08‏/04‏/2016

طفولة الوعي الإنساني

هشام بن الشاوي
المغرب
يشير (رافع يحيى) في دراسته (الحكاية الشعبية)، إلى أن  (فولتير أندرسون) يورد  ثلاثة قوانين أساسية تميز الانتقال الشفوي للحكاية الشعبية:              
 أولاً- قانون التغيير الذاتي: قانون التغيير الذاتي يعني أن يقوم المستمع لمرويات متعددة ومختلفة لحكاية واحدة، بصياغة حكاية جديدة تحافظ على المبنى الأساسي للحكاية، ويحذف من هذه المرويات ما يلائم المجتمع  الذي تقدم فيه الحكاية.
ثانياً- قانون التجدد: ويتركز في التغييرات التي قد تحدث في الحكاية، كنتيجة لخطأ بشري، أو نسيان تفاصيل معينة في الحكاية، أو ربما يكون وراء التغيرات دافع فني من جهة المرسل(الراوي-
الكاتب)، ومجال التغيير، واتساعه، متعلق برد فعل المتلقي لهذه التغيرات.
ثالثاً- قانون انتشار الحكاية: تنتشر الحكايات بجهد ذاتي من مكان إلى آخر، ومن قطر إلى آخر، دون أن تكون حاجة لتقنيات خاصة من قبل البشر، لنقلها من مكان لآخر.
وقد قام الدارسون والباحثون بتقسيم الحكايات الشعبية إلى تقسيمات فرعية. ويرى الدكتور (محمود ذهني) أنَّ أسباب التقسيمات الفرعية التي طرأت على الحكايات الشعبية، مثل الحكاية الخرافية المسليّة (حكاية الجان)، والحكايات على ألسنة الحيوان، تعود إلى الاتجاه الدقيق للفنون والعلوم التي تهتم بالتدقيق والتخصيص. ولكن العنصر الأصلي في الحكاية واحد أو ثابت، وتتغير من حوله عناصر الربط والشكل والبناء، فتنتج عنها عشرات الحكايات المختلفة من حيث الفكرة والهدف. ويؤكد (رافع يحيى) أن هناك شبه إجماع بين الباحثين على أشكال خمسة أساسية للحكاية الشعبية، وهي: الأسطورة، حكاية الألغاز، والمسائل، والنوادر والقصص، والفكاهة، وهذه الأشكال تتداخل فيما بينها، وتلتقي.
ويدعو بعض الباحثين إلى البحث عن أصول الحكاية الشعبية، والتمشيط في جذور الحكاية الشعبية، أو التراث الشعبـي. فبداية تكوين الحكايات الشعبية لم تكن جليّة بقدر الإمكان، أو يصعب البحث عن جذر موثوق للحكاية، ولكن نستطيع القول بأن الحكاية الشعبية لها أصل من الواقع، وهي منقولة من أحداث قصة حقيقية حدثت في السابق، ثم وقعت في يد الرواة، فخرجت من شكلها الحقيقي ،وأصبحت أقصوصة خيالية، تغمرها الخرافة بشخصياتها، وأمكنتها الغريبة. والناتج الشعبـي في الحقيقة إبداع جماعي، قد يكون مبدعه الأول فرداً، وقد يكون نتيجة لحادثة وقعت فعلاً، ولكنّه لا يظل كذلك، إذ ما يلبث أن يصبح ملكاً للجميع، يتناقلونه، ويضيفون إليه، بل يبدعونه ثانية، حتى يبدو في أصله غير حقيقي، فيتخذ عندئذ طابعه الشعبـي، ويُنسى مبدعه الأول، كما تنسى حادثته الحقيقية الأولى، وإن ذكرت، فكأنها خرافة لا حقيقة.
ولقد اختلفت الآراء حول أصل الحكايات الشعبية، وعن مواقع الإبداع، من خلال الدراسات المختلفة للباحثين في الكشف عن جذورها. فنجد المدرسة الأدبية حاولت إثبات الأصل الهندي للحكايات الشعبية الأوربية، والمدرسة الميثولوجية ترى أن الحكايات الشعبية ما هي إلا رواسب للميثولوجيا القديمة، وخاصة المتعلقة منها بالطبيعة. أما المدرسة الأنثروبولوجية القديمة، فقد دحضت آراء المدرستين السابقتين، وأوضحت الخلفية الثقافية للحكايات الشعبية. ثم جاءت المدرسة الطقوسية، أو الشعائرية، وحاولت إثبات الأصل الطقوسي للحكايات. أما المدرسة التاريخية الجغرافية، فقد درست بشكل مستفيض انتشار الحكايات المختلفة. والمدرسة النفسية، التي ترمي إلى التحليل النفسي من وراء الحكاية، وأخيراً: المدرسة الوظيفية، التي تدرس الحكايات في بيئاتها، من ناحية وظيفتها الاجتماعية.  
ومن الصعب والمستحيل العثور على بصمة واضحة تؤكد وتثبت لنا مواطن جذر نشأة الحكاية، مع هذا التشابه الموجود في الحكايات عند الشعوب المختلفة. وعلى هذا، فالفكرة تميل إلى الظن بأن الحكاية نشأت من مكان معين أول ما نشأت، ثم هاجرت من هذا الموطن إلى سائر أنحاء العالم القديم، ولكننا لا نستطيع أن نحدد ذلك الموطن الأصلي. وأكثر علماء التراث في أوروبا درسوا الحكايات الشعبية دراسة منهجية في مطلع القرن التاسع عشر، وقد حاولوا التدليل على طريق قيام الوحدة اللغوية عندهم، بإثبات أن حكايات الجان إنتاج آريّ متكامل، وخاصة أن أغلب النصوص التي أتيحت لهم كانت آريّة، وأن نصوص الحكايات غير الآرية لم تكن متوافرة لديهم.
وهناك عنصر ينبغي تقديره في هذا المجال، ذلك هو محاولة العلماء آنذاك أن يبيِّنوا أن أساطير الإغريق والهند القديمة تمثل هذا الأصل أدق تمثيل، وما داموا قد سلّموا على هذا النحو بعراقة هذه الأساطير، فقد كان من اليسير أن يعتقدوا أنّ حكايات الجان عبارة عن أغصان صغيرة  نبتت من الأساطير الأصلية. وكان أمراً مقضياً أن يسقط هذا الزعم بآرية حكايات الجان، في اللحظة التي ظهرت فيها نصوص غير آريّة. كما يعتقد الأخوان (جريم)، وأنصارهم، بأن الحكايات الشعبية بقايا الأساطير القديمة، ومن الممكن بناء هيكل أساطير الآلهة، والأبطال القديمة، على أساس تلك الحكايات. وكما يعتقدون بأنّ الشعوب الهندوأوربية ابتدعوا حكايات الأبطال والسحر، وبعد ذلك اقتبست الشعوب الأخرى هذه الحكايات، عن طريق الهجرة أو العلاقات الثقافية بين تلك الشعوب، بينما الكثير من الحكايات لا تبتعد عن الاشتراك في النقل والمضامين الجوهرية للحكاية، عند كافة البلدان والشعوب، باختلاف عروقها وثقافتها وتاريخها. ونرى الاختلاف في هكذا حكايات فقط في الشخصيات والبيئة المختصة بتلك الشعوب، فهي تتحد من حيث المضمون، وتختلف بشخصياتها، وشكلها، وأسلوبها لسرد القصة، فقد يسمع المرء حكاية في قومه، وبلغته، ثم يسمعها هي نفسها، أو يسمع ما يشبهها شبهاً كبيراً، في قوم آخرين، وبلغة أخرى مختلفة، وبين القومين تباعد كبير، واختلاف. فمثال ذلك حكاية (سندرلا)، التي نجدها حكاية شعبية عند أكثر الشعوب، مع اختلافها بالشكل، وسردها بطريقتهم. فمثلاً أكثر حكايات الحيوان في التراث الشعبي العربي لها صلة بـ(كليلة ودمنة)، التي جاءت من (الهند).
وفي موضوعة العلاقة بين التراث الشعبي والسياسة والاجتماع، حسب (ياسين النصير)، تكمن قصة التاريخ الإنساني، هذا التاريخ الذي يضعه الإنسان بعمله وفكره وثقافته وأحلامه وآماله. وعندما يحقّق بعضاً منه، يودعه في قصص وحكايات وأعمال وأفعال، ويوصله إلى الجيل الذي يليه، ليكمله ويشذبه ويضيف عليه. وهكذا ترسم البشرية مساراً تطورياً لنضالها الاجتماعي والسياسي، وكأنها ما زالت تعيش لحظات البشرية الأولى..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق