01‏/12‏/2014

رؤى حول الحضارات/ لقاء

أجرى اللقاء/ سرهد أحمد
تعتبر فكرة (حوار الحضارات) من الأفكار والمفاهيم الأساسية، حيث أصبحت تحتل مكان الصدارة في قائمة الاهتمامات لدى العلماء والنخب الفكرية والسياسية، بالأخص عند التيار الإسلامي الاعتدالي، باعتباره محصلة عوامل كثيرة، حيث شهدت الساحة الفكرية الإسلامية تصاعد وتيرة الاهتمام بالحوار، تنظيراً وتأسيساً، من خلال جهود فردية أو مؤسسات أخذت على عاتقها دعم مشروع حوار الحضارات، فأصبح بذلك الحوار مطلباً إسلاميًّا، ولم يبق مجرد مطلب غربي، كما كان في العقود الماضية، خاصة وأن الحوار لا يتنافى مع مفهوم الإسلام للتعارف بين الناس والتدافع بينهم.
ومن جانبها تسعى مجلة (الحوار) إلى المساهمة، ولو بنزر يسير في عملية البحث عن المنهجية الشاملة لمسألة الحوار الحضاري، كانعكاس حتمي للتغيرات والتحولات الكبيرة التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة، فارتأت أن  تعد ملفاً خاصاً عن هذا الموضوع، كاستكمال لما بدأته في أعداد سابقة، من خلال فتح باب النقاش مع كل من (الأستاذ محمد رشدي عبيد – الباحث والمفكر الإسلامي) و (السيد عبد السلام مدني – الناشط في مجال المجتمع المدني).
---------------------------------------

* الحوار: بداية يحسن بنا أن نعرض لمفهوم الحوار، ومفهوم الحضارة، حتى نتعرف على حوار الحضارات، وننطلق لرؤية واضحة، تكشف عن ضرورة الحوار للإنسان وحاجة الإنسان إليه.. والسؤال هو: ما المقصود بالحضارة وعلاقتها بالثقافة وبحوار الحضارات؟
- الأستاذ محمد رشدي عبيد: الحضارة تعني مجمل إنجازات الإنسان المادية والمعنوية.. ومنهم من يرى أن هذا المصطلح ترجمة موافقة للكلمة الفرنسية "civilization"، وأول من استعمله من الفرنسيين الاقتصادي (آن جاك تورغو) وهناك "161" تعريفاً للحضارة جمعها الأنثروبولوجي الألماني الأمريكي (ألفريد كروبر)
لكننا نقرأ في معجم غربي أن الحضارات مجموعات متباينة، وكلُّ حضارة تنقسم إلى عدد مرتفع من الحضارات، وفيه أيضاً أن مضمون الحضارة غامض، ويوافقه بعض الحضاريين الذين يؤكدون أن تعريف الحضارة، والمفاضلة بين الحضارات، أكثر تعقيداً مِمّا نتصوّر، لتعدّد مستويات القراءة، ومناهج التحليل. كما يرى آخرون أن دلالة المصطلح عرفت تحولاً واضحاً على امتداد تاريخه الطويل، ويتجلّى ذلك في اختلاف المعرِّفين لها، وفي تفاوتِ فهمهم، وتباين مشاربهم، وتعدّد منطلقاتهم النظرية.
وفي اللغة العربية، تعني الحضارة: الحضور، ولها علاقة بسكنى المدن والحضر، وهي تعني مجمل إنجازات الإنسان المادية والمعنوية، في إطار ثقافةٍ ما.. بينما يرى (مالك بن نبـي) أنها هذه الإنجازات التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد جميع الضمانات اللازمة لتطوّره، مفترضاً وجود معبود غيبـي تتوجّه نحوه الإنجازات الحضارية.
 ويرى (نصر عارف) أن كل حضارة لا بُدّ لها من عناصر خمسة: نسق عقدي، وبنية فكرية وسلوكية، توجهها منظومة قيم، ونمط مادي مجسّم، وطريقة للتعامل مع العالَم والكون، وأسلوب للتعامل مع الآخر وحضارته. بينما نجد (د.علي حرب) في مرحلة ما بعد الحداثة، يشكك في الثوابت والهويات والمنظومات، ويرى أن علينا أن نتغير نحن كثيراً، ونغير الآخر، في عملية صيرورة لا نهائية، وفق هذا الزمن الديناميكي، والتداخلات الحضارية الهائلة.
 وهناك تعريف غربي ساقه (فرنان بروديل) في كتابه "قواعد لغة الحضارات" المطبوع سنة 2009، يؤكّد في هذا الصدد على البُعد الثقافي من الحضارة، وهي: علوم الإنسان "الأنثروبولوجيا"، والتاريخ، والجغرافية، وعلمي الاجتماع والاقتصاد، والفلسفة، وعلم النفس الجماعي، والأدب والفن، وكذلك على البعد المادي الفيزيقي والمعطيات الطبيعية، مثل: الفضاءات، والأراضي، والتضاريس، والمناخات، والنباتات، والأجناس الحيوانية، والمنافع المعطاة أو المكتسبة. وشبّهَ الحضارةَ ببحرٍ عميق يجبُ الغوص في داخله، كما لمح كذلك إلى وجود تركيبات ثقافية وحضارية متناقضة أحياناً في حضارة واحدة، وإلى تعريف الحضارة بسبر كل العوامل المساهمة في نشوئها، وعن طريق مقارنة الحضارة بغيرها. والحضارة الإسلامية-كما يرى (فرنان بروديل)- كانت واحدة، لتشابه منجزاتها المادية والمعنوية، لكنها لم تخل من تنوّع.
بينما (المدنية) معاييرها نفعيّة دقيقة، أقرب إلى المادية والتقنية، ولا تغني عن الحداثة العقلية والفكرية. لذا فنحنُ -حسب هذه الرؤية- مدنيُّون لا حضاريُّون، حين نكتفي بنقل بعض أسباب المدنية والتقدّم، مع إهمال بعض وجوه التقدّم الحضاري مِمّا يناسب حداثتنا، أو ننقل نقلاً استنساخياً عن الآخر، كأن نهمل البناء الأفقي معمارياً، مع كونه أكثر مناسبة لذوقنا، وأكثر رحابة وحرية.
أما هذه الكلمة (culture)، فتعني (ثقافة)، كما هو معلوم، أي: الحذق، والفطنة، والصقل، والبحث العميق، والحفر الأركيولوجي، والارتقاء المعنوي، وفي الإنجليزية لها الجذر نفسه تقريباً.
والفرق بين الحضارة والثقافة، كما يراه (د.علي حرب)، هو أن الحضارة تحيل إلى المكان والحاضرة، أما الثقافة فتحيل إلى الزمان والذاكرة، والحضارة تقنية وأداة، والثقافة قيمة ومعيار، والحضارة سوق ومبادلة، والثقافة إنتاج للرموز والنصوص، والحضارة تنتج المجانسة والمشاكلة، في حين أن الثقافة تخلق التنوّع والغنى والفرادة.
وهناك تعاريف أخرى للحضارة والثقافة انطلقت من زوايا عِدّة، وهي تركّز على الرأسمال الرمزيّ للإنسان، بشرط أن يتّسِمَ بنقلات إبداعية وتنويعات ذكية، في بنية الفكر وكيفية التعامل مع العالم، فيها روح الإنجاز المعرفي، يُضاف إليها الظرافة، والرّقة، والجمال، في التعامل الاجتماعي والفن.
أمّا (حوار الحضارات)، فهو مفهوم جديد، انبثق من الشعور بحاجة كل حضارة إلى غيرها، في مجالات الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد. وقد ألّف (جارودي) كتاباً بهذا الاسم، بعد جولاتٍ ثقافية وسياحية ومقابلات مع ساسة وفنانين وكُتّاب. كما طرح (محمد خاتمي) رئيس الجمهورية الإيرانية، هذه النظرية سنة 1997، للانفتاح على الغرب، وألقى كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، داعياً إلى التفاهم لدحض الصدام. وقد تم إنشاء العديد من المؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية لهذه الفكرة، وحدّدت الأمم المتحدة سنة 2001 سنة للحوار، وعينت مندوباً لهذه المهمّة. وعرّفت (الويكيبيديا) الحوار بأنه: التشاور والتفاعل الثقافي بين الشعوب، والقدرة على التكيّف مع الأفكار المخالفة، والتعامل مع جميع الآراء! ولا شك أن التعامل غير التكيف، وكلما زادت وسائل الاتصال نوعاً وتعقيداً وكماً، وسهلت المواصلات، وكثرت الرحلات، شعر أصحاب كل حضارة بالحاجة إلى الاستفادة من الآخر وإنجازاته، والبحث والحفر في أسباب سوء التفاهم بين الحضارات، ومن ثم تبني حوار الحضارات، لتلافي أسباب النزاع والخصام. فالكرة الأرضيّة اليوم كمركب يطوف على سطح محيط مُضطرب، وليس كسطح جغرافي جامد وثابت، وإن كانت منطقتنا اليوم أكثر تموّجاً وخلخلة وثورة، فلا بُدّ من أسلوب تفكير، وأشكال ممارسة، تتسِمُ بلمِّ الشمل، وجذب مناطق التوتر نحو مركز مستقر. ويقع علينا كثير من العبء في تجاوز التفجرات، وامتصاص الغليان، وتفهّم أسباب الخلاف بين المكونات، والبحث عن صيغ مستوعبة، وقواسم مشتركة لصالح هذه المكونات، لنقف على أرضيّة لا نخجل فيها من تقديم طلبات الحوار مع الآخر.
-السيد عبد السلام مدني: مع وجود تعريفات متعددة للحضارة، إلا أنني أميل إلى ما لخّصه عنها (مالك بن نبـي) بأنها مجموع (ثقافة) أمة أو شعب ما، ومنتجها الثقافي، مجموعاً مع منتجها (التقني/التكنولوجي/المادي/المدني)، أو كما يسميه في مكان آخر (الأفكار + الأشياء). وبالحق فإن مصطلح (Civilization أو Civilisation) قد عانى من مشكل الترجمة من الإنكليزية إلى العربية، وهل هو (حضارة)، أم (مدنية)؟ باعتبار أن كلمة (Civil) تعني (مدني!) كما شرح ذلك الدكتور (محمد عمارة) بإسهاب في كتابه (معركة المصطلحات). لذا فالحضارة لها ارتباط وثيق بالثقافة، وبالتالي بحوار الحضارات، من ناحية الاصطلاح، وبنية المصطلح، وأيضاً من ناحية الإسقاط على الواقع كممارسة.
والحضارة كمفهوم شامل تعني ما يميز شعباً أو أمة معينة عن الآخرين، من حيث مجموع طرق العيش، والعلاقات الاجتماعية، والوضع الاقتصادي، وأنظمة الحكم، والفنون، والآداب، والعادات، والتقاليد، والميراث التاريخي، والقيم الدينية، والأخلاقية، ومقدار التقدم العلمي، والتقني، ومقدرة الإنسان في كل حضارة على الإبداع، والإنجاز، والإنتاج، في كل هذه النواحي.

* الحوار: ما أهمية الحوار بين الحضارات، وأهدافه، ومجالاته؟
- الأستاذ محمد رشدي عبيد:  تنبعُ أهميّة الحوار بين الحضارات من اختلاف المناخ والبيئة، ومن ثم الأذواق والرؤى بين القارات والبلاد، فلكل منطقة من العالم طبقات أركيولوجية وأنثروبولوجية، تشكّل - ولو إلى حين - بناءَها الثقافي، وتؤثر على توجهاتها الحضارية، وأشكالها الجيوسياسية، وأيديولوجياتها المفضلة، وتلوّنها بألوانها المتعدّدة. ومن كشفِ وجُوه التبايُن والتشابه عبر الحضارات، يمكن الوصُول إلى حدّ رؤيتنا لتنويعاتٍ تجري على سيمفونية واحدة، وتفسح المجال لقَدْر مثير من التبادلِ، والاستكشافِ المشترك، ومن ثمَّ حاجة كل حضارة للسفر مفهوميّاً إلى الحضارات الأخرى، التي قد تجد فيها صورتها التاريخية، أو شذرات من تطلعاتها وطموحاتها الإنسانية. فأحياناً قد لا يكون الأمرُ تحرير مناط أسباب الصراع، بل أسباب عدم فهم الآخر، وقد يكون للإعلام دور في تأصيل هذا الحد من عدم الفهم، بإعادة إنتاج التاريخ، لصنع واقع طبقاً لتاريخ يلعب فيه المخيال - والتحيزات، التي أشار إليها كل من (إدوارد سعيد) و(المسيري) - دوراً في نقل صورة نمطيّة عن الحضاراتِ الأخرى.
إن كان لكل حضارة أن تحتفظَ بتصوّرها الجوهري لحضارتها، مكتفية بتفاعلاتٍ حدودية، تجنباً لصدام الحضارات - وكما يقول بعض الكتاب- فإن مقولة (هنتنجتون) لا تحظى إلاّ بالقليل من الاهتمام، بعد صعود أيديولوجيا التعددية الثقافيّة. فالحضارة الأمريكية - على سبيل المثال - ليست جسماً بنيوياً متجانساً، ففيها أكثر من 2000 أثنية ودين ومذهب وثقافة، والحضارة الكوكبية القادمة لا بُدّ أن تحتوي هذه المكونات وتستوعبها خارج أمريكا وأوروبا، فقد أصبحت أوروبا أشبه بتباين ديناميكي متحرّك، حتى ليدعو كتابٌ إلى الاستفادة من كل التجارب الدينية في الغرب.
فعلى الرغم من التعدديات، توجد هناك عُملة مشتركة بين الجميع، وهو الفكر والمنطق، والقيم الإنسانية، والمصالح المشتركة بين الشعوب قاطبة، وتتجلّى أهداف الحوار في البحث عن أرضية مشتركة للتثاقف والتعاون، فيما فيه مصلحة الإنسانية على جميع الصعد والمجالات، بعيداً عن العُقد النفسيّة والحزازات، ومنطق القوة والعدديّة، وما لم يقم عليه دليل علمي، من وجود فوارق تشريحية في الدماغ، أو امتلاك أمة لكل الحقيقة، بل هي عوامل تاريخية، وتراكمات من الأحقاب الجيولوجية، وصدف قدرية، جعلت بعض الأمم تتسلم راية الحضارة، فتلونها بلونها، وتحاول تعميمها، أحياناً بتكلف، أو أحادية في التصور.
-السيد عبد السلام مدني: البشر يعيشون في تجمعات، أمم، دول، شعوب، ولكل مجموعة بشرية ملامحها الثقافية الخاصة بها، والتي ساهمت عبر التاريخ، بشكل كلي أو جزئي –حسب كل أمة– في ترك بصمة على التركة الحضارية للإنسان على الأرض. ولئن كانت الأمم متباعدة في الأزمنة الغابرة، والتواصل بينهم والتأثير والتأثّر قليل، فإنه ازداد بعد ذلك في فترة الامبراطوريات، المتجاوزة لحدودها السياسية والأممية والإثنية، التي جعلت من ثقافتها غالبة على أهلها، وعلى الآخرين، برضا أو بقهر. ومنهم من أنتج تقنية ومدنية على أساس ثقافتها، ليتمخض عن ذلك حضارة متميزة ذات ملامح خاصة بتلك الأمبراطورية أو الأمة. حالياً أصبحنا نعيش اليوم عالماً مفتوحاً، ولم تعد الحروب والسيطرة العسكرية، بالشكل التقليدي، واردة، وأصبحت المصالح متداخلة، والأسواق مترابطة، والثقافات متلاقحة، فكان لا بد من فتح باب الحوار بين مختلف هذه الحضارات، التي صنعت التاريخ، بل وحتى تلك التي اكتفت أن تكون معبرة عن أهلها فقط، وحافظت على تميزها فقط. وكل ما هو مطلوب: خلق فضاءات الحوار، وتطوير مهارات وآليات للحوار بين الحضارات، لكي يصبح معنى القرية الصغيرة صحيحا، في بناء علاقات حوار وجوار وتعاون، بعيدة عن الإرهاب الفكري والجسدي، أو السيطرة بالقوة الناعمة أو الخشنة، أو التدخل باسم الاستعمار أو الاستحمار!

* الحوار: ما هو الإطار الرئيس المرجعي للحوار؟
- الأستاذ محمد رشيد عبيد: تتقاسم العالم أديان شتى، وأيديولوجيات وضعية، ومذاهب متفرعة، وأفكار، عمقت بعض المفاهيم والاعتبارات. فـ(العلمانية) ركّزت على مذهبية العلم التجريبـي والمعرفة الحسية، جانحة إلى التطرف، حيناً على حساب الأبعاد الميتافيزيقية في ذات الإنسان، واليسار بدا منتصراً للكادحين، وأصّل ذلك أيديولوجياً لحدِّ الدوغمائية والتقديس، وألحدة المعرفة. و(الليبرالية) تجافي العقل أحياناً، بزعم الحرية، وتهيمُ في أودية الممنوع والممتنع. و(الديمقراطية) تبالغ في زعم كفاية حكم الأغلبية على حساب الأقليات، والنوابغ النوادر من المفكرين، غير الخاضعين لقولبة النظم السياسية. فلا بُدّ من وضع أطر مرجعية للحوار المتجدد، في كل تحقيب معاصر، تعتمد على العقلانية غير المتحيزة، والضمير اليقظ، والقراءة الموضوعية الشفافة للآخر، والنصوص التي لا تحجب الحقيقة. فليس كل أسلوب معولم في الحياة ذا سمة جبرية، بل قد يكون من صنع أشخاص وجماعات، وينتشر عبر قرارات وأنشطة، لا تخلو من ردود فعل أو شهوات غير منضبطة حضارياً، بل قد تمثل خروجاً على القانون الطبيعي.
- السيد عبد السلام مدني: على كل من يؤمن بالإنسان، باعتباره قيمة عليا في هذه القرية، وبأنه صاحب رسالة إنسانية على هذه الأرض، ويؤمن بأن الإكراه والقسر والإقصاء والإلغاء والتهميش ليس سلوكاً إنسانياً، بل هو - بالأصل-  ما تخوفت منه الملائكة، على الأقل وفق تصور الأديان السماوية الرئيسة الثلاثة: (الإسلام – المسيحية – اليهودية)، من أول ما خُلق (آدم)، بأن تأتي مجموعات بشرية تريد أن تلغي حرية الإرادة والاختيار عند أخيه الإنسان، وأن يقوموا بالإفساد في الأرض: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} البقرة (30)، وبأن أول خطيئة عملية قام بها الإنسان على الأرض كانت (القتل): {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} المائدة (30)، وهي أوضح حالات عدم تحمل الآخر، وإقصائه من الحياة جملة وتفصيلاً، هذا هو الإطار المرجعي الأكبر. ومن بعد ذلك، لا بد من الانطلاق من مرجعيات وأدبيات كل حضارة على حدة، للانطلاق من المعرفة الموجودة فيها، واستخدام الآليات والوسائل المطروحة هناك، وأخلاقيات التعامل التي تحقق غايات الحوار الحضاري. وهي كثيرة وثرية، وبينها جميعا الكثير من المشتركات، التي من الضروري تحديدها لتكون أرضية صلبة للانطلاق نحو خطاب عالمي، يجمع على المشتركات، ويحفظ الخصوصيات، لتسير (سفينة الأرض) في بحر هادئ إلى أرض الأمان!

* الحوار: ما منطلقات (حوار الحضارات)، وهل هو رد على (صدام الحضارات)؟
- الأستاذ محمد رشدي عبيد: منطلق حوار الحضارات أن الحوارات هي أساس تقدم العلم والتنوير الفكري والنمو المعرفي، وهي أداة بناء الذات العارفة، التي تعيش عصرها، وتهتم بواقعها، بما ينقل إليها عبر الحوارات ذاتها والسجالات، مما يشحذ ذهنها، ويوقظ ضميرها، ويشعرها بمسؤوليتها، ويدفع بها إلى واجبها. أضف إلى ذلك، ضرورة رصد التحولات والتطورات والانقلابات الفكريّة والاجتماعية والفلسفية في عالم اليوم. فالحوار بالنسبة إلى الأمم المتخلفة، في بعض واجهات التقدم، ضرورة واقعية، لتنجو من الانقراض والهامشيّة، وسوء الحالة الحضارية. وبالنسبة للأمم المتقدمة واجب أخلاقي، تفرضه النظرة الغائية للعالم. أمّا كون الحوار رداً على فكرة الصدام، التي أعاد تأصيلها (هنتنجتون)، فهي منهجياً ليست رد فعل فيزيقي، لتجنب ويلات الحروب والصراعات فقط، حيث يعم السلام، الذي يدفع إلى التفكير جدياً، فيرفع سقف الأداء البشري الحضاريّ، ويوفر العائد في توفير الحياة الكريمة لعددٍ أكبر من الناس، بل هي مبدأ يقوم على القوانين الطبيعية الراسخة، التي منحت المخ البشري ملايين الخلايا للكشف والإبداع والتنمية، وسبر هذا العالم، وكشف خبايا النفس البشرية، بينما تتكفل غدة واحدة، وهي غدة الأدرينالين، بالتحفز الضروري لمواجهة أي خلل في مسيرة الإنسان، وعلاقته بالآخر والطبيعة. بل إن ما أخذ على الثورات، التي كانت تحمل شعارات إنسانية، أنها أكلت أبناءها، وأفرطت في استعمال العنف، لغلبة الانفعالات الجامحة على الضمير والعقل. وإن من منطلقات الحوار كونه ضرورة واقعية، ومبدأً إنسانياً، ووسيلة للسلام، وجني ثمراته التنموية والحضارية، ولا ننسى أن للدين والإسلام مداخل خطابية، تتوق تخليص العالم من آلامه، أو تخفيفها، وتعظيم الخالق، ومقاربة رضاه، الذي يفهم ضمن أطر العقل والضمير.
- السيد عبد السلام مدني: أنا مؤمن أن النصوص الأساسية والمعتمدة، لكافة الحضارات الرئيسة، تدعو إلى الحوار والعيش المشترك، وفيها الكثير من الأسس التي من الممكن أن نبني عليها مجتمعاً إنسانياً، يسمح بالحوار بدلا عن الإلغاء والإقصاء، والمسح أو المسخ. ومع ذلك أنا مؤمن بأن هناك مجالا كثيراً لسوء التأويل لنفس هذه النصوص الأساسية، للقيام بعكس ما ذكرت. ومن أكبر الأدلة على ذلك، تلك الممارسات التي قام، ويقوم بها، المنتمون إلى هذه الحضارات/الثقافات، تاريخياً بكثرة، وحالياً بشكل أقل، ولكن ما يزالون يشكلون تهديداً. لذا فإن (صاموئيل هنكتنتون) كان يقرأ هذا الجانب من التاريخ والواقع، وأسس على ضوء ذلك نظريته في (صدام الحضارات). في جانب آخر، فإن حوار الحضارات لم يكن رداً على ما قاله (هنكتنتون)، فالمحاولات كانت وما تزال، قبل وبعد الكتاب، لأنها حاجة إنسانية ملحة. ولا أحبذ أن تكون رد فعل، لأن (رد الفعل) قد ينتهي مع (الفعل)، والمطلوب أن يكون الحوار نفسه (فعلاً) قائماً مستقلاً بذاته، على أسس معرفية، وذا آليات، وطرق، تجعل العالم مكانا يستحق أن يكون محلاً لعيش الإنسان.

* الحوار: هل عرف تاريخ العلاقات بين الحضارتين الإسلامية والغربية فترات حوار وتفاعل؟
- الأستاذ محمد رشدي عبيد: فضلاً عن أن الحضارة الغربية عرفت فترات صراع وتفاعل بين البربرية والبداوة، والمدنية والحضارة، بين الخرافة والعلم، بين التعصب المذهبـيّ والتسامح، فكذلك الحضارة الإسلامية عرفت ذلك. أمّا الحوار بين الحضارتين، فرغم أنه لم تقم له مؤسسات وقنوات دائمة، فقد شهد تاريخ العلاقات بين الحضارتين فترات تبادل ثقافي، عن طريق الحروب الصليبية، والأندلس، كما هو معروف.
- السيد عبد السلام مدني: لا أتصور أن البشرية مرت بمرحلة كان الحوار فيها حاجة ومطلباً بأن يكون منهجاً مبرمجاً، كما نحن عليه الآن، فالتداخل العالمي والاحتكاك، بسبب التكنولوجيا، جعل من المسألة حتماً لازباً، لا مفر منه. فاليوم أصبح الإنسان/الفرد يشكل خريطة علاقاته على أساس عالمي، ومستوى وكم المعرفة بين يديه لا حدود لها، وأحدنا قد يعرف أوضاع دولة أخرى، تبعد عنه آلاف الأميال، أكثر من معرفته بما يدور في مدينته التي يعيش فيها!!
إن كانت هناك حالات ومقاطع موجودة، ومبادرات، تحاول خلق جو من الحوار، البعض منها كان جهداً منظماً، والبعض الآخر محاولات فردية ومرحلية، فـ(تاج محل) - على سبيل المثال لا الحصر - فيه أركان، كان الفلاسفة من مذاهب وأديان متعددة، يأتون إليها للمناظرة والحوار في أمور الدين والعقيدة، وهي وإن كانت معرفية أكثر، إلا أنها على الأقل كانت تهيئ أرضية للمختلفين أن يعبروا عن ذاتهم، كما وتوفر فرصة للحوار وللتفاهم.
من جانب آخر، أقول إنه لا بد من فتح باب الحوار مع الجميع، وأتفهم دواعي التوجه الذي يدعو بشدة إلى الحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية، باعتباره الأهم. فالحضارة الإسلامية نحن منها، ونوعية علاقتنا مع الغرب متأثرة بنوعية التفاعل بيننا، كما وأن الحضارة الإسلامية كانت هي التي سلّمت مشعل الحضارة للغرب، وما زلنا لم نفق من صدمة أننا خسرنا كوننا الحضارة الرائدة في العالم، وبين الغرب الذي هو حاليا الحضارة الرائدة، وهي حالياً منتجة الأفكار والأشياء، بقوة وبتقانة غير مسبوقة، وبسرعة مهولة، مع أننا نستخدم المصطلح مجازاً، ونعمم في إطلاقه - ويبدو أن لا مناص من ذلك-. ومع ذلك أختم كلامي بسؤال استنكاري: هل كل الدول المسلمة تمثل توجهاً وفكراً وثقافة واحدة؟ هل كل الغرب غرب واحد؟؟!

* الحوار: النظام العالم الجديد يعني تفوق حضارة واحدة على باقي الحضارات، كيف يمكن تلافي ذلك؟
- الأستاذ محمد رشدي عبيد: يكون ذلك، من جهة الغرب خصوصاً، بالنظر الموضوعي لفكرة التقدّم، وأنه ليس حصراً بزيادة الكم المادي والتقنية المرفهة فقط، وأن السعادة ليست حصراً في زيادة كم اللذات -التي تنسب لـ(أبيقور) دون أن يريد هو ذلك- بل بالتوازن بين المادة والعقل، والإحساس وفضائه، والشعور ولذاته. ووجدانياً لا بُدّ من التواصل بشكل فعّال وبنّاء مع الآخر، لا بشكلٍ جارح وعنف لفظي، واتهام بالتخلف، بل بدراسة ما يمكن أن يقدمه كل للآخر، ولحلّ إشكالياته، وتحديد المصالح، والصعوبات، المشتركة.
- السيد عبد السلام مدني: إن كان المقصود بالنظام العالمي الجديد، فكرة أحادية القطب، فظني أنها مقولة نظرية أكثر منها حالة واقعية. فـ(أمريكا) في بداية التسعينات، وفي 2003 ، اضطرت في تدخلها في العراق أن تجمع من حولها دولاً، سمتها (متحالفة)، لكي تتخذ خطوتها تلك. (الاتحاد الأوربي) يشكل ثقلاً في المعادلات الدولية، (روسيا) عادت بقوة إلى الساحة السياسية، ودورها في أحداث (سوريا)، مع (الصين)، لا يخفى على أحد. كل هذا من الجانب السياسي، وليس الجانب الاقتصادي بأحسن حال. فبشكل عام ما موجود من قوى حضارية، وقوى سياسية واقتصادية، وتلاقحات أو احتكاكات ثقافية، وأخرى اجتماعية، يجعل من مقولة السيطرة والتفوق ليست بالسهولة والتبسيط الذي توحي به مقولة النظام العالمي الجديد وأحادية القطب. من جانب آخر، فإن تداخل المصالح - بفعل التكنولوجيا- جعلت من الحوار الحضاري ضرورة لازمة، لأجل خلق نظام دولي للتعامل على مستويات متعددة، وخاصة الاقتصادية والسياسية، وأحياناً إلى ميادين أخرى ثقافية واجتماعية. فالديمقراطية - على سبيل المثال - أصبحت مطلباً جماهيرياً عاماً، ومقياساً لمدى توفر الحريات العامة والخاصة، في مختلف الدول، ولكل الشعوب. مفاهيم حقوق الإنسان، والمرأة، والطفل، أصبحت مقاييس لمدى (تحضّر) البلدان، وأصبح المزاج العام يدفع باتجاهاتها، من مختلف الأطياف الفكرية والأيديولوجية. هناك حاجة ماسة لسياسات واتفاقيات دولية لتنظيم الاقتصاد العالمي. وكذلك الحال مع مواضيع متعلقة بالبيئة. نعم هناك متطرفون يدعون حتى إلى إيجاد دين عالمي! ولكن – كما قلت – هذا تطرف! ولا يقول به الكثيرون. وهذا يذكرني بمقولة لـ(توماس فريدمان) حيث يقول: إن معركة الإرهاب ليست بين الإسلام والغرب، إنما هي بين المتطرفين من كل جانب!
الإشكالية الأكبر في هذا الموضوع هي أن الأطراف/الحضارات الأخرى ضعيفة، وليس لديها منتج فكري/ثقافي أو تقني/مدني في هذه المجالات، وغيرها، من الممكن أن يجاروا به ما هو مطروح من قبل الحضارة الرائدة. فالإشكالية ليست أن الآخر أقوى، بقدر ما هي أن المقابل هو أضعف من أن يكون شريكاً! لذا تبقى الحضارة الرائدة حالياً تطرح مشاريعها بالقوة الخشنة، والناعمة، وتغلب الآخرين! فالكثيرون منا، ومن غيرنا، يتعلمون ويتحدثون اللغة الإنكليزية – اللغة الرسمية الأكبر في الحضارة الغربية، مع وجود لغات أخرى فيها – لأنها أصبحت لغة العلم والتجارة والتواصل العالمية. فلا أحد يضغط، إنما هي الحاجة. وهكذا كانت اللغة العربية في يوم من الأيام، لغة للعلم وللتجارة وللتحضر. ومع ذلك هناك أمور يجب أن لا نخشى منها، وأن نجعل حوارنا منطلقاً من فكرة: (انفتاح دون ذوبان، وانغلاق دون تقوقع)، كما يصفها الدكتور (يوسف القرضاوي).

 *
الحوار: هل سيثمر الحوار في ظل عدم التكافؤ الحضاري؟
- الأستاذ محمد رشدي عبيد: على الرغم من أن الغرب يمثل اليوم منطقة وجاهة، لها جاذبية مثيرة، لوتيرة التقدّم فيها، وهذا يجعله الطرف الأقوى، فإنه إذا توافرت النوايا الحسنة، وأُزيلت الرؤى القائمة على فهم مبتور، وتأويل أناني لـ(نظرية دارون)، حول البقاء للأقوى. وبالمناسبة بين يدي كتاب ألّفه كاتب بريطاني، هو (ريتشارد داوكينز)، باسم (الجينة الأنانية)، يقر فيه بضرورة تجاوز أنانية الجين، لبقاء القيم. كما ذكر (سكوت هيبارد) مؤلف كتاب (السياسة الدينية، والدول العلمانية)، الصادر سنة 2014، عن سلسلة (عالم المعرفة)، أن الصراع، في تجلّياته المعاصرة، بين دول العالم الأول، والعالم الإسلامي، ليس من أجل قيم الدين الخالصة، التي تدعو إلى الوحدة والسلام، بل من منظورات، فيها من التعصب وروح الانتقام، عرفت من منظور ديني. وليس من باب الشماتة أن نذكر بحاجة الغرب إلى قيم، قد نجدها من مقومات حضارتنا. وبين يدي كتابان، أحدهما عنوانه: (انتحار الغرب)، والذي صدر سنة 2011، يشير كاتبه (ريتشارد كوك)، إلى سيطرة المحسوس والمادي على الميتافيزيقي والإنساني، مع تمزيق التقاليد والقيم الدينية، ولأنماط الفكر المستقرة، وللاستقرار الشخصي والاجتماعي، داعياً إلى احترام التنوّع، وجذب الآخر إلى فلكه ودائرته المكانية، بالقدوة والقوة الناعمة!! وآخر عنوانه: (آلام العقل الغربي)، يبيّن كاتبه الأمريكي (ريتشارد بارناس) أن عقل ما بعد الحداثة، رغم نسبيته الدوغمائية، وريبيته الممزقة قسراً، فإنه يؤشر إلى ضرورة ممارسة حوار مفتوح بين مواقف فكرية مختلفة، قواميس متباينة، نماذج إرشادية (باراديغمات) ثقافية متنوعة، وأن الدين ينتعش ويهتدي إلى أشكال تعبير جديدة، ومنابع إلهام.
أما بالنسبة لنا، فلا بُدّ من تبنّي فلسفة واضحة للوجود والعالم والتاريخ والتقدّم والثقافة والتنمية، لرفع مستوى شعبنا، بالتوازي والتفاهم مع الشعوب والدول المحيطة بنا، أو المقاربة لنا في معالم الهوية، وسمات الخصوصية، وفتح مراكز استراتيجية لدراسة إمكاناتنا البشرية والمادية والجيوسياسية، ووضع الطرق الأمثل للتقدّم، وفقاً لصيغة تناسب العصر، ولا تجرح الكينونة القيميّة لإنساننا، وأن نتيقن أن الشعوب لا تنهض بدون التخلّي عن الأنانية، حيث تتحوّل كل المواهب والمؤسسات: السياسية والاجتماعية والإعلامية والتعليمية، إلى وسائل لرفع مستوى الشعب، من أجل غد أفضل للأجيال القادمة. كما أنه من الضروري أن نعثر على أسلوب معاصر لعرض رؤيتنا على أبنائنا، والعالم، عرضاً وسطيّاً بين النظرة التشاؤموية للتاريخ، وبين النظرة الطوباوية، التي تعرضه كبنية فوق الواقع، وقدرات الإنسان، بحيث لا نحتاج إلاّ إلى جرة قلم، وشيء من تجلّيات الإرادة، لإعادة صنع واقعنا. فالأمر يحتاج إلى إبداع عقلي، وفهم لروح العصر، ومقاصد الدين، وتجديد يبرمج الشعارات الدينية والوطنية والكوكبية في مشاريع وبرامج مرحلية، قبل أن يجتاحنا الزمن الآتي بتحدياته وآفاقه. وإذا كان لا بُدّ لنا من تحليل أسباب النزاعات بيننا وبين الغرب: سياقها، وبنيتها، ومفارقاتها، واتجاهاتها الباطنية، وسلوكياتها الحركية، لعلاجها في ظلّ التفاهم، فلا بُدّ أولاً من معالجة نزاعاتنا وفق مجموعة من المتطلبات الأخلاقية، وأهمها: العدل، والتجرّد في التعاطي مع النزاع، والنظر في مشروعية أهداف الطرفين المتناقضة، وإنه لا بُدّ للمتصدين للحوار أن يتمكّنوا من لغات الغرب، وأن يطلعوا على أوضاعه، وأن يتمكّنوا من معرفة طرق تفكيره وفلسفته في الحياة، ليثمر الحوار، وتشاد جسور التقدير المتبادل، لا مجرّد قراءة ما يريده الآخر منا: سياسيّاً واقتصاديّاً.  
- السيد عبد السلام مدني: أرى، أتابع، وأقرأ للكثير من النخب الفكرية والأدبية، من مختلف الأطراف، ومن الضروري فتح أبواب الحوار مع وبين جميع من يؤمنون بالحوار، لأنه مطلب إنساني للمجتمع العالمي الإنساني، بغض النظر عن القوة السياسية أو الاقتصادية للأطراف. فلكل طرف خصوصيته في طرحه ومناحي قوته، والتكامل بين مختلف الأطراف هو سر النجاح، وإرادة الحوار والعيش المشترك هي المحرك الأساس.
ومع ذلك، فإن للسياسة، ولبعض رجالاتها، أحياناً كثيرة، يدهم العليا في تشويه كل هذه المحاولات، بل وتحويلها إلى صراع وصدام حقيقي، يزيد من المخاوف بين الأطراف. هذا طبعا من جانب الحضارة الرائدة، أما في الجانب الآخر، فالفعل الأولي – عند البعض –، وافتراض أن الآخر عدو، من حيث كونه مختلفاً! وعند البعض الآخر، هو رد فعل تجاه ما يرى من سياسات إقصائية له، ومؤامرات تحاك ضده، ونهب لثروات بلده، أو استفزاز لمعتقداته. وهؤلاء من الطرفين، أو مختلف الأطراف، هم المتطرفون الذين يأخذوننا في مسارات صدام الحضارات، وليس إلى الحوار بينها.
أنا شخصياً عندي أمل كبير بالمستقبل، ونسبة العقلاء والنشطاء المهتمين بالحوار الحضاري بين الحضارات في تزايد، كماً ونوعاً، وعلى مختلف المستويات. وأختم بمقولة أخرى للمفكر الفيلسوف (مالك بن نبـي) حول استيراد الحضارة، إذ يقول: الحضارة لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر، رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها. لأن الحضارة إبداع، وليست تقليداً، أو استسلاماً وتبعية، كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى. فبعض القيم لا تباع، ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها، كثمرة جهد متواصل، أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار.

* الحوار: في الختام تتوجه المجلة بالشكر الجزيل للسيدين (محمد رشدي عبيد) و(عبد السلام مدني) على إسهامهما في هذا النقاش، وإغناء الموضوع بطروحاتهما القيمة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق