مع إشراقةِ نور الإسلام، الذي دعا إلى التوحيد الخالص، وكشف الحقيقة عن الانحرافات الخطيرة التي دخلت في الأديان السماوية، فضلاً عن الأرضيّة، ومع مجيء الشريعة السمحاء، التي تأمرُ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ومع الالتزام بالنظامِ القيميّ الأخلاقيّ المتوازِن لضبطِ سلُوك الفرد والمجتمع، تجمع طغاة الانحراف من رجال الدين، ومغتصبو حقوق الأُمم والشعوب من رجال الحكم، وطالبو اللذات والشهوات من دعاة الإباحية، لإطفاء هذا النور الإلهي، وحرمان الإنسان منه، أينما كان، ليتخلّص من عبوديّة العباد إلى عبوديّة ربِّ العباد، وينتقل من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، كما قال الصحابيّ الجليل (ربعيّ بن عامِر) أمام طاغية عسكر الفرس "رستم"، قبيل معركة القادسيّة.
تآمرَ اليهود في الداخِل على هذا الدين وأهله، وخطّطُوا لقتل رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، وإثارة الفتن بين المسلمين، وإضعافِ قوّة الوحدة الإسلاميّة، ونشر الشائعات والأكاذيب بين المسلمين، وتقوية جبهة النفاق
والشرك، ونصرة الباطِل في سبيل إزهاق الحق. غير أن قوّة المسلمين في عقيدتهم ووحدتهم رَدَّتْ كيدَهُم، وقبرت مؤامراتهم، وهزمت جيوشهم، فخرجُوا من هذهِ المعركة الكيديّة خاسئين خاسرين.
والشرك، ونصرة الباطِل في سبيل إزهاق الحق. غير أن قوّة المسلمين في عقيدتهم ووحدتهم رَدَّتْ كيدَهُم، وقبرت مؤامراتهم، وهزمت جيوشهم، فخرجُوا من هذهِ المعركة الكيديّة خاسئين خاسرين.
وعندما أقامَ الرسُول الكريم، وخلفاؤهُ الراشِدون، دولةَ الإسلام العادلة، وحضارته الزاهرة، وأنظمته الأخلاقيّة المتكامِلة، المنبثقة، متوازنة، من أسماء الله الحسنى، ارتعشت دولة الفرس والرومان، فأحسّوا بالخطر، ولما هزم جيوشَهُم جيشُ الإيمان واليقين والحق، لجأوا إلى التآمُر الظّاهِر والخفي، بعد أن سحقَ المسلمون دولتهم. فظهرَ عند الفرس في الحركاتِ الهدّامة، التي زعزعت المجتمع الإسلاميّ في القرون التي تلت القرن الأوّل.
وأمّا دولةُ الروم، التي ألحقت الجيوش الإسلاميّة في بلادِ الشام ومصر بها الهزائِم المنكرة، فقد بقيت تراقِبُ أوضاعَ المجتمع الإسلاميّ، وتخطط لتآمُر مكشوف، لتشويهِ الإسلام وعقيدته وشريعته وأخلاقهِ وحياة نبيه وأركان حضارته، أمام شعوبها المقهورة المستلبة الجاهِلة، لمنع وصُول نور الإسلام إليها، كي لا تنتفِضَ على طغاتِها ومؤسساتِها الظّالِمة.
خافُوا من التوحيد على التثليث، ومن النبوة على فرية الإله المتجسّد في الأرض، ومن العدل على الظلم والطغيان، فبدأوا يشنُّون حرباً قذرة على الإسلام ونبـيّ الإسلام، أمّا أسبابُ هذا الحقد، فيكمُن في النرجسيّة الأوروبيّة، التي توارثتِ الفلسفة الماديّة من اليونان، والتشريعات المنحرفة من الرومان، التي قدّستِ القوّة، وفتحت سبلَ الشهوات، تحت غطاء رقيق من روحانيّة الكنيسة، وأخلاقياتها المهلهلة.
بدأ هذا الهجُوم من داخِل البيت الإسلاميّ، الذي فتحَ ذراعَيْهِ لأهلِ الأديان جميعاً. ومن هؤلاءِ الأفاقين، الذين تسنّموا مناصِبَ عالية في البلاط الأُموي: (يوحنا الدمشقيّ)، الذي ثبت أنه كان يؤلِّف كتباً في ذمِّ الإسلام، والطعن فيه، وفي رسُولهِ، باتهامهِ باختلاق الوحي لإشباع رغباته الدنيويّة، فأصبح هذا الاتهام المحور التقليديّ لجميع كتابات القرون الوسطى(1).
والظّاهِر أن أمثالَ هؤلاءِ هم الذين اخترعُوا قصّة (بحيرا) الرّاهِب، حتّى يقولوا أنه هو الذي علّم محمَّداً لكي يثورَ على المسيحيّة(2).
لقد بدأ عصرُ تسميم الفكر الأوروبيّ تجاه الإسلام، منذ القرون الأُولى، فدفعتِ الكنيسة كثيراً من رجالاتِها لتأليف كتب مفتراة، لا تعتمِدُ على أيّ مصادِر إسلاميّة، أو علميّة، لمجرّد تشويهِ صورة الإسلام أمام أجيال الشعُوب الأوروبيّة. فالإسلامُ في نظرهم هرطقةٌ كافِرة، كان هدفُها الأساسُ القضاء على المسيحيّة بطرق سافلة، وهو مخرّب هدّام بدائيّ، يدعُو إلى إثارةِ الغرائِز الجنسيّة، يستعبد المرأة،، ويقرّ تعدُد الزوجات، وتفوح منه رائحة الوثنيّة، وهو دين دمويّ عنيف(3). والقرآن مجموعة من آيات خرافيّة متناقضة من عمل الشيطان، يمزّق الجماعات، ويدمّر الأخلاق، ويدعُو إلى الرذائِل، ويحوي كثيراً من الخرافات، ومحمّد كان كذاباً ومحتالاً وساحراً، يشرب الخمر، ويأكلُ لحم الخنزير، ويتمتع بالشهوات، وكان عدوّاً للمسيح، وكان كاردينالاً مُنشقّاً على البابوية، طمع في كرسيها، فلمّا خابت آماله ادّعى النبوّة، وكان لصّاً وقاتلاً وزير نساء وخائناً وفاجراً وشيطاناً وإرهابيّاً(4). وأمّا المسلمون فقد صوّروهُم بأنهم أولاد الشياطين، وأهل لواط، ومشركون يعبدون الأوثان(5). ووصل الأمرُ بهم إلى اختراع روايات خرافيّة عن المسلمين، منها أن رئيس أساقفة سالبوري، قتل في القاهرة على يد المسلمين عام 1101م، لأنه أقدم على تدمير الصنم الذي كانوا يعبدونه.
كان هذا التشويه الواسِع يحدث في أوروبا، وكانت الكنيسة تتولّى كبرها، في الوقت الذي كان النصارى واليهود في البلاد الإسلاميّة يتمتّعون بحقوقهم كاملة.
يقول المؤرّخ المعروف (ديورانت): "لقد كان أهل الذمّة المسيحيّون والزرادشتيّون واليهود والصابئة يستمتعون، في عهدِ الخلافة الأُموية، بدرجةٍ من التسامح، لا نجد لها في البلاد المسيحيّة مثله في هذه الأيّام. فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائِر دينهم، واحتفظُوا بكنائسهم ومعابدهم"(6).
وكثيرون من مؤرّخي الغرب، مثل: (بارتولد) في كتابه "تاريخ الحضارة الإسلاميّة"، و(آدم متز) في كتابه "الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ"، و(فاسيلييف) في كتابه "تاريخ الامبراطوريّة البيزنطيّة"، و(زغريد هونكه) في كتابها "شمس الله تسطع على الغرب"، يعترفون بهذهِ الحقائق في احتضانِ المسلمين لأهلِ الأديان والطوائف، كما فصل لهم دين الإسلام: كتاباً وسنة.
ولكن الغربيين لم يجابهوا هذه السماحة من المسلمين إلاّ بالتآمُر والنكران، فحاولوا هذه المرّة أن يُعمّقوا العداوة بخطط خبيثة، فأوجدُوا مؤسسات التبشير ثمّ الاستشراق.
ولم يكن التبشيرُ من أجل الدين في الحقيقة، وإنما من أجلِ التمكين لأوروبا من بلاد الإسلام. وبصددِ ذلك ألّفوا الكتب والأبحاث بمختلفِ اللغات، شنّت على المسلمين عداواتٍ لا نهايةَ لها، بأسلوبٍ يفتقرُ إلى الحدِّ الأدنى من الإنصاف والخلُق الإنسانيّ الكريم.
ولترسيخ هذه المفاهيم الباطلة، أمر البابا أن تدخل هذه الدراسات إلى المدارس والجامعات، وتلقى في المواعِظ على النّاس في الكنائِس والبيوت.
وبجانب ذلك، حرّفوا القرآن الكريم في ترجماتٍ هزيلة مُنحرفة، تحقّق أغراضَهم الشيطانيّة. وبذلك استطاعتِ الكنيسةُ أن تؤصِّل في نفوسِ الشعوب الأوروبية كراهيّة الإسلام والمسلمين، والنفور منه، ومنهم(7).
ولقدِ استمرّت هذهِ الحملةُ، ولم تتوقّف حتّى العصر الحديث، بلِ ازدادت ضراوةً، عبر استعمالها التقنيات المعاصرة.
ومن أعماق خطط التبشير ظهر الاستشراق، بحجّة البحث العلميّ، بقرار من مجمع فيينا الكنسي عام 1312م، وذلك لتأسيس عددٍ من كراسي الأستاذية في (العربيّة) و(العبريّة) و(اليونانيّة) و(السوريانيّة)، في جامعات (باريس) و(أكسفورد) و(بولونيا) و(أفينيون) و(سلامانكا)(8).
إن زرع هذهِ الأفكار الكاذبة عن الإسلام والمسلمين في نفوس الأوروبيين، جيلاً بعد جيل، كان تمهيداً طبيعيّاً للاستجابةِ الشاملة إلى صرخة البابا (بطرس النّاسِك)، تدعُو المسيحيين للتوجُّه إلى الشرق الإسلاميّ، لإنقاذ قبرِ المسيح من المسلمين الكفرة، حسب تعبيره، فهُيِّئت الجيُوش، ووهبت صكوك الغفران للجميع، وصاحب القسس والرهبان موجات هذا الغضب العارِم، ينفخون الحقد الأسود على المسلمين في نفوس القوم. فلمّا وصلُوا إلى أرضِ الإسلام، ارتكبُوا أفضعَ المجازِر في تلك الحرُوب، التي سمّوها بالحروب الصليبيّة، في موجات مُتلاحقة، استمرّت حوالي قرنين، وهي مِمّا أجمع عليهِ مؤرّخو الغرب والشرق، وغدت من التاريخ المتواتِر، الذي لم يستطع أحدٌ أن يشكّك فيه.
يقول المؤرّخ الأوروبي (ميشو): "ولما جاءوا معركة (معرّة النعمان) قتلوا جميعَ مَنْ كان فيها من المسلمين اللاجئين إلى الجوامع، والمختبئين في السراديب، وأهلكوا صبراً ما يزيدُ على مائة ألف إنسان، في أكثر الروايات".
وعندما جاء إلى كارثة القدس الشريف قال: "تعصّب الصليبيُّون في القدس أنواع التعصّب الأعمى، الذي لم يسبق له نظير، حتى شكا منهم المنصفون من مؤرخيهم. فكانوا يُكرِهون العربَ على إلقاءِ أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاماً للنّار، ويُخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض، ويجرونهم في الساحات، ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً، حتى قتلوا منهم -على ما اتفق على روايته مؤرّخو الغرب والشرق- سبعين ألفاً"(9).
وظلّ الغرب، بعد اندحاره في بلاد الشام، يتعاملُ مع الإسلام بحذرٍ شديد، ولم يكن من الممكن النظرُ إلى المسلمين إلاّ باعتبارهم وحوشاً وبرابرة وأعداءَ المسيح(10).
لقد التقت في الحروب الصليبيّة مصالح الحكّام الطغاة من النبلاء، بمصالح التجّار، مع رجال الدين المتعصّبين الحاقدين، الذين خلت قلوبهم من الإنصاف والرحمة والتسامح والإنسانيّة، فأحدثوا هذهِ المآسي المروعة في بلاد الشام ومصر، ودقوا أسفين العداوة بين الشعوب المسيحية والإسلاميّة. ولم يكتفوا بذلك، بل خطّطوا لحربٍ جديدة منظمة على الإسلام والمسلمين، تقومُ على أساس فتح المراكز في الجامعات والوزارات المختصّة، فأوجدوا نظامَ الاستشراق، الذي كانتِ الكنيسةُ تسيطر عليهِ سيطرة كاملة. وكان الهدفُ الأساس: تزييف الحقائق عن الإسلام، تحت مظلّة البحث العلميّ والموضوعيّ. قدّمت هذهِ الدراسات الموجّهة، صورةً مُشوّهة عن الإسلام، استمدّت موادّها من كتابات المبشّرين الأوائِل، بحيث رسّخت في العقل الأوروبي شكلاً منهجيّاً، وإطاراً فكريّاً، عدّه الجميع مسلّماتٍ وحقائقَ، على الرّغم من الخلط والتحريف والنقائِص، التي كان يتّسمُ بها. كانوا دائماً يأخذون من الأمور شكلها، ولم يكونوا يدرسُون أسبابَها ونتائجها، لأن ذكر الأسباب والنتائِج كان يفضحهم ويرد أكاذيبهم(11).
ولم ينجُ من ضغط الحقد التاريخيّ الصليبـيّ الطويل حتّى الفلاسفة والأدباء والمفكّرون، فأديب مشهور، مثل: (دانتي الإيطالي) في كتابه (الكوميديا الإلهية) -على سبيل المثال- عندما قسّم الجحيم إلى طبقات، وضع الرسُول محمّد (صلّى الله عليه وسلّم) في طبقة الشر المحيطة بإبليس، ومصيرُ هذهِ الطبقة يكون العقاب السرمديّ(12).
وإذا علمنا أن (الكوميديا الإلهية) لـ(دانتي)، طُبع عشرات المرّات، وبلغاتٍ مختلفة، في أنحاءِ أوروبا والغرب عامّة، عبر قرون عدّة، عرفنا مدى تأثيره على الأجيال، وإدخال التشويه والكراهية في نفوس أبنائها، كابراً عن كابر. ويأتي بعده بقرنين الشاعِر الإنجليزي "جون بوجيت"، فيؤلِّف قصيدةً بعنوان "محمّد النبـي المزيّف"، وكيف أن الخنازير أكلته وهو سكران. وفصّل، في أبيات كثيرة، كلّ الصفات التي أطلقها العقل الأوروبي الدينيّ الكنسيّ، عبر القرون، على الرسُول الأعظم (صلّى الله عليه وسلّم).
وبهذا تحوّلت آثار الحقد الأوروبي، قبل الحروب الصليبيّة، وبعدها، إلى ظاهرة تاريخيّة دينيّة وفكريّة، وثقافة اجتماعيّة، من الصعب جدّاً اختراقها، والخلاص منها. حتى أن أوروبا، بعد أن خرجت من التربية الدينيّة إلى التربية العَلمانيّة، لم يتخلّص كبار فلاسفتها ومفكّريها من الرواسب العميقة لعداوة الإسلام. فلقد اتهم (مونتسكيو) و(فولتير) و(فولني)، وغيرهم من مفكري عصر التنوير، الإسلام بأشنع أنواع التهم، وهاجموا الرسُول والقرآن، كأنهم رجال الكنيسة في العصور الوسطى، وسرت هذه العداوة إلى المبشرين والمستشرقين والسياسيين، في العصُور الحديثة (13).
يقول المستشرق (موير): "إن سيف محمّد والقرآن هما أكثر أعداء الحضارة والحريّة"(14).
وصدر منهم كلامٌ لا يختلف - حول القرآن والرسول والمسلمين- عن كلِّ ما قالته أوروبا من سوء، في العصُور السابقة. وبذلك استجاب الاستشراق، والفكر الأوروبي العام، إلى الثقافة الأوروبية التاريخيّة الحاقدة المكدّسة حول الإسلام، أكثر من الاستجابة إلى موضوعه المزعوم(15).
بل جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيلُ اجتثاثه - كما يزعمون - بين الفوقيّة الغربية والدونية الشرقيّة، بل إنه عمّق هذا التمييز، بحيث إن السياسيين المتأخرين مثل (بلفور)، و(كرومر)، بعد هذه القرون الطويلة في زرع الحقد في المجتمعات الأوروبية، انتهوا في تعاملهم مع المسلمين والشرقيين إلى مقولة: "فالشرقي لا عقلانيّ، فاسق طفوليّ متخلّف". و"الأوروبيّ عقلاني متحل بالفضائِل، ناضِج سوي"(16).
ولقد سار كبارُ المستشرقين، في القرن العشرين، يهوداً ونصارى، على الإنشاء الاستشراقيّ القديم، فـ(نولدكه)، و(كولدزيهر)، و(شاخت)، و(برنارد لويس)، و(جب)، و(جرونباوهم)، وآخرون كثيرون، كلهم وضعوا السُم في الدسم، وشوّهوا التراث الإسلاميّ، وبنوا أبحاثهم على أن القرآن ليسَ إلاّ مجموعة من الأفكار المضطربة، أخذت بدون تنظيم من التوراة والإنجيل، وأن الشريعة الإسلاميّة اقتبسها المسلمون من القانون الروماني(17)، والوحي المحمديّ تصور ووهم وظن وخيال وحمّى صرعية، وأن السيرة النبوية فيها شكوك كثيرة(18).
إن الجهود العدائية، التي قادتها الكنيسة عبر التاريخ الأوروبي، ما زالت تؤجج المشاعر المعادية ضد الإسلام والمسلمين، يمثل ذلك موقف "كلادستون"، عندما رفع القرآن بيده في مجلس العموم البريطاني، عام 1882م، فقال: "ما دام هذا القرآن يُتلى، والكعبةُ تُزار، فنحنُ لا مكان لنا في بلاد الإسلام".
وموقف الجنرال (غورو) الفرنسي، عندما دخلَ (دمشق)، فقال، وهو أمام قبر صلاح الدين: "قم، الآن انتهت الحروب الصليبيّة". ومواقف أخرى كثيرة، صدرت فيما يُسمّى بعصر التسامح والحريّة والعَلمانيّة، تدلُّ دلالةً قاطعة أن زخم التربية الكنسية المتعصّبة ضِدّ الإسلام والمسلمين، ما زالت سارية في عروق القوم. توجّه سياستهم الظالمة في التعامُل مع العالم الإسلاميّ، ولا سيّما انحيازهم الكامِل إلى اليهود في اغتصاب أرض فلسطين، وتشريد شعبهم، وقتل أبنائهم. ولكن هل يعني ذلك أن الغرب برمّته استسلم إلى هذا التعصّب المقيت. أقول: لا، إن الفكر الإنسانيّ الحر بدأ يتحرّك ضِدّ هذا التيار في القرن الأخير، وظهر مؤرِّخون ومفكِّرون وباحثون يدعون إلى الإنصاف في التعامُل مع المنصفين، ويشيدون بدور الحضارة الإسلاميّة في تقدّم الحضارة الحديثة، ولكنّهم ما زالوا قليلين في خضمّ الطوفان الكبير المرتبط بقوّة الدفع التاريخي إلى رواسب الماضي. وهنا لا بُدّ من علاج، وهو بيد المسلمين، سواء في داخل العالم الإسلامي، أم في خارجه، بين الأقليّات الإسلاميّة، التي تستطيع أن تعملَ الكثيرَ، إذا وقفت بجانبها قدرات العالم الإسلاميّ الفكريّة والتخطيطيّة والماليّة.
المسلمون في الغرب:
لا شكّ أن المسلمين عامّة، وأقليّاتهم في الغرب خاصّة، يُواجهون في تعاملهم مع شعوبِ الغرب، مشكلات متنوعة، منها الثقافيّة، يجب أن نتعرّف عليها، كي نحاول تجاوزها، ونعرف كيف نتعامل معها، بحيث ندخلُ في حوارٍ حقيقيّ، يؤدّي إلى تعاون حضاريّ مع تلك الشعوب، دون أن تفقد الأقليّات الإسلاميّة خصوصيتها وهُويتها الدينيّة والخلُقيّة والثقافيّة.
وفي رأيي أن تلك المشكلات تتولّد من القضايا الآتية:
أوّلاً: الثقافة الصليبيَّة التاريخيّة، التي انتقلت من الأجيال المتلاحقة، وتركت أثرَها في وجدان المسيحيين في الغرب، والتي تشكِّل حجاباً منظوراً، أو غير منظور، بينهم وبين تلك الأقليّات المسلمة.
ثانياً: النظرة الاستعلائيّة لمنظري الحضارة الغربيّة وأهلها، والتي انتهت إلى تجاهُل الحضارة الإسلاميّة، وإنكار تأثيرها وفضلها على الحضارة الغربيّة. علماً أن عدداً مِمّن كتبُوا عن الحضارة الإسلاميّة، يعترفون بذلك التأثير، كما ذكرنا سابقاً.
ثالثاً: التنظير الجديد لتحديد العَلاقة بين الحضارات، والذي يقومُ في رأيهم على أساس الصراع، وليس الحوار. والكتاب الخطير لـ(صموئيل هينتنغتون): (صدام الحضارات)، شاهِدٌ على ذلك.
والخطيرُ في ذلك الرأي، أن هذهِ النظريّة لم تبق في إطار التجريد الفلسفيّ، وإنما نزلت لتوجيه السياسة الأمريكيّة، التي يقودُها المحافظون الجدُد، المعروفون بالجماعة الإنجيلية الصهيونيّة.
رابعاً: إن العنفَ الاستعماريّ الغربيّ الطويل في البلاد الإسلاميّة، ووقوفه الحازم أمام قيام النهضة الإسلاميّة، والتأييد الشّامِل لاستيلاء اليهود على فلسطين، ومساعدة الأنظمة المستبدّة الظالمة، أدّى إلى ظهور عنف مقابل غير رشيد، انتهى إلى الصدام الدمويّ، ليس مع الإدارات الغربيّة فحسب، وإنما مع شعوبها، تجلّى في تفجير السفارتينِ الأمريكيتين في إفريقيا، ثم هدم البرجين التجاريين، وقتل ألوف المدنيين الآمنين فيها، وتفجير القطارات في (إسبانيا) و(فرنسا) و(إنكلترا)، مِمّا أظهر الإسلام أمام العالم الغربيّ وكأنه إرهاب ديني بحت، أحرج تلكم الأقليّات الإسلاميّة إحراجاً كبيراً، بالتضييق على حريّتهم، ووضع القوانين المتعسِّفة لتقليم أظافرهم، والحد من انتشارِهم، فضلاً عن منع إعطائِهم الجنسيّات والإقامات.
ولعلّ هذهِ الأخيرة كانت الكارثة الكبرى التي حلّت بالأقليّات الإسلاميّة في حريّة أخذ المبادرات، والتوسّع في النشاطات، والتقدّم في النمو الاقتصاديّ، والتمدّد الاجتماعيّ، والتثقيف الإسلاميّ.
تلك المشكلات كلّها، لا بُدَّ أن يقفَ المسلمون في الغرب أمامها، والتفكير العلميّ الصحيح في كيفيّة اجتياز الأزمة، والتخفيف من الآثار السيئة التي تركتها شيئاً فشيئاً.
وعلى الرغم من أن إخواننا في الغرب أدرى بشؤونهم، وأكثر إدراكاً لترتيب أوضاعهم، ومع ذلك فالواجبُ علينا أن نقدّم لهم النصح، ولا سيّما أننا في العالم الإسلاميّ مطّلعون على أوضاعهم، من خلال القنوات الإعلاميّة المتنوّعة، التي جعلت من الكرة الأرضيّة كلها قرية واحدة، بل بيتاً واحداً.
لقد مرّ العالم الإسلاميّ تجاه مظالِم الغرب، واستعماره لبلادِ المسلمين، بمرحلتين متميزتين:
مرحلة الدفاع: التي كانت تعبِّر عن الموقف الانهزاميّ، أمام الحضارة الغربيّة. فكان المفكِّرون المسلِمون يريدون أن يثبتوا أن عقيدَتنا لا تخالفُ العلم الغربيّ، وشريعتنا تحقّق ما تحققه أوروبا، ومصطلحاتهم التي تعبّر عن تطور حضارتهم مُوافقة لمصطلحاتنا الإسلاميّة. كالديمقراطيّة مقابل الشورى، والاشتراكيّة مقابل العدالة الاجتماعيّة، والرأسمالية مقابل إباحية الملكية الفرديّة في الإسلام، وهكذا.
مرحلة الهجوم: عندما بدأ الفكر الإسلامي يصطدم مع حضارة الغرب، رافضاً مبادءها الإلحاديّة التي انتجت حضارة ماديّة، لا تؤمن بغير القوّة، وأخلاقياتها التي لا تقر إلاّ بالنسبيّة، التي فتحت المجال الواسِع للإباحيّة، ولا يمكن التعامُل معها إلاّ من خلال العلُوم الصرفة، ولا الاطمئنان إليها، ولا التعامُل معها في تجديد حضارتنا المنشودة.
وأما اليوم، وبعد اليقظة الإسلاميّة الحاضرة، التي أظهرت أمام العالم جوانب مهمّة من مذهبيّة الإسلام الكونية والإنسانيّة الشّاملة، لم نعد بحاجةٍ إلى أن نقف موقفَ المتوتّر الرّافض لمبادئ الغرب، وثقافته، وحضارته، جملةً وتفصيلاً.
إن الحضارة الغربيّة ليست حضارة عنصريّة ضيّقة، وإنما هي حضارة إنسانيّة عامّة، تحتفظُ بقَدْرٍ كبير من التأثيراتِ الإسلاميّة عليها، ولذلك فلا بُدَّ من بناءِ جسُورٍ قويّة بينها وبين المنظومة الإسلاميّة، من أجل التواصُل الحضاريّ معها. فالنزعةُ الإنسانيّةُ، والاتجاهات العقلانيّة، ومناهج البحث العلميّ في الوصُول إلى الحقائق، وخطط التنظيم التنموي، على سبيل المثال، في هذهِ الحضارة الحديثة، ميادين خطيرة، يجب أن يتم فيها الحوارُ على أعمق وأوسع ما يكون، بسبب أن تلك الميادين من أخصب الإنجازات التي نفتخرُ بها في منظومتنا الحضاريّة المتفتّحة على الحضارات العالميّة جميعاً. بحيث إن المفكّر المسلم يكاد لا يرى جديداً في تلك المجالات، في المنظومة الغربيّة الحاضرة. ولعلّ هذا هو الذي يفسّر لنا دخُول المنظومة الإسلاميّة في هذا العصر إلى المجتمعات الغربيّة، من القمّة الفكريّة لا من قاعدتها الجاهلة، كُلّما درس أصحابُ تلك القمّة حقائق الإسلام في قاعدته الإنسانيّة العريضة.
إذن فالحوارُ البنّاءُ بكُلِّ أبعاده مع المجتمع الغربيّ، يجب أن يكون هو القانون الأساس للأقليّاتِ الإسلاميّة في الغرب. أمّا الهجومُ، واتِّباع منهج العنفِ، في التعامُل مع تلك المجتمعات، فلن يؤدِّيَ إلاّ إلى مزيدٍ مِنَ التوتر، ومزيدٍ من مُحاصرة مراكز القوى لمجتمعِ الأقليّات الإسلاميّة، واصطناع مزيدٍ من المشكلات أمام تطور أوضاعهم وتنميتها.
إن هذا الحوار الجاد، لا بُدَّ أن يعتمِدَ - من وجهة نظري - على المقوّمات الآتية:
1- إن الأقليّات الإسلاميّة تعيشُ بين منظومتينِ حضاريتينِ، في الوقتِ نفسه، مذهبيّتهما الكونيّة مُختلفتانِ في الأصُول العقائديّة. فإيمان المسلمين بعقيدةِ التوحيد والنبوّة العامّة والخاصّة، وما يترتّب عليها، لا يمكن أن ينهارَ أمامَ الثالوث المسيحيّ، الذي ليسَ له تأثيرٌ مُباشِر وشامِل في المجتمعاتِ الغربيّة، بل هُنالِك ابتعادٌ عنها، وتمرّدٌ عليها، ولا سيّما أن تلك العقائِد الغامِضة، وغير العقلانيّة، لا تدخلُ في مجالاتِ التربية والتعليم مُباشرةً، حتى يتأثر بها الجيلُ المسلِم، وإنما هي محصورةٌ في الكنائِس والمدارِس والمؤسسات الثقافيّة الدينيّة.
ومن هُنا، فإن تلك العقائِد النصرانيّة لا تُشكِّل خطراً على عقائِد المسلمين في المستقبل. ولا سيّما إذا تلقّتِ الأجيالُ القادِمة العقائِد الإسلاميّة بصورةٍ صحيحة، وبأسلوبِ التربية العصريّة.
2- في الدعوة إلى الإسلام بين أجيال الأقليّات، وغيرهم، يؤكّد الدعاة والمربون على الكُليّات الشرعيّة ومقاصدها، والابتعاد عن المسائِل المذهبيّة والطائفيّة. على أن يتمّ ذلك بلغةٍ عصريّة هادئة، تُستبعد فيها المصطلحات الإسلاميّة الخاصّة، التي تثيرُ اللاشعور الغربيّ ابتداءً، كالخلافة الإسلاميّة، والصليبيّة، والجهاد، والشريعة، والكفر، وما إلى ذلك.
3- لا شكّ أن الفلسفاتِ الماديّةَ الغربيّةَ، أنتجتْ نظاماً تربويّاً مبنيّاً على نسبيّة القيم والأخلاق، بينما القيم والأخلاق الإسلاميّة العُليا خالدة، لأنها انبثقت من تجليّاتِ أسماءِ الله الحُسنى، مجتمعة، مُتوازنة، متكاملة. فالمسلمون لا بُدَّ أن يفكِّروا في صياغةِ نظامٍ تربويّ، يُحاول أن يجمعَ بين القيم الإنسانيّة، التي يؤمن بها الإنسان الغربيّ كسلوكٍ اجتماعيّ، وتلك القيم الإسلاميّة المشابهة، في إطارِ منهجٍ مقاصديّ مصلحيّ، بعيد عن المنهج الظاهريّ، الذي لا يؤمن إلاّ بالقطعِ والحسمِ والمواجهة، ولا يجيب على أسئلةِ الأجيالِ في كيفيّة الملاءمة مع الأخلاقِ الاجتماعيّة، في المجتمعِ الذي يعيشُون فيه. دون فقدانِ الهُوية الذاتيّة الإسلاميّة، التي يُحافِظ عليها النظام التربويّ، الذي تقوده عقيدةُ التوحيد.
4- إن المسلمين في الغرب، إذا استطاعُوا أن يكونوا مجتمعاً متميّزاً بقيمهِ الإسلاميّة الإنسانيّة الرفيعة، التي تُخاطِب الفطرة، ولا تلغي العقل أو العاطفة، فحينئذٍ يستطيعُون أن يشحنُوا الأخلاقيّات النسبيّة بقيمهم المتوازنة، فيخدمون حضارةَ الغرب خدمةً كبيرةً. فكما أننا، في العالم الإسلاميّ، نحتاجُ إلى علومهم وتنظيماتهم للحياة، فَهُمْ يحتاجُون إلينا في تقويمِ اعوجاجِ قيمهم المنحرفة، والتأكيد على المبادئ التي يُمجّدونها، كالأخوّة الإنسانيّة، والشورى، والحق، والتعاون، وحقوق الإنسان، وتوسيع دور المرأة في نواحي الحياة.
ولا شكّ أنهم في تلك القضايا المهمّة، يحتاجون إلى إخوانهم في البلادِ الإسلاميّة، ليُقدِّموا لهم عوناً فكريّاً وعلميّاً وماليّاً مستمرّاً، يرفد تنفيذ مخططاتهم، ويعمّق فكرَهم ووعيهم، وينوّر عقلَهم، حتى يعطوا الإسلام في الغرب صورة إيمانيّة وإنسانيّة كريمة.
5- لا بُدَّ، ونحنُ نحاوِل إيجادَ الحلُول المناسبة لمشكلاتِ الأقليّاتِ الإسلاميّة، استخلاصَ فقهٍ واقعيّ متوازن، يُناسب أوضاع مجتمع تلك الأقليّات، في إطارِ ضوابط الفهم الأصوليّ، والتحرُّك ضمن أوسع دائرة مقبُولة للتأويل الإسلاميّ. وأنا أدعُو هنا إلى عدم الاستعانة بحفظةِ النصوص المتعصّبين، وأنصاف الفقهاء المتشدّدين، للذهاب إلى تلك البلاد، لألقاءِ المحاضرات على المسلمين، وغير المسلمين. وقد لاحَظْتُ بنفسي، في عددٍ من البلادِ الغربيّة، التأثير السلبـيّ بوجُود هؤلاء، والبلبلة الفكريّة التي يُحدِثونها من خلالِ آرائهم الشخصيّة، وفتاواهُهم الضيِّقة، التي تتبنّى مذهباً واحِداً، أو طائفة معيّنة، دون الاعتماد على المبادئ العامّة للإسلام، وسماحة شريعته، ومرونتها الفائقة، المناسبة لأوضاع الفطرة البشريّة.
ثم إنهم يتّبعون منهجاً استفزازيّاً في الهجُوم على قوانين الأقوام الغربيّة، وعاداتها، وأعرافها، ولا يُساعِدون محاولة العقلاء بين الأقليّات الإسلاميّة، لهدم الجدار النفسيّ التاريخيّ، الذي صنعته الكنيسة والدراسات الاستشراقيّة، في العصُور الأخيرة، فحجبت عن الغربيين رؤية الحقيقة.
ومن جهةٍ أُخرى، فإنهم لا يأخذون الذين يدخلُون هناك في الإسلام، بالتدرّج، لإخراجهم من منظومة حياتهم، إلى المنظومةِ الإسلاميّة، بسهولةٍ ويُسر، ودون حرج، حتى يستشعِروا عظمة الإسلام، وواقعيّة شريعته السّمحة.
6- إن الأخطاءَ القاتِلة، التي ارتكبها المتشدِّدون الإسلاميُّون في بلادِ الغرب، والولوغ في الدّماء البريئة، شوّهت وجه الإسلام في الغرب، كما ذكرنا سابقاً.
ومن هُنا، فلا بُدَّ للمسلمين في الغرب أن يبذلوا جهُودهم، ومعهم العالم الإسلاميّ كلّه، كي يُصحِّحوا صورةَ الإسلام الحنيف عند تلك الشعُوب. والملاحظات الآتية قد تفيدُ في هذا المجال:
1- عند مناقشة القضايا التي تخصُّ مواقِف العالم الغربيّ من العالم الإسلاميّ، لا بُدَّ من اتّباع منهجٍ علميّ هادئ، يعتمِدُ على المنطقيّة في الحِوار، والواقعيّة في تقديمِ الأدلّة.
2- عقد مؤتمرات فكريّة، ذات مستوى عصريّ رفيع، لإلقاءِ المحاضرات عن الإسلام: عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً، والاستعانة في ذلك بكبارِ الدعاة والمفكِّرين والمثقفين، حتى تنجلي الحقيقةُ أمامَ النّاس هُناك، ليعلموا أن الإسلامَ هو دينُ الرّحمةِ والسّلام للعالمين جميعاً.
3- عدم إعطاء المجال للتمزّق الإسلاميّ في بلادِ المسلمين، أن يدخُلَ المجتمعات الإسلاميّة الصغيرة في بلادِ الغرب، لأنه سيُعيقهم من تكوين كياناتِهم القويّة الموحّدة، ويحولُ بينهم وبين تقديمِ إسلامٍ حقيقيّ شامِل إلى الغربيين.
فالشعُوب هناك لا تحتاجُ إلى أن تقدِّمَ لها فكراً إسلاميّاً أُحاديّاً، بل تحتاجُ إلى الوحي الألهيّ الصّافي، من كتابِ الله، وسنّة رسولهِ (صلّى الله عليه وسلّم)، ويتبعُ ذلك عدم السّماح للسياسات المختلفة للدُول الإسلاميّة، في التأثير على أوضاعِ المسلمين في الغرب. ولعلّ هذا مِنَ المسائِل التي تُواجه الصفَّ الإسلاميَّ الموحّد هُناك، وتقفُ أمامَ وحدةِ فكرهم وثقافتهم.
4- من أجل الحفاظ على الهوية الإسلاميّة العقدية والأخلاقيّة والاجتماعيّة في الأجيالِ القادِمة، لا بُدَّ مِنَ الاهتمامِ الكبير بالمؤسّساتِ الإعلاميّة: المقروءة، والمسموعة، والمرئيّة، وإنشاء النوادي الاجتماعيّة، والأدبيّة، والفنيّة، والعلميّة، والترفيهيّة، والرياضيّة، تلك التي تُشعر المسلمينَ بوحدةِ كيانهم الدينيّ والاجتماعيّ، في خضمِّ الفلتان الاجتماعيّ والأخلاقيّ الذي يعيشُون فيه.
5- لا بُدَّ من إشعارِ تلك الشعُوب الغربيّة أن المسلمين عامّة - سواء أكانوا من أهلِ البلادِ الأصليين، أم من المتجنِّسين، أم من المقيمين - حريصُون كُلَّ الحِرْص على مصلحةِ البلاد، التي يعيشُون فيها، باحترامِ قوانينها وعوائِدها.
أقول هذا، لأننا نسمعُ ونرى كثيراً مِنَ المتشدِّدين، يريدون أن يعيشُوا هناك عيشة التوتّر الدائِم، والتحدّي المستمر. وهذا يضعُ عقبةً أمام المسلمين، وتطور حياتهم، ويسحبُ ثقة من يعيشُون بين ظهرانيهم منهم.
6- إن المشكلة الكُبرى التي تُواجه مجتمعات الأقليّاتِ الإسلاميّة، هي مشكلة ذوبان الأجيال الصّاعِدة في أُتونِ أخلاقيّاتِ الأكثريّة، التي - كما ذكرنا - تعيشُ في عالم البُعد عن هِداية الدين، وسقوط الأخلاق، ومغريات العولمة الإباحيّة.
ومن هنا، إذا أرادتِ الأقليّاتُ الإسلاميّةُ، في المجتمعاتِ الغربيّة، أن تبقى في إطارِ عقيدتها، وخصوصياتِ شريعتها، وخلُود نظامِها الأخلاقيّ، فعليها أن تحرصَ على تربية الجيل القادِم تربيةً بيتيّة، ومسجديّة، واجتماعيّة، إسلاميّة، مُركّزة، حتى ينضبطَ أبناؤها بضوابطِ الأُسرة الإسلاميّة المتميّزة. وهذا ليس بدعاً في تواريخ الأُمم والشعُوب.
إن كثيراً من أبناءِ الأقليّاتِ، في البلادِ الإسلاميّة، وغير الإسلاميّة، حافظُوا على خصوصيتهم العقديّة والثقافيّة والاجتماعيّة. مثال ذلك: اليهود، والنصارى، والصّابئة، وأهل الأديان والطوائِف الأُخرى.
وفي ختامِ هذهِ الكلمات القصيرة، أقولُ: إن المسلمين في الغرب مُهدّدون أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بنظامِ العولمة، التي تريدُ أن تُفرِضَ نظاماً تربويّاً أخلاقيّاً ماديّاً إباحيّاً على البشريّة، تسلخ منهم عقائدهم، وتُنسيهم هُويتهم الحضاريّة، وذاكرتهم التاريخيّة. والأقليّات الإسلاميّة، وأجيالهم الجديدة، أكثر عُرضة لإعلاميّاتِ العولمة، ومكائدها. ولذلك فعليهم أن يلتفِتُوا بقوّة إلى أنفسِهم، وتنظيم تربية أولادِهم، وإحداث وعي إسلاميّ مُعتدِل وسطيّ رحيم بينهم. علماً أننا موقنون أن الطبقة الإسلاميّة المتنوِّرة مِنَ المسلمين، في تلك المجتمعاتِ الغربيّة، هم أقدرُ مِنّا -نحنُ الذين نعيشُ في البلادِ الإسلاميّة- على فهم طبيعةِ التعامُل مع منظومتها الحضاريّة، وأقرب إلى وصفِ العِلاج، وأدق في وضع الخطط الاجتماعيّة والتربويّة والإعلاميّة، لمعالجةِ الجوانِب السلبيّة في العولمةِ الجديدة(19). ولكنّهم، مع ذلك، يحتاجُون إلى المواقِف الحازِمة من إخوانهم في العالم الإسلاميّ، لتقوية وجودهم، والدّفاع عن مصالحهم، ورفدهم بكُلِّ أسباب الحفاظ على الكيان والوجُود والهُوية.
لقد تعرّضت الأقليّات الإسلاميّة، في كثيرٍ من بلادِ الغرب، والشرق - ولا سيّما في ظلِّ الأنظمةِ الشموليّة- إلى الاضطهادِ الدينيّ والثقافيّ. فقد حاولت تلك الأنظمة إمحاء هُويتها الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، تارةً بتغييرِ أسمائِهم الإسلاميّة، وأُخرى بإصدارِ القوانين التي تبيحُ زواجَ المسلمة من غير دينها، وفَرْضِ نظام العولمة الأُسريّ عليها، وعلى أهلِها. وثالثةً، بمنعها من بناءِ المساجِد والمؤسسات الثقافيّة والمدارِس التربويّة.
واليوم، لقد خرجت تلك البُلدان مِنْ قسوةِ الأنظمة الشموليّة، ولكن المسلمين إلى اليوم يُعانون مِمّا ترتّب على تلك السّياسات الظّالِمة من آثارٍ خطيرة، تنالُ - كما نالتْ من قبل - من عقيدة المسلمين، وهُوياتِهم الثقافيّة.
فمن هُنا، فالأقليّاتُ الإسلاميّةُ في تلك البُلدان يحتاجُون إلى مدِّ يدِ العون، عقدياً وثقافيّاً واجتماعيّاً، من إخوانهم في العالم الإسلاميّ من أجلِ الدّفاع عن مصالحهم، واستعادةِ هُويتهم الإسلاميّة، بإنشاءِ المساجِد والمدارِس والمؤسّسات الثقافيّة.
وهذا مِنْ أوجبِ واجباتِ الدُول الإسلاميّة، فهي تستطيعُ عن طريقِ علاقاتِها السياسيّة، والمصلحيّة، أن تضغطَ باتجاهِ الحقُوق الكّامِلة لتلكَ الأقليّات، وتقديم المساعدات الماليّة والمعنويّة إليها
------
الهوامش:
1- الاستشراق بين الموضوعيّة والانفعاليّة، ط(1)، الرياض، 1403هـ - 1983م، ص54.
2- المصدر السابق، ص55. راجع بحثنا: (تحقيق في قصّة بحيرا) الجامعة/ الموصل، ع18.
3- الفكر العربي- الاستشراق - أوروبا والإسلام، د.هشام جعيط، ص222.
4- الاستشراق، د.عرفان عبدالحميد، م.الإرشاد، بغداد، 1969، ص6.
5- المصدر السابق، ص10.
6- قصة الحضارة، م13.
7- الفكر العربي - الاستشراق، ص122. المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام، للدكتور محمّد البهي. وراجع أيضاً: التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ.
8- الاستشراق، للدكتور إدورد سعيد، ط(1)، ص2.
9- على هامش الصراع الأوروبي الإسلامي، تيسير شيخ الأرض، ص113، 114، من كتاب الفكر العربي جـ1.
10- المصدر السابق: 1/ 152.
11- الاستشراق والإسلام، ص5، 6.
12- الحركة الصليبيّة وأثرها على الاستشراق الغربيّ، د.علي الشامي، ص165 وما بعدها، ضمن الفكر العربي حـ1.
13- أوروبا والإسلام، ص222.
14- الاستشراق - أدورد سعيد، ص168.
15- المصدر السابق، ص55.
16- المصدر السابق، ص71.
17- راجع الشريعة الإسلاميّة والقانون الرومانيّ للدكتور صوفي عبدالله.
18- المستشرقون والإسلام، المصدر السابق، ص14 وما بعدها.
19- العولمة من المنظور الإسلاميّ، للمؤلف، ط(1)، العراق، 1422هـ- 2002م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق