سعد سعيد الديوەچي
برزت
نظرية نهاية التاريخ في نهايات القرن الماضي على أيدي مفكرين أمريكان، مثل (فوكو
ياما) في كتابه (نهاية التاريخ)، و(صموئيل هينتغتون) في كتابه (صدام الحضارات)،
وغيرهم، عندما وضعوا نهاية (الاتحاد السوفيتي)، في كانون الأول عام 1991م، كبداية
لعالم أَحادي القطب تقف على رأسه الولايات المتحدة، كأكبر قوة عسكرية وسياسية
واقتصادية ظهرت في التاريخ بدون منازع..
واعتبر هؤلاء أن
انتصار الولايات المتحدة في حربها الباردة، لا يقلّ أهمية عن انتصارها في الحرب العالمية الثانية، ممّا حدا بالمستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي
(بريجنسكي) للقول، بأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي ربحت ثلاثة حروب
عظمى في القرن السابق، إشارة للحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة،
حيث إن حلفاء الولايات المتحدة خرجوا منهكين، وباقتصاد ضعيف، يعتمد بمعظمه على مشـروع
مارشال
الأمريكي، خصوصاً بعد الحرب الثانية.
وبقي السؤال المحيّر، الذي لم يجاوب عليه أحد، عن معنى (نهاية
التاريخ)، وكيف سيبدأ عصر جديد أساسه أيديولوجية قائمة أساساً على التوسّع، وفرض
الأمر الواقع، اقتصادياً وسياسياً، على المخالفين للنهج الأمريكي..؟ وهو أمر خيالي
حتى لو وضع الأمريكان، وحلفاؤهم، جندياً في كل متر مربع من الدنيا!!
والذي نعتقده أن
مصطلح (نهاية التاريخ) مصطلح مبالغ فيه إلى حدّ كبير، وإذا كان معناه تحكّم قوّة
واحدة بمصائر العالم كلّه، فهذا قد يتمّ عسكرياً إلى حدّ ما، ولكن لا يمكن تحقيقه
ثقافياً ولا دينياً على الإطلاق.
لقد اقترب بعض الكتاب بواقعية أكثر من الذين حلموا
بنهاية التاريخ، والمتأثّرين بنظرية الأيام السعيدة الإنجيلية؛ عندما يأخذ المسيح -
بعد نزوله من السماء، في نهاية الزمان - محبّيه للسماء، ليبقوا معه ألف عام في
بحبوحة وسعادة، بعد القضاء على مملكة الشـرّ، وهي القيامة الأولى، وبداية نهاية
مملكة الشـر..
ولن ندخل في
متاهات أسطورية لا تقدّم ولا تؤخّر، فالكاتب (بول كينيدي) تلّمس عثرات بداية نهاية
التاريخ عندما كتب في صحيفة العالم (Die Welt) في
17/9/2001، حيث قال "بأن الولايات المتحدة عملاق عسكري واقتصادي وسياسي
وثقافي لم يسبق أن شهد العالم مثيلاً له، ولكن يسهل جرحه إلى أبعد الحدود".
وبعد أن يستعرض الكاتب سيطرة الولايات المتحدة على مفاصل
الانترنت العالمية، وعلى مراكز المال العالمية، وأنها بوتقة ينصهر فيها الناس من
جميع الأجناس.. تبدو الأمور على غير ما اعتقد قبل أقلّ عقدين من الزمان.
إن الجروح التي أصابت الجسد الأمريكي، منذ بداية القرن
الحادي والعشرين، قد تؤدّي إلى إضعافه، وربّما إلى نهاية غير سعيدة، بعد أجل طويل.
فلو نظرنا لمسألة نهاية الاتحاد السوفيتي، وما صاحبها من
انهيار منظومة حلف وارشو، والقضاء على الشيوعية، كممارسة وليس كفكر، وما أعقبها من
أزمات اقتصادية خانقة، تعرّضت لها روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفيتي.. فإنّ
أحداً لم يكن يعتقد حينها أن بإمكان روسيا أن تكون نداًّ عسكرياً لأمريكا، وذلك
لامتلاكها قوّة نووية وصاروخية هائلة.. فهي لم تصبح لقمة سائغة، كما تخيّل
الأمريكان.. وهذا الأمر يسبّب جروحاً في النهج الأمريكي العسكري في الوقت الحاضر..
وهو ما تشهد عليه أحداث الشرق الأوسط، ناهيك عن استطاعة روسيا الوقوف على قدميها
اقتصادياً، ولو أنها بعيدة عن ما عليه الولايات المتحدة.
وأما التحدي الآخر، خلال العقدين الأخيرين، فهو بلا شك
الصعود الصاروخي للاقتصاد الصيني، الذي تجاوز كلّ التوقعات، ممّا حدا بالرئيس الأمريكي
لإعلان حرب تجارية على الواردات الصينية، ضارباً عرض الحائط بكل مبادئ التجارة
الحرّة، التي كانوا يطبّلون لها صباحاً ومساءاً على أنها من بركات عصر نهاية
التاريخ.. وكذلك ينطبق الأمر على الاقتصاد التركي، إلى حدّ ما!
لقد أصبحت الصين تسيطر على ثلث الناتج الإجمالي العالمي،
وقد ساعد الصين على الهيمنة على الاقتصاد العالمي، الانشغال الأمريكي بمسألة
الهيمنة العسكرية، ناهيك عن الأزمة المالية العالمية عام 2008م، والتي لعبت دوراً
في زعزعة الاقتصاد الأمريكي لصالح الصين.
لقد أصبحت (Made in China) مارداً ترتعد له فرائض معظم دول العالم، والذي امتدّ ليصبح
عاملاً في تغيير ثقافة العالم، وسلوكه.. ولهذا أعلن الرئيس الأمريكي حرباً
اقتصادية ضد الصين، يعتقد المراقبون أنها ستزيد من المتاعب الأمريكية على المدى
الطويل.
وأما الجرح الآخر، فقد عبّر عنه السيد (ترامب) بعدائه
المكشوف للإسلام، رغم عدم امتلاك المسلمين لقوّة ضاربة؛ عسكرية، أو اقتصادية، جملة
وتفصيلاً.. وكانت تصريحاته في هذا المجال مثيرة للسخرية إلى حدّ بعيد، عندما أعلن
عن سبب كراهيته للمسلمين، بسبب صلبهم للسيد المسيح - عليه السلام -، رغم الفارق
الزمني بين ظهور المسيحية والإسلام، الذي يقارب ستة قرون، ورغم قول الإنجيل بأن
رؤساء الكهنة اليهود قالوا للحاكم بيلاطس: (اصلبه! اصلبه!)، فقال لهم بيلاطس: (بل
خذوه أنتم واصلبوه، فإني لا أجد فيه ذنباً، 6/19، يوحنا)!، وهو أمر عجيب أن يؤدّي
اليمين الدستورية على الكتاب المقدّس، ولا يعرف ما فيه.
ونحن نعتقد بأن موقفه من المسألة الفلسطينية، واعترافه
بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتأييده للموقف الإسرائيلي بإعلان اسرائيل دولة أحادية
القومية، رغم أن اليهودية دين وليست قومية، وسحب المساعدات المقدّمة من قبل
الولايات المتحدة للمدارس والمستشفيات في الضفة الغربية، هي انعكاس لثقافة السيد (ترامب)
السطحية في هذا المجال، والتي ستنعكس سلباً على مسيرة أمريكا الديمقراطية في الأجل
البعيد، وهو ما لم يُحسب حسابه على مبدأ الربح السريع، في عالم التجارة الذي نجح
فيه نجاحاً بارزاً.
وفي هذا المجال كتب (توماس فريدمان)، وهو أحد أشهر
العارفين بمشاكل الشـرق الأوسط، ما معناه بأن الذكرى الأربعون لاتفاقية (كامب
ديفيد) تمرّ والعالم يشهد انهيارها الكامل، في حين أنها كانت تعتبر نصراً لا مثيل
له عند توقيعها للسياسة الأمريكية. ويضيف (فريدمان): أن نهج المواجهة مع
الفلسطينيين، الذين يبلغ عددهم حوالي 2,5 مليون، يزداد قتامة وتخبّطاً، والذي
يتباهى به (نتنياهو)، بدعم مطلق من السيد (ترامب)، والصقور في البيت الأبيض، سيصل
به إلى قاع التاريخ، وعندئذ سيحسب الفشل على الولايات المتحدة، التي تريد أن تكون
قائدة لتاريخ جديد يسود العالم!، وهو أمر في غاية الخطورة، في هذه المرحلة من
تاريخ العالم والمنطقة.
واذا كان هذا القرن قد ابتدأ بالهجوم الإرهابي على برجي
التجارة في نيويورك في 11/9/2001، وشاعت الرواية عن مسؤولية العرب والمسلمين عن
الحادثة، فإن هذا البريق أخذ بالخفوت بعدما شاب المسألة كثيراً من التحليلات
المنطقية والعلمية حول الموضوع، وبعد تراجع وخفوت محاولات وضعه في دائرة الإرهاب
الإسلامي..
لقد اتّبع منظّرو السياسة الأمريكية في هذا المجال،
والتي بلغت ذروتها في عهد السيد (ترامب)، باستخدام التهديد والوعيد حتى مع
الأصدقاء في الشـرق، فإن نظرية (بيرنارد لويس)، في كتابه (ما الخطأ الذي حدث)،
الذي يؤكّد فيه صورة العربي – المسلم – باعتباره "منبع الإرهاب، بحكم جذوره
التاريخية والثقافية، ونمط الحياة التي يعيشها، والأفكار التي ينتجها".
وهذا تعميم ناتج عن فكر متشنج عدائي، اشتهر به (لويس)،
وهو المؤرخ الضالع في تاريخ الشرق، ولكن منهجه هذا صار مدرسة لدعاة نهاية التاريخ.
والولايات المتحدة، التي تستطيع مواجهة دول العالم
منفردة، وقد تنجح في ذلك، إلا أنها لن تستطيع مواجهة العالم كلّه بنجاح كامل، خصوصاً
بعد تململ الاتحاد الأوربي من السطوة الأمريكية.
لقد تمّ إلباس الإسلام ثوب الإرهاب قسراً، ومنذ عام
2001م فقد استنفذت الحرب ضد الإرهاب الكثير من الموارد الاقتصادية والعسكرية
الأمريكية، وهذا مؤشر لزيادة الجروح في جسد نظرية نهاية التاريخ الطوباوية.
وإذا استطاعت الولايات المتحدة إقناع العالم، بالقوّة
والتهديد الاقتصادي، بموقفها من إيران، فإنها لم تستطع تقديم أيّ مبرّر لتوتّر
العلاقات مع تركيا، الحليف الاستراتيجي في حلف شمال الأطلسي، حيث يبدو الخلاف
العقائدي مرشحاً قوّياً لتدهور هذه العلاقة.
وعليه، فالمسألة الفلسطينية هي واحدة من أشدّ المعضلات
التي ستواجه صانع السياسة الأمريكية، التي لا تقيم وزناً لحلفائها عدا إسرائيل،
وعملت على تصفية حساباتها تحت هذا الغطاء، رغم معارضتها لتعريف مصطلح الإرهاب!.
لقد دفع هذا الأمر بـ(باتريك تايلر) للقول بأن الرؤساء
الأمريكيين يتصـرّفون بعقل مشتّت، ممّا يتيح للمستشارين الجهلة أو المتحيّزين، أحياناً،
أن يدفعوهم في الاتجاه الذي يريدون. وكان (كيسنجر) أحدهم، وكان طائشاً وكذاباً
كبيراً!
والمتتّبع للسياسة الأمريكية الحالية يلاحظ تصاعد
استخدام لغة التهديد والوعيد بشكل لم يسبق له نظير، سواءً في المجال الاقتصادي أو
العسكري، وهو ما لا يناسب التصوّر الأمريكي عن نهاية التاريخ السعيدة.
لقد تحوّلت القاعدة الأمريكية السابقة (لماذا يكرهوننا)،
إلى (لماذا لا زالوا يكرهوننا)، خصوصاً بعد مخاض التجربة العراقية، حيث لم تتحقّق
الديمقراطية الحقيقية، كما لم يتحقّق الازدهار الاقتصادي الموعود لهذا البلد.
وعليه، فلا توجد منطقة في العالم تواجه فيها المبادئ
الأمريكية التي تبشـّر بنهاية سعيدة للعالم، كما هي عليه منطقة الشـرق الأوسط
والخليج العربي، وذلك لتداخل المنافع الاقتصادية بالعقائد الدينية، ناهيك عن سياسة
الغطرسة الإسرائيلية.
وإذا ما بقت السياسة تمتثل لأفكار (بيرنارد لويس)، و(نظرية
بن غوريون)، التي لخّصها بقوله: "سوف نواجه العرب بقوّة، وإن النتيجة الوحيدة
المتوقّعة لهذا الصراع، هي النتيجة التي تفرضها القوّة".
والتاريخ يعلّمنا أن القوّة تشتدّ وتضعف وتخفت، فليست هي
الحل.. وإذا كانت إسرائيل أمراً واقعاً في قلب الشرق، فإنها تستطيع أن تبدّل نهجها
تجاه العرب والمسلمين بعدم الاعتماد على نظريات (لويس) و(بن غوريون)، فهنالك في
التاريخ نقاط التقاء كثيرة بين الإسرائيليين والعرب، قد تكون منطلقاً لتاريخ جديد،
والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق