قراءة: أ. د. عماد الدين خليل
إن حضارة الإسلام، وتاريخه عموماً – كما لاحظ كثير من المؤرخين
والمستشرقين – هي حضارة (الوحدة والتنوّع)، ولقد انعكس ذلك على ظاهرة نشوء الدويلات
والكيانات الإقليمية في عالم الإسلام. فصرنا نجد تنوّعاً في التشكيلات السياسية التي
انشقت عن جسد الدولة، ونجد في الوقت نفسه وحدة وتجانساً وتكاملاً في العطاء الحضاري،
وفي الأساليب والأهداف الكبرى. وفيما عدا حالات محدودة شاذة عن القاعدة الشاملة، حالات
ظهر فيها عدد من الدويلات تبنّت مبادئ وعقائد باطنية وشعوبية، ذات جذور غريبة عن عقيدة
الإسلام وتصوّراته وقيمه، ومارست قواها الذاتية لا في الدفاع عن أرض الإسلام وعقيدته
ووحدة مقدّراته، وإنما ضدّها (كما فعلت دولة قرامطة البحرين، على سبيل المثال)، بل
إن بعضها (كالدولة البابكية في أذربيجان) سعت إلى عقد محالفات ومواثيق مع الأعداء الخارجيين
المتربصين
على الحدود.. فيما عدا هذه الحالات، فإن معظم التشكيلات السياسية التي شهدها
عالم الإسلام، شاركت - حسب قدراتها وطاقاتها - في خدمة وحدة هذا العالم عقدياً وسياسياً
وحضارياً، ولن تغني الأمثلة الموجزة هنا عن واقع تاريخنا نفسه.
إن حضارة الإسلام إذ تقوم على قاسم مشترك من الأسس والثوابت
والخطوط العريضة ، بغضّ النظر عن موقع الفعالية الحضارية في الزمان والمكان، وعن نمطها
وتخصّصها، فإنها تنطوي – في الوقت نفسه – على حشد من الوحدات المتنوّعة بين بيئة ثقافية
وأخرى، في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تمنح خصوصيات معينة
لكل بيئة، تجعلها تتغاير وتتنوع فيما بينها في صنوف من المفردات والممارسات.
إنها جدلية التوافق بين الخاص والعام، أو ما يمكن عدّه أممية
إسلامية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى - في الوقت نفسه
- لأن تجمعها على صعيد الإنسانية. وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الماركسية
التي سعت، ابتداءً وبحكم قوانين التنظير الصارمة، إلى إلغاء التنوّع، ومصادرته، وإلى
تحقيق وحدة قسرية، ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم قدرتها على التحقّق تاريخياً. وبمجرد
إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي (المنحّل)، حتى قبل حركة (البيروسترويكا)،
والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الماركسية، من قبل الجماعات والأقوام والشعوب
التي تنتمي إلى بيئات ثقافية واجتماعية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي
من تبلور كيانات ثقافية واجتماعية إقليمية متغايرة، في إطار وحدة الثقافة الإسلامية،
وثوابتها، وأسسها الواحدة، وأهدافها المشتركة، يتبيّن مدى مصداقية المعالجة الإسلامية،
وواقعيتها في التعامل مع ثنائية الوحدة والتنوّع، كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت
بالقدرة نفسها من الانفتاح في الرؤية والمرونة في العمل.
لقد شهد عالم الإسلام، بموازاة التنوّع السياسي، أنشطة معرفية
متمايزة، وثقافات شتى، على مستوى الأعراق التي صاغتها: عربية، وتركية، وفارسية، وكوردية،
وصينية، ومغولية، وبربرية، وإسبانية، وزنجية، وأفغانية، وسلافية.. إلى آخره.. كما شهدت
أنماطاً ثقافية، على مستوى البيئات والأقاليم: عراقية، وشامية، ومصرية، وسودانية، ومغربية،
وإسبانية، وبحر متوسطية، وأفريقية، وأوروبية شرقية، وإيرانية، وتركية، وكوردية، وتركستانية،
وصينية، وهندية. وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها بحرية، وتعبّر من خلاله عن خصائصها،
وتؤكد ذاتها، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية، بدءً من قضية اللغة والأدب، وانتهاءً
بالعادات والتقاليد، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة. ولم يقل
أحد إن في هذا خروجاً عن مطالب الإسلام التوحيدية، كما أن أحداً لم يسع إلى مصادرة
حرية التغاير هذه. وفي المقابل، فإن أياً من هذه المتغيرات لم يتحول – إلاّ في حالات
شاذة – إلى أداة مضادة لهدم التوجهات الوحدوية الأساسية لهذا الدين.
لقد منحت كل الشعوب والجماعات، التي انضوت تحت مظلة هذا الدين،
فرصتها في الحياة والتحقّق والتعبير عن الذات. لقد كان المجال مفتوحاً بمعنى الكلمة،
حيث سمح حتى للعبيد والمماليك أن يواصلوا الصعود إلى فوق، ويشكلوا دولاً، بل إن غير
المسلمين أنفسهم، منحوا حقهم المشروع في المجالين المدني والديني على السواء، فليس
ثمة يهودي أو مسيحي، أو مجوسي أو بوذي أو صابئي، لم يجد الطريق مفتوحاً أمامه للتعبير
عن ذاته وقدراته، وممارسة حرياته الدينية، وأخذ موقعه المناسب في نسيج الحياة الاجتماعية،
أو دوائر الإدارة والمال.
في ضوء هذه المعطيات وقع الاختيار على موضوع (الأوضاع الإدارية
والاقتصادية والاجتماعية للإمارات الإسلامية ببلاد إيران في القرنين الثالث والرابع
للهجرة / التاسع والعاشر للميلاد: الوحدة والتنوّع). وكانت الفكرة أن يمضي البحث لمعالجة
السياقين الآخرين: العمراني والفكري الثقافي، لولا اتساع الموضوع، وتجاوزه الحدّ المطلوب
في تعليمات أطروحات الدراسات العليا.
ولقد كان الباحث عند حسن الظن في جدّيته المدهشة، وتعامله
مع موضوعه بعشق،
واتقانه لعمله، تنفيذاً لتعاليم رسول الله (صلى الله عليه
وسلم): ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). وقد دفعه هذا إلى بذل أقصى درجات
الجهد من أجل ألاّ يترك أيّما ثغرة في بحثه.. بدءً بترتيب قائمة مصادره ومراجعه، الذي
دفعه للسفر خارج العراق أكثر من مرة، وإلى المحافظات العراقية مراراً.. وبترجمة العديد
من المصادر والمراجع من لغاتها الأصلية إلى العربية.. وقد كلّفه هذا وذاك ما يقرب من
عشرة ملايين دينار.
وعند مناقشته في أطروحته هذه أمام لجنة من الأساتذة المتخصصين،
عرف بتمكن واقتدار كيف يجيب على كل التساؤلات التي عرضت عليه، فيما دفع اللجنة، فضلاً
عن جهده المثابر في إنجاز أطروحته، إلى منحه درجة (الامتياز) فيما هو له أهل وبه جدير.
إن موضوع (الوحدة والتنوّع)، الذي يمثل الجملة العصبية لتاريخنا
الإسلامي، على امتداده في الزمن والمكان، يمكن أن يكون موضوعاً نمطياً يفتح الباب على
مصراعيه لدراسات مماثلة، قد يتناول فيها هذا الطالب أو ذاك، من طلبة الدراسات العليا،
مجموعة من الإمارات المتجاورة في الزمن أو المكان، بحثاً عن عناصر وحدتها وتنوّعها،
وهي فرصة جيدة للاختيار، في زمن شحّت فيه الموضوعات الصالحة للبحث، بسبب كثرة ما أنجز
من رسائل وأطروحات، كادت تغطي جلّ تفاصيل التاريخ الإسلامي في سياقيه السياسي والحضاري
معاً.
ولقد أتيح لي أن أتعرّف على الباحث (حسين إبراهيم محمد) منذ
أيام تدريسه ومجموعته في السنة التحضيرية الأولى للدكتوراه، فرأيت فيه ذلك الطالب المتقّد
ذكاءً وجدية ورغبة في تقديم عمل يستحق التقدير.
وها هو ذا يحظى بأمنيته، فيجد كتابه فرصته المواتية للنشر
من قبل (مؤسسة الوقف السنّي)، التي طالما طلعت على القرّاء بأعمال متألقة، تعرف كيف
تختارها من أجل نشر الوعي الثقافي السليم بين الناس.
ومن الله وحده التوفيق ، وإليه وحده نتوجه بالكلمات والأعمال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق