01‏/12‏/2014

البرازيل أنموذج الدولة الوطنية المتطلعة للنهوض

هفال برواري
بعيداً عن الأحداث الدامية في الشرق الأوسط، وقريباً من الدول الطامحة في التقدم والنهوض، والمثال (البرازيل) التي تمتلك شعباً ذا أصول متباينة، وأعراق مختلفة، مع ذلك استطاعت أن تكوِّن دولة وطنية قوية، استطاعت الاستفادة من كل ما تملكه من متناقضات بيئية وديموغرافية، تحت مظلة الوحدة الوطنية، واستطاعت أن تتقدّم بعد أن كانت تئنُّ من الفقر والظلم السياسي، لكن ما دام هناك وطنيّون يحملون همّ الوطن بجد وشعب يحلم بوطن متقدم فلا بد لها النهوض ولو بعد حين وهاكم قصة نهوض المارد البرازيلي..!!
من المهم دراسة متأنية لتجربة هذه الدولة ونهضتها الاقتصادية العملاقة التي وصلت إلى الإعلان رسمياً عنها عام (2011) أنها سادس أكبر دولة نمواً في العالم قاطبة "متقدمة" بذلك على بريطانيا؟ وكيف استطاعت بسياساتها الجبارة بقيادة (لولا سيلفا) الذي قال عنه أوباما: "(لولا سيلفا) هو السياسي الأكثر شعبية على وجه الأرض"!! أن ينقل البرازيل من هوة الإفلاس إلى قمّة التقدم الاقتصادي من خلال ثماني سنوات فقط (2003-2010). وكيف استطاعت تلك السياسات التأثير في حياة ملايين البرازيليين ونقلهم من مصاف الطبقات الفقيرة إلى الطبقة الوسطى.

مقدمة:
 البرازيل البلد الذي يعتبر أكبر دولة في كل من أمريكا الجنوبية ومنطقة أمريكا اللاتينية. وخامس أكبر دولة في العالم، سواء من حيث المساحة الجغرافية أو عدد السكان وهي تعتبر بلد المتناقضات تجمعت فيه ناطحات السحاب مع عشش الصفيح، ومناخياً توصف بأنها أكبر مستودع للتنوع الحيوي في العالم، حيث تتواجد جميع الأنظمة البيئية. وديموغرافياً يعيش على هذه الأرض شعب يتألّف من أعراق وأصول متباينة يصل العدد السكاني الى ما يقارب الـ 200 مليون نسمة موزعين بين 54% بيض 39% ملونين ينقسمون بدورهم إلى الملاتو (سلالة ناتجة من تزاوج الأفارقة والبيض) والكابوكلوز (سلالة ناتجة من تزاوج الهنود الأصليين والبيض) والكافوكوز (تزاوج الأفارقة والهنود الأصليين) و6% زنوج و1% المهاجرين العرب، أمّا عدد السكان الأصليين الذين بقوا على نقائهم ولم يختلطوا بأي من الشعوب القادمة يصل إلى نحو 200 ألف نسمة اى ما يعادل 0.1% من إجمالي السكان. إلاّ أنه مجتمع متجانس عرقياً، بمعنى أن هذه الأصول لا يمكن وصفها بأنها طوائف أو أعراق مختلفة أو متصارعة أو يمكن رسم خطوط فاصلة بين تجمعات منفصلة تقوم على أساس اللون، وربما يكون الاستثناء الوحيد هو مجموعة السكان الأصليين الذين يصرّون على الاحتفاظ على نقائهم وخصوصيتهم الثقافية وما زالوا يسكنون في غابات الأمازون، ويعتقدون بخصوصيتهم وضرورة الحفاظ عليها، لأنها كل ما تبقى لهم في معركة الإبادة التي خاضوها ضد الرجل الأبيض طوال 500 عام عند وصول البرتغاليين لأراضي البرازيل. أي بمعنى أنها امتلكت مناخاً ديموقراطيّاً قبل أن تبدأ مرحلة الديموقراطية في البرازيل؟ وهي تمتلك قوة سكانية لا يستهان بها مع قدراتها الطبيعية من حيث الأراضي الزراعية الشاسعة والأنهار الكثيرة والثروات الطبيعية مثل النفط والمعادن الوفيرة.

مراحل الأزمات التي واجهتها
في البدايه أود التوضيح أن كل دولة تحكمها النظم العسكرية مصيرها الانهيار والتشرذم والتخلّف، ولقد ابتليت البرازيل مثل دول الشرق الأوسط بالحكم العسكري، وكانت بداية الحقبة العسكرية سنة 1930 وفي عام 1964 استولى الجيش على كل مفاصل الدولة، وبدأت حقبة القمع السياسي، وتراجعت الديموقراطية والحرية وانتشرت الاعتقالات والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية داخل البرازيل، واستمرّ هذا الحال حتى السبعينيات من القرن المنصرم عندما حوَّل العسكر نظام الدولة إلى الرأسمالية وتحالفت مع أمريكا، وقامت بقرض الأموال لدفع مشروعها التنموي إلى الأمام ودافعت عن رجال الأعمال ومصالح الشركات التي كانت قد اخترقتها! ولم تعبأ بالطبقات الفقيرة والمسحوقة مِمّا خلَّفت ديوناً اقتصادية كبيرة وخلّفت عبئاً على الأجيال اللاحقة واستمر مسلسل الأزمات الاقتصادية إلى حقبة الثمانينيات التي عاشت الدولة أزمة الديون ومعدلات التضخّم المرتفعة مع تراجع في معدلات النمو، وفي حقبة التسعينيات اضطر العسكر إلى التراجع من الحياة السياسية التي تـمّ انتقالها بشكل تدريجي إلى السلطة المدنية، بعد فشله في الحكم، واختفى العسكرُ عن المشهد السياسي، وفي هذا العقد انتهجت السلطة نظاماً رأسماليّاً قائِماً على السوق الحرة والانفتاح على العالم كله، وانتهاج نهج الخصخصة حسب توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين مِمّا أدى إلى تقدّم في مؤشرات الاقتصاد الكلي، وهو ما لم يكن يعنى تقدّماً فعلياً، بمعنى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي أصابت المنتجين المحليين بخسائر فادحة مِمّا أدّى إلى مزيد من البطالة وتراجع حاد في الإنتاج المحلي ومن ثم تراجع معدلات التصدير، وكذلك ارتفاع معدلات الفقر التي كانت مرتفعة أساساً وعلى هذا فقد أثبتت تجربة التسعينيات في البرازيل والعديد من دول العالم الثالث أن استقرار الاقتصاد الكلي لا يعنى بالضرورة نمواَ حقيقياَ في الاقتصاد والإنتاج ولا يعنى تقدماً في مستوى دخل الأفراد وحل المشكلات الاقتصادية مثل البطالة ومستويات الفقر المرتفعة ومشكلات الدين العام والتضخم وغيرها.

محاولات النهوض
بعد صعود (كاردوسو) (1995-2002) إلى سدة الحكم في أواسط التسعينيات حاول بكل جهده بإنجاح خطته القائمة على دمج الاقتصاد المحلي بالاقتصاد العالمي مع الاستمرار بسياسة السوق الحرة مع الاستدانة الخارجية، ولكنه دخل في مستنقع الديون حيث بلغت نسبة الديون 900% وأدّى ذلك إلى خلق عدم الثقة للدول المانحة لها وكذلك المستثمرين وشارفت الدولة على الإفلاس!

صحوة المارد البرازيلي
ولما وصل (لولا سيلفا) (2003 - 2010) ذو التوجه اليساري إلى سدة الحكم، بدأ مارد البرازيل ينهض بجهوده الجبارة ومشروعه القائم على:
1- سياسة التقشّف (لسدّ عجز الموازنة مع القضاء على أزمة الثقة بين المستثمرين).
2- تغيير سياسات الاقراض بخفضها، وتسهيل إقامة مشاريع صغيرة لتوفير فرص العمل، وبالتالي رفع الإنتاج والنمو وبالتالي حل مشكلة الفقر..
3- التوسُّع في الزراعة في البلد واستخراج النفط والمعادن.
4- التوسُّع في الصناعة (بشقيها الخفيفة والبسيطة والصناعات المتقدِّمة مثل صناعة السيارات والطائرات، مثل شركة (امبراير Embraer)، والتي تعتبر الآن ثالث أكبر شركة تصنيع طائرات تجارية بعد إيرباص وبوينغ، وأكبر شركة مصدرة في كل البرازيل، وتمثل طائرات شركة «إمبراير» 37% من أسطول شركات الطيران الإقليمية في أمريكا
5- تنشيط السياحة، حيث نجحت في استقطاب 5 ملايين سائح كل عام.
6- خطة الإعانات الاجتماعية لحلِّ مشكلة الفقر، ورفع مستوى الدخل مقابل إرسال أطفالهم إلى المدارس التي كانت تحت سطوة شركات المخدرات المافيوية، والتي كانت لها تنسيق مع الحكومات لتهميش التعليم في المناطق النائية لكي ينخرط الشباب في العمل المخدراتي!! وكان مردود هذا المشروع الاجتماعي في أواخر حكمه هو رفع مستوى ما يقارب 33% من نسبة السكان.
7- التوجُّه نحو التكتلات الاقتصادية، حيث أنها خطت خطوات متميزة على مستوى السياسات الاقتصادية الخارجيّة. من خلال منظمة (الميروكسور) وهى بمثابة السوق المشتركة لدول الجنوب، وتشكّلت باعتبارها اتفاقية للتجارة الإقليمية بين كل من البرازيل والأرجنتين وباراكواي وأوروكواي في 1991 وعضوية غير كاملة لفنزويلا وبوليفيا. وهى تعد اليوم رابع أكبر قوة اقتصادية في العالم، وقد اهتمت سياسة "لولا" الاقتصادية على المستوى الخارجي بالقيام بدور قوي في التأثير على النظام الاقتصادي العالمي من خلال اجتماعات (الميركوسور). ويرصد الباحثون الاقتصاديون تنامي ذلك الكيان الاقتصادي الجنوبي في الوقت الذي يتدهور فيه الاتحاد الأوروبي. وعلى جانب آخر شكلت البرازيل مع روسيا والصين والهند مجموعة (البريكس BRICS) في 2009 انضمت لها جنوب أفريقيا في 2010. ويمثل تجمع هذه الدول الخمس أكبر الاقتصاديات على مستوى الدول النامية، حيث يعادل الناتج الإجمالي المحلي لتلك الدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة. وقد قام هذا الكيان على أساس أطروحة مفادها أنه بحلول 2050 ستنافس اقتصاديات تلك الدول اقتصاد أغنى دول العالم. وهى على أي حال تشكّل واحدة من أكبر الأسواق العالمية وأسرع الاقتصاديات نمواً في العالم.
8- ترجمة النجاح الاقتصادي إلى مكاسب سياسية.
هذا وقد قد حرص "سيلفا" على توثيق العلاقات مع كل الدول، وابتعد عن الصراعات السياسية، وعند نجاحه في الانتخابات ذهب فوراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية وقال لـ(بوش): "إن قضيتي ليست العراق ولكن قضيتي هي محاربة الفقر لشعبـي، فهناك الملايين من البرازيليين من الفقراء والجوعى، فكيف لي أن اهتم بالعراق". فالرئيس "لولا" امتلك الحكمة التي جعلته لا يتورّط في صراع مع الولايات المتحدة في بداية فترة حكمه، حيث أنه استلم دولةً لديها جملة من المشكلات الاقتصادية وشعباً يعاني من الفقر والجوع. ولكن وفي فترة رئاسته الثانية، وبعد أن تجاوزت البرازيل كبوتها الاقتصادية أبدت انطلاقاً أكثر على مستوى السياسة الخارجية، والتدخل في قضايا كانت من قبل بعيدة عن اهتمام حكام البرازيل أو حتى من اهتماماتهم، مثل الملف النووي الإيراني، ففي حديث تليفزيوني تحدث فيه عن موقفه من العراق يقول: "لقد كانت قصة العراق أكذوبة ولذلك لا أريد تكرارها مع إيران" وبالفعل قامت الدبلوماسية البرازيلية بدورٍ محوري في الدفاع عن حق إيران لامتلاك تكنولوجيا نووية، كما واجهت بالرفض الشديد لأي محاولة أمريكية لضرب إيران عسكرياً كما عارضت فرض عقوبات على الأخيرة. إذا يبدو أن الرؤية السياسية البرازيلية في عهده عبرت عن الارتباط الحكيم بين القوة الاقتصادية وبين اتخاذ مواقف فعالة في السياسة الخارجية.
وبعد هذا العرض الموجز لمشروع (لولا) الاقتصادي فلا غرابة أن تقوم البرازيل بعد هذا النمو الاقتصادي، وأن تكون من الدول المقرضة للبنك الدولي، لقد نجح لولا بسبب:
1- رؤيته الواضحة.
2- وارادته السياسية القوية.
3- الصدق والشفافية مع شعبه حيث أنه عاش في بيئة فقيرة عمل صباغاً للأحذية منذ طفولته، وخاض غمار الحياة السياسية عندما أصبح بالغاً، وشارك في المنظمات التي تدافع عن حقوق العمال وحقوق الشعوب المهضومة من قبل المتسلطين فهو كان يحس بمعانات شعبه، ولم يغب هذه الصورة عن ذهنه حتى بعد وصوله للحكم.

4- مع عدم إهمال الأغنياء أثناء حكمه وعدم الانتقام منهم بل شاركهم في عملية نهوض الدولة. 5- مع تكاتف جماهيري له وامتلاك الشعب الوعي الذي ساعده من خلال أعطائهم ثقتهم وساندوه في مشروعه التقشفي في بداية حكمه. 6- مع المناخ الديمقراطي الذي تم تهيئته قبل مجيئه بـ17 عاماً، لأن الحفاظ على آليات الديمقراطية هو الضمانة الحقيقية لعدم ظهور الفساد واستفحاله، وأن المهم ليس فوز مرشح أي تيار في الانتخابات الرئاسية، بل الأهم هو ضمان إمكانية إسقاط هذا المرشح مرة أخرى أن لم يحقق النجاح من خلال صندوق الاقتراع، لا أن يكون وصوله معناه إلغاء الديمقراطية والعودة إلى أنموذج الرئيس اللانهائي؟، والواقع فإن "لولا" قد خاض غمار الانتخابات الرئاسية، وفشل ثلاث مرات في 1990 و1994 و1998، ثم حقق النجاح في المرتين الرابعة في 2002 والخامسة في 2006، ومن المعلوم أن الذي يحكم البرازيل الآن هي السيدة المناضلة (ديلما روسيف) اليسارية من حزب العمال والتي درست الاقتصاد والتي كانت يوماً من الأيام وبالتحديد عام 1970 يتم تعذيبها بالكهرباء والغرق في الماء لمدة 22 يوماً من قبل العسكر وها هي الآن تتربّع عرش البرازيل في العصر الذهبـي لهذه الدولة. فقد نجحت عام 2010 بوصولها إلى سدة الحكم، وقد نجحت في انتخابات 2014 التي خاضها الشعب البرازيلي قبل شهر لتتربع على عرش الرئاسة للمرة الثانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق