عبد الباقي يوسف
شهر يتميّز عن سائر شهور السنة، ولعلّه أكثر شهور السنة شهرة، ذلك أنه أكثر شهور السنة غنى، ومغفرة، ورحمة، من الله (عز وجل)، وهو أكثر شهور السنة سخاء، وصلة للرحم، وتسامحاً بين الناس.
تأتي هنا إلى بيان لشهر رمضان الكريم، فيعرّفك الله على دلالات ومزايا هذا الشهر الفضيل. في البدء تدرك أن الصوم هو لكل إنسان مؤمن، وهو سبيل إلى التقوى، ولكل أمة مؤمنة مواقيت صيامها، وقد تميز شهر رمضان بأنه شهر صوم في الإسلام، إنها عبادة مكتوبة على سائرالمؤمنين.
يقول الله في سورة البقرة: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، خطاب من الله إلى الذين آمنوا بالله وبرسالة خاتم أنبيائه، يخبرهم فيه: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ]، أنه يتوجب عليهم الصيام كأحد أركان الإيمان الأساسية، [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]، مَثلكم في ذلك كمَثل المؤمنين من قبلكم، وهذا يعني بأن الله قد قَبل دخولهم إلى ملة المؤمنين من خلال إيمانهم بالله ورسوله، وشهادتهم أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، فغدوا يتمتعون بمزايا المؤمنين [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (183). بيان من الله بأن الصوم من أسباب التقوى.
الصوم هنا يتخذ خصائص جديدة بالنسبة للمجتمع الإسلامي، وهي تختلف عن شكل الصيام بالنسبة لما سبق.
[أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ]، أيام الصيام المعدودة، [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ]. للصوم في شهر الصوم بركات قد لا تصيب الإنسان في شهر سواه، ومن ذلك أن الإنسان إذا صام في أيام أخرى، فهو لا يدخل تلك الحالة التي يدخلها عندما يحل الغروب، ويستشعر بأن الناس جميعاً الآن يجلسون على مائدة الإفطار، حتى وهو يمضي في الطريق، يرى الناس جميعاً في صوم، بينما في صيامه لوحده، يشعر بغربة، لأنه يرى نفسه صائماً دون الناس، وكذلك دون أفراد عائلته، الذين يتناولون على مرآة منه الطعام والشراب.
وقد قدّر الله تعالى لي أن أشهد الهجرة من دياري السورية، مع أسرتي، إلى إقليم كوردستان العراق، بسبب الحرب الطاحنة. ومما هو متعارف عليه في تقاليد الإقليم أن الناس يجتمعون قبل الإفطار في المساجد، التي تقدّم الطعام للناس كي يفطروا، ثم يؤدّون صلاة المغرب جماعة، ورغم أنني أميل أن أستفتح الإفطار مع أسرتي، كما كان الأمر في سورية، وأستحسن ذلك، إلاّ أنني أحياناً أذهب إلى المسجد المجاور لبيتي قبل الغروب بدقائق، كي أشارك الناس تناول الطعام لدى الإفطار، ثم أصلي المغرب جماعة، وبعد ذلك أعود إلى البيت كي أكمل فرحة الإفطار.
إن مثل هذه العلاقة من شأنها أن تولّد حميمية لدى الناس، وهي فرصة وحيدة متاحة يتناول فيها الناس جميعاً على مائدة المسجد الواحدة طعام الإفطار، وهم على جوع وظمأ.
من جهة أخرى، يشعر الناس من خلال ذلك بمشاعر محبة تجاه بعضهم البعض، كونهم يصلّون ويتناولون الطعام في مسجد واحد، حتى وإن لم يكن أحدهم على معرفة بالآخر من قبل، حيث ينتاب المرء إحساس بانتمائه إلى روحانية عائلية الإسلام المشتركة، ولم يحرم الله النساء من هذه الطقوس الإنسانية والاجتماعية والإيمانية، فتذهب النسوة كذلك إلى المسجد لتناول الطعام، وصلاة المغرب جماعة، وهذا من شأنه أن يجعل حالة تآلف بين النسوة اللائي يأكلن ويصلين في مسجد واحد، حتى لو لم تكن المرأة على معرفة بالأخرى من قبل.
على هذا النحو يحقق الصوم أواصر العلاقات الإنسانية والاجتماعية في الناس، ولذلك قال الله: [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (184).
إن الصوم في جميع الأحوال هو خير ونفع للإنسان، ذلك أنه شكل من أشكال التقوى، والإنسان الصائم يدرك بأنه في حالة عبادة، وهو يقطف زهور هذه العبادة، حيث يزداد محبة، يزداد كرماً، يزداد تسامحاً.
[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]، من بركات هذا الشهر الفضيل أن القرآن الكريم نزل فيه، فكلما يحل رمضان، تحل ذكرى نزول القرآن معه، ولذلك يتمتع شهر رمضان بأنه شهر قراءة القرآن الكريم بامتياز، ذلك أنه شهر عبادة خالصة، يتفرّغ فيه كثير من الناس للعبادة، وقراءة القرآن، وفعل الخيرات، [هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ]، بذلك فهو شهر تتحقق فيه الهداية للناس، وهو شهر معلوم ليس كشهور سائر السنة. البيّنة، هي الدلالة الجلية، [مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]، فيعدّ الناس عدّتهم له، [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ]، يُخبر الله عباده بأن شهر رمضان إذا أقبل على أحدهم: فَلْيَصُمْهُ، وهذا أمر ملزم من الله بصيامه، ورأفة منه (جل وعلا)، يستثني مَن لا تكون له طاقة لصيام الشهر، رغم أنه شهده، [وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً] ذلك أن المريض يحتاج إلى أدوية، وتغذية بشكل جيّد، كي يقاوم بدنه المرض، [أَوْ عَلَى سَفَرٍ]، لأن المسافر يحتاج إلى بذل طاقة في سفره، وعلى العموم، فإن الإنسان لا يسافر في شهر رمضان، إلاّ إذا وجد نفسه مضطرّاً إلى ذلك، [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]، لم يحرمه الله مكرمات الشهر، بل جعل له هذه المكرمات في أيام قادمة يستردّ فيها طاقته، فيصوم رمضان في غير رمضان، وهذا ترخيص ومنّة من رب العزة عليه، ذلك أنه: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (185).
يتميز شهر رمضان، دون غيره من شهور السنة، بأنه شهر مفعم بنورانية الروحانية، إنه شهر يحقق فيه الإنسان مزايا إنسانيته، في المجتمع الذي يعيش في ظهرانيه، من جهة، ومن جهة أخرى يحقق فيه سلطة قوامته على نفسه، حيث يركن فيه إلى الانضباط والتوازن، أكثر مما يفعل في ما خلا من شهور السنة، ولذلك ترى الكثيرين ينتظرون شهر رمضان ليقوموا بتصفية حساباتهم مع أنفسهم، إذ إن روحانية هذا الشهر تكون فرصة ذهبية ليتحاور في محرابها الإنسان مع ذاته، مع ثورة جنوح طموحاته، حتى يبلغ درجة التصالح مع ذاته، وعقد ميثاق قويم معها، بأن يلبث منضبطاً ملتزماً بمعايير القيم والأخلاق الإنسانية العفيفة.
شهر رمضان يكون بمثابة تربية للنفس، وفرصة ذهبية سانحة، كي ينزع الإنسان عن نفسه ما علق بها من أشواك، خلال شهور السنة المنصرمة، ويضمد جراحه. الصوم هنا إذن، حالة من العلاج الروحي للإنسان، الذي لا يودع شهر رمضان، إلاّ وقد أحس بأن كل ذرة فيه تجدّدت، فلا يلبث حتى يلج أياماً ثلاثة من عيد فطر سعيد، يكافئ فيها نفسه وعياله، بما طاب ولذ من طعام وشراب وثوب حسن.
[وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] (186).
هذه الآية تجعل الإنسان يمتلئ ثقة باستجابة الله لسؤاله، ومع الاستمرار يكتشف بأن الله لم يستجب له لما سأل فيما مضى، ويشكر الله الذي لم يستجب له، ذلك أنه تسرّع في الدعاء، والآن إن استجابة الله لذاك الدعاء سيلحق به الأذى، لذلك يسأل ربه ألاّ يستجيب لدعائه السابق. لكن رغم ذلك، فإن الله بفضله يحقق له استجابة لخير في أمر آخر، كبديل عن الاستجابة السابقة، التي تضره، ولا تحمل إليه نفعاً، بيد أنه تسرّع في دعائه، وفي سؤاله ربه. ذلك أن الله قال: [أجيب دعوة الداع، إذا دعان].
يبيّن الله بأن الرجل هو ستر لزوجته، كما أن زوجته هي ستر له، وكل واحد منهما هو حصن للآخر.
[أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ]، قد لا يطيق بعض الناس إمساك أنفسهم عن نسائهم، وأن الرجل إذا نام في فراش منعزل عن امرأته، قد يعتاد إلى ذاك اللون من الهجر، ثم أن الليل هو وقت فرح بالإفطار، والرجل والمرأة يحتاجان إلى التسامر، فهي حليلته، وبذات الوقت محظورة عليه، ثم لعلّه يقع في هذا الإثم، وإن كان الإنسان يبدو واهناً ساعة الجوع والعطش، فإن عوامل القوة تدبُّ في بدنه عند الشبع. [هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ]، يعفُّ الرجل بامرأته، وتعفّ امرأته به، يستغني بامرأته عمّا نهى الله، وتستغني به امرأته عمّا نهى الله، وكما أن الثوب يستر عورة الإنسان، فإن الزواج هو ستر لشهوة الإنسان. الرجل هنا يسكن بامرأته، مثلما تسكن امرأته به. يقول النبـي "صلى الله عليه وسلم": "من تزوّج فقد أحرز ثلثي الدين". [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ]، أي تجامعون النساء بعد العشاء، [فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ]، ثم يرخص الله بذلك بقوله: [فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ]. كان الناس قبل ذلك إذا ناموا في ليل رمضان، واستفاقو، امتنعوا عن الطعام والشراب، والجماع، لكن البعض كان يقع في ذلك، ويُروى أن عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" بعدما صلى العشاء وقع على أهله، فلما اغتسل، بات يلوم نفسه ويبكي، ثم أتى النبـي "صلى الله عليه وسلم" قائلاً: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، فجامعتُ أهلي، فهل تجد لي رخصة، فقال النبـي "صلى الله عليه وسلم": ما كنت جديراً بذلك يا عمر، فقام رجال واعترفوا بمثله، فنزل ذلك في عمر وأصحابه، [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (187). هذه آيات الله في الناس لعلّهم يتّقون في تدبّرها وتلقي معانيها.
عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال: خطبنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في آخر يوم من شعبان فقال: "يا أيها الناس، إنه قد أظلك شهر عظيم - وفي رواية: قد أظلكم شهر عظيم-، شهر مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، مَن تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة، كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه الرزق، ومن فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطّر به الصائم، قال: يعطي الله هذا الثواب لمن فطّر صائماً على مذقة لبن، أو تمرة، أو شربة من ماء، ومن أشبع صائماً سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، ومن خفف عن مملوكه فيه، غفر الله له وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، أمّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق