01‏/12‏/2014

تحديات تواجه الصحوة الإسلامية المعاصرة

د. عمر عبد العزيز
من المعلوم أن بزوغ الصحوة الإسلامية ظاهرة تاريخية معاصرة، ولّدها سقوط الخلافة العثمانية، وهيمنة الدول الاستعمارية، وحالة التفكيك السياسي في الأمة الإسلامية، ثم الاختلال العقديّ الذي روّج له دعاة العلمانية المتطرفة باسم التنوير، ثم التدهور الخلقي والقيمي، والدعوة للتغريب والتبعية الثقافية، باسم التطوير والتحديث والمواكبة.
وبعد أن بدأت الأمة ترزح تحت هول هذا المثلث اللعين، هبّ رجال مجدّدون ومصلحون كبار لإذكاء روح المقاومة، بالدعوة إلى العودة إلى الإسلام عقيدة، والتمسك بأحكامه وقِيَمِه شريعة، بل
النهوض ضد المستعمر المحتل، والدعوة لإعادة مجد الأمة وعزّها.
بعد هذه الانتفاضة الوسيعة – التي تلت غفوة لم تدم طويلاً – ورغم نجاح الصحوة في إعادة ملامح الإسلام إلى أبناء الأمة، وتقدّمها في مجال إحياء العاطفة الدينية في قلوبهم، ورغم انتشارها المكثف في شرق الوطن الإسلامي وغربه، رغم كل ذلك، نلاحظ ونشهد كثيرا من الإخفاقات، وقصورا خطيرا في الأداء، كما نلاحظ أن هذه الصحوة تواجَه الآن بتحديات خطيرة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، قد يكون من الصعب تحديدها حصرا، إلا أنني أحاول أن ألقي ضوءاً على أهمها في نقاط، لأنني لست مع العاطفيين الذين يطبقون الطرف عما يجري حولهم ويحدث من المشاكل والإخفاقات العديدة المتنوعة:

 تحديات على الأصعدة الداخلية:
  بما أن المعوقات والمشاكل الداخلية التي تعترض طريق الصحوة – التي تقودها حركات وقوى إسلامية عديدة -  كثيرة ومتشعبة وطاغية على ميادين عديدة، أضطر أن أشير إلى أبرز أصعدتها ومجالاتها في نقاط مركزة:
أولاً/ على الصعيد الفكري: يمكن الإشارة إلى تحدي أنماط عديدة من الغلو في الدين، والتطرف الفكري، وطغيان المفاهيم المغلوطة، والخلط بين بعض الأحكام الشرعية، كما حدث في التعامل مع مفهومي (القتال والجهاد)، و(التعامل مع غير المسلمين من المحاربين والمسالمين)، وكذلك ما حدث في مجال التعامل مع قضايا المرأة، والشباب، والفنون، وبعض الظواهر الحضارية، التي لعبت دورا خطيرا في تشويه صورة الإسلام
ثانياً/ على الصعيد السياسي: نشير إلى تحدي انعدام الرؤية السياسية تجاه قضايا ساخنة معاصرة، كمشكلة القوميات وقضاياها، والأقليات غير المسلمة، والتعامل معها، وموجة العولمة والحداثة، وخطر الثورة الإعلامية العارمة، وتكنولوجيا الاتصالات، وغيرها..
ثالثاً/ على الصعيد الحضاري: يمكن الإشارة إلى التخلف الحضاري للشعوب المسلمة، المتمثل في: ضعف تطوير المكاسب، وفقدان الذاتية، وتدني الهمّة، والانبهار بالغرب، وسريان روح التبعية والاتكالية والإمعّية، والكسل والبطالة..
رابعاً/ على الصعيد المنهجي: يمكن ذكر تحدّي فقدان رؤية فكرية واضحة تجاه التعامل مع كثير من معطيات العصر ومستجداته، وانعدام ما يمكن أن نسميه (فقه المرحلة)، أو (فقه العصر)، وعدم التفريق الكامل بين الابتداع – كأمر مرفوض – والإبداع، كسُنّة كونية إسلامية مطلوبة.
خامساً/ على الصعيد السلوكي والتربوي: نلمس ظاهرة تدني السلوك الإسلامي الأصيل، وتدهور الأخلاق والفضائل العالية، وطغيان الشكليات على الجواهر والمضامين، والمظاهر على المضامر والمقاصد.
سادساً/ على صعيد المؤسسات والآليات: يعاني أبناء الصحوة من كثرة المشاريع الإصلاحية النظرية، وتعدد الفئات والجماعات والمؤسسات الدعوية والسياسية، مع انعدام مشروع ناضج لتنسيق يناسب المرحلة. وكذلك كثرة الخلافات الجزئية، التي تستهلك طاقات شباب الصحوة وقياداتها، وتجعلها منشغلة بمشاكلها الداخلية في أكثر الأوقات، وعلى رأسها جدليّة العلاقة بين العمل الدعوي والعمل السياسي.
سابعاً/ على الصعيد الاجتماعي والثقافي: يمكن التنويه بالخلط الحاصل بين التقاليد الاجتماعية والقيم الإسلامية، واللجوء إلى التأويلات غير المسوّغة، سعيا لتلوين التقاليد بصبغة دينية، لا سيما في مجال التعامل مع قضايا المرأة والفن والأعراف الاجتماعية، وكثرة اللجوء إلى قاعدة (سد الذرائع)، دون استناد علمي، وتقصٍّ شرعي.
ثامناً/ على الصعيد الإداري:  يمكن ذكر قلة الإتقان المطلوب في معظم الأمور، وضآلة الإحسان المأمور به، وضعف الجودة التي علّمناها الإسلام الحنيف، في معظم الميادين الإدارية، وانعدام شبه كامل في توظيف الطاقات، بل كشفها وتشخيصها من الأساس، وغياب ظاهرة دراسة السيناريوهات والخيارات، التي استلهمها الغربيون من مناهج علمائنا التجريبيين، الذين تحدثوا عن: أحسن الاحتمالات، وأحسن الأقوال، وأحسن الأعمال، وأقوى الآراء، وأرجح الاجتهادات.. الخ. بل الذي ساد شعوبنا الإسلامية - في هذا العصر- حالة الانكفاء الذاتي، وانعدام روح المؤسسية، وفقدان الانضباط، وضعف الآليات والأنظمة في معظم المفاصل الحياتية، إضافة إلى تشتّت وتشرذم طاقات إبداعية عديدة في العالم، نتيجة هجرة العقول العلمية، وبقاء أصحاب الشهادات العليا في دول المهجر، لا سيما الدول الأوروبية.

 تحديات على الصعيد الخارجي:
أما التحديات الخارجية – وأقصد خارج نطاق الصحوة بالدرجة الأولى-، فهي كذلك عديدة ومتنوعة، أهمها هي:
أولاً/ شمولية الأنظمة العربية والإسلامية، وتضييقها المتعمد على الحركات الإسلامية، والعداء السافر لمعظمها مع التيارات الإسلامية، لاسيما التيار الوسطي الفعال والمؤثر في الساحات والميادين. ولقد أثبت تعامل العلمانيين المتطرفين في دول عربية عديدة، مدى تعنّت وشراسة تعاملهم مع الإسلاميين، حتى بعد مهب التغيير الذي سمي بالربيع العربي، حيث لا يقرّون الحضور للإسلاميين في ميادين الحكم والإدارة، حتى وإن أتوا عن طريق الشرعية الانتخابية والطرق القانونية المتبعة
ثانياً/ تحدي معظم التيارات العلمانية، التي أثرت على الشعوب المسلمة، ومعاداة المتطرفين فيها للمشاريع الإسلامية، بل انحراط العديد منها في مسالك المتورطين مع الأنظمة القمعية في التآمر على الإسلاميين، لا سيما في الدول التي لم تتنعّم بنسيم ربيع التغيير السياسي.
ثالثاً/ تحدي القوى الاستكبارية العالمية المتجبرة، والمشاريع الصهيونية والصليبية المعادية، والقرارات الدولية المجحفة بحق الأمة الإسلامية.
رابعاً/ تحدّي ثورة تكنولوجيا الفضائيات، وشبكة العنكبوت العالمية الغازية، وموجة وسائل الإعلام والاتصالات العارمة، وتأثيرها الملموس على الرأي العام. وضعف التحدي الإسلامي لمواجهتها، إلى درجة انعدام الخطط والسبل الكفيلة بالمواجهة، إن لم أقل انعدام رؤية إسلامية متكاملة ومتوازنة لمواجهتها، وإيجاد حلول وبدائل.

مقترحات حلول
  بما أن أمتنا الإسلامية أمة واحدة، مأمورة بالوحدة، ومنهية عن التفرّق والاختلاف، وفق قوله تعالى:[إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً]، وقوله: [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا] آل عمران/ 105، وبما أنها تعتبر (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). وبما أنها تمتلك من الإمكانيات والنعم والطاقات الكامنة، ما لا يمتكله الآخرون، وبما أن المسلمين مأمورون أن لا ييأسوا من روح الله، لا بد من الحديث عن الحلول، بل السعي الحثيث لإيجادها. ولهذا فإنني، في هذا السياق، سأستعرض في نقاط محدّدة أهم الخطوات اللازمة – في نظري– لمواجهة تلكم التحديات، على صعيديها الداخلي والخارجي:
أولاً/ لا بد من السعي الجماعي لتوحيد رؤية متقاربة حول جميع القضايا، بعيداً عن التزمت الفقهي، والتعصب الحزبي، والنزعة الفئوية والطائفية. ومحاولة الاجتماع على المشتركات والثوابت، وترك الخلافيات جانبا.
  ولا بد لتحقيق ذلك من خلق منافسة إيجابية لتقديم أحسن المشاريع العملية، وأفضل الخيارات والسيناريوهات المطروحة، لخدمة ما أشرنا إليه.
ثانياً/ إحياء روح التحديث والتجديد والاجتهاد العصري، والتفكير الجاد في وضع برامج تطويرية في جميع مجالات: مناهج التعليم، والمناهج التربوية، والمشاريع السياسية، والخطابات الدعوية، والدراسات الشرعية، وتدوين الفقه المعاصر، وغير ذلك.
ثالثاً/ السعي الحثيث لترشيد الصحوة الإسلامية، سواء على مستوى أفرادها وأتباعها، أو على مستوى رموزها وقياداتها – فكريا وتربويا – أو على مستوى برامجها ومشاريعها وأنظمتها ولوائحها.
رابعاً/ التمهيد لإيجاد آلية عالمية، لغرض التنسيق بين التيارات والقوى الإسلامية، كخطوة لاستحداث مرجعية تشاورية مستقبلا.
خامساً/ مراجعة جدية لأساليب الدعوة إلى الإسلام، وأنماط الخطاب الدعوي، الذي يحتاج إلى تطوير يناسب المرحلة، امتثالا لقوله تعالى:[وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا] وقوله: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ].
سادساً/ العودة لإعطاء المصداقية العلمية لسمات وخصائص الواقعية، والربانية، والتيسير، والتبشير، والتسامح، المعروفة بها شريعة الإسلام. وتحريم جميع أساليب التنفير، والتعسير، والتشديد، والغلوّ، والتطرّف، والتعنّت، والتعنيت، والعنصرية، والطائفية، والفئوية..
سابعاً/ محاولة لمّ الطاقات الإسلامية، باختزال المؤسسات الفكرية والفقهية (العالمية) في آليات جامعة، على غرار أجنحة (الأمم المتحدة)، ومؤسسات (المؤتمر الإسلامي)، أو (الجامعة العربية)، مثل الجهود البدائية المشكورة في (الاتحاد العالمي للمنظمات الطلابية)، وغيرها، إسنادا لجسور التلاقي والتفاهم بين القوى والاتجاهات. وسيترتب على هذا الأمر توفير كثير من الإمكانيات، وجمع الشمل، وتقريب وجهات النظر.
ثامنا/ وعلى مستوى الشعوب والحكومات، لا بد من القيام ببعض الأمور، منها:
1ـ العمل على توعية الشعوب، كي يتحول أبناؤها من مستهلكين داعمين لمنتجات الغرب، إلى منتجين ومعتمدين على الإنتاج الوطني والصناعات المحلية، رغم ضآلتها وقلة جودتها. وهذا يقتضي أن يواكبه دعم المشاريع الزراعية والصناعية المحلية، حتى وإن كانت بدائية.
2ــ فضح الجوانب السلبية للعولمة الفكرية والثقافية والاقتصادية، من خلال وسائل الإعلام والنشر، والخطب والمواعظ.
3ــ التأكيد – بجنب ذلك -على ضرورة حفظ الهوية الدينية والخلقية والوطنية والقومية، وإبراز الجوانب المشرقة لتاريخ الحضارة الإسلامية، وشعوبها، وإنجازاتها.
4ـ دعم مؤسسات الإعلام والشبيبة والطلاب والمرأة والعلماء والدعاة والساسة والبرلمانيين، وإتاحة الفرص أمامهم، لقيام كل منهم بدوره في أداء الواجبات المذكورة أعلاه.
5ــ وعلى الساسة والمؤسسات والهيئات التشريعية، العمل الدؤوب لتغيير الدساتير التقليدية، وتعديل القوانين والتعاليم المستلهمة منها، وفق معطيات العصر، ومتطلبات المرحلة. وهذا ما تؤكده ثوابت الدين الإسلامي، ومقاصد تشريعه، ومرونة أحكامه.
 هذا ما أسعفت به إخواني في هذه العجالة، في مجال تحديد أهم (التحديات) التي تواجه الصحوة الإسلامية المتنامية، مصطحبة بعرض ما رأيته (مقترحات حلول)، وإن شئتم فاجعلوا من مثل هذا المقال مفتاحا لفتح باب مناقشة الموضوع بإسهاب أكثر. ولقد وددت بذلك أن أخلق لدى القرّاء الكرام شيئا من العصف الذهني، عسى أن يجرّنا للحديث عن الموضوع بجديّة أكثر، والله من وراء القصد، وهو هادي السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق