إثر أخرى، أو بصيغة كتاب ذي
أجزاء متتالية يختص كل جزء بموضوعة ما، ويتم توزيع المفردات على عدد من خيرة
الفقهاء الذين يجمعون بين الإلمام بالعلوم الشرعية وبين الانفتاح على الثقافة
المعاصرة وتحدياتها.
ويمكن - كذلك - من أجل كسب الوقت ولأغراض إعلامية، فتح
ملف في واحدة أو أكثر من المجلات الإسلامية المعنية بالموضوع، تطرح فيه المسائل
المنهجية والفكرية والفنية التي يتطلبها المشروع، وقد تمضي المجلة للبدء في معالجة
إحدى المفردات ووضع الحلول الفقهية لجوانبها كافة ثم التحول إلى مفردة أخرى، لكي
تتشكل في نهاية الأمر بدايات جادة للدليل المقترح.
وقد يكون في سياق جهد كهذا القيام بمحاولة ببليوغرافية
لحصر وفهرسة جل الجهود الدراسية التي عالجت المسائل الفقهية من خلال رسائل وأطاريح
الدراسات العليا، أو في المؤلفات المستقلة، أو على صفحات الدوريات المتخصصة، أو في
إصدارات المؤسسات الشرعية والفقهية والقضائية والتشريعية.
وقد يكون مهماً - كذلك - وضع منظومة من الموضوعات
الملحة، مع المسوّغات والخطط البحثية التفصيلية المرسومة بعناية، لكي تكون بمثابة
حقل للاختبارات بالنسبة لطلبة الدراسات العليا، ويستحسن توزيع كراريس مستقلة بهذه
الموضوعات ومسوّغاتها وخططها على المعاهد والجامعات والمؤسسات المعنية بالدراسات
العليا في مجال الفقه والعلوم الشرعية.
إن معضلات العصر الحديث ومستجداته تمثل تحدياً ملحاً
للعقل المسلم، وهي بمثابة اختبار لقدرته على الفاعلية في صميم العصر من خلال
اعتماد وتحكيم الأصول الإسلامية: القرآن والسنة والسوابق الفقهية، وان الاستجابة
لهذا التحدي لا تحقق فقط إجابة على العديد من الأسئلة الملحة في معترك الحياة،
وانما تؤكد - على المستويين العقدي والحضاري - قدرة هذا الدين على إعادة صياغة
الحياة في كل زمن ومكان وفق تصوراته المتميزة، وهي مسألة ترتبط - مرة أخرى - أشد
الارتباط بالمشروع الحضاري الذي يتوخاه المسلم الجاد بمواجهة، أو كبديل، عن كل
الإخفاقات التي شهدتها القرون الأخيرة بسبب الممارسات الإسلامية الخاطئة نفسها، أو
بتأثير من ضغوط الآخر، وغزوه الفكري، والحضاري بوجه عام.
ثمة - فضلاً عن هذا وذاك - ضرورة إغناء الخبرات المعرفية
والتخصصية لأساتذة علوم الشريعة وطلبتها من خلال التوسع في تنفيذ نظام الأساتذة
الزائرين ذهاباً وإياباً (أي استدعاء أساتذة من أقسام وكليات وتخصصات أخرى لإلقاء
محاضرات في أروقة الشريعة، وإرسال أساتذة الشريعة إلى الأقسام والكليات الإنسانية
للاحتكاك ببيئات تدريسية ومعرفية متنوعة). وهذا سيمنح التدريسيين والطلبة معاً
خبرات أكثر تنوعاً وخصباً على مستوى الأداء التدريسي من جهة، وإغناء التخصص
وتعميقه من جهة أخرى، ويحقق حواراً فعالاً بين علوم الشريعة والعلوم الإنسانية لتحقيق
التحام أكثر بمطالب العصر ومقتضياته، واستجابة أشد فاعلية وتنوعاً وخصباً لمشاكله
وتحدياته.
ولا بد - أخيراً - من الإشارة إلى تجربة عدد من المعاهد
والجامعات الإسلامية التي بدأت منذ عدة عقود، في هذا البلد أو ذاك، في تنفيذ مناهج
أكثر حداثة في التعامل مع علوم الشريعة وتدريسها، فكسرت طوق العزلة، والتحمت أكثر
بمطالب العصر، وقدرت على توظيف معارفه وتقنياته لتقريب أهدافها، وحققت الوفاق
الضائع بين المعرفتين الإسلامية والإنسانية، وسعت - ولا تزال - لإقامة الجسور
المقطوعة بين الفقيه والمفكر، من أجل أن تضع الفقيه في قلب الحياة، وتمنح المفكر
خبرة بالمعرفة الإسلامية، تعينه على التأصيل، وتحميه من غوائل الارتجال والجنوح.
لا يستطيع المرء أن يكون مبالغاً في التفاؤل، ولكن رحلة
الألف ميل تبدأ - كما يقول المثل - بخطوة واحدة، ويكفي هذه المعاهد والجامعات أنها
وضعت خطواتها الأولى على الطريق، ونفّذت شيئاً من المأمول، وهو كثير، ولكن ما لا
يدرك كله لا يترك جلّه.
ومهما يكن من أمر فإن معاهد وجامعات كهذه تمثل فرصة جيدة
للاستفادة من خبرتها، وإقامة الجسور معها، والمضي لإغناء مطالب اللقاء والالتحام
بين المعرفتين الإسلامية والإنسانية بالمزيد من المعطيات.
خاتمة
ينطلق البحث من إضاءة جذور الاشكالية التي تتطلب - بالضرورة
- تكاملاً معرفياً، والتي تقودنا إلى اهتمامات فلسفة المعرفة، حيث في التصوّر
الإسلامي - تحديداً - لا يكفي أن يعمل العقل (والحواس بطبيعة الحال) الجهد للوصول
إلى (الحقيقة)، إذ لا بّد من إعانة، أو إضاءة (فوقية) تأخذ بيد العقل وتمكنه من
تحقيق المطلوب، وهكذا يصبح الوحي ضرورة ملازمة للعقل إذا أريد اكتناه أسرار
الوجود، وإعادة صياغته بما ينسجم ومهمة الإنسان الاستخلافية والعمرانية في هذا
العالم. وسيقودنا هذا إلى التحقق بمفاهيم "أسلمة المعرفة" أو
"التأصيل الإسلامي للمعرفة"، بمعنى اعتماد ثوابت العلم الديني المتشكل
بقوة الوحي معياراً لبناء ما يتمخض عن الكشف العقلي الذي طالما انتهى -إذا عمل
بمعزل عن ضوابط الوحي - إلى الوصول إلى نتائج احتمالية، ظنية، بعيدة - بدرجة أو
أخرى - عن حافات اليقين، بشهادة كبار فلاسفة العلم وعلماء النفس والفيزياء
والكوزمولوجي، وبمتابعة شواهد أخرى من كشوف العقل النسبية والقلقة في علمي النفس
والاجتماع وفلسفة التاريخ.
أكد البحث - في موازاة هذا - على عمق الظاهرة الغيبية في
البنية الكونية والإنسانية، وتغطيتها المساحات الأوسع بالمقارنة مع عالم الشهود،
والاهتمام البالغ الذي أولاه التصوّر الإسلامي للغيب، فيما يجيء مطابقاً
لاستنتاجات العديد من فلاسفة العلم، وعلماء الفيزياء والكوزمولوجي والنفس.
هذه الحقائق تقودنا - بالضرورة - إلى التحقق بمفاهيم
التكامل المعرفي، ليس فقط لخدمة وتأكيد المطالب الدينية والإيمانية عموماً، وانما
وبموازاتها تماماً: إعانة المطالب العلمية على الوصول إلى أهدافها بأكبر قدر ممكن
من الانضباط المنهجي، إذا صحّ التعبير.
بالانتقال من العام إلى الخاص نجد كيف أن التكامل
المعرفي يعد ضرورة أكاديمية، تحديداً، بسبب ما فعلته ظاهرة الاعتقال في زنزانات
التخصّص الدقيق من تضحّل معرفي وتسطّح ثقافي، وغياب في القدرة على الإبداع
والإضافة والاكتشاف، بل حتى في "اللغة" التي يفترض أن تمارس وظيفتها في
الخطاب بأكثر صيغه فاعلية وقدرة على التوصيل.
الجامعات، بسبب من غياب التكامل المعرفي، تخرّج أجيالاً
من أنصاف المتعلمين، وتعين الأمية المقنّعة على التزايد والانتشار، ولا بّد -إذن -
من تدارك الموقف بكسر أقفال زنزانات التخصّص الضيّقة والانفتاح المعرفي في فضائه
الواسع.
أكد البحث على مسألة أن التكامل المعرفي لا يأخذ مساراً نمطياً
واحداً وانما يتحرك وفق اتجاهات ثلاثة: تكامل بين نمطين متغايرين من المعرفة،
وتكامل بين علوم كل معرفة على حدة، وتكامل بين مفردات التخصّص الدقيق نفسه.
حتى إذا ما جئنا إلى ثنائية المعرفتين الإنسانية
والإسلامية تحديداً، باعتبارهما الموضوع الأساس للبحث، وجدنا كيف كانتا ولا تزالان
تعانيان من القطيعة - بدرجة أو أخرى - فرضت نفسها على معاهدنا وجامعاتنا منذ
بدايات تشكلها الأولى قبل أكثر من قرن ونصف القرن.
المؤسسات المعنية بالعلوم والمعارف الإنسانية، وتلك
المعنية بالعلوم والمعارف الإسلامية، حيث لم يتح لخرّيجي الأولى أن يتلقوا شيئاً
ذا بال من العلوم الإسلامية التي تمكنهم من التأصيل الضروري لما يتلقونه من علوم
إنسانية، قدمت إليهم جاهزة من الغرب، بكل ما تنطوي عليه من تضاد - في بعض حلقاتها -
مع أسس التصوّر الإسلامي ومقوّماته. كما أنه لم يتح لخرّيجي الثانية أن يتلقوا
شيئاً ذا بال من العلوم الإنسانية التي تمكنهم من أن يكونوا في قلب العصر، ملمّين
بالحدّ الضروري من معارفه، قديرين على المشاركة في إعادة صياغته برؤية معاصرة،
تملك في الوقت نفسه معاييرها التصوّرية التي تحفظ لها شخصيتها وتحمي خصوصياتها.
صحيح أن محاولات عديدة سعت عبر العقود الأخيرة، لتجاوز
الأزمة وتحقيق اللقاء المنشود بين المعرفتين، لكنها - في نهاية الأمر - لم تشكل
سوى بقع محدودة ومبعثرة على مساحة واسعة تعاني فيها المعرفتان من قطيعة غير مبّررة
على الإطلاق.
يعرض البحث لجملة من مخرجات الحصاد المرير لعزلة المائتي
عام بين المعرفتين وللوضع السيئ الذي لا يحسد عليه خرّيجوها، ثم يخلص إلى جملة من
المقترحات للخروج من الأزمة، وللتحقق بالتكامل المعرفي المنشود. وقد أريد لهذه
المقترحات أن تكون (عملية) قابلة للتطبيق، من أجل الإعانة على تحقيق المطلوب،
وتخريج النخب المتميزة، القديرة على الإبداع والعطاء، والإسهام الفاعل في إعادة
صياغة الحياة الإسلامية في ضوء مطالب مشروعها الحضاري، وفي تسنّم المراكز القيادية
التي تعينها على ذلك.
وهذه المقترحات ليست نهاية المطاف، بطبيعة الحال، إذ ترك
الباب مفتوحاً لتقديم المزيد من أجل تحقيق هذا الهدف العزيز. ولعلّ هذه بالذات هي
التوصية الأكثر أهمية والتي يخلص إليها هذا البحث.
* بحث مقدّم لمؤتمر )التكامل المعرفي ودوره في تمكين التعليم الجامعي من
الإسهام في جهود النهوض الحضاري في العالم الإسلامي)، والذي نظمّه (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، بالتعاون
مع (جامعة أبو بكر بلقائد)، و(جمعية العلماء المسلمين) في (تلمسان: الجزائر)، 16-14
إبريل عام 2010م.
الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق