د. أياد كامل
الزيباري
فاكولتي العلوم الإنسانية/ جامعة زاخو
الفرع
الأول: مفهوم الموازنات
أولاً: في اللغة:
الموازنات جمع موازنة، قال )ابن فارس( في
بيان أصل اشتقاق الكلمة: "الواو والزاء والنون، بناء يدل
على تعديل واستقامة"(1).
والوزن ثقل شيء بشيء.. ووازنتُ
بين الشيئين مُوازنة ووزاناً. وهذا يوازن هذا، إذا كان على زنته، أو كان محاذيه(2).
والموازنة بمعنى المعادلة
والمقابلة والمحاذاة، يقال: وازنه أي بمعنى عادله وقابله وحاذاه(5).
ثانياً: في الاصطلاح:
عرف مصطلح الموازنة بتعاريف عدة:
منها: تعارض المصلحتين وترجيح
أحدهما(6)، أو ترجيح خير الخيرين، وشرّ الشرّين، وتحصيل أعظم المصلحتين
بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما(7).
ومنها: المفاضلة بين المصالح
المتعارضة والمتزاحمة، لتقديم الأولى بالتقديم منها(8).
ومنها: العلم الذي يتوصل به
المجتهد للترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، لاختيار الأولى، ليعمل به(9).
ويمكن
تعريف الموازنات، في باب التدرج في تطبيق الشريعة، بأنها: المقارنة والمفاضلة بين
الأحكام الشرعية المتقاربة، في أثناء التدرج في تطبيق الشريعة، لأجل ترجيح الأولى
منها بالعلم والتطبيق.
الفرع الثاني: من الذي يقوم
بالموازنات
الذين
يتصدون لهذا الأمر هم أهل الصنعة والاختصاص، وأهلها في الشريعة: الفقهاء
والمجتهدون، أو علماء الشرع. وهم الذين تتوفر فيهم شروط عديدة، وصفات حميدة،
ومعرفة ودراية بعلوم مختلفة، تساعدهم على فهم الواقع، والقدرة على الموازنة،
والمفاضلة عند التعارض. ومن هذه العلوم(10):
1- العلم
بمقاصد الشريعة، من خلال معرفة الضروريات والحاجيات والتحسينات، ومعرفة المقاصد
الأصلية والتبعية.
2- معرفة
فقه المصالح، من خلال قواعدها، ودرجاتها، إذ لكل حكم شرعي غاية ومصلحة، هي العلة
في تشريعه.
3- العلم
الوافي بالفن الذي تتعلق به الموازنة، من الجانبين الشرعي والمادي، كما لو كانت
الموازنة في قضية اقتصادية، أو اجتماعية، أو غير ذلك. وهنا يمكن الإفادة من أصحاب
العلوم المادية، لبيان الجوانب المتعلقة بالحكم الشرعي فيها.
4- فقه
الواقع الذي ستطبق فيه نتيجة الموازنة، إذ إن له اعتباراً كبيراً في ترجيح أحد
أطراف الموازنة على غيره.
الفرع الثالث: أهمية مراعاة فقه
الموازنات
إن لمراعاة فقه الموازنات أهمية
كبيرة، ويتبين ذلك في النقاط الآتية:
1- فقه
الموازنات من صفات أصحاب الهمم العالية، والعقول الراجحة، الذين يمكنهم اختيار
الأحسن والأصوب بين الأقوال والأشياء. قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ، وَأُولَئِكَ
هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (11)
.
2- فقه الموازنات لا بد منه
للفقيه والمجتهد(12). ويتبين ذلك في بعض القواعد الفقهية، مثل:
أ-
(الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف)(13).
ب- (إذا
تعارضت مفسدتان، روعي أعظمُهُما ضرراً، بارتكاب أخفّهما)(14).
ج-
(يختار أهون الشرين)(15).
3- فقه الموازنات سبيل للخروج من
كثير من مسائل الخلاف(16)، باختيار الأنسب لكل مسألة يحسبها، وفقاً لما
تحققه من مصالح، وتدفعه من مفاسد.
4- فقه
الموازنات لا بد منه في الدعوة إلى الله عز وجل(17)، ووجه ذلك أن النبي
(صلى الله عليه وسلم) وجد أن إسلام أحد العمرين (عمر بن الخطاب، أو عمر بن هشام
أبو جهل) لا بد منه لنصرة الإسلام في مكة، وهذا منتهى الموازنة، فدعا الله سبحانه
فقال: (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك،
بأبي جهل أو بعمر ابن الخطاب)، قال: وكان
أحبهما إليه: عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)(18).
5- فقه
الموازنات سبيل للوصول إلى روح الشريعة، وأهدافها، فلا يعطل النص بدعوى المحافظة
على مقاصد الشريعة، ولا تهمل المقاصد بالنظر إلى ظواهر النصوص، فهو يوازن بين هذا
وذاك(19).
وذلك أن
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، لم يقطع يد السارق في (عام الرمادة)، مع أن الآية
صريحة في قطع يد السارق، إذ قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ)(20)، وذلك أن (عمر) (رضي الله عنه) لم
يعطل حداً استوفى شروطه، وانتفت موانعه، بل إن الحد لم يجب أصلاً لوجود الشبهة، أو
لتخلف شرطه، وهي المجاعة العامة(21) .
6- فقه الموازنات لا بد منه في
السياسة الشرعية، وإن غيابه يؤدي إلى اختلال العلاقات بين الأفراد والجماعات
والدول(22). ويؤيد ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (.. وَإِنَّ
اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ)(23)، وقول
الإمام (أحمد) - رحمه الله- عندما سُئِلَ مع من يُغزى: عن الرجلين يكونان أميرين
في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف؟ فقال: "أما الفاجر القوي، فقوته
للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه، وضعفه على
المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر"(24).
7- إن
مراعاة فقه الموازنات، بالإضافة إلى فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الأولويات، هو
الطريق الأمثل للنهوض بالأمة من هذا الواقع الذي تعيشه، والسبيل إلى تطبيق الشريعة
بأكمل وجه(25).
الفرع الرابع: علاقة إعمال الموازنات
بالتدرج في تطبيق الشريعة
لإعمال
الموازنات صلة بالتدرج في تطبيق الشريعة، ويمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
1- إن
التدرج في تطبيق الشريعة يقوم في مجمله على تقديم بعض الأحكام على بعضها الآخر في
التطبيق، وهذا التقديم لا يكون بالاعتبار أو التشهي، بل على وفق قواعد عديدة تحكمه
وتنظمه، ولعل من أبرزها وأهمها: إعمال الموازنات بين الأحكام المتقاربة التي لا بد
من تقديم أحدها في التطبيق، لأهميتها وسهولة تطبيقها، قبل غيرها(26).
2- عند
إعمال الموازنات في تطبيق الأحكام، لا بد من مراعاة قواعد التعارض، والترجيح،
ومقاصد الشريعة العامة، التي ذكرها العلماء، وهي:
أ- محاولة تطبيق الأحكام الشرعية
القطعية التي وردت فيها النصوص، لأن الأصل العام هو التزام المكلف بجميع الأحكام
الشرعية، استجابة لأمر الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ)(27).
ب- محاولة الجمع بين الأحكام
الشرعية، بتطبيقها جميعاً، وهذا ممكن في بعض الأحوال، مثلاً: من خلال عرض الأحكام
الشرعية على ميزان الوقت، فربما يظهر إمكانية تطبيقها جميعاً، بحيث يكون بعض هذه
الأحكام موسعة الوقت في أدائها، وبعضها مضيقة، فتقدم المضيقة في الأداء، ولو كانت
مفضولة، ثم تؤدى الموسعة، وبهذا ينتهي التعارض(28).
ج- وأما عند تعذر الجمع، فيتمّ
الاجتهاد بترجيح أحد الأحكام، فيقدّم في الأداء والتطبيق. يقول الإمام (العز بن
عبد السلام)(29): "إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن
تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها، حصلنا الأصلح فالأصلح، والأفضل فالأفضل، لقوله
تعالى: (وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ
الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ) (30)،
وقوله تعالى: (وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ((31). وعلى الموازن أن يعتمد في
الموازنة بين الأحكام، على موازين الترجيح بينها، باعتبار قوتها وأهميتها، فيقدم
الفاضل على المفضول، ويقدّم الحكم المتضمن لمصلحة كبرى، على الحكم المتضمن لمصلحة
صغرى(32).
د- عند عدم القدرة على الترجيح،
وتساوي الأحكام، وعدم تبيّن الراجح منها، فيكون العمل، كما ذكر (العز بن عبد
السلام): "إذا تساوت المصالح، مع تعذّر الجمع، تخيّرنا في التقديم والتأخير،
للتنازع بين المتساويين"(33)، وبهذا يحقق التدرج مزيد قرب لقواعد
الشريعة ومقاصدها.
3- إن إعمال الموازنات له صلة كبيرة بمعرفة
الأولويات – التي هي من أهم قواعد التدرج في التطبيق– لتطبيقها في أثناء التدرج في
تطبيق الشريعة، إذ إن لمعرفة الأولويات طريقين: أحدهما: عن طريق النص، والآخر: عن
طريق الاجتهاد. و(الموازنات) وسيلة مهمة من وسائل الاجتهاد لمعرفة الأولويات.
الهوامش
([1]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج6،
ص 107، مادة: وزن.
(2) ابن
منظور، لسان العرب، ج13، ص446.
(3) سورة
الحجر: الآية ( 19) .
(4) حسن
مخلوف، صفوة البيان لمعاني القرآن، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الإمارات، ص336.
(5) الفيروز
آبادي، القاموس المحيط، ص 1751.
(6) ابن عبد
السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (ت660هـ)، مؤسسة الريان، بيروت، 1410هـ- 1990م،
(د.ط)، ص48.
(7) ابن
تيمية، مجموع الفتاوى، ج20، ص 48.
(8) عبد الله
الكمالي، تأصيل فقه الموازنات، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1421هـ-2000م، ص49 .
(9) بكر محمد
إبراهيم أبو حداد، دور المقاصد في توجيه الحكم بين الرخصة والعزيمة، رسالة ماجستير
مقدمة إلى الجامعة الإسلامية بغزة، سنة 1430هـ- 2009م، ص 28 .
(10) عبد الله
الكمالي، تأصيل فقه الموازنات، ص 76 .
(11) سورة
الزمر: الآية (18) .
(12) د. يوسف القرضاوي،
السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، ص 300 .
(13) ينظر:
الشيخ أحمد محمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، تحقيق: مصطفى أحمد الزرقا، دار
القلم، دمشق، ط1، 1409هـ- 1989م، ص 199 ؛ ود. عبد الكريم زيدان، الوجيز في شرح
القواعد الفقهية، ص 94 .
(14) ابن
نجيم، الأشباه والنظائر، ص 89 .
(15) ينظر:
الشيخ أحمد محمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، ص 117 ؛ ود. عبد الكريم زيدان،
الوجيز في شرح القواعد الفقهية، ص 98 .
(16) د.
يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، ص 302 .
(17)
د. محمد سليم العوا، الفقه الإسلامي في طريق
التجديد، المكتبة الإسلامية، القاهرة، ط2، 1419هـ- 1998م، ص260.
(18)
الترمذي، السنن، ك المناقب، ب في مناقب أبي حفص عمر
بن الخطاب، رقم الحديث 3681 .
(19) عبد الله
يحيى الكمالي، تأصيل فقه الموازنات، ص 101.
(20) سورة
المائدة: الآية (38) .
(21) ابن
القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص 17-18 ؛ ود. يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية في ضوء نصوص
الشرعية ومقاصدها، ص 206.
(22) د. سليم
محمد العوا، الفقه الإسلامي في طريق التجديد، ص 199؛ وناجي إبراهيم السويد، فقه
الموازنات،ص198.
(23)
البخاري، الجامع المسند الصحيح، ك الجهاد والسير، باب: إن الله يؤيد هذا الدين
بالرجل الفاجر، رقم الحديث3062؛ ومسلم، الجامع الصحيح، ك الإيمان، ب غلظ قتل تحريم
قتل الإنسان نفسه، رقم الحديث 319.
(24)
ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي
والرعية، ص 22 .
(25)
د. عبد الحميد الغزالي، سنة التغيير والحل الإسلامي، دار التوزيع والنشر الإسلامي،
القاهرة، ط1، 1412هـ- 1992م، ص 16.
(26)
زياد عبد الله الفواز، التدرج في تطبيق الشريعة، ص
90.
(27)
سورة المائدة: الآية(47) .
(28)
عبد الله الكمالي، تأصيل فقه الموازنات، ص 104.
(29) العز
بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج1، ص 53 .
(30)
سورة الزمر: الآيتان ( 17-18) .
(31)
سورة الأعراف: الآية ( 145) .
(32)
عبد الله الكمالي، تأصيل فقه الموازنات، ص 110.
(33)
العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح
الأنام، ج1، ص 75.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق