01‏/12‏/2014

تأملات في آية التيه

صالح شيخو
مقدمة:
 اعتبر القرآن الكريم أن الابتلاء والمحنة سُنة لا محيص عنها لعباده الصالحين والمخلصين، كأداة صقل وتنظيف أخلاقي، واستنفار للطاقة، وصهر الجماعة في نار المحنة، ولهذا جعل للمشقة محاسن وفضائل، وإن انبعاث الحضارات وولادتها في العادة لا يأتي من ظروف الراحة والدعة، بل في
وسط التحدي ومواجهة الصعوبات وتجاوزها بنجاح وعقل نيّر لتولد الأفكار المبدعة التي تولد من رحم المعاناة، وتتجاوز الترسبات والأفكار المنحلة والعودة من جديد إلى إدارة الحياة..
لكن الفساد بأنواعه، والاستبداد بجوانبه ومجالاته، إن لم توضع له حدود، فالعواقب ستكون وخيمة والخسائر جسيمة. ألا ترى أن واقع
العالم العربي والإسلامي، ومن الأمس البعيد وإلى اليوم، ما عدا فسحات هنا وهناك في زمان ومكان ما، العيش فيها بين المطرقة والسندان من صيحات بتهديد خارجي ودعوات بتفسخ داخلي، يمر بأوضاع يرثى لها من فساد يسري في جسم الأمة ليشل حركتها نحو النهوض والريادة، ومن استبداد سياسي واقتصادي واجتماعي وإعلامي وحتى عائلي وإداري وفني، يخرج النشء إلى الدنيا، وقد غطى هذا الاستبداد الحياة بكذبه ونفاقه ودَجَله، ويتربى وكأن الحياة صراع بين وحوش مفترسة لا مجال للفقير والضعيف للعيش فيها، وإن وجد فهو إما تابع ذليل، أو فخور عليل، "وإنك لترى أركان الفساد الاجتماعي مقترنة، يزجي بعضها بعضاً إلى جهنم، فيما رواه النبـي (صلى الله عليه وسلم): "عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ، لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ"(1)، الأول يمثل الاستبداد السياسي، والثاني يمثل الطغيان الرأسمالي، والثالث وهو الفقير الفخور،يمثل خدم النظام من الأتباع الذين يمشون في ركاب الكبراء والأغنياء، إنهم صعاليك، ولكنهم يفخرون بسادتهم الذين التحقوا بهم. فإذا انضم إلى هذا الفساد الاجتماعي تأييد المحترفين من رجال الدين، فقد بدت سوأته وطاشت رميته. عن عوف بن مالك: سَمِعت رَسُول الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُول: "إِنِّي أَخَاف على أمتِي من أَعمال ثَلَاثَة، قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُول الله، فَقَالَ: زلة عَالم، وَحكم جَائِر، وَهوى مُتبع"(2). وليس هذا التحذير من الولاية العامة فحسب، بل إن كل رئيس لعمل، دق أو جل، ينبغي أن يستعظم حق الناس في رعايته، وحسن القيام عليه، حتى لو كان رئيس ثلاثة كتبة في ديوان، أو رئيس ثلاثة عساكر في قرية، أو أقل أو أكثر من ذلك، فإن توفر العدالة في أمة من الأمم لا يبلغ تمامه إلا إذا حسن الإشراف على شوؤنها كلها، وصينت حقوق الناس في نواحي الحياة جميعاً"(3).
وفي ظل هذه الأنظمة "يمكن لحبل الكذب أن يفوق سور الصين في الطول، وليس في القوة والصنعة، عندما يترك الشعب للمفسدين ليفسدوا في الأرض، ويهلكوا الحرث والنسل، حيث يلجأون لتكميم الأفواه، والربط على العيون، حتى يصاب الناس بعمى الألوان، ويفقدون القدرة على التمييز بين الحابل والنابل. ولأن الجزاء من جنس العمل، فإن مثل هذا الأمر لا يحدث في العادة إلا عندما لا يعتصم الشعب بـ(حبل الله) المتين، ويندفع للتردي في حبائل الشيطان، الذي يصبح سجّاناً للإنسان، حيث يقيد يديه وإرادته بحباله، ويغل قدميه بحبائله، ويخوفه حتى يصبح جباناً يخاف من كل شيء، ويصل الأمر إلى أن يرى (الحبل) فيهتز رعباً ظاناً أنه ثعبان. ومما يساعد السلطة في تطويل حبل كذبها، تقصير المناوئين والمعارضين عن أداء دورهم، وخاصة القضايا التي تهوى تسلق السلطة بـ(الحبال الصوتية) و(الحبائل السوطية)، حيث أن هذا الصنيع يطيل عمر الحاكم، الذي إذا أراد أن يدمر حريات أي شعب، يستطيع أن يفعل ذلك بسهولة، عندما ينثر بين أفراد الشعب الهبات والمنح والعطايا. وهكذا من لم يأت بسيف المعز جاء بذهبه، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، تعددت الأسباب والموت واحد!
والموت الذي نعنيه هنا هو الاسترقاق، ودخول حظيرة الحاكم، والتحول إلى فرد في القطيع، الذي يضم أكثر بطانات المستبدين، وحواشي الطغاة، وتضم هذه البطانات كل ذي ناب، وذي ظفر، وكل ذي مخلب من البشر، وهم من مختلف الألوان والأطياف. إذ لا يهم المستبد أن يكون الذئب أبيض أم أسود، المهم أن يصطاد فرائسه، وفرائسه في هذه الحالة هم أبناء الشعب، ممن لم يدخلوا (بيت الطاعة) أو ينضموا إلى القطيع!"(4).
واليوم يشبه حالنا إلى حد كبير مرحلة التيه، التي عاشها بنو إسرائيل بعد رفضهم وعنادهم دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.
فبعد أن نجى الله عز وجل (موسى)- عليه السلام - والذين ساروا معه، وأغرق (فرعون) وجنوده في اليم، سار (موسى)- عليه السلام - ببني إسرائيل قاصداً الأرض المقدسة، وطلب منهم أن يدخلوها معه، فلما علموا أن فيها قوماً جبارين أشداء خافوا من مواجهتهم ورفضوا الدخول، وقالوا لـ(موسى) - عليه السلام - : [إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ] (المائدة: 24).
فكان العقاب الإلهي نتيجة رفضهم، أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وجاء الحكم الصارم: [قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ] (المائدة: 26)، وظل بنو إسرائيل خلال هذه المدة يبحثون عن مخرج من التيه، وكلما توهموا مخرجاً اندفعوا إليه، وبذلوا فيه جهدهم، ليفاجأوا بعد ذلك أنه ليس سوى سراب(5).
وهذا يعطينا تصور أن الذين خرجوا مع (موسى) - عليه السلام - ونجوا من (فرعون)، ما زال في نفوسهم أمراض العبودية والاستعباد، مجتمع مريض يمشي باتجاه الموت. حيث أنه (عليه السلام) واجه أعظم حضارة في عصره، وقد تبين له أن لا أمل في "إصلاح المجتمع الفرعوني الذي وضع الموت يده الباردة عليه، إنه يريد شعبه، الذي ينتظره أن يدفن في الصحراء، أولاً من خلال التيه، كي يخرج من أصلابهم جيل لا يعرف غير الشمس والحرية، وهو الذي لن يرتعد من القوم الجبارين، الذين توهمهم آباؤهم كذلك"(6).
خلال مدة التيه مات (موسى) و(هارون) - عليهما الصلاة والسلام - وتولى حكم بني إسرائيل من بعد (موسى)- عليه السلام – فتاه: (يوشع بن نون)، وانقضت السنوات الأربعون، وأراد (يوشع بن نون) أن يحارب الجبارين، ويدخل الأرض المقدسة، لكن ما فعله الجيل الجبان مع (موسى) - عليه السلام - لم يكن ليبرح مخيلته، لذلك فقد وضع شروطاً قاسية لمن يريد الخروج معه(7) .

الشروط القاسية
قال (يوشع بن نون) لقومه، وهو يهم الدخول إلى الأرض المقدسة: "لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْنِ، وَلاَ آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا، وَلَمَّا يَرْفَعْ سُقُفَهَا، وَلاَ آخَرُ قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا، أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ مُنْتَظِرٌ وِلاَدَهَا..."(8).
معاني المفردات:
بُضْعَ: قيل أنها كناية عن الفرج، الجماع، ملك الولي للمرأة، مهر المرأة، الطلاق، النكاح. يَبْنِيَ بِهَا: والبناء بالمرأة: الدخول بها، وأصل ذلك أنهم كانوا يبنون بناء لمن أراد أن يدخل بزوجته. بَنَى بُنْيَانًا: بنى داراً أو قصراً. خَلِفَاتٍ: جمع خلفة، وهي الحامل من النوق.
فهنا نرى "أن (يوشع بن نون) - عليه السلام - قد شخَّص السبب الرئيس الذي من أجله رفضت بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة مع (موسى) - عليه السلام - ألا وهو حب الدنيا والتعلق بها، لذلك اشترط على من يريد الخروج معه عدم انشغال البال أو تعلق القلب بشيء من الدنيا، لأنه لو تساهل في هذا الأمر لخرج معه من تشعبت همومه وخواطره في أودية الدنيا، فيصبح كل ما يتمناه ألا يصاب بمكروه، وأن يعود سالماً حتى يستكمل مسيرته الدنيوية كما تطمح نفسه"(9).
وما أدق ما قاله الإمام (النووي) في تعليقه على هذا الحديث، وما يستفاد منه: بأن الأمور المهمة ينبغي ألا تُفَوّض إلا إلى أولي العزم وفراغ البال، ولا تُفوَّض إلى متعلق القلب بغيرها، لأن ذلك يُضعف عزمه، ويفوت كمال بذل وسعه فيه(10).
وأراد بهذه الأشياء المذكورة، كما يقول (ابن الجوزي): جمع الهم، فإن الهم إذا تفرق ضعف فعل الجوارح، وإذا اجتمع قوي: من تأمل هذا الحديث علم فرق ما بين أمتنا وبني إسرائيل، فإن أولئك لما أذنبوا دلوا على طريق التوبة وأتوها متلاعبين بالدين، وهذا يدل على أن الذنوب ما آلمتهم، ولا دخل خوف الجزاء عليها في قلوبهم، ولا اكترثوا بالتحذير من عواقبها، ولا سروا بالدلالة على طريق النجاة من شرها.

آيات القصة
قال سبحانه وتعالى: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ(22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] (المائدة: 20-26).
وقال تعالى: [وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ] (البقرة: 51).
وقال تعالى: [وَوَاعَدْنَا موسى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً] (الأعراف:142).

الاستبداد الموروث
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتعتاد الخضوع، وتأنس للمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية. إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت منك ليقتحم فيها. وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه، ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر. وقد ضرب النبـي (صلى الله عليه وسلم) مثلاً لهدايته، وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة، أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في (مصر)، وطبع عليها طابع المهانة والذل، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحداً من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله (موسى) - عليه السلام -، وبين لهم أنه أخرجهم من (مصر) لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم. وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمراً يشق عليهم، يتطيرون بـ(موسى) ويتململون منه، ويذكرون (مصر) ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياماً لمناجاة ربه، اتخذوا لهم عجلاً من حليهم، الذي هو أحب شيء إليهم، وعبدوه، لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين، وإعظام معبودهم العجل (أبيس). وكان الله تعالى يعلم أنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري: إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية. وما كان الله ليهلك قوماً بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم "ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا، فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوماً آخرين، جعلهم هم الأئمة الوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم الموافقة لسنته وشريعته المنزلة عليهم". فهذا بيان حكمة عصيانهم لـ(موسى) بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة(11).

نِعَم الله قبل التيه على بني إسرائيل
نعمة الله، ووعده الواقع، من أن يجعل فيهم أنبياء، ويجعلهم ملوكاً، وإيتائه لهم بهذا، وذلك، ما لم يؤت أحداً من العالمين حتى ذلك التاريخ. والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله، فهي إذن يقين.. وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده. وهذا وعده الذي هم عليه قادمون، والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين(12).
قوله تعالى: [إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ]، أي أنبياء يدعونكم إلى الهدى، ويحذرونكم من الردى، ويحثونكم على سعادتكم الأبدية، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون(13).
وقوله تعالى: [وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]، فيه خمسة أقاويل: أحدها: لأنهم مَلَكوا أنفسهم، بأن خلصهم من استعباد القبط لهم.
والثاني: لأن كل واحد ملك نفسه وأهله وماله.
والثالث: لأنهم كانوا أول من ملك الخدم من بني إسرائيل.
والرابع: أنهم جُعِلُوا ملوكاً بالمَنِّ والسَّلْوَى والحَجَر.
والخامس: أن كل من ملك داراً وزوجة وخادماً، فهو ملك من سائر الناس(14).
وقوله تعالى: [وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ]، فيه قولان: أحدهما: المن والسلوى والغمام والحجر.
الثاني: كثرة الأنبياء فيهم، والآيات التي جاءتهم(15).

موجبات إنزال التيه ببني إسرائيل
قال تعالى: [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا موسى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا موسى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] (البقرة:49-61).
1- النجاة من ذبح الأبناء واستحياء النساء:
قال تعالى: [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ].
وقوله: [فَأَنْجَيْناكُمْ]: أصله ألقيناكم على النّجاة، وهو ما ارتفع واتّسع من الأرض. هذا هو الأصل، ثم سمّي كلّ فائز ناجياً، كأنّه خرج من الضيق والشدة إلى الرخاء والراحة.
[مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ]: أي أشياعه وأتباعه وأسرته وعزّته وأهل دينه، وأصله من الأول، وهو الرجوع، كأنّه يؤول إليك.
[يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ] يعني يكلّفونكم ويذيقونكم أشدّ العذاب وأسوأه، وذلك أنّ (فرعون) جعل بني إسرائيل خدماً وعبيداً، وصنّفهم في أعمالهم، فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون، وصنف يخدمون، ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال، فعليه الجزية (16).
2- غرق آل فرعون:
قال تعالى: [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]، هذا زيادة في التفصيل بذكر نعمة أخرى عظيمة خارقة للعادة، بها كان تمام الإنجاء من آل فرعون، وفيها بيان مقدار إكرام الله تعالى لهم، ومعجزة لـ(موسى) عليه السلام. وفَرَق: ومعناه: الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء، غير أن فرق يدل على شدة التفرقة، وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالاً.
وقوله: [فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ] هو محل المنة وذكر النعمة، وهو نجاتهم من الهلاك وهلاك عدوهم. وقد أشارت الآية إلى ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من (مصر)، من لحاق جند فرعون بهم لمنعهم من مغادرة البلاد المصرية (17).
وقوله: [وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ]، في هذه الآية لم يتحدث الحق (جل جلاله) عن (فرعون)، وإنما تحدث عن إغراق آل فرعون. لماذا؟ لأن آل فرعون هم الذين أعانوه على جبروته وبطشه وطغيانه، وهم الأداة التي استخدمها لتعذيب بني إسرائيل.
والله (سبحانه وتعالى) أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون، فوقفوا يشاهدونهم. وأنت حين ترى مصرع عدوك، تشعر بالمرارة التي في قلبك وهي تزول. [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] تحتمل معنى آخر، أي: ينظر بعضكم إلى بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا البلاء العظيم، وفي الوقت نفسه تطمئنون وأنتم تشاهدونهم وهم يغرقون، دون أن ينجو منهم أحد، حتى لا يدخل في قلوبكم الشك، أنه ربما نجى بعضهم وسيعودون بجيش ليتبعوكم(18).
3- عبادة العجل والعفو من الله تعالى:
قال تعالى: [وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]، هذا الوعد كان لإعطاء (موسى) المنهج، فحينما كلّم الله (سبحانه وتعالى) (موسى) بجانب الطور، كان هذا لإبلاغ (موسى) - عليه السلام - أنه رسول من رب العالمين، وأنه أرسله ليخلص بني إسرائيل من طغيان فرعون وعذابه، وأنه سيمده بآيات ومعجزات، حتى يقتنع فرعون وقومه أن (موسى) رسول من الله (تبارك وتعالى)، بعد تكليف (موسى) بالرسالة وذهابه إلى (فرعون)، وما حدث مع السحرة، ثم نجاة (موسى) وقومه، بأن شق الله (جل جلاله) لهم البحر، هذا في وقت لم يكن المنهج قد نزل بعد. ولذلك بمجرد أن نجَّى الله (سبحانه وتعالى) (موسى) وقومه، وأغرق فرعون، كان لا بد أن يتم إبلاغ (موسى) بالمنهج. وكان الوعد يشمل أربعين ليلة. هذه الليالي الأربعون حددت كثلاثين أولاً، تم أتمها الحق سبحانه وتعالى بعشر أخرى. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: [وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً] (الأعراف:142)، والحق سبحانه يقول: [ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ]، يريد أن يمّحص بني إسرائيل، ويبين لنا كفرهم بنعم الله. فالله نجاهم من آل فرعون، ولم يكادوا يعبرون البحر حتى رأوا قوماً يعبدون الأصنام، فقالوا - كما يروي لنا القرآن الكريم -: [يا موسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] (الأعراف: 138)، حدث هذا بمجرد خروجهم من البحر سالمين. (موسى) عليه السلام أخذ النقباء وذهب لميقات ربه، وترك أخاه (هارون) مع بني إسرائيل، وزين لهم الشيطان أن يصنعوا منها عجلاً من الذهب يعبدونه، صنعه لهم (السامري)، فأخذ الحلي، وصهرها، ليجعلها في صورة عجل له خوار، وقال لهم: هذا إلهكم وإله (موسى). وقال الله تعالى عنهم: [ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ](19).
4- الإيمان ولكن بشرط:
قال تعالى: [وَإِذْ قُلْتُمْ يَا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]. بعد أن تاب الله على قوم (موسى) بعد عبادتهم للعجل، عادوا مرة أخرى إلى عنادهم وماديتهم، فهم كانوا يريدون إلهاً مادياً، إلهاً يرونه، ولكن الإله من عظمته أنه غيب لا تدركه الأبصار. قال تعالى: [لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير] (الأنعام: 103).
فكون الله (سبحانه وتعالى) فوق إدراك البشر، هذا من عظمته (جل جلاله)، ولكن اليهود الذين لا يؤمنون إلا بالشيء المادي المحسوس، لا تتسع عقولهم ولا قلوبهم إلى أن الله (سبحانه وتعالى) فوق المادة وفوق الأبصار.
وليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطراً حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة. وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين"(20).
5- كفران النعمة:
قال تعالى: [وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]، فالله (سبحانه وتعالى) يريد أن يمتن على بني إسرائيل بنعمه ومعجزاته، ويرينا أنه برغم كل هذه النعم، عاش بنو إسرائيل في عنادهم وتعنتهم، بعد أن طلب بنو إسرائيل أن يروا الله جهرة فقتلتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله (تبارك وتعالى) لعلهم يشكرون. ذكر لنا الحق (جل جلاله) نعماً أخرى من نعمه على بني إسرائيل، وقال اذكروا إذ كنتم في الصحراء، وليس فيها ظل تحتمون به من حرارة الشمس القاسية، وليس فيها مكان تستظلون فيه، لأنه لا ماء ولا نبات في الصحراء، فظلل الله (سبحانه وتعالى) عليكم بالغمام، أي جاء الغمام رحمة من الله (سبحانه وتعالى)، ثم بعد ذلك جاء المن والسلوى. نوع من الحلوى اللذيذة المغذية سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم. والله (سبحانه وتعالى) جعله بالنسبة لهم وقود حياتهم، وهم في الصحراء، يعطيهم الطاقة. أما السلوى، فهي طير من السماء، ويقال إنه السمان، يأتيهم في جماعات كبيرة، لا يعرفون مصدرها، ويبقى على الأرض، حتى يمسكوا به ويذبحوه ويأكلوه.
6- تبديل القول:
قال تعالى: [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]، والحق (جل جلاله) حين خاطبهم بين لنا أنهم لم يكونوا في حالة جوع شديد، بحيث يأكلون أي شيء، فقال: [فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً]، أي ستجدون فيها ألواناً كثيرة من الطعام، تغريكم على الأكل، ولو لم تكونوا جائعين.
وقوله تعالى: [وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا]، أي: ادخلوا الباب، وأنتم في منتهى الخضوع، [وَقُولُواْ حِطَّةٌ] أي: حط عنا ذنوبنا يا رب، غير أنهم حتى في الأمر يغيرون مضمونه، ويلبسون الحق بالباطل، وهذه خاصية فيهم، ولذلك دخلوا الباب وهم غير ساجدين.. دخلوه زاحفين على ظهورهم، مع أن ما أمرهم الله به أقل مشقة مما فعلوه، فكأن المخالفة لم تأت من أن أوامر الله شاقة، ولكنها أتت من الرغبة في مخالفة أمر الخالق، ليطوعوا اللفظ لأغراضهم. فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة، ولكن رغبة في المخالفة.
7- تفجير العيون ثم التمادي:
قال تعالى: [وَإِذِ اسْتَسْقَى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ]. تَعْثَوْا: عثِي الظَّالمُ عثَا: أفسد أشدَّ الإفساد، وبالغ في ظلمه وتكبّره وكفره (21).
وكان طمع (موسى) - عليه السلام - في رحمة الله بلا حدود، ولذلك فإن دعواته لقومه كانت تتوالى، وكانت الاستجابة من الله تأتي: [اضرب بِّعَصَاكَ الحجر]. الله (سبحانه وتعالى) أراد أن يُرِي بني إسرائيل مدى الإعجاز، فأعطاهم الماء من الحجر الذي تحت أرجلهم، ولكن من الذي يتأثر بالضرب: الحجر أم العصا؟ العصا هي التي تتأثر وتتحطم، والحجر لا يحدث فيه شيء، ولكن الله (سبحانه وتعالى) أراد بضربة واحدة من العصا أن ينفلق الحجر. إن انفجار الماء من ضربة العصا، دليل على أن العصا أشارت فقط إلى الصخرة، فتفجر منها الماء، وحتى لو كانت العصا من حديد. يقول الحق سبحانه وتعالى: [فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً]، لماذا اثنتا عشرة عينا؟ لأن اليهود كانوا يعيشون حياة انعزال، كل مجموعة منهم كانت تسمى (سبطا)، لها شيخ مثل شيخ القبيلة. والحق تبارك وتعالى يقول: [قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ] أي: كل سبط أو مجموعة ذهبت لمشرب. نبعت العيون من الحجر، امتدت متشعبة إلى الأسباط جميعاً كل في مكانه، ملتزماً بالأداء، فإذا فرج الله كربه، وعادت إليه النعمة، يعود إلى طغيانه. ولذلك يقول الحق (جل جلاله) فيها: [كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ] أي: لا يكون شكركم على النعمة بالإفساد في الأرض. كذلك حدث لبني إسرائيل، قيل لهم: [كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ] فأفسدوا في الأرض، ونسوا نعمة الله، فنزل بهم العذاب(22).
8- استبدال الأدنى بالذي هو خير:
قال تعالى: [وَإِذْ قُلْتُمْ يَا موسى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ]، لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها، والسماء بشواظها ورجومها. فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى: عسلاً وطيراً.. ولكن البنية النفسية المفككة، والجبلة الهابطة المتداعية، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر، ومن أجلها ضربوا في الصحراء. لقد أخرجهم الله - على يدي نبيهم (موسى)- عليه السلام - من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة، وليرفعهم من المهانة والضعة. وللحرية ثمن، وللعزة تكاليف، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية. ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية، حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة، حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة. إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في (مصر). يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء وما إليها! وهذا ما يذكرهم القرآن به. وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة: ولقد تلقى (موسى) عليه السلام طلبهم بالاستنكار: [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ]. أتريدون الدنية، وقد أراد الله لكم العلية؟
[اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ]..
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد، لا يستحق الدعاء، فهو موفور في أي مصر من الأمصار، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها، وإما بمعنى عودوا إذن إلى (مصر) التي أخرجتم منها. عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة. إلى حياتكم الخانعة الذليلة، حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها، ويكون هذا من (موسى) عليه السلام تأنيباً لهم وتوبيخا. [ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ].
9- غضب من الله تعالى:
قال تعالى: [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]، لم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة، فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم - وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين - وقد كفروا أشنع الكفر، واعتدوا أشنع الاعتداء، وعصوا أبشع المعصية. وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل! ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة. كانوا دائماً يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون، وهم وحدهم شعب الله المختار، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله، وأن فضل الله لهم وحدهم، دون شريك. قد طلب بنو إسرائيل من (موسى) أن يدعوا الله (سبحانه وتعالى) أن يخرج لهم أطعمة مما تنبت الأرض، وعددوا ألوان الأطعمة المطلوبة، وقالوا: [مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا].. ولكنها كلها أصناف تدل على أن من يأكلها هم من صنف العبيد، والمعروف أن آل فرعون استعبدوا بني إسرائيل، ويبدو أن بني إسرائيل أحبوا حياة العبودية واستطعموها.
وقوله تعالى: [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة]. الذلة هي المشقة التي تؤدي إلى الانكسار، وقوله تعالى: [وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله]، أي غضب الله عليهم بذنوبهم وعصيانهم، حتى أصبح الغضب من كثرة عصيانهم كأنه سمة من سماتهم(23).
وهكذا أسلمهم الله - وهم على أبواب الأرض المقدسة - للتيه، وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم، والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم، حتى تنبت نابتة جديدة، وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل، جيل يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء، وحريتها، صلب العود.. جيل غير هذا الجيل، الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في (مصر)، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل! والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد، كما يفسد فطرة الشعوب(24).

العبيد وعشق الذل والهوان
قوله سبحانه: [قَالُوا يَا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ].
هذه هي صفات النفس المنهزمة داخلياً، والمستعبَدة، التي تهيء تربة المجتمع لاستنبات بذور الاستعباد، التي تنشئ في النفوس والقلوب أخلاقيات وسلوكيات الضعف والخوف، والخور والجبن..."كما كان بعض العبيد يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم في (أمريكا)، بعد تحريرهم كلهم، ومنع الاسترقاق بقوة الحكومة، لأنهم ألفوا تلك الخدمة والعبودية، وصارت العيشة الاستقلالية شاقة عليهم"(25). إن الممارسات والهموم اليومية الفردية والعائلية، تُفقد الإنسان الطموح وعشق الحرية، وحتى التفكير بها، "ويهرب من تضحيات التحرر، بإلقاء الثقل على السلطة المستبدة، ليرتاح.. ويكون ثمن هذه الراحة هو حياة الأغلال، التي يرى الإنسان من خلالها التحرر تمرداً، والاستعلاء شذوذاً، والعزة جريمة، ومن ثم يصب نقمته الجامحة على الأحرار، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق.. التي تجري وراء من استغنى عنها، وتطلب محبة من ترفع عنها"(26).
هذا ما نلمسه من اليهود، الذين خرجوا مع (موسى) - عليه السلام -، حيث كان أغلب اليهود، عندما ظهر (موسى) عليه السلام، "كان الذل قد رسم خطوطاً عريضة عميقة في أعصابهم... فأكثر أتباع (موسى) ألفوا الذل والهوان، ألفوا إذلال الفراعنة، وأن تنحني أصلابهم لغير الله، وأن يضربوا فلا يتألموا، لكن عدداً قليلاً من الناس سلمت فطرته، وصحت عقيدته، وعرف الدين صلة بالله ترفع الرؤوس، وتزكي النفوس، وتجعل المؤمن يجتاز دروب الحياة، وهو لا يعرف إلا ربه، ولا يبغي إلا رضاه. أما الجيل الذي ألف الدنايا، وتحمل ذل (فرعون) دون أن يتمرد، فقد فسد"(27).
ولهذا نرى أن المناداة بالحرية ودعوات الإصلاح لا تنجح بين العبيد، لأنهم ألفوا الذل والهوان، والرضا بالحياة الدونية، حتى قيل في المثل: "لو أمطرت السماء الحرية، لرفع العبيد المظلات فوق رؤوسهم"، وذلك لأن الحرية تحتاج إلى العقل والتفكير، والتفكير من أخص خصائص الإنسان، فإذا فقد العبد الفكر بإرادته، فإنه لا يستطيع أن يغير معتقده، ونمط حياته، وأن يعيش بحرية. وهنا نتساءل: "لماذا يحتمل الناس طاغية لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدر على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه؟ ولماذا يتحول الإنسان إلى كائن مسخ يتقن الكذب والتمثيل؟ ولماذا لا يرى عيباً في عبوديته، ويشعر أنها طوق يستحيل كسره، بل ربما رأى التحرر انتحاراً؟! إنه لا يوجد شيء يبرر الحط من مكانة البشر، ولا يبرر البؤس ولقمة العيش الاستسلام للعبودية، بل من حق البؤساء التمرد في وجه الانتهاك الإنساني، الذي كانوا ضحاياه المعذبين طويلاً، لأنهم إن لم يقوموا بذلك فسيدخلون في حالة الإحباط وعدم الفاعلية، ومن ثم لا يستطيعون تقديم الشهادة العلمية للحرية، ولا البقاء في ميدان الصراع من أجلها دون استسلام، ليس لأنهم مكبلون بأغلال الحديد، وإنما لأنهم مكبلون بفقدان المبادأة والمقاومة"(28).
القدوة والقيادة في شخصية (موسى) عليه السلام
- الالتقاء: ونعني التقاء الداعي بالمدعوين، وبأكبر جمع ممكن، وهذا ما فعله (موسى) - عليه السلام - مع فرعون وقومه، إذ أتاهم يدعوهم إلى الله تعالى وعبادته وحده. وفي الالتقاء ببني إسرائيل عانى (موسى) - عليه السلام - من المتاعب والإيذاء، والاستهزاء والسخرية الكثير، مما يتطلب الكثير من الصبر والتحمل.
قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] (الصف: 5).
"وإيذاء بني إسرائيل لـ(موسى) - وهو منقذهم من فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم - إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق. ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صوراً شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء.
ومع هذا التبجح والعصيان والمضايقات، أتى ثمرة الالتقاء المتكرر والمعايشة المستمرة اختيار واصطفاء بعض الرجال لموعد الميقات، واختيار النقباء، فكان:
- الانتقاء: والانتقاء من النقي، وحقيقته: دهن العظام، ومجازه: لباب كل شيء(29).
[وَاخْتَارَ موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا] (الأعراف: 155).
واختار من الاختيار، بمعنى: الانتخاب والاصطفاء.. أي: اختار (موسى) سبعين رجلاً من قومه للميقات الذي وقته الله له، ودعاهم للذهاب معه. وهؤلاء السبعون كانوا من خيرتهم، أو كانوا خلاصتهم، لأن الجملة الكريمة جعلتهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار، وكأن بني إسرائيل على كثرتهم لا يوجد من بينهم فضلاء سوى هؤلاء السبعين(30).

القيادة التفويضية
فَوّض: فوض إليه الأمر: صيره إليه، وجعله الحاكم فيه(31).
قال تعالى: [وَوَاعَدْنَا موسى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ] (الأعراف: 142).
ومعنى اخلفني: كن خلفاً عني، وخليفة، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده، فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف. فالخلافة وكالة، وفعل خلف مشتق من الخلْف- بسكون اللام - وهو ضد الأمام، لأن الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه، والغائب يجعل مكانه وراءه(32).
يعني: أن (موسى) لما أراد الذهاب لميقات ربه استخلف عليهم أخاه الكبير هارون-عليهما السلام - للحكم بينهم والإصلاح فيهم، إذ كانت الرياسة فيهم لـ(موسى)، وكان هارون وزيره ونصيره ومساعده، وأوصاه بالإصلاح فيهم وفيما بينهم، ونهاه عن اتباع سبيل المفسدين في الأرض. واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم، ومساعدتهم عليها، ومعاشرتهم والإقامة معهم في حال اقترافها(33).

السياسة محورها الإصلاح
جمع (موسى) في وصيته لأخيه هارون- عليهما السلام - بقوله: [وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ] فإن سياسة الأمة تدور حول محور الإصلاح، وهو جعل الشيء صالحاً، فجميع تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره.
وقوله: [وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ] تحذير من الفساد بأبلغ صيغة، لأنها جامعة بين نهي- والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه - وبين تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين.
فلا جرم أن كان قوله تعالى: ولا تتبع سبيل المفسدين، جامعاً للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد، وهي: العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد، وعمل المفسد، وإن لم يكن مما اعتاده، وتجنب الاقتراب من المفسد ومخالطته"(34). لأن من مهام الأنظمة المستبدة "قلب الحقائق، وتزييف الوقائع، وقلب السنن ذات الارتباط بالعلاقات بين الناس، حيث تقرب البعيد، وتبعد القريب، تكبّر الصغير، وتصغّر الكبير، تقدم من حقه التأخير، وتؤخر من حقه التقديم، ترفع العملاء، وتضع العلماء، تقف مع الأغنياء ضد الفقراء، ومع الأقوياء ضد الضعفاء، ومع الفاسدين ضد الشرفاء، وتنحاز إلى صفوف الملأ ضد الجماهير، وإلى لوبيات الظالمين ضد الصالحين، وإلى جماعات الأقلية ضد تيارات الأغلبية، وتبتكر كل يوم المزيد من الأوضاع والآليات والقوانين واللوائح التي تكرس الفوارق بين تخمة الفاسدين الأرقاء، وإذلال الشرفاء الأحرار"(35).
ولأن اتباع سبيل المفسدين يؤدي إلى التمزق الفكري والروحي، وجب أن يكون الإصلاح داخلياً "بإيقاف حركة التمزق التي تسود الأمة، وذلك بالقضاء على الانهزام النفسي، باللجوء إلى قوة الإيمان، التي يمكن بها مواجهة هذا التمزق، التي تكون درعاً تتكسر عليه هجمات أعداء الدين، ولن ينتصر الحق إلا برجال يضحون ويبذلون ويحتسبون، ويكونون أنصار الله في العسر واليسر والشدة والرخاء..."(36).
وفي هذا درس مهم للحركات الإسلامية التي تعمل في السياسة، وتشارك في البرلمانات والحكومات ذات التوجه غير الإسلامي، أن تزج بأفرادها الخيّرين، ذوي العقول النيرة، والأفكار السديدة، وأصحاب المشاريع التي تخدم المواطن، وتحمل همومهم، وأن تراعي في ذلك أصحاب الكفاءة والنزاهة، بعيداً عن الصلات الاجتماعية والعشائرية.
نقول: لو تغلغل هذا الفكر في عقول القيادات الإسلامية، دخلت هي أيضاً في التيه، وكانت سبباً في تأخير مرحلة النصر والتمكين، وكانت سبباً أيضاً في توالي الضربات الموجعة داخلياً وخارجياً، وقد تؤدي هذه الضربات إلى التمزق والانقسام، أو الانشطار، ناهيك عن الاستقالات الجماعية، وحتى الاختراق، والتفرق شذر مذر.

العودة إلى بدايات البعثة
قال تعالى على لسان (موسى) - عليه السلام -: [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29) هَارُونَ أَخِي(30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا] (طه:29-35).
طلب أن يعينه الله بمعين من أهله: أخاه (هارون)، فهو يعلم عنه فصاحة اللسان، وثبات الجنان، وهدوء الأعصاب، وكان (موسى) - عليه السلام - انفعالياً حاد الطبع سريع الانفعال، فطلب إلى ربه أن يعينه بأخيه، يشد أزره، ويقويه، ويتروى معه في الأمر الجليل الذي هو مقدم عليه.
والأمر الجليل الذي هو مقدم عليه يحتاج إلى التسبيح الكثير والذكر الكثير والاتصال الكثير. فـ(موسى) عليه السلام يطلب أن يشرح الله صدره، وييسر له أمره، ويحل عقدة من لسانه، ويعينه بوزير من أهله. كل أولئك لا ليواجه المهمة مباشرة، ولكن ليتخذ ذلك كله مساعداً له، ولأخيه، على التسبيح الكثير، والذكر الكثير، والتلقي الكثير من السميع البصير.. [إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً].. تعرف حالنا، وتطلع على ضعفنا وقصورنا، وتعلم حاجتنا إلى العون والتدبير(37).

التوريث القيادي
ليست القيادة بالعمل البسيط أبداً، وإنما هي تكليف لا تشريف، كما شاع هذا اللفظ بحق، خاصة إذا كان المكلف بها مستشعراً واجباته تمام الاستشعار، جيد التحسس لمسؤوليته أمام الله تعالى إن قصر أو ضيع الأمانة، عارفاً بما ينتظره من حساب مضاعف، إذا تصدى لما هو أليق بغيره، وتكلف الظهور دونما اتقان عمله، والكلام في هذا عن الراشدين - رضي الله عنهم - وغيرهم كثير.
من هنا يكون القائد الحاذق، البصير بمصلحة دنياه وآخرته، ميالاً إلى عدم التفرد، حريصاً على إحاطة نفسه بأعوان كثيرين، يوزع عليهم الجهد، ويعينونه في حمل الأمانة، وإلا فإنه إن تفرد، أو طلب الأعوان فلم يجدهم: وقع في العجز، وقارب أن يستحيل عليه الإصلاح، وإبداء أثر كبير.
هكذا الدعوة أيضاً، لا بد أن تفكر بتكوين جيل قيادي مناسب في سعته لطبيعة ضخامة العمل الذي تتعرض له، ومتكامل من ناحية الاختصاصات المتنوعة (38).
إن المهنة تستهلك أحسن ساعات النهار، وهي الصباح، ولا تبقى للدعوة من القيادي غير فضول الأوقات، وأكثرها إحراجاً، حتى ليأتي إلى الاجتماع بإخوانه يتثاءب، وما نظن ذلك يسوغ في العقل، ولا أن ترضى به جماعة تحترم نفسها، وتريد أن تنتصر.
إرفع الهموم المعاشية عن كاهل الداعية، ثم انظر عندئذ نتاج عقله، وكيف ستتحول خواطره إلى اقتراحات بناءة وخطط وكتابة، أو كيف تتحول طاقاته البدنية إلى مشاركة تنفيذية دائبة(39).

إعداد قائد المستقبل
قال تعالى: [قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] (المائدة: 23).
 (موسى) و(هارون) - عليهما السلام - لم يدخلا قرية الجبارين، وعلى أصح الأقوال أنهما ماتا في أرض التيه، ولكن (موسى)- عليه السلام - أعد من يكمل الرسالة، ويحمل راية القيادة من بعده، وهو (يوشع بن نون)، حيث هيّئه لتحمل الصعوبات في سنوات التيه، "وفي رحلته لطلب العلم، وقصته مع الرجل الصالح"(40)، وهذه السنوات كانت كافية لدراسة نفسيات بني إسرائيل المهزومة والمتبجحة، "وقيل: كان (موسى) و(هارون) فيهم، وإنما توفيا في التيه، وقيل: لم يكونا فيهم، وإنما كان ذلك عقوبة عليهم، فلما ماتوا في التيه، ونشأ أولادهم، أقبل (يوشع بن نون) بأولادهم إلى الأرض المقدسة، وحارب العمالقة، ونصره الله تعالى عليهم، حتى فتح تلك المدينة"(41). وقال (الطبري): "ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة، بعث (يوشع بن النون) نبياً، فأخبرهم أنه نبـيّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبّارين، فبايعوه وصدَّقوه، فهزم الجبارين واقتحمُوا عليهم يقتُلونهم"(42).
 وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا مات الرسولان (موسى) و(هارون) - عليهما السلام - في التيه، ولم يدخلا الأرض المقدسة؟
 نقول وبالله التوفيق: إن (موسى) - عليه السلام - أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وكان ما كان من بني إسرائيل في مواجهة الدعوة وأوامر الله تعالى. وكما بينا أن (موسى)- عليه السلام - كان قد أعد قائد المستقبل، الذي سيكمل الرسالة من بعده، بعد أن يهلك الجيل الذي كان معه، بشكل يحقق الاستمرار على تكملة المهمة، بالدخول إلى الأرض المقدسة، والتوازن في ظل أي متغيرات قد تحدث أو تصدر في المجتمع الجديد. وهذا ما يسمى في العصر الحديث بـ(أنظمة الاستقرار)، وهي الأنظمة التي لا ترتبط بأشخاص معينين مدى الحياة، مهما كان وضعهم، ومهما كان تاريخهم، ومناصبهم، ومهما قدموا من خدمات وتضحيات، "ارتباطاً مباشراً يزول بزوالهم، أو يتغير بتغيرهم، وهي بالتالي لا تفقد فعاليتها أو حيويتها أو قدرتها واستقراراها واستمرارها إذا ما ذهب أشخاص بعينهم، أو أتى غيرهم بدلاً منهم"(43).
 وهذا ما نراه أن النظام والحكم ظلا مستقرين بعد (موسى) و(هارون) عليهما السلام، في المدة المتبقية بعد وفاتهما، حتى تسلم الرسالة (يوشع بن نون) - عليه السلام - وأكمل المهمة، ولم يخمد حماس إكمال المهمة في قلبه، ولم تهتز أركان القيادة بزوال القائد القدوة، لأن الرؤية كانت واضحة، والتخطيط كان موضوعاً، والهدف كان مقاساً ومحدوداً، أي أنه كان يسير وفق أهداف تكتيكية وخطة استراتيجية، مع مشروع حضاري، جعل من أبناء وأحفاد التائهين أبطالاً وقادة يقاتلون الجبابرة.
وفي مدة سنوات التيه تمكن (يوشع بن نون)، ومن معه، من بناء الإنسان الرسالي، "إنسان الفكرة - إنسان المبادرة - الإنسان المنتصر على اليأس والقلق - الإنسان المثابر - الإنسان صاحب اليد العليا - الإنسان صاحب الشعور بالمسؤولية - إنسان ثابت على المبدأ وإن طال الزمن - إنسان له إرادة صلبة لا تتزعزع أمام الصعاب - إنسان يمتلك الأمل والطموح - إنسان يمتلك الروح الإيجابية - إنسان الحكمة - إنسان يجيد إدارة فن الممكن - إنسان يرتقي بالهموم ويعيشها..."، والإنسان الرسالي: هو الشرط الأساس للتحرر من العبودية، إذ بدونه أي تقدم نحو الحرية هو في حقيقته خطوة نحو القهر والذل.. وبناء الإنسان الرسالي لا يتم بين ليلة وضحاها، ولكنها مهمة صعبة ودقيقة، نحتاج فيها إلى (فقه الرواحل)، وإلى جهد كبير، وصبر طويل، لتفريغ الإنسان من كل ما يشعره ويخيفه مما يملكه المستبدون، وإرجاع أمور الحياة كلها إلى الله تعالى، باعتباره خالق الحياة. وتصوير قوى الظلم والاستبداد بصورتها الواقعية، التي تتكشف فيه عن مخلوقات وكائنات لا تملك لنفسها، ولا لغيرها، ضراً ولا نفعاً. وهذا ما رأيناه في دول الربيع العربي، حيث كيف كانت نهاية المستبدين وأعوانهم، وما زال عرض المسرحية مستمراً، ولم تنته المشاهد بعد..

علاقة التيه بظلم الفراعنة
تمضي قصة موسى (عليه السلام) مع قومه بني إسرائيل، بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم، وأغرق (فرعون) وملأه، ودمر ما كانوا يصنعون، وما كانوا يعرشون. إن (موسى)- عليه السلام - لا يواجه اليوم طاغوت (فرعون) وملئه، فقد انتهت المعركة مع الطاغوت المستبد(44)، ولكنه يواجه معركة أخرى - لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً - إنه يواجه المعركة مع "النفس البشرية!"، يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس، ويواجهها مع رواسب الذل، الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل، وملأها بالالتواء من ناحية، وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية، وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً.. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً، ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء! ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً، عاشوا في ظلال إرهاب، وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك.
عاشوا يقتل (فرعون) أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال، وفسدت نفوسهم، وفسدت طبيعتهم، والتوَت فطرتهم، وانحرفت تصوراتهم، وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر، وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية، حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان..
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني، هي التي سيواجهها (موسى) عليه السلام بعد خروجه ببني إسرائيل من (مصر)، وتجاوزه بهم البحر، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل، وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية، وتواجه (موسى) عليه السلام بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات، التي ترسبت فيها على الزمن الطويل!
إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند (فرعون) وملئه، ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم (موسى) عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين -، الذي أهلك عدوهم، وشق لهم البحر، وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع، الذي كانوا يسامون.. إنهم خارجون للتو واللحظة من (مصر) ووثنيتها، ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين، عاكفين على أصنام لهم، مستغرقين في طقوسهم الوثنية، وإذا هم يطلبون إلى (موسى) - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من (مصر) باسم الإسلام والتوحيد، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد! [وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ. قالُوا: يا موسى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ]! إنها العدوى تصيب الأرواح، كما تصيب الأجسام! ولكنها لا تصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية. وطبيعة بني إسرائيل - كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات - طبيعة مخلخلة العزيمة، ضعيفة الروح، ما تكاد تهتدي حتى تضل، وما تكاد ترتفع حتى تنحط، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس، ذلك إلى غلظ في الكبد، وتصلب عن الحق، وقساوة في الحس والشعور!
وها هم أولاء على طبيعتهم تلك، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم، حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً، منذ أن جاءهم (موسى) - عليه السلام – بالتوحيد. فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في (مصر) ثلاثة وعشرين عاماً، منذ أن واجه (فرعون) وملأه برسالته، إلى يوم الخروج من (مصر) مجتازاً ببني إسرائيل البحر. بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من (فرعون) وملئه، وأهلكت هؤلاء أجمعين! وهؤلاء كانوا وثنيين، وباسم هذه الوثنية استذلوهم(45).

سموم العبودية
الإنسان الذي لا يمارس الحرية، ولا يسعى لانتزاعها، يضمحل فكرياً، وينهزم نفسياً، ولا يجرؤ على المواجهة، ويرضى بذل العبودية تسري في عروقه، ولا يشعر بآلام الاستبداد المحيطة به، لأنه لا يقدّر قيمة الحرية.
الذين يصنعون الطغاة هم الذين يرضون بالعبودية.. إنهم يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد، بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية. لأن لهم حاسة سادسة، أو سابعة، حاسة الذل، لا بد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد، أحسّت نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب، يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع للسيد، حتى يخروا له ساجدين!!
إنهم إذا أطلقوا، حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لأن الحرية تخيفهم، والكرامة تثقل كواهلهم، لأن حزام الخدمة في أوساطهم، هو شارة الفخر التي يعتزون بها. إنهم لا يجدون أنفسهم إلا في سلاسل الرقيق، وفي حظائر النخاسين، فإذا انطلقوا تاهوا في خضم الحياة، وضلوا في زحمة المجتمع، وفزعوا من مواجهة النور، وعادوا طائعين يدقون أبواب الحظيرة، ويتضرعون للحراس أن يفتحوا لهم الأبواب"(46).
انظر إلى العبيد من بني إسرائيل: [وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ] (البقرة: 61).

علاقة الفسق بالتيه
قال تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] (المائدة:25-26).
معاني المفردات:
فَافْرُقْ بَيْنَنَا: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم (47)، بأن تحكم لنا بما نستحقه، وتحكم عليهم بما يستحقونه، أو بالتبعيد بيننا وبينهم، وتخليصنا من صحبتهم(48).
الفسوق، أصل الفسق: الخروج عن الاستقامة، والجور، وبه سمي العاصي فاسقاً(49). فسَق الرَّجلُ عن أمر الله: عصى وجاوز حدود الشَّرع، خرج عن طاعة الله، انغمس في الملذَّات (50).
تَأْسَ: الأَسَى: الحُزْنُ على الشَّيء(51).
خلاصة شهادة (موسى) - عليه السلام - على قومه، مدة إقامته بينهم، ودعوتهم لعبادة الله، اختصرت في تسميتهم بــ﴿الْفَاسِقِينَ﴾، حتى قال الله تعالى عنهم، مستجيباً لدعاء نبيه، دعوة فيها الألم، وفيها الالتجاء، وفيها الاستسلام، وفيها - بعد ذلك- المفاصلة والحسم والتصميم! وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه.. ولكن (موسى)، في ضعف الإنسان المخذول، وفي إيمان النبـي الكليم، وفي عزم المؤمن المستقيم، لا يجد متوجهاً إلا لله، يشكو له بثه ونجواه، ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين، فما يربطه بهم شيء، بعد النكول عن ميثاق الله الوثيق.. ما يربطه بهم نسب، وما يربطه بهم تاريخ، وما يربطه بهم جهد سابق، إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى الله، وهذا الميثاق مع الله.
هذا هو أدب النبـي، وهذه هي خطة المؤمن، وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون..
لا جنس، لا نسب، لا قوم، لا لغة، لا تاريخ، لا وشيجة من كل وشائج الأرض، إذا انقطعت وشيجة العقيدة، وإذا اختلف المنهج والطريق.
واستجاب الله لنبيه، وقضى بالجزاء العدل على الفاسقين [فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] (52 ).
وهكذا ظلوا أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى هلكت الأجيال الجبانة الفاسقة، التي استطابت الدنايا والمذلة، والذين يستحبون الخنوع، ويرتضون الدنية، وتكونت أجيال أخرى من بعهدهم، تعرف الله، وتحب رضاه، وتبذل حياتها في سبيله. ثم دخل اليهود بعد ذلك فلسطين يقاتلون الجبابرة.
وفي هذا العقاب الإلهي لعبرة لأولى الألباب، يستفيدون منها أن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستعباد تذهب أخلاقها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتأنس بالمهانة، وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات غرائز وطباعاً خلقية لها، فإذا خرجوا من بيئتهم، ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد، حنّوا إلى ما كانوا فيه، وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه، وهذا شأن البشر في جميع ما يألفون، ويجرون عليه من خير وشر(53).

الزمن جزء من العلاج
اليهود الذين ألفوا المهانة والاستعباد، والذل والمسكنة، أضيف إلى ذلك التيه أربعين سنة، لجحودهم وعنادهم على أوامر الله تعالى، كجزء من التحول من العبودية إلى الحرية، لأن تغيير المجتمعات سنة من سنن الله تعالى في الكون، "وقد أثبتت التجارب العالمية أن التغييرات السريعة، والتحولات الجذرية العنيفة، قليلة الفائدة، كثيرة الضرر، حيث أن قدرة الأنظمة الاجتماعية على تقبل الجديد محدودة، فإذا ما اتخذ التغيير شكل دفق عنيف متتابع، فإن ذلك يؤدي إلى تفسخ الأنظمة، وإظهار عجزها عن هضم التغييرات الجديدة... مما يعني في النهاية نوعاً من الاختلال في التوازنات العميقة للمجتمع، وذلك لا يمر دون مقاومة وردود أفعال طائشة، تؤدي في النهاية إلى انقسام الوعي الاجتماعي على نفسه"(54). و"هنا نتساءل: كم من الزمن يحتاج إليه التغيير أو التحول الذي ننشده؟ يجب أن نعلم أن الزمن جزء من العلاج، وأن من المستحيل أن تبلغ مناك بين عشية وضحاها، إذا كان قدر الله أن هذه الأماني لا تتحقق إلا خلال السنين الطوال. وقد اختلف علماء الاجتماع فقال بعضهم: يمكن أن تتكون أمة خلال أربعين سنة، ولعلهم نظروا في هذا إلى ما حكاه القرآن الكريم عن بني إسرائيل، عندما رفضوا أن يدخلوا الأرض المقدسة. قال العلماء: أربعون سنة يمكن أن تكون فترة تغيير لتحول المجتمع من الفوضى إلى النظام، ومن الفرقة إلى الوحدة، إلى غير ذلك.

الطريق إلى التيه
للسير في طريق التيه آفات، ووسائل متعددة، تنخر في جسم الفرد والمجتمع، "وآفة المجتمع اليوم، أو أزمة الناس، في أخلاقهم، وسوء معاملتهم لغيرهم، فربما سهل على الإنسان ملازمة فروض العبادة والطاعة، وأدائها في أوقاتها، ولكن ليس من السهل الحكم على الاستفادة من هذه العبادة، والتجاوب مع أغراضها التهذيبية، في شؤون المعاملة الخاصة والعامة، فهذا هو المحك الحقيقي للحكم على صدق المسلم أو المسلمة، واحترام قيم الدين وآدابه، والاقتناع بمبادئه، وإدراك الانسجام بين المبدأ والتطبيق، وهو المعبر عنه بالمصداقية.
 كم من الشكاوى المريرة من تصرفات أناس معروفين بالتدين، لكنهم غرباء في الواقع عن الدين والأخلاق الإسلامية في المعاملات، وكأن الدين عبادة فقط، ويهملون كل أو أغلب أحكام الإسلام، وفي شؤون المال خاصة، ويحللون ويحرمون وفق أمزجتهم وأهوائهم ومصالحهم، ضاربين عُرض الحائط بكل فضيلة، أو حكم ديني في صميم المعاملة والإذعان للحق ومنهج الاستقامة "(55).
وإن أهم الأسباب الدافعة إلى هذا النخر، هو ذلك الفصام النكد لدى كثير من الناس بين الدين والدنيا، بين المسلم في محرابه متبتلاً، وبينه في سوقه متمولاً، بين الصائم نهاره طاعة لله، ثم هو في ليله مقترف لمعاصي الله، باحث عن الشهوات والملذات، وإن كانت من المحرمات.. إنه الانفصام النكد، الذي يجعل بعض الصائمين والمصلين ينسون أوامر الله في أعمالهم، فإن كان تاجراً غش وأقسم زوراً، لا يعنيه شيء من أمر الحلال والحرام، ما دامت سلعته رائجة، وتجارته غير كاسدة. وإن كان موظفاً ربما وقع في الرشا، وأهمل العمل، ولم يؤده بالشكل المطلوب المتقن(56)
----------- 
الهوامش:
(1) صحيح ابن حبان: (رقم: 7481).
(2) المنذري، الترغيب والترهيب: (رقم:3332)، رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق كثير بن عبد الله الْمُزنِيّ وَهُوَ واه وَقد احْتج بِهِ التِّرْمِذِيّ وَأخرج لَهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَبَقِيَّة إِسْنَاده ثِقَات.
(3) محمد الغزالي، الإسلام والاستبداد السياسي: (ص68).
(4) فؤاد البنا، الإيدز الأسود: (ص6-7).
(5) مجدي الهلالي، عودة الروح ويقظة الإيمان: (ص33)، بتصرف.
(6) خالص جلبي، قوانين التغيير: (ص188).
(7) مجدي الهلالي، عودة الروح ويقظة الإيمان: (ص33)، بتصرف.
(8) جزء من حديث متفق عليه، رواه مسلم: باب تحليل الغنائم لهذه الأمة: (4576/32-1747)، البخاري: (رقم:3123) عن أبو هريرة رضي الله عنه.
(9) رعودة الروح ويقظة الإيمان: (ص34).
(10) شرح النووي لصحيح مسلم: (6/328).
(11) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار): (2/278-279).
(12) في ظلال القرآن: (2/869).
(13) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (ص237-238).
(14) الماوردي، النكت والعيون: (2/24).
(15) نفسه.
(16) الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن: (1/191).
(17) التحرير والتنوير: (1/494، 495).
(18) خواطر الشعراوي: (1/331).
(19) خواطر الشعراوي: (1/334-336).
(20) في ظلال القرآن: (1/72).
(21) معجم اللغة العربية المعاصرة: (2/1457).
(22) الخواطر: (1/358-362)، بتصرف.
(23) الخواطر: (1/364، 367).
(24) في ظلال القرآن: (2/871).
(25) تفسير المنار: (6/275).
(26) محمد محمد بدري، نحو مجتمع الحرية: (ص15-16).
(27) خطب الشيخ الغزالي: (5/151-152).
(28) نحو مجتمع الحرية: (ص15، 16).
(29) تفسير المنار: (9/185).
(30) سيد طنطاوي، التفسير الوسيط: (1/1699).
(31) لسان العرب: (7/210).
(32) التحرير والتنوير: (9/87).
(33) تفسير المنار: (9/106).
(34) التحرير والتنوير: (9/87-88).
(35) الإيدز الأسود: (ص8) بتصرف يسير.
(36) جاسم بن مهلهل الياسين، تأملات في ثقافة التغيير: (ص163-164)، بتصرف.
(37) في ظلال القرآن: (4/2333).
(38) محمد أحمد الراشد، المسار" نظرية الأجيال القيادية ": (ص503 وما بعدها).
(39) نفسه: (ص530).
(40) يراجع سورة الكهف الآيات: (60-65).
(41) أبو المظفر السمعاني، تفسير القرآن:(2/28).
(42) الطبري، جامع البيان: (2/192).
(43) سيكولوجية السلطة: (ص56).
(44) الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي، وفي الحقوق المشتركة. وفي اصطلاح السياسيين: هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة، وبلا خوف تبعة... ومن صفات المستبد: التحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها، المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد، المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر، ويود أن تكون رعيته كالغنم... والنتيجة أن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين... يراجع: عبدالرحمن الكواكبـي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: (ص23-28، 60).
(45) في ظلال القرآن: (3/1364-1367).
(46) سيد قطب، دراسات قرآنية: (ص129-131)، بتصرف يسير.
(47) تفسيرالطبري: (10/189).
(48) البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل: (2/122).
(49) النهاية في غريب الحديث: (3/446).
(50) معجم اللغة العربية المعاصرة: (3/1674).
(51) العين: (7/332).
(52) في ظلال القرآن: (2/870-871).
(53) خطب الشيخ محمد الغزالي: (5/155).
(54) عبدالكريم بكار، من أجل انطلاقة حضارية شاملة: (ص184).
(55) وهبه الزحيلي، أخلاق المسلم: (ص11-12).

(56) تأملات في ثقافة التغيير: (26-27)، بتصرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق