01‏/12‏/2014

لماذا قبّل الرسول الحجر الأسود؟

د. سعد الديوه جي
لن نخوض في هذا المجال في تاريخ (الحجر الأسود)، الموجود في أحد أركان الكعبة المشرفة، أو عن مصدره وأصله، فالكتب ومواقع الانترنت مملوءة بهذه المعلومات، وما نريد أن ندخل فيه، بدون لف ودوران، هو أنه ليس كل عملية تقبيل هي من قبيل التقديس، وهذا ما ينطبق على (الحجر الأسود)، فهذا وهم كبير، فالتقبيل يمارس لإظهار المودة والقربى لشخص ما، كأن يقبل الشخص أطفاله وأهله وإخوته، وعند لقاء الأعزة، ويمارس كذلك في الشرق لإبداء الاحترام، وخصوصاً لكبار السن، أو الوالدين، وذلك بتقبيل الأيادي.
ولقد اتخذ الغلاة والباطنية من تقبيل (الحجر الأسود)، حجة لاتهام المسلمين بالشرك والوثنية، كما يتهمهم البعض - من الغلاة الظاهرية - بأن إظهار القباب، أو العلامات المميزة، فوق القبور، على أنها شرك ومجافاة للتوحيد، رغم عدم تعظيم هذه القبور، بممارسات وشعائر معينة، أو اتخاذها كمزارات، ولكن كمعالم فقط لهذه الشخصيات، التي قدمت خدمات جليلة للإسلام والمسلمين، وتركت بصمات لا تمحى في الشارع الإسلامي، كضريح صلاح الدين الأيوبي، وضريح محمد الفاتح في استانبول ... إلخ.
والثابت قطعاً في الأدبيات الإسلامية أن سيدنا إبراهيم (عليه السلام)، هو الذي بنى الكعبة، ووضع (الحجر الأسود) فيها: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] البقرة‏: 127.‏
ولقد تعرض (الحجر الأسود) لأقسى هجمة إرهابية همجية من قبل (القرامطة) عام 317هـ/929م، وهم باطنية إسماعيلية، وكانوا يرتبطون بالفاطميين في مصر عقائدياً، حيث سرقوا (الحجر الأسود)، وكسروه إلى عدة أجزاء، ونقلوه إلى عاصمتهم (هجر)، على ساحل (البحرين)، وبقي هناك لمدة 22 عاماً، بعد أن قتلوا ألوف الحجيج، وفعلوا كل المخازي داخل المسجد الحرام الشريف، مما يندى له جبين الإنسانية. وكما يقول المؤرخ (دي خويه) بأن ما فعلوه قد جعل المسلمين يتحدثون عن الجريمة بالتياع وحزن لقرون عديدة، وكان ذلك في (يوم التروية)، مما يعني الكثير.
خرجوا بـ(الحجر الأسود) وهم يستهزئون بحرمة المسجد الحرام، وينشد كبيرهم:
أين الطير الأبابيل؟
أين الحجارة من سجيل؟
وتكررت الاعتداءات من قبل الباطنية، ولكن بحوادث أقل خطورة، وذلك في أعوام (413هـ/1022م) و(990هـ/1582م) و(1315هـ/1897م)، وذلك بمحاولة ضربه بمعول، وكسر أجزاء منه، بحجة أن المسلمين يعبدونه، وفي كل هذه المرات كان المعتدون من الباطنية. وهذا تدليس واضح لتجريد الإسلام من تراثه الأخلاقي والاجتماعي، وصبه في قوالب جامدة لا روح فيها.
والحقيقة أنه ليس من المهم أين نزل، ولا من أين؟ ولن نبحث في أسراره، لأنه في الإسلام لا توجد أسرار دينية، كما في المسيحية، وغيرها من الأديان، كما لا يوجد فيه تحجرات عقلية، فمرتبة العقل من أعلى المراتب في القرآن الكريم، ولذلك فإن قدسيته ليست ناتجة من أن الله جعله مقدساً، كالأرض المقدسة لبني إسرائيل، فالله تعالى لا يجعل الأحجار، ولا الأشجار، ولا غير ذلك، مقدسة، لأن ذلك ينافي العقل والتفكر، وهما من أهم أسس التوحيد.
ولذلك، فإن بعض الأحاديث المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذا المجال، محط تساؤل واستفهام، مثل: "إن مسح (الحجر الأسود)، و(الركن اليماني)، يحطان الخطايا حطاً" {رواه أحمد}، و"والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولساناً ينطق به، يشهد على أن من استلمه بحق" {رواه الترمذي}، ذلك بأن هذه الأحاديث المنسوبة تتعارض مع قول عمر (رضي الله عنه): "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ماقبلتك"، وعلى حد قول الحافظ (ابن حجر)، عن (الطبري)، بأن (عمر) (رضي الله عنه) قال ذلك، لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي أن يظن الجهال بأن استلام الحجر هو تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا غير، لا لأن الحجر يضر وينفع، كما كانت تعتقد العرب بالأوثان.. لماذا إذن قبّل الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الحجر؟
فكما رأينا بأن (إبراهيم)  و(إسماعيل) (عليهما السلام)، وهما جدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو من صلبهما، قد لمسا هذا الحجر بيديهما الكريمتين، فأراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يعيد ذكرى بناء أول بيت وضع للناس، ورمزه الأكبر (الحجر الأسود)، موضع احترام ومودة.
كذلك، فإن (الحجر الأسود) يمثل وحدة المسلمين، بالسلام عليه وتقبيله، كما مثل ذلك في جاهليتهم، ففي الرواية المشهورة والصحيحة، والتي مفادها بأن قريشاً عندما أرادت تجديد بناء الكعبة، وحصل الخلاف: أيهم يكون له فخر وضع (الحجر الأسود) في مكانه، وكادت الحرب أن تقع بينهم، فحكموا أول داخل للحرم المكي الشريف، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، أول الداخلين، فقالوا: هذا الأمين رضيناه حكماً، فأمر برداء، حمله المجتمعون من كل طرف، ثم وضع الحجر في وسطه، ورفعوه إلى مكانه الثابت، ووضعوه جميعاً، والرسول (صلى الله عليه وسلم) معهم.
فهذه الحادثة تدل - بدون أدنى شك - أن (الحجر الأسود) صار موضع حكمة واتفاق أيضاً، بدل أن يكون موضع جدل واختلاف.
إن معظم الروايات التي تدور حول (الحجر الأسود)، تجنح إلى الإفراط في كونه يتكلم ويسمع، وأنه قد حكم بين المتخاصمين في بعض المسائل، وهي كلها أساطير وخرافات تم حشر (الحجر الأسود) فيها حشراً.
وعليه، فلو لم يكن قول عمر (رضي الله عنه) ثابتاً، بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد قبّله، دون أن يقدسه، لفعل الغلاة من كل الطوائف أشنع الأفاعيل به. وما كان تقبيل الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا احتراماً ومودة، وإعادة لذكرى لا تتعارض مطلقاً مع قواعد الشرع والقرآن، الذي لم يأمرنا بالجمود الفكري والعقلي في أمور الدنيا، وهو أمر دنيوي بحت، مارسه الرسول (صلى الله عليه وسلم) كمسألة شخصية، من حق المؤمن أن يقلده بها، ولا غير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق