11‏/07‏/2014

وداعــــا " أبو سجدة" .. تقبلك الله شهيدا..

هفال عارف برواري 
(مقال كتبته بدموعي)
قبل أيام تلقيت نبأ أبكاني، لما سمعت باستشهاد أخ تعرفت عليه في رحلة الحج، وهو الحاج والشهيد بإذن الله (عبدالناصر) من (مصــر)، ففي العام المنصرم، وأثناء أدائي لفروض الحج، تعرفت عليه، وكما هي عادة الحجاج أن يتعرفوا على من يجلس بالقرب منهم .. ولكن لهذا الشاب شأن عجيب!
 وأنا في الحج، وتحديداً في المسجد النبوي في المدينة المنورة، دار حوار بيني وبين شاب وسيم من (مصر)، قصير القامة قليلاً، يمتلك ابتسامة جميلة، لم يكن ملتحياً، كما هو حال أغلب الحجاج، والغريب فيه أنني وجدته يمتلك ثقافة عالية، ورؤية قلما تجدها في هذا الحين، حيث يعصف التشدد والتزمت - خاصة في الرؤية الإسلامية - أغلب العوام.. شاب في أواخر الثلاثينيات من عمره، متزوج، وله أربعة بنات فقط.. يعمل في الإعلام، وخاصة البرامج الكارتونية للأطفال، وخصوصاً "قناة كوكي" للأطفال، فهو
متخصص فيها، وله موقع إلكتروني.. 
يعني بالمختصر: شاب يمتلك رؤية مدنية بحتة، بعيدة كل البعد عن التطرف، متأثر بفكر الإخوان، وقد كان منتمياً لهذه الجماعة من قبل..
 انتبهت لشدة إخلاصه في عمله، كمنتج وإعلامي، مع مستوى إيماني راق، وهمة عالية في حمل أعباء الدعوة، وإخلاصه في هذا المجال، مع رؤية معاصرة جداً للفكر الإسلامي، وهذه خاصية يمتلكها الإخوان، وبشهادة كثير ممن التقوا بهم، وتعاملوا معهم عن قرب. 
حتى لفتني، ونحن في المسجد النبوي، عندما أخبرني أنه سأل أحد شيوخ المدينة المنورة بشأن الحديث القائل: "إن ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، وفيه يتخاصم الناس لكي يصّلوا صلاة نافلة واحدة، وفي هذا المكان الضيق، الذي لا يسع إلا لبضعة مئات فقط. 
قال: سألت العالم  إن الحديث يتكلم عن البعد العرضي، ولم يتكلم عن البعد الطولي؟ فلماذا لا تزيدون من البعد الطولي، لكي يستوعب الكل، كي يتمكنوا من الصلاة في هذا المكان؟ 
قال: فاستغرب الشيخ من سؤالي، وقال: سأسأل شيوخي عن هذا البعد في الحديث! 
نعم كانت له رؤية منفتحة عن الدين، رغم اختصاصه في الشركات الإعلامية. 
سألته عن وضع الحكومة المصرية، إبان حكم (محمد مرسي)، فكان متفائلاً، رغم المؤامرات الكثيرة التي كانت تحاك ضده، وكان له إلمام بما يجري، وكذلك صعوبه الموقف، وكيف أن العالم كله يقف ضد الإخوان، وقال إنهم يواجهون كل هذه الصعاب، لكنهم كما أخبرني: إن أمر مصر قد وقع على عاتقنا، وليس لمصر أحد سوانا.. الطريق صعب، لكن المصريين أصبحوا مثل اليتامى، ليس لهم أحد غيرنا، فهل نتركهم؟ وكما قيل: أجبرنا على اختيار أحد سبيلين، أحلاهما مر: إما الركون والانزواء، ثم القضاء علينا لاحقاً، مع لعنة التاريخ، وكل التهم المرتبة، التي ستلفق لنا حتماً، أو الاندفاع للدفاع عن مكتسبات هذه الثورة، والإبحار بتطلعات الشعب المصري إلى بر الأمان، والتضحية في سبيل طموحات هذا الشعب، الذي عانى الأمرين في الحقبات التاريخية السابقة. 
سألته: هل هذا أول حج تحجه، فقال: لا لقد حججت قبل ذلك؟
فقلت له: وعن من تحج هذه السنة؟
فقال: لم أر أحداً أحج عنه في هذه السنة، ففكرت في الأمر.. ثم واصل: أتدري من أحج عنه هذه السنة؟ 
فقلت: عن من؟
فقال: عن (راشيل كوري)! الصحفية الأمريكية، والتي قتلتها جرافات إسرائيل أثناء تضامنها مع عوائل لحماية بيوتهم في (غزة)، فقامت الجرافات بدهسها؟؟ ومن المعلوم أنها الناشطة التي صارت تعرف عبر العالم في الأوساط المؤيدة للفلسطينيين بـ(شهيدة فلسطين)، و(اليهودية التي ماتت من أجل فلسطين). وكانت (راشيل) بدأت نشاطها في المنظمة الدولية للتضامن مع الشعب الفلسطيني في العام 2002، ونشطت كمتطوعة في بلدات وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة. وظهرت في العديد من التلفزيونات، وكانت تنشط لتحسيس الرأي العام بأوضاع الفلسطينيين، ونقل أخبارهم، ووصف حياتهم اليومية. وكانت تراسل والديها من هناك، عبر البريد الإلكتروني، وكتبت لهما في إحدى الرسائل: "لا أجد إلا القليل من الكلمات لوصف ما أرى... لا أعتقد أن الكثير من الأطفال عاشوا دون قذائف الدبابات، والثقوب في جدران منازلهم، وأبراج جيش الاحتلال التي تراقبهم عن قرب من الأفق".
ثم أكمل (عبد الناصر) كلامه، وقال لي: هي فعلت ما لم يفعله أي مسلم؟؟ فقد كانت في ريعان شبابها، وفي دولة كانت تستطيع أن تعيش حياة منعمة بالرفاهية، لكنها أبت إلا الانضمام إلى معاناة المضطهدين من المسلمين، الذين ليس لهم منافذ إعلامية، لكي يرسلوا مآسيهم إلى العالم، أفلا تستحق أن أحج عنها؟! وأنا أدعوا لها من كل قلبي.. فسكت برهة من الزمن، ثم قلت في نفسي: ما هذه الرؤية التي يمتلكها هذا الشاب، وما هذا المستوى الراقي الذي يتمتع به من وعي، وما هذا الوفاء والإخلاص الذي يشع من أفعاله وأقواله..
وكانت له رؤية واضحة عن قضية الأكراد، ومظلوميتهم، وكان يرغب بشدة أن يزور (كوردستان)، وأعطاني رقم جواله، وافترقنا، ولم نر بعضنا بعدها، وعند العودة خابرته، وهو في مصر، ففرح كثيراً بهذا الاتصال، وكان يقول لي: (كيف حالك يا أبا يوسف)، لكونه لا يستطيع أن يلفظ كلمة (هفال)، كونها كانت صعبة عليه.. 
عندما اشتدت الأمور في مصر، خابرته سائلاً عن أحواله، فكان رده دائماً متفائلا بالخير.. 
ولما حصل ما حصل من انقلاب عسكري، وحشد الملايين ضد الانقلاب، وخاصة في (ميدان رابعة العدوية)، ولما اشتد الأمر، وكانت الأخبار في القنوات الفضائية، وخاصة العربية، وتصريحات البعض، تنبأ عن حدوث مجزرة، أو فض الاعتصام بالقوة والنار، لذلك خابرته وسألته عن الوضع، كي أعرف الحقيقة كما هي، وبدون مزايدات. 
رد على هاتفي، والغريب أنه كان من المعتصمين، وقال: (أنا في ميدان رابعة العدوية)؟ تعجبت وقلت له: كيف هو الوضع والمعنويات، لأن الأنباء العالمية لا تبشر بخير، ونحن من خبرتنا في السياسة أصبحت لدينا مَلَكة سياسية في مجريات الأحداث؟ لكنه طمئنني، وقال: إن معنوياتنا أعلى بكثر مما تتصور، ونحن بالملايين، وفي كل يوم تتزايد حشود المعتصمين والمعارضين للانقلاب..
قلت: الله يبشر بالخير عليكم.. ثم سألني الدعاء.. وانتهت المكالمة بيننا.. 
ثم بعد أسبوعين حدث ماحدث من مجزرة بشعة في ميدان رابعة، راح ضحيتها آلاف القتلى والجرحى والجرحى، ويقال إنه شاركت فرقة كوماندو غربية متخصصة في القنص للنشطاء الموجودين في الحشود الكبيرة.. لذلك كانوا ملثمين، وقنصهم الدقيق في الأعناق، وللآلاف، وفي خضم الحدث، يصدق هذه الرواية. وأظن أن الانقلابيين سارعوا بجريمتهم لعلمهم أن عدم الفض سيؤدي إلى مشاركة شعبية عارمة تفشل كل مخططاتهم، لأن الاعتصامات كانت تتزايد كل يوم، ثم تلاه القبض على كل من له صلة بالإخوان، أو كان من النشطاء..
اتصلت به من باب الوفاء لصداقتنا، التي دامت أقل من ساعة! لكي أستمع إلى حاله، ووضعه، لكنه لم يرد علي.. بعد أيام حاولت الحصول عليه، لكن بدون جدوى، فإما الخط منقطع، أو لا يرد أحد، فقلت في نفسي: أعتقد أنه يخاف من رفع الجوال، أو يكون معتقلاً.. فتركت الاتصال به، لكي لا أحرجه في محنته.. حتى أتى هذا اليوم، وأنا أريد الحصول عليه لمعرفة أحواله عن طريق الجوال، فإذا بأحد ما يرد عليَّ، والصوت صوت امرأة!!
فقلت: من المتكلم.. أليس هذا هو جوال الحاج عبد الناصر؟! 
فردت وقالت: أنا (أم ســجدة) زوجة عبد الناصر، فقدمت التحية لها، وعرفت نفسي لها، وسألتها عن حال الأخ عبد الناصر، فإذا بها ترد عليّ بصوت حزين قائلة: عبد الناصر لقي الله شهيداً.. في ميدان رابعة..
تلعثمت، وغابت الكلمات من فكري، لم أعرف ما أقول لها.. كان الخبر كالصاعقة عليّ، لم أتوقع استشهاده.. لم أتوقع ذلك مطلقاً.. قلت لها بحياء: كيف قتل؟ 
قالت: كان هو في الميدان، مع اثنين من بناته، حيث رزقنا الله أربع بنات.. لم يغادر الميدان.. كان يتمنى لقاء ربه شهيداً.. وفي 14 أغسطس، في يوم المجزرة، اخترقت رصاصة قناص رقبته، أثناء قيامه بمساعدة الجرحى والمصابين.. وأضافت قائلة: الحمد لله أننا استطعنا أن نحمي جثته، ولم يستطيعو أن يحرقوها، كما فعلوا بالمئات، لكي يمحوا آثار عدوانهم المشين.. 
قلت لها: رزقكي الله الصبر والسلوان، واحتسبيها عند الله، وهو ارتقى لمقام سنحسده عليه يوماً ما، ولقد مررنا بهذه التجربة، حيث أباد النظام البعثي قرى بأكملها، وقتلوا بني جلدتنا  بالكيماوي، وبالدفن الجماعي، ولكن يأبى الله إلا أن يخزي الظالمين، ولو بعد حين، فلم نتوقع أن النظام البعثي سينهار يوماً، لكننا رأينا بأم أعيننا كيف أعطى كل ذي حق حقه، وكل مظلوم مظلمته، وكل ظالم عقابه! 
وهكذا انتهى الحوار والمكالمة.. 
طأطأت رأسي، وهمهت أتفكر في الساعة التي تعارفنا فيها، وكانت كلماته تتردد في مسامعي، وخاصة آخر كلمة، وهو في الميدان.. وكم من الشباب، على شاكلة هذا الشاب المتطلع ليوم أفضل، قتل؟ وكم من الشباب في هذا اليوم تم اغتياله، وكانت له رؤية مثل رؤية هذا الشاب؟ كم قتل في هذا اليوم من عقول مفكرة، ومواهب، كانت ستكون منارة لبلدانها؟ 
استشعرت بمرارة فراق الأحبة، والخلان، وتركه لبناته وزوجته.. وحرمان البنات من قولهم (بابا)..
وتذكرت كلمات (علي بن أبي طالب)، وهو يردد قولته: (هيه، يا دنيا غُريّ غيري، فإنني طلقتك ثلاثاً).. دنيا فانية، ومتاع حياة ليس فيها إلا غرور.. ودعاة خير وصلاح على شفير نار المتربصين والمنتفعين الحاقدين، لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة.. ورب متعال، ينظر بعين لا تنام، والمظلوم منتبه يدعو على الظالم ليل نهار.. 
والمراقب لأحوال الأمم يعلم تماما: أن دوام الحـــال من المحـــال، وأن مصير الظالمين لا مفر إلى زوال، وأن الإيام الحالكة ستكون رمزا وطاقة تشحن أجيالاً وراء أجيال، وأن يتامى الأمس سيكونون بوتقة تنصهر فيها دماء الشهداء، لكي تشع دروب تطلعات الشباب في التقدم والازدهار، ولن يقف الأمر على هذا الحال، وإذا شئتم فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، فإني معكم من المتربصين..
رحمك الله يا أبا سجدة، وجعلك في مقعد صدق عند مليك مقتدر...



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق