08‏/04‏/2016

اعترافات قاتل اقتصادي

هفال عارف برواري
هكذا كتب (جون بيركنز)، عندما قام بنشر كتابه المثير للجدل، والذي أحدث زوبعة إعلامية، حين تحدث عن حقائق نفسه، وعن فريق عمله، وكيف يقوم النظام العالمي الإمبريالي الجديد بنهب ثروات الشعوب، وكيف بنوا أكبر إمبراطورية في العالم دون استخدام القوة، ولا إلغاء الحدود الجغرافية، وذلك باستخدام الأدوات الإقتصادية فقط، عن طريق استعباد البلدان الأخرى، وقادتها، والاتفاق معهم: أنهم لو أنجزوا ما نريده، فسيكونون مع عائلاتهم من الأثرياء جداً، وأغنى الأغنياء!! وإن لم يفعلوا ما نريد، فإذا حدث شيء غير مرغوب، فلا تلوموا إلا أنفسكم!! أي: استخدام مبدأ العصا والجزرة ! يقول (جون آدم) (1735-1826): "هناك طريقتان لقهر واستعباد أُمة، الأولى هي بحد السيف، والأُخرى هي عن طريق الديون".
يقول (جون بيركنز) في كتابه: إن القتلة الاقتصاديين مسؤولون حقاً عن خلق الإمبراطورية العالمية الأولى من نوعها، ولهم طرق متنوعة ومختلفة للسيطرة على الدول.. وغالباً ما يقومون بتحديد دولة ما، تمتلك ثروات، كالنفط، بحيث تثير رغبتنا، وتحفزنا للتحرك نحوها.. حيث نقوم بترتيب قرض ضخم لهذه الدولة من البنك الدولي، أو أي منظمات حليفة، لكن هذا المال لا يذهب فعلياً لها، بل يدخل في جيوب الشركات الكبرى، لبناء مشاريع البنية التحتية لتلك الدولة، كمحطات توليد الطاقة، أو المجمعات الصناعية، أو الموانيء.. وقد يتبادر إلى الأذهان أنه شيء جيد، لكن حقيقة الأمر أن هذه الأموال لا تساعد الأغلبية من الشعب، بل عامة الناس يأنّون من الفقر والوضع المزري، والدولة تترك عبئاً ثقيلاً من الديون الضخمة، بحيث يكون من المستحيل سداده (وهذا هو جزء من الخطة)، والمرحلة التالية - كما يقول - هو عودتنا نحن القتلة الاقتصاديون لنوضح لهم الحقيقة كواقع، وهو أن الدولة مدينة لشركاتنا بأموال لا طاقة لهم بسدادها، لذا يفرض عليهم بيع النفط الخام لنا بدلاً من الأموال، وبالطبع البيع يكون بأرخص الأثمان! ويجب عليهم أن يسمحوا لنا ببناء قواعد عسكرية في أراضي الدولة ! أو يقوموا بدعمنا عسكرياً، في مكان نكون نحن بحاجة ماسة له! أو يصوتوا لنا في الأمم المتحدة، أو يوافقوا في خصخصة شركات الكهرباء، أو الماء والمجاري، وبيعها لشركاتنا الأمريكية، أو شركات دولية موالية لنا!! وبعد ذلك نعرض عليهم إعادة تحويل الديون، ودفع المزيد لهم، مع الفائدة، ومشروطة بأن يبقوا حكاماً صالحين!! ويتوجب عليهم بيع مواردهم، مع تمرير خدمات اجتماعية، وأحياناً نظم مدرسية، أو قوانين عقوبات، وأنظمة تأمين، أي: تكون الفوائد التي يجنونها فوائد مركبة بأضعاف مضاعفة!!..
وفي الكتاب بدأ ببيان كيفية اختياره سنة 1971 للعمل في شركة (MAIN)، المختصة بالأعمال الهندسية، التي أصر عميلها الأكبر (وهو البنك الدولي!) على وجود رجال اقتصاد ضمن العاملين، تكون مهمتهم تقديم توقعات اقتصادية، يمكن استخدامها في تقويم الإمكانيات، وحجم المشروعات الهندسية. خلال فترة تدريبه في الشركة، وقبل أن يذهب لأولى مهماته، التقى بـ (كلودين)، التي كانت وظيفتها مستشار خاص في الشركة، وقد أوكلت لها مهمة تدريب (جون بيركنز) ليصبح قاتلاً اقتصادياً!! وأهداف العمل - كما قلنا -: أولا: اختلاق مبررات للقروض الدولية الكبيرة، التي ستعيد ضخ المال إلى (MAIN)، وشركات هندسية أخرى، من خلال مشروعات هندسية وإنشائية ضخمة. ثانيا: العمل على إفلاس تلك الدول التي أخذت القروض (بعد أن تكون قد سددت ديونها للشركة، وباقي المتعاقدين الأمريكيين)، بحيث تبقى هذه البلاد: ١- مدينة إلى الأبد. ٢- تصبح أهدافا سهلة، عندما تدعو الحاجة إلى خدمات (كإنشاء قواعد عسكرية، تصويت في الأمم المتحدة...إلخ). ٣- اتخاذها منفذاً إلى البترول، وباقي الموارد الطبيعية.
 أما عن طبيعة تلك التقارير، فكان عليه أن يبرهن أن هذه القروض، والمشاريع المنفذه من خلالها، ستسهم في نمو اقتصادي، يتمثل في زيادة الناتج الإجمالي القومي.. وللناتج الإجمالي القومي طبيعة مخادعه، فإن نموه قد يتحقق، حتى لو صبّ في مصلحة شخص واحد، أو حفنة من الأشخاص، يزدادون غنى، حتى لو أن غالبية السكان يقبعون تحت خط الفقر!.. لكن من الناحية الإحصائية البحتة، فذلك يعدّ نمواً اقتصادياً، حيث يزداد الناتج الإجمالي المحلي بثراء الأغنياء.
ومن مهمة القاتل الاقتصادي أيضاً: ٤- تشجيع زعماء العالم ليصبحوا جزءا من شبكة اتصالات واسعة، تروّج لمصالح الولايات المتحدة التجارية، وفي النهاية يقع هؤلاء القادة في شراك الديون، لضمان خضوعهم، ليتم الاعتماد عليهم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.. في المقابل، فهم يقومون بدعمهم كي يكون لهم مكانة سياسية قوية، ويدعمون بلدانهم اقتصادياً، وذلك - كما قلنا- بإنشاء محطات توليد كهرباء، ومنشآت صناعية، ومطارات، مما يعود هذا بالنفع على مكانتهم السياسية، والنفع الاقتصادي على شركات الإنشاءات الهندسية الأمريكية، حيث يكتسبون ثراءاً فاحشاً.
اعترافات القاتل الاقتصادي، أو الاغتيال الاقتصادي للأمم، هو إحدى الدراسات والأبحاث التي تبيّن لنا خفايا غائبة عنا، فبإمكان هؤلاء الخبراء المحترفين أن يسلبوا ملايين الدولارات من دول كثيرة، في كافة أنحاء العالم، ويحولوا المال من المنظمات الدولية، التي تقدم القروض والمساعدات، ليصبوه فى خزائن الشركات الكبرى، وجيوب حفنة من العائلات الثرية، التي تسيطر على الموارد الطبيعية للكرة الأرضية.
ومن وسائلهم لتحقيق ذلك هو: ١- صناعة تقارير مالية ٢- تزوير الانتخابات ٣- الرشوة والابتزاز والجنس والقتل!!
يقدم الكاتب اعترافاته باعتباره قاتلاً اقتصادياً، يقوم برسم خطط لمشروعات اقتصادية في دول العالم الثالث، لبناء بنية تحتية، تتضمن ١- بناء محطات كهربية ٢- بناء سدود ٣- توسيع الطرق، وصيانة الموانئ. ويقوم بتمويل هذه الخطط والمشروعات، مؤسسات اقتصادية دولية. ويصبح كل هدف القاتل الاقتصادي هو إقناع حكومات دول العالم الثالث، بقبول قروض لبناء تلك المشروعات، وهذه المبالغ المقترضة يتم نقلها من البنك الدولي إلى البنوك الأمريكية، كي تتحمل حكومات دول العالم النامي دفع أعباء خدمة الدين، الذي لم يدخل منه دولار واحد أرض الدولة. وتستغل (الوﻻيات المتحدة الأمريكية) عجز الدولة عن دفع الديون، وفوائدها، لتدفع بتلك الدول إلى مدار الهيمنة الأمريكية، والتبعية الصريحة لسياساتها. وكلما نجح القتلة الاقتصاديون في إقناع الدول بالاقتراض من أجل بناء المشروعات، تمّ ترقية القتلة في سلمهم الوظيفي!!
ويعرض الكاتب في كتابه نماذج لهذه العمليات القذرة، مما قام به هو وزملاؤه في دول شتى، منها: الإكوادور وأفغانستان والعراق وبنما والسعودية وإيران وفنزويلا وأندونيسيا، وغيرها من البلدان.. نذكر هنا عدداً من هذه الدول، كأمثلة للدول التي تم قرصنة أموالها عبر القتلة الاقتصاديين:
إيران
كانت (إيران) هي الدولة التي حفزت (أمريكا) للتفكير في التوجه نحو فكرة القتلة الاقتصاديين، فقد ابتدأ الأمر كله من عام 1951، عندما تمردت (إيران) على شركة بترول بريطانية كانت تستغل موارد (إيران) الطبيعية، وشعبها. وردّاً على هذا الاستغلال، أعلن رئيس (إيران) المحبوب جماهيرياً، والمنتخب شرعياً: (محمد مصدق)، تأميم أصول البترول الإيراني، لينفق عائداته على شعبه. وهنا جنّ جنون (بريطانيا)، واستنجدت بحليفتها (أمريكا) لمساعدتها، ولكنهم كانوا يتخوفون من توجه (إيران) نحو المعسكر السوفيتي، وكانوا حذرين من التدخل العسكري المباشر، لأن هذا قد يستفز (الاتحاد السوفييتي)، ويتخذ موقفاً مسانداً لـ(إيران). وبدلاً من إرسال (المارينز)، أُرسل (كيرميت روزفلت)، عميل المخابرات المركزية، على وجه السرعة، والذي أدى دوره بمهارة شديدة، عندما أدخل ملايين الدولارات، واستطاع أن يكسب الناس، وأقنعهم بالرشاوى والتهديدات، وحرّضهم على تنظيم أعمال شغب، والسير في مظاهرات عنيفة، أدت إلى خلق انطباع بأن (مصدق) ليس محبوباً، وأنه غير كفء. وفي النهاية سقط (مصدق)، وأمضى بقية حياته في الإقامة الجبرية.. ولم تنته قصة (إيران) مع القتلة الاقتصاديين بعد، فـ(إيران) دولة غنية بالبترول، ومثلها مثل (السعودية)، لا يمكن أن تقع تحت طائلة الديون عند تمويلها لقائمة طموحة من المشاريع لإنجازها.. فحشدت (واشنطن)، وشبكة رجال الأعمال، قوتها، لتحويل (الشاه) إلى رمز للتقدم. كانت كل الظواهر تؤكد أن (الشاه) صديق تقدمي لكل الكادحين، ففي سنة 1962 أمر بتقسيم قطاع كبير من الأراضي المملوكة لبعض الأفراد، وتوزيعها على الفلاحين، كما قام بثورة بيضاء للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية. ازدادت قوة (الأوبك) في سبعينيات القرن العشرين، وأصبح (الشاه) زعيماً عالمياً ذا نفوذ كبير. وفي الوقت نفسه، طورت فيه (إيران) جيشها، وأصبح من أقوى الجيوش في الشرق الأوسط. وأسهمت شركة (MAIN) في مشروعات، غطّت معظم مرافق الدولة، بداية من المناطق السياحية، وحتى إمدادات القوات العسكرية السرية. وكانت الأعمال مركزة على تقدير إمكانيات تلك المناطق، ومن ثم تصميم الأنظمة الكهربية، وتوزيع القياسات التي ستمد البلد بكل الطاقة المطلوبة لدعم التنمية الصناعية والاقتصادية التي تحقق تلك التوقعات.
العراق
كان من قرارات الإدارة الأمريكية، في عهد (رونالد ريغن)، وكذلك في عهد (بوش) الأب، هو تحويل (العراق) إلى نسخة أخرى من (السعودية)، فقد كان وجود القتلة الاقتصاديين في (بغداد) قوياً خلال الثمانينيات، واعتقدوا أن (صدام) في نهاية المطاف سيتبع المنهج الأمريكي، حيث في حالة اتفاق (صدام) مع (أمريكا)، كما هو الحال في (السعودية)، فبإمكانه أن يوقّع عقداً نهائياً لحكم بلاده، وفي هذه الحالة كانت (أمريكا) ستغضّ الطرف عن ممارساته الدكتاتورية، مع ما فيها من مجازر جماعية في الشمال والجنوب، بل كانت ستغضّ الطرف عن طموحاته التوسعية، بشرط تأمين (أمريكا) أنه سيستمر في إمدادها بالنفط، مع القروض التي ستأخذها الشركات الأمريكية، لتقوم بتحسين أنظمة البنية التحتية في العراق، وإنشاء مدن جديدة، وبناء محطات طاقة نووية، وكيميائية، حتى إذا كان من المحتمل استخدام تلك التقنيات في صناعة أسلحة متقدمة، ما دام سيمدّ (أمريكا) بالبترول، وسيثري شركاتها الكبرى. ولا تقتصر أهمية (العراق) على البترول فقط، بل ثمة أيضاً موارد المياه، والمكانة الجيوسياسية. فقد سعت الشركات الضخمة مؤخراً لخصخصة المياه، وامتلاك العراق لنهرين كبيرين يمران في أرضه، جعله من أهم المصادر الطبيعية للمياه في هذا الجزء من العالم. أما من حيث موقعه الاستراتيجي، فهو يجاور (إيران)، و(الكويت)، و(السعودية)، و(تركيا)، ويطلّ بساحل طويل على الخليج العربي، والمدى الصاروخي للعراق يمكنه من إصابة أهداف حيوية، ابتداء من (إسرائيل)، وحتى جمهوريات (الاتحاد السوفيتي) السابق. فمن يسيطر على عراق اليوم، يمتلك مفاتيح السيطرة على الشرق الأوسط!.
أما (صدام حسين)، فقد بدا جلياً أنه لم يبتلع طعم القتلة الاقتصاديين، مما سبّب لإدارة (بوش) خيبة أمل كبيرة، أدت إلى إضعاف صورة (بوش) داخلياً. وبينما كان (بوش) يبحث عن حل، قام باستدراجه لغزو (الكويت) سنة 1990، وانتهزها فرصة، فأعلن شجبه لانتهاك (صدام) للقانون الدولي. ولم تكن مفاجئة حين أمر (بوش) بهجوم عسكري شامل على (العراق)، تحسنّت على إثره شعبية (بوش) عند 90% من شعبه، وتمّ فيه تأديب (صدام). و في عام 2003، تم احتلال (العراق) للمرة الثانية، بعد فشل القتلة الاقتصاديين في إقناع (صدام) بلعب اللعبة (السعودية)، والتي تجيدها (أمريكا)، وهي عملية غسيل أموال بسيطة، تمنح من خلالها الشركات الأمريكية عقود بناء وصيانة وإعمار للمنشآت الصناعية، والمدن الكبرى، التي ستشيدها في سبيل استرجاع أموال البترول التي دفعتها (أمريكا).

السعودية
اتحدت الدول العربية، واتخذت موقفاً لمعاقبة (إسرائيل)، والدول التي تدعمها، مثل: (أمريكا)، في حرب أكتوبر الشهيرة، والتي اندلعت سنة 1973. ولما كان النفط هو سلاحهم الوحيد، فقد قاموا باستخدامه، فقد ضغط الرئيس (أنور السادات) على الملك (فيصل)، ملك (السعودية)، للانتقام من (الولايات المتحدة)، وأعلنت (إيران) ودول الخليج الخمسة، بما فيها (السعودية)، زيادة سعر النفط بنسبة 70 %، في 16 أكتوبر. أما في (الكويت)، فقد اجتمع رؤساء النفط لاتخاذ قرارات أكثر تشدداً، وقرروا التحرك للأمام بمزيد من الحظر، حيث بدأوا بتخفيض الإنتاج بنسبة 5% كل شهر، حتى تجاب طلباتهم السياسية، فيما أعلنت بعض البلدان أنها ستخفّض الإنتاج بنسبة 10%. وفي 17 أكتوبر عندما طلب (نيكسون) من الكونغرس مبلغ 2.2 مليار دولار مساعدة لـ(إسرائيل)، قامت (السعودية) وباقي البلدان العربية المنتجة للبترول، بفرض حظر كامل على سفن البترول المتجهة للولايات المتحدة. انتهى حظر البيع في 18 مارس 1974، وبالرغم من صغر فترة الحظر، إلا أنها كانت ذات تأثير هائل، فقد ارتفع سعر البرميل من 1.39 دولار للبرميل في أول يناير عام 1970، إلى 8.32 دولار في يناير 1974. أما رجال السياسة والحكومة الأمريكية، فلم ينسوا مطلقاً الدروس التي تعلموها. وأيقنت (واشنطن) أنه من غير الممكن التسامح مع مثل ذلك الحظر مرة أخرى. أصبح حماية مصدر إمداد البترول لدى (الولايات المتحدة)، بعد عام 1973، من أولى أولوياتها. هذا وقامت (الولايات المتحدة) بالبحث عن طرق لاستعادة أموالها المدفوعة في بترول (السعودية)، وأوجد نقص الهياكل الإدارية والـتأسيسية في المملكة، والتي تمكّنها من إدارة ثرواتها إدارة صحيحة، ثغرة يمكن استغلالها من قبل القتلة الاقتصاديين.
أما الثروة التي حصلت عليها (السعودية) من ارتفاع عائدات البترول، وامتلاء خزائن الدولة بالمليارات، فقد كانت نقمة أكثر منها نعمة عليهم، فقد أدت إلى تقويض المعتقدات الدينية الوهابية الصارمة، وحلّ شكل جديد من الانغماس الدنيوي، بدلاً من المعتقدات الدينية المحافظة. وبدأ التفاوض مع السعوديين على مقايضة المعدات، والتدريبات العسكرية، والمساعدة التقنية، وفرصة النهوض ببلدهم إلى ركب الحضارة والإعمار، مقابل دولارات البترول، وأهمّ من ذلك: مقابل عدم حظر البترول مجدداً. وكان من نتائج المفاوضات: إنشاء وكالة التنمية الأكثر غرابة في التاريخ، وهي (اللجنة الأمريكية - السعودية للتعاون الاقتصادي)، التي عرفت بـ (JECOR). اعتمدت هذه اللجنة أسلوباً جديداً في برامج المساعدات المالية، فهي تعتمد على أموال (السعودية)، لتمويل الشركات الأمريكية، لإنماء (المملكة العربية السعودية). وفي مرحلة مبكرة من الشراكة، لجأت وزارة الخزانة للاستعانة بشركة (MAIN)، كاستشاري، واستدعي (جون بيركنز)، الذي كانت وظيفته التنبؤ بما قد يحدث في المملكة، إذا ما استثمرت الأموال الطائلة في الإنفاق على البنية التحتية. باختصار، فقد طلب منه تطبيق قدراته الإبداعية بأقصى ما يستطيع، لتبرير استنزاف مئات الملايين من الدولارات من أموال (السعودية)، بشرط إدراج شركات الهندسة والبناء الأمريكية.
في حالة (السعودية) فقط اختلف الهدف، فلم يكن الهدف، هذه المرة، هو إغراق البلد بالديون، بل استعادة أكبر قدر من دولارات البترول مجدداً إلى (الولايات المتحدة)، وجعل اقتصادها خاضعاً لمصالح (الولايات المتحدة). كما أن رجال الاقتصاد في منظمة (الأوبك)، ينصحون الدول المنتجة للبترول بإنتاج المزيد من المشتقات البترولية، لتعظيم القيمة المضافة، بدلاً من تصديره خاماً، وذلك بالطبع يحتاج الى مناطق صناعية ضخمة، لتقوم بتحويل البترول الخام إلى منتجات بتروكيماوية صالحة للتصدير، وبالطبع فإن هذه المناطق الصناعية ستتطلب إقامة محطات توليد للكهرباء، وخطوط للنقل والتوزيع، ووسائل مواصلات، متضمنة المطارات، والاستعانة بعدد كبير من الأشخاص للصناعات الخدمية والبنية التحتية الأساسية، لإدارة هذه المشاريع. كانت (السعودية) تمثل جنة للعاملين بمجال التخطيط الاقتصادي والمنشآت الهندسية، دولة متخلفة تماماً، تمتلك عملياً ثروات مالية لا حدود لها، ورغبة في اللحاق بركب العصر الحديث من أوسع أبوابه. أما تبعية (السعودية) للولايات المتحدة، فيمكن ضمانها من خلال المشروعات الجديدة، التي ستتطلب صيانة مستمرة، وعمليات تحديث من وقت لآخر، وخصوصاً أنها مشروعات على درجة عالية من التقنية المعقدة، لضمان أن تتولى الشركات الأمريكية التي نفذتها، هي بنفسها، عمليات الصيانة والتحديث. كان (جون بيركنز) يعدّ قائمتين لكل مشروع، تتضمن إحداهما: التصميمات الهندسية المختلفة، وعقود المقاولات التي نتوقعها. والأخرى: عقود الصيانة والإدارة طويلة المدى. بالإضافة إلى التطور الاقتصادي، فإنه سيعقبه نمو صناعة أخرى، وهي صناعة أمن شبه الجزيرة العربية، فالشركات المدنية المتخصصة في الصناعات العسكرية، والهيئات الصناعية التابعة للجيش الأمريكي، سوف توقّع عقوداً سخية، بالإضافة لعقود صيانة. ووجود هذه الشركات سيتطلب مجدداً مشروعات هندسية، من بناء وعقارات ومطارات وقواعد عسكرية، وكل مشروعات البنية التحتية المرتبطة بمثل هذه المواقف. وبهذه المشاريع تتم عمليه غسيل نظيفة لأموال (المملكة العربية السعودية).
كانت (السعودية) بالنسبة لهم كالبقرة الحلوب. وقد تمّ إقناع العائلة المالكة بشأن هذه الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة، من خلال أحد ملوك الأسرة الحاكمة، وحينها وافقت الأسرة المالكة (السعودية) على العرض بأكمله، وكوفئت شركة (MAIN) بعقد مربح من أعلى مستوى، تحت إشراف وزارة الخزانة الأمريكية.

الإكوادور
 تمّ اقتطاع مدينة (شل) من غابات (الأمازون)، وبنيت لتخدم شركة البترول التي تحمل اسمها، ويوجد بها قاعدة عسكرية، أغلب سكانها من الجنود وعمال البترول، إضافة إلى السكان الأصليين، الذين يعملون لخدمة عمال البترول بالأشغال الشاقة والبغاء. كانت أول زيارة لـ(جون بيركنز) سنة 1968، حيث تمّ اكتشاف البترول لأول مرة من قبل (شركة تكساسو)، في منطقة (الأمازون)، في (الإكوادور) - وكان أول انطباع له عن البلد بأنها مسالمة ونقية – .. أما اليوم فيمثّل البترول ما يقرب من نصف صادرات هذه البلاد، فعقب زيارته مباشرة مدت الأنابيب، والتي تسببت في تسريب نصف مليون برميل من البترول إلى الغابات المطيرة، أدت إلى اختفاء مساحات كبيرة من هذه الغابات، وانقراض الحيوانات، واختفاء وشيك لثلاث حضارات، وتحولت الأنهار القديمة إلى حفر متوهجة، وذلك مما أدى ببعض الأهالي في (الإكوادور) إلى رفع شكوى سنه 2003 ضد (شركة تكاساسو)، مطالبين بمليار دولار تعويضاً عما لحق بأراضيهم من مخلفات البترول والمعادن، التي قدرت بحوالي أربعه مليون كالون يومياً، كانت تدفن في حفر تحت الأرض، وذلك ما بين عامي 71-92، وتسببت في مقتل الإنسان والحيوانات. ويعترف (جون بيركنز) بتأثيره على هذا البلد الجميل، فبسبب ما فعله فأنه قد ساءت أحوال البلد كثيراً عمّا كانت عليه من قبل!! ففي فترة 1970، وخلال ما عرف بمرحلة الازدهار البترولي، ارتفعت نسبة الفقر من 50-70%، وازدادت البطالة من 15 -70 %، وزادت الديون العامة من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، وتدنت حصة الطبقات الفقيرة من المصادر القومية من 20 – 6 %
لقد أسهمت مشاريع قتلة الاقتصاد في زيادة مديونيات (الإكوادور) الخارجية، وأصبح عليها أن تخصّص جزءاً من ميزانيتها لتسديد هذه الديون، بدلاً من استخدام رأسمالها لمساعدة الملايين من المواطنين المصنفين تحت خط الفقر المدقع.. أما سبيلها الوحيد لسداد هذه الديون، فهو ببيع غاباتها لشركات البترول.. ويعترف القاتل الاقتصادي بأن هدفهم من إغراق (الإكوادور) بالديون كان لأنها تسبح فوق بحر من البترول، متمثلاً في (غابات الأمازون)، فكان من الواجب حلبها حتى أخر قطرة بترول!! أما الاستفادة التي تعود بالفائدة على (الإكوادور) من بيع بترولها، فمن بيع كل 100 دولار من عائد المواد الخام، تتحصل شركات البترول على 75 دولار، والـ 25 دولاراً المتبقة يذهب ثلاث أرباعها لسداد الديون الخارجية، ومعظم ما يتبقى يذهب لتغطية شؤون الجيش، وغيره من النفقات الحكومية. أما المواطنون المحتاجون، الذين تؤثر السدود، والأنفاق، وخطوط الأنابيب، وتسريباتها، على حياتهم بشدة، ويموتون من نقص الطعام والماء الصالح للشرب، فلا ينالون منها إلا الأقل من 3 دولار !!
عانت (الإكوادور) طويلاً من الحكم الدكتاتوري، وحكومة الأقليات، من الجناح اليميني الخاضع لمصالح الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية، وواجهت غزوة كبرى للديموقراطية الأكوادورية، فقد سُرق فيها بترول الإكوادور، وفي المقابل بُنيت الطرق، والمنشآت الصناعية، بالإضافة إلى السد المقام عليه محطات توليد الكهرباء، والتي ساهمت في إثراء شركات الهندسة الأمريكية!
جاء (خايمي رولدوس)، وهو شخصية قيادية قوية، وقائد شعبـي ووطني، لمع نجمه في سماء (الإكوادور)، فقد كان استثناءً من قاعدة فساد الساسة، واقترافهم للجرائم، يؤمن بحقوق الفقراء، ودور رجال السياسة في الاستغلال الأمثل لثروات البلاد الطبيعية، في تأمين عيش راغد لفقراء بلده. بدأ حملته الانتخابية للرئاسة في عام 1978، وكان الفقراء من شعبه يرجون فيه الخلاص مما تعانيه دولتهم من استغلال وظلم وقهر.. كان من رجال السياسة الذين لا يخشون شيئاً، وكان يسعى لكشف ما وراء شركات البترول والنظام الذي يدعمها. فمن الأشياء التي سلط (رولدوس) عليها الضوء، واتهمها بالتواطؤ مع شركات البترول، كان معهد اللغويات الصيفي SIL ، وهو مجموعة تبشيرية إنجيلية!! عملت هذه المجموعة بتوسّع مع قبيلة (هيوارني)، في منطقة حوض (الأمازون)، وما أن أعلن الجيولوجيون احتمالية وجود بترول في منطقة معينة، أسرعت مجموعة SIL وشجّعت أهل هذه المنطقة على الانتقال إلى مكان آخر، تحت حماية الإرسالية، على وعد بأن تمنحهم الطعام والشراب والملبس والرعاية الصحية والتعليم مجاناً، مما يضطر أهل المنطقة لتسليمها لشركات البترول. ولم يكتفوا بهذا فقط، فقد كانوا يقدمون لهم طعاماً ممزوجاً بمواد تسبب الإسهال، ثم يقدمون لهم الأدوية التي تعالج هذا الإسهال!! لقد وقف (رولدوس) في وجه النظام القائم، رافضاً استغلال ثروات بلده من قبل شركات البترول، باحثاً عن حقوق شعبه. وتنبأ المثقفون من كلا البلدين، بأن أصحاب المصالح الاقتصادية لن يسمحوا أبدا لـ(رولدوس) أن يصبح رئيساً، أما إذا انتخب، فقد يواجه مصيراً كمصير (آربنز) في (كواتيمالا) (وهو الاغتيال)!!! وبالفعل أنتخب (رولدوس) رئيساً لـ(الإكوادور) سنة 1979، وفي خطاب توليه الرئاسة حدّد الخطوط العريضة للسياسة التي ستتبعها بلده تحت إمرته، فقال: "علينا أن نراجع أنفسنا للحفاظ على مصادر أمتنا من الطاقة. وعلى الدولة أن تحافظ على تنوع الاستثمارات في صادراتها، وألا تفقد استقلالها الاقتصادي. إن قراراتنا ستنبع فقط من المصلحة القومية والدفاع بلا حدود عن استقلالنا، وحقنا في تقرير المصير". في ذلك الوقت كان (كارتر)، رئيس الولايات المتحدة، وقد كان رئيساً هدفه الأكبر سلام العالم، ويكرّس نفسه لتقليص اعتماد الولايات المتحدة على البترول، ولكن ذلك مما لم يكن ليعجب صناع القرار في (أمريكا)، ولذلك لم يحظ بفترة انتخابية أخرى، واستبدل في نوفمبر 1980 بـ(رونالد ريغن)، الذي كان يرى (أمريكا) في قمة الهرم العالمي، محرزة مكانتها بالقوة العسكرية، ويرى السيطرة على الحقول البترولية - أينما وجدت- جزءاً من سياسة (أمريكا) التوسعية.
في بدايات عام 1981 قدمت حكومة (رولدوس) قانون الهيدروكربون الجديد (قانون منظم لاستكشاف وبيع البترول، ومشتقاته، والغاز الطبيعي) إلى مجلس تشريع (الإكوادور)، والذي إذا نفّذ سيعمل على إعادة تشكيل علاقات الدولة بشركات البترول، ويعدّ - على عدة أصعدة- خطوة ثورية وراديكالية، وكان تأثيره سيمتد إلى كثير من بلاد (أمريكا) اللاتينية، وحول العالم. وتصرفت شركات البترول كعادتها، وذهبوا يشوهون في سمعة (رولدوس)، وانطلق اللوبي المناصر لهم إلى (واشنطن) بجعبة من التهديدات والرشاوي، ولكن (رولدوس) لم يكن ليتراجع أمام هذه التهديدات، وأمر بطرد SIL من بلاده، متهماً إياها بالتآمر مع شركات البترول. بعد بضعة أسابيع على صدور التشريعات، ويومين على طرد الإرسالية، ألقى (رولدوس) خطاباً مهماً حذّر فيه أصحاب المصالح الأجانب إن لم يضعوا خططاً لمساعدة شعب (الإكوادور)، فسيرغمون على مغادرة بلاده، وتوجه بعد الخطاب إلى قرية صغيرة، في جنوب الإكوادور، وهناك لقي مصرعه في حادث تحطم طائرة مروع، صدم العالم أجمع في مايو1981!! تصاعدت الشكوك، واتجهت أصابع الاتهام إلى رجال المخابرات الأمريكيةCIA ، حتى لقد أعلنتها بعض الصحف صراحة، خاصة مع وضوح كراهية (واشنطن)، وشركات البترول، له، إضافة إلى ظهور كثير من الشكوك تدعم هذه المزاعم.
تولى (أوزفالدو أورتادو) رئاسة (الإكوادور)، فأعاد SIL ، ومنحهم (فيزا) خاصة، كما أطلق بنهاية العام برنامجاً طموحاً لزيادة التنقيب عن البترول، أعطاه لـ(شركة تكساسو) للبترول، أحد الشركات الأمريكية في حوض الأمازون. وهذا هو مصير كل من يفكر في معارضة مصالح النظام العالمي وصُناع القرار .. للمزيد اقرؤوا كتابه بالتفصيل!..

المصادر
كتاب جون بيركنز (اعترافات قاتل اقتصادي)،
مقابلات (جون بيركنز) في المحطات الإعلامية،

مقالات منتقاة متعلقة بهذا الموضوع، كتبها أكاديميون ومتخصصون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق