04‏/10‏/2016

أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل

أمين حجي محمد أمين الدوسكي
يجلو وفق المقولة الحِكَمِيَّة تلك وبانضواء التنظيم التدرجي لأفعال الإنسان في ظلها - من حيث ضرب نموذج فكرة الإيواء تحت سقف؛ والتي بالعمل تكون آخر شيء في البناء؛ لأن الأس والحوائط تتقدمه، وبالفكرة تكوّن أول شيء في الفكر يرُى؛ ومن حيث أن أول العمل في البناء هو الأساس؛ فهو آخر الفكرة في تدرج تنظيم العمل عليه والابتناء.. إن البناء والابتناء سواء كان أولاً أو آخراً مقرون بالفكرة؛ فالفكرة هي خميرة البناء وأسّ المضي إلى العلا؛ والدليل على ذلك؛ أن بناء ما تبتنى عليه الحياة في شتى المجالات؛ مقترن بالفكرة التي رتبت ودرجت له العمل المتلازم للبناء عليه.
والفِكرة هي عُملَةُ العقل؛ لأنّ الفكر هو إعمال العقل؛ وإذا كان العقل معمولاً لأجل الفكرة؛ فهو حقاً كالعملة في تعريفه لها، والفكرة الكاملة هي المبنية على العلم، حتى يبنى عليها كامل البناء؛ ويكمل بها البناء والابتناء!
وعليه، لقد توصلنا؛ إلى أن الإنسان المشخص يكون في الرتبة بعد الفكرة، لأن حياته المقرونة بالبناء متراخية عن الفكرة، والبناء المشخص - الذي يمثل كافة الأشياء المسخرة للإنسان - يكون في الرتبة الثالثة، أي بعد شخص الإنسان، لأنها بفكر الإنسان تكون، ولأجله تقنّن!
والإنسان المشخص جُعلت رتبته بعد الفكرة؛ لأجل الإنسان المميز الذي هو الإنسان المعنوي، التي تدخل تحت اسمه كل معاني الإنسانية من العدل والخُلُق والقِيَمِ والتكريم وغيره؛ وبهذا المعنى تكون الفكرة بعده في الرتبة، والشيء يكون بعد الفكرة في الجزاء والمرتبة..
فإذا قدم الإنسان المشخص مرتبته على الإنسان المميز، فقد قدّم شخصه على فكره وفكر قرنائه، فيظلم، ويتعس به الآخرون. أما إذا أخّر شخصه بشخص الإنسان المميز عليه؛ فقد قدّم الفكرة - الذي العقل هو عملته - على شخصه، ويؤخّر حينها نتاج فكره لأجل نوعه الحقيقي؛ فيسعد على حساب تعب الشخص، وهو سنّة الكون في الرقيّ والتقدم!
فلما سبق، إذا أنعمنا النظر فيما نحن فيه من تقلبات، وهي أشبه بتقلبات المحتضر والمغمور في كربات الموت وسكراته، وعلى النقيض تجد تقلبات آخرين في العيش الكريم والرقي المستديم في الحضارة المادية؛ فتجد السبب؛ أن الناس اليوم بين مقدس لفكرة أو لشخص أو لشيء، والأول استطاع أن يُعبّدَ الآخرين لفكره، والثاني استطاع أن يُعَبّدَ الناس لشخصه، والآخر استطاع أن يعبد الناس لأشيائه فقط.. والنجاح والنصرة وضمان البقاء نصيب الأول، والضعف والهوان والخسران نصيب الثاني، والزوال والانعدام والاضمحلال جزاء الأخير.. لأن الأول جعل من الشخص والشيء خادمين للفكرة، والفكرة تشمل غذاء العقل - والذي هو العلم - وتشمل غذاء الروح، والذي هو العمل بخاصة العلم، وهو معرفة موجد العلم وبارئه - ويشمل غذاء البدن الذي معرفة ما يصلح للبدن من الغذاء، ولا يتأتى ذلك إلا بالعلم.. والثاني جعل من الفكرة والشيء خادمين للشخص، ولا قوة للشخص بذاته إذالم يقترن به العلم وخاصته.. والأخير جعل الفكرة والشخص خادمين للشيء الذي بقائه وحقيقته مقرونة بالفكرة، فيزول بزوال الفكرة، وذلك بجعل الشيء هو الأصل، والفكرة هي الخادمة والتبع.
وما بيناه هو فلسفة الإسلام وجوهره، فالحق الذي هو منهج الحق ورسوله هو الأصل، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاْسْلاَمِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهو في الاخرة من الخاسرين)، وقال: [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] النساء:80، وجعل الحق تعالى؛ الأشخاص والأشياء تبعاً لنهجه وفكرته وشرعه، وحذّر ممّا يضاده، بقوله: [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]، 24 التوبة.
ولو تتأمل في حال المسلمين اليوم ترى أنهم يتضادُّون مع فلسفة الإسلام؛ إذ يستخدمونها لشخوصهم وأشيائهم بدل استخدام الأشخاص والأشياء لخدمة الإسلام، ولذلك تراهم يقدّسون الأشخاص والأشياء على الفكرة والمنهج والحق، بل ربما تجد من يجعل من فكرة الشخص وفهمه؛ هو الحق المطلق والدين المبين، وترى الآخر يجعل من الشخص هو الملاذ وهو القانون وهو الأمة، فينصهرون ويذّوبون الحق والشعب وخيرة الخلق في ذات الشخص ذلك، والأسوأ منه أنك قد تجد من يذّوب الشخص والحقّ في أشيائه، فتصبح معرفة الحقّ تبعاً لوجود المنكر، وإلا فهو منكر، ولذا فإذا قام بالحق وقاوم الباطل فلأجل أن يستخدمه لا ليخدمه.
وبذلك انتشر الظلم بينهم، ورفع العدل عندهم؛ لأنهم قدموا الهين على العزيز، والمعدوم الفاني على الباقي، والباطل على الحق، والشخصنة على الأمة والدولة وخيراتها؟!

أما شعوب الغرب فتجد أنهم استفادوا من فلسفة الإسلام تلك؛ بجعل (الفكرة) والمنهج والحق الذي يرونه هو الأصل، و(الشخص) تبع، و(الشيء) بذاته، حينها سيخدم الشخص الإنساني لا الشخص الأناني، ولذلك هم أذابوا الشخصنة والفردية والشيء في الفكر والمنهج وقضاياهم المصيرية، سواء كان الشخص يمثل الفرد أو الحزب أو الهيئة، وسواء كانت الفكرة تمثل الدولة أو الأمة أو المستقبل أو العدل أو المساواة أو احترام الكبير أو الرحمة بالفقير أو الخدمة للبلد، فانتشرت به روح السماحة بينهم، وشيم العدل عندهم، وراحة البال في أبدانهم، فانشغال العقل بما يهم ضرورياتهم، وما يتعلق به مصيرهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق