كتبه: د. محمود محمد علي الزمناكويي
ترجمة: الأستاذ هريم جمال الهروتي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على روح محمد - صلى الله عليه وسلم - الطيبة الطاهرة،
وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
بعد نشر الطبعة الأولى لبحثي: (تجديد الشيخ ناصر السبحاني في علم الحديث)،
من قبل مكتبة التفسير، انتهت نسخه في المكتبات، في فترةٍ أقلَ من سنة ـ والحمد
والثناء لله تعالى ـ .. ولحسن الحظ استقبله المثقفون
والقراء في كوردستان
استقبالاً متحمِّساً، وهذا يشهد ويشير إلى نقطتين مهمتين، هما:
1- أن رغبة القراءة، في
كوردستان، لا تزال باقية لدى نسبة مشاهدة من مواطني كوردستان. وهذه علامة مفرحة،
وإن لم تبلغ الحد المطلوب، مقارنة بالدول المجاورة.
2- أن معرفة قراء كوردستان
تزداد، يوماً بعد يوم، بمؤلفات وآراء العالم الكبير في شرق كوردستان (الشيخ ناصر
السبحاني).
فلذلك، ولأهمية الموضوع، وعلو المستوى العلمي والعمق الاجتهادي لآراء
(السبحاني)، اقترح إخواني في مكتبة التفسير - مشكورين - إعادة طبع هذا الكتاب مرة
أخرى، لذلك قررت مراجعة الطبعة الأولى، وتصحيح الأخطاء
التي فيها، وإضافة أيّ جديد إن وجد.
وعلاوة على ذلك، استحسنت أن أضيف على ذلك المحصود، بحثاً آخر حول مكانة
السنّة عند شخصية علمية أخرى، لأنير به عيون القراء.
وبعد التفكير والتوفيق الإلهي، اخترت العلامة والعارف والمجتهد والفيلسوف
في شرق كوردستان (الشيخ أحمد مفتي زاده) - أعلى الله درجته -، وذلك لسببين، هما:
أن الشيخ مفتي زاده - كالشيخ السبحاني - كثيراً ما يُـتَّهَمُ بأنه لا
يعترف بالسنّة كمصدر ثان للأحكام الإسلامية، وأنه كان يعمل بالقرآن وحده!.
لذلك، ولتصحيح هذا الكلام وتحقيقه، كان من المفترض أن تُعرَض نظرة هاتين
الشخصيتين وموقفهما، لتبطل هذه التهمة الباطلة.
لو استمعنا إلى الأشرطة الصوتية، أو نظرنا إلى مؤلفات هاتين الشخصيتين: (السبحاني
ومفتي زاده)، وقارنّا بين أفكارهما وآرائهما ومواقفهما تجاه المصطلحات الإسلامية،
نبلغ إلى تلك الحقيقة: أن مشروعهما وكثير من مبادئهما الفكرية والعلمية يلتقيان،
فكأنهما ينتسبان إلى مدرسة واتجاه فكري واحد.
وإني أرى - وربما أكون مخطئاً - نظراً إلى العمر والتاريخ والشخصية والمكانة
السياسية والاجتماعية، أن الشيخ ناصر السبحاني استفاد كثيراً من الاتجاه الفكري
والمقاييس والأسس العلمية للشيخ أحمد مفتي زاده. لكن لا بمعنى التقليد والمحاكاة،
بل بمعنى الانتفاع والاستفادة من تجربته وخبرته، لاستكشاف الأسس، وتصميم المنظومة
الفكرية والعلمية، ومبادئ المواقف تجاه جميع معالم الحياة.
ومن الجدير بالذكر، أن القرآن كان مصدرهما الأساس ومعيارهما الرئيس، الذي
منه ينظرون إلى أساليب حياة الفرد والمجتمع، بكلّ معالمها: (الفكرية، والسياسية،
والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية...إلخ)، ثم لإصلاح المشاكل والأزمات والقضايا
كذلك، كانا يرجعان إلى القرآن أولاً.
وهذا من أظهر خصالهما، وتشابههما. ومن هنا، أقول: إن تأثير مفتي زاده على
السبحاني واضح بجلاء.
يقول مفتي زاده: "إنَّ السبب الوحيد لشقاوة المسلمين هو: بعدهم عن
القرآن. وحتى الآن، السبب الأول لوعي المسلمين وسعادتهم ونجاتهم، والتحرّر من قيود
عبودية العولمة، وحيلها وكذبها ومكرها، فقط هو الرجوع إلى القرآن، ومن غير هذا
الطريق لا يوجد طريق حقّ آخر"([1]).
على أي حال، موضوعي هو: نظرهما في الاعتماد على السنّة. في البداية أذكر
نظر الشيخ ناصر السبحاني ـ مراعاة للطبعة الأولى للبحث ـ ثم نظر الشيخ مفتي زاده ـ
أعلى الله مقامهما ـ .
مع الأسف قد تواجَه هاتان الشخصيتان بالهجوم والتهمة والطعن، من قبل
أشخاص لم يتعرّفوا على فكرهما ومكانتهما العلمية، وهذا نوع من الإجحاف، لأن
التقييم والقرار تجاه عالم أو مفكّر، بدون البحث العلمي والموضوعي، أو الاطّلاع
على نتاجاته وآرائه، لا يتصوّر فيه شيء آخر، غير الإجحاف!.
وبسبب اجتهاداتهما وآرائهما، يواجَه (السبحاني ومفتي زاده)، في زمنهما،
وحتى الآن، بالتهمة والإفراط. بعض المرّات ـ مع الأسف ـ من قبل أصحاب العلوم
الشرعية والشهادات الأكاديمية العليا، كما قال رئيس لجنة المناقشة لباحث في مناقشة
رسالة ماجستير حول الشيخ ناصر السبحاني: (صاحبك ـ أي السبحاني ـ قرب من الكفر!!)([2]).
ولا غرو أن تنسب إليه هذه التهمة! عندما عبّر أو اجتهد مخالفاً لما جاء
في المذاهب والكتب المدوّنة.
ولأن الإمام (الغزالي) كذلك، عندما أرسل إليه أحد طلابه رسالة، يقول له
فيها: بسبب آرائك، بعض الناس عندنا يعتبرونك كافراً. يسايره الإمام الغزالي ويقول
له: "إني رأيتك ـ أيها الأخ المشفق، والصديق المتعصّب ـ موغر الصدر، منقسم
الفكر، لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة، على بعض كتبنا المصنّفة في أسرار
معاملات الدين، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، والمشايخ
المتكلمين، وأن العدول عن مذهب الأشعري ـ ولو قيد شبر ـ كفر، ومباينته ـ ولو في
شيء نزر ـ ضلال وخسر... ثم قال: واستحقِر من لا يُحسَد ولا يُقذَف! واستصغِر من
بالكفر أو الضلال لا يعرف! فأيّ داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين (صلى الله عليه
وسلم)؟ وقد قالوا: إنه مجنون من المجانين! وأيّ كلام أجل وأصدق من كلام رب
العالمين؟ وقد قالوا إنه أساطير الأولين"([3]).
وكذلك ابن تيمية على آرائه، ذاق العذاب والمشقّة. حتى يقول صاحبه (ابن
القيم): "كادت الأمّة أن تجتمع على تكفيره"، ولكنه بعد موته، لُقب
بـ(شيخ الإسلام)([4]).
وفي المقابل، البعض من أصحاب هاتين الشخصيتين وأتباعهما، متعصبون
لآرائهما، بشكل يحسبون أنها كلها حقّ، ولا يتقبّلون أنهما - كأيّ عالم آخر –
يخطئان، وليسا معصومين!.
بلا شك إن هذا التعامل والموقف نوع آخر من الإجحاف بحقّهما؛ لأن السبحاني
ومفتي زاده، لم يبيحا لأنفسهما العصمة والقداسة، بل انصبّت كل جهودهما في طمس
التعصّب الفكري والمذهبي والحزبي، وإحلال الشورى (أولي الأمر) محل الاجتهادات
الشخصية والفردية.
لذلك الشيخ مفتي زاده نفسه ـ مثل الشيخ ناصر السبحاني ـ يرى: أن التقليد
لا يليق بشخص قادر على الاجتهاد، وقد ركّز جهوده من أجل تضييق دائرة التقليد على
أتباعه، كما يقول: "مرات كثيرة أكرّر لإخواني وأخواتي، وعلى الخصوص في هذه
الأيام: أبعدكم اللهُ من شقاوة وشرّ أن تقولوا بشيء لأَنَّ أحمدَ قاله؛ لأنكم بهذا
الفعل تُهلكون أنفسكَم وأحمدَ!، ومرّات كثيرة - كتابة وكلاماً - قلت لهم: من كان
منكم عالماً، فليجتهد أن يكون أعلم، حتى تكون نسبة تقليدكم لي أقلّ؛ لكي تعرفوا
خطئي حينما أخطأ.
دائماً أردّد: إنني طول عمري أخطأت كثيراً، ومن البداية قلتُ للناس: لا
تقتدوا بي عميّاً وصمّاً، ولحد الآن أُشجّعهم على التعلّم أكثر، وإن استطعتُ أن
أعود إلى كوردستان، مع أن واجباتي أكثر من أن أدَرِّس، أود أن أدرس درسين:
فقهاً تقليدياً في المذهب الشافعي. 2. فقها اجتهادياً كلّياً. لكي ينضج
أناس، فلا يحتاجون إلى تقليدي.
الطاغوت هو: من يقولُ للناس كلّ ما يخطر بباله، باسم دين الله، من غير
الاهتمام بدين الله، والبحث الضروري، والناس مطيعون له. جاء الدين لأن تكون الطاعة
لخالق الإنسان وحده، وواضح أنه ليس لله تعالى أية مصلحة شخصية أو حزبية، وأنه لا
يصدر أمراً مخالفاً لمصلحتي أبداً، ثم النبـي (صلى الله عليه وسلم)، إذ أنا مطمئنّ
أنه صادق أمين، وأنه أُفهمَ جيداً...أما العالم القادر على البحث، فلا يجوز له
التقليد"([5]).
وفي مكان آخر يقول:
" أولاً: ويلٌ لي، حتى الآن ما استطعت أن أحرّر أصحابي من التقليد المطلق لي،
ومِنْ ظنِّ أن كلامي حجة!
ثانياً: أحمد الله تعالى، أن طُرحَتْ هذه القضية قبل وفاتي، لئلا يكونوا
بعدي وثنيين مخلصين.
ثالثاً: هل تنتظرون مني كالذي (أخذته العزة بالإثم) بعد ما أحسست بخطئي،
أن أمنع نفسي من تبليغ هذا الخطأ؟!... عليَّ اللعنة إن رضيتُ عن اتّخاذي صنماً،
وعلى الذين يتخذونني صنماً عن علم، خصوصاً بعد مماتي"([6]).
لا أنه فقط كان لا يريد أن يكون هناك تعصّب لآرائه ونظراته، من قبل
أتباعه وأصحابه، بل كان غير مستعدّ لقبول أي إفراط في تكريمه. لذلك عندما يكتب له
أحد أتباعه رسالة، يستخدم فيها بعض الألقاب والأوصاف في حقه، يحذّر أعضاء الشورى،
ومن طريقهم جميع أتباعه، ويقول لهم: "أصحابي: حقيقةً، إن استخدمتم هذه
الأوصاف والألقاب لشخص خسيس، غير لائق مثلي، فماذا تقولون للعظماء ـ كمثال ـ حضرة
آخر الأنبياء (صلى الله عليه وسلم)؟. واحد من الأحبة كتب: قل لله أن...!!، انظروا،
حتى اليهود المتمرّدين كانوا لا يستخدمون هذا التعبير، أكثر ما يقولون هو: ادع لنا
ربّك!"([7]).
بقي في الختام أن أقول: يؤسفني أن هاتين الشخصيتين - بعد عدّة سنوات من
وفاتهما - لم يتمّ العمل بكفاية على سيرتهما ونتاجاتهما ونهجهما ومعالمهما العلمية
والفكرية والسياسية، ولحدّ الآن كثير من مثقفي كوردستان لم يتعرّفوا على كثير من
طريقتهما ونهجهما وآرائهما وتجديداتهما وتأثيراتهما على أساليب الحياة، فضلاً عن
عوام الناس.
أتمنّى أن يكون جهدي هذا ـ الذي هو قطرة من بحر عميق، فكري وعلمي ومعرفي
للشخصيتين ـ بداية للعشرات والمئات من البحوث الأخرى.
وأخيراً أقول: أسأل الله تعالى أن يتقبّله ويجعله في ميزان حسناتي، وأن
يكون مفيداً للقرّاء الكرام. اللهم آمين.
اللهم اجعل عملنا هذا صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد غيرك
فيه شيئاً
وصلى الله وسلَم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
***
إن أيُّ قارئ منصف لو نظر في نتاجات (السبحاني)، أو
استمع الى أشرطته، تبيّن له حقيقة أن هذا العالم البارع، قام بدور عظيم في تجديد
الفكر الإسلامي، وسائر العلوم الإسلامية.
وأن بحوثه وآراءه الجديدة عميقةٌ إلى حدّ نحتاج - في نظري - إلى ربع قرن،
لكي نفهمها بدقة، ثم نبحث فيها. ومثل هذا الجهد يحتاج إلى مركز بحثي، لكي يتولى
عملية (تجميع، فرز، دراسة) نتاجات (ناصر السبحاني) الثرة.
فهذا هو العالم الداعي المعروف في العالم الإسلامي الأستاذ (محمد أحمد
الراشد) يعرِّف السبحاني بأنه (عالم ٌعميقُ العلم)، ويقول أيضاً: "لكن الشهيد
السعيد البطل ناصر سبحاني - رحمه الله - الذي كان الوجه العلمي للدعوة في إيران،
كان ميّالاً إلى العزائم والصراحة"([8]).
وعلى الخصوص عمله العظيم
باسم: (رسالة في علوم الحديث)، الذي أرسله لرئيس مركز السنّة والسيرة النبوية
فضيلة الشيخ (د. القرضاوي)، كما يشير إلى ذلك في مقدمته، وقد طرح كلاماً جديداً
وجدِّياً في كثير من مواضيع علم الحديث، وعرض آراءه بجرأة، معتمداً على القرآن، ثم
في النهاية يطلب - بتوقير - أن يهتمّ برسالته وأن لا تُهمَل، ويقول: "فأما
أنا فأدّيتُ ما كان عليّ، وأما أنتم - أيها الكرام - فيرجى منكم الإقبال والقبول،
ومن علامة ذلك أن لا يُقدِم على ذلك العظيم إلا جماعةٌ مؤتلفة من أكابر المفسّرين
والمحدّثين والمؤرّخين والدعاة والفقهاء"([9]).
وهذا البحث محاولة لتبيين بعض التجديدات في علوم الحديث في نظر الشيخ
السبحاني. وهذا الموضوع يحتمل بحثاً أكثر، وهذا وحده ليس كافياً.
وقبل أن نغوص في عمق هذا الموضوع، أريد أن أقول: إن السبحاني - رحمه الله
- قد أدرك مبكراً هذه الحقيقة، وهي أن القرآن هو المحور والمركز للحياة (الحياة
الإنسانية) بكلّ أبعادها.
ومن الجدير بالذكر، أن هذا الموضوع قُدّم ابتداءً في الندوة العلمية
لناصر السبحاني، التي عقدت في أيام (۲٨ـ۲۹/۳/۲۰۱٥)، على
قاعة (تلار) في السليمانية.
ثم لتعريف القراء أكثر بكفاءة العالم البارع في شرق كوردستان، وخدمته
لتراث الفكر الإسلامي الرحيب، وخصوصاً في ميدان حسّاس مهمّ كـ(علم الحديث)، رغبت
أن ننشره بين دفتي رسالة، أتمنى من الله تعالى أن يتقبّلها منّا، ثم تنال رضا القرّاء.
***
العلاقة بين (كاك أحمد مفتي زاده([10])
و(الشيخ ناصر السبحاني)
مع أنه ليس لدىَّ دليل علمي، يثبت بداية التعارف والعلاقة بين هذين
العالمين الجليلين، لكن الذي سمعته هو: في البداية كان الشيخ ناصر السبحاني رجلاً
متصوّفاً، وعندما اجتمع لأول مرة مع كاك أحمد مفتي زاده - مع الأسف لا أعرف متى
وأين - حينذاك يترك الشيخ ناصر طريقته.
منذ ذاك الوقت، بدءاً يتبادلان الحبّ والتقدير، ويوماً بعد يوم تقوى تلك
العلاقة وتشتدّ. ومن هنا، كدليل مؤيّد لتلك الحقيقة، نشير إلى بعض الأقوال
والمواقف وتقييم هذين العَلَمين لبعضهما البعض:
1. رأي الشيخ ناصر في كاك أحمد، وموقفه منه:
اشتهر كاك أحمد مفتي زاده كمرشد سياسي واجتماعي للسنّة في إيران، وكان
الشيخ ناصر دائماً مُعاونه ومساعده ويده اليمنى، وكان دائماً ينظر إلى جهود وجهاد
وشخصية كاك أحمد، كمجتهد جليل، بعين عظيمة ورفيعة.
لذلك سألوا كاك ناصر عن شخصية كاك أحمد؟
فقال: "أرى كاك أحمد مثل سيد قطب، كاك أحمد مجتهد كبير، لو عقدت
للعالم الاسلامي شورى، وفيها أي شخص باسم (أولي الأمر)، وليس فيها كاك أحمد، فهذه
الشورى غير كاملة"([11]).
وأيضاً (الشيخ برهان حاج هادي، كان من الأصحاب المقرّبين للشيخ ناصر،
يروي نظر ورأي (الشيخ ناصر) في (كاك أحمد) هكذا: كان الشيخ ناصر يحبّ كاك أحمد حبّاً،
ويوقّره، لو قال عنده أحد: أحمد مفتي زاده، كان ينزعج كثيراً، ويقطّب جبينه،
فكأنّما استهزأت بالسبحاني نفسه، وكان يجب أن تقول دائماً: كاك أحمد مفتي زاده،
وكان الشيخ ناصر دائماً يقول: لو عقدت شورى للأمة الإسلامية بأسرها، يجب أن يكون
كاك أحمد رئيساً لتلك الشورى، وإن لم يجعل رئيساً، لا بدّ أن يكون عضواً كبيراً في
هذه الشورى([12]).
وعلاوة على ذلك، فالشيخ ناصر في (رسالة آلام من أرض بلايا)، التي كتبها
لفاجعة حلبجة الشهيدة في عام (1988م) باللغة العربية، وسجّلها بصوته، ذكر فيها
مظلومية الكورد، في أجزاء كوردستان الخمسة، يشتكي هذه المظالم التي ظُلمت بها تلك
القومية، ويرفعها إلى معشر الأنبياء والمرسلين. وفي سياق كلامه يشير إلى شخصية كاك
أحمد مفتي زاده، ويصفه بـ(الناصح الأمين)، الوصف الذي وصف به القرآن الأنبياءَ.
كما يقول: "وإن نَنسَ فإننا لا ننسى إذ قام ناصحنا الأمين، يدعوهم
إلى الخير ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فثارت ثائرتهم، ثم بدا لهم من بعد
ما رأوا الآيات ليسجنّنه حتى حين"([13]).
رأي كاك أحمد وموقفه من الشيخ ناصر السبحاني:
وفي المقابل، فإن كاك أحمد كان يحبّ الشيخ ناصر السبحاني جدّاً، وينظر
إليه بعين الاحترام والإجلال، وكان على اعتقاد وثقة تامّة بإيمانه وتقواه وقدرته
العلمية، لذلك كان يحب أن يقرِّبَه من نفسه دائماً.
"قال كاك عبد الله
الإيراني لكاك أحمد مفتي زاده: نحن نذكر كثيراً أن نهتمّ بتنمية دراسة الحجرة
والعلوم الشرعية... فأجاب كاك أحمد بقوله: والله كاك عبد الله، إن أطال الله لعبده
هذا عمره، أحبّ أن أجعل بيتي هذا مدرسة، وأقبل طلبة العلم، وإنْ رضي كاك ناصر
سأجلبه من (باوه) إلى هنا لتنشئة طلبة العلم"([14]).
"في بداية سنة (1359هـ
ـ1981م)، طلب السيد كاك أحمد مفتي زاده أن يذهب إليه كاك ناصر لأيام، وكان في
مدينة (كرماشان). وزاره فضيلته، ومكث عنده ثلاثة أسابيع. هذه الزيارة صارت سبباً
لتأخير دروس ودوام مدرسة السيد الشيخ ناصر في مدينة (باوه)، وبعض من نشاطات عمل
الإخوان، الذي لم يعلن بعد. أرسل الإخوان مرّات أنّه يجب أن يعود الشيخ ناصر،
ولهذا السبب أرسلوا رجلين برسالة إلى كاك أحمد، قرأ الرسالة بدقة، وراجعها مرّة أو
مرّتين، ثم رفع رأسه قال متبسّماً على صورة السؤال: كاك ناصر أمانة؟!، إذ كانت
الرسالة تتضمن آية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا﴾، وقال كاك أحمد ممازحاً ضاحكاً: عادة تستعمل الأمانة لأشياء غير ذي
روح، لكن كاك ناصر! ثم قال: في المناطق الكوردية رجل مثل كاك (ناصر) نادر، إن لم
أقل معدوم، فلمتابعة الواجبات هنا (كرماشان) أكثر مركزية من (باوه)، أخبرنا أحد
الرجلين، ونحن قلنا له: إن ميدان الواجبات عندنا أيضاً واسع جداً، وإن كثيراً من
دروسنا تعطّلت، والجميع في انتظار عودة كاك ناصر، لذلك كاك أحمد الذي كان من المقرّر
أن يمكث كاك ناصر عنده مدة أكثر، قال: أجل، عشرة أيام إلى اثني عشر يوماً آخر
سيعود"([15]).
وهكذا استمرت هذه اللقاءات بين السبحاني وكاك أحمد. يقول أخوه كاك منصور:
"بعد عام من الثورة، ذهبت مع أخي الشهيد كاك ناصر إلى لقاء كاك أحمد، وقد
تخلّلَ لقاءهما بعضُ مسائل علمية، وعرض كاك ناصر على كاك أحمد قائلاً: أستحسن أن
تطالع الأحاديث النبوية أكثر، وردّ هو قائلاً: على عيني، على عيني"([16]).
وأيضاً، فإن كاك أحمد مفتي زاده، كان يعتقد: أن كاك ناصر السبحاني بلغ
إلى مرتبة الاجتهاد المطلق، ولذلك "عندما كان في السجن، بُلِّغ كاك أحمد ببعض
آراء الشيخ ناصر ومواقفه، على أنه مخالف لآرائه، وكان ذلك صعباً على بعض أتباع كاك
أحمد وأصحابه، ولكن كاك أحمد قال: إنّ كاك ناصر مجتهد، مهما قال، قاله كعالم مجتهد"([17]).
وفي المقابل، لم يعطِ كاك أحمد حقّ مرتبة الاجتهاد المطلق، أو الاجتهاد
المقيّد بين المذاهب، وحتى في مذهب واحد، لأحد من أتباعه وأصحابه، كما يقول في
الرسالة الرابعة: "لا أعطي إجازة الاجتهاد المطلق لأحد، لا في مذهب واحد، ولا
بين المذاهب، ولا الاجتهاد المطلق، بمعنى استنباط الأحكام مباشرة عن طريق الدلائل
الكلية من الدلائل الجزئية، يمكن:
أن يوجد الآن رجال تتوافر فيهم الشروط، وإني لم أعرفهم تماماً.
أتمنّى العون الإلهي أن يبلغ كثير من أصحابي الأحبة إلى مرتبة، أن أستفيد
من التلمذة لهم"([18]).
إن هذا الترابط الذي كان بين
كاك أحمد والشيخ ناصر، قد اشتدّت عروقه على أساس المحبة والتقدير، عِرقٌ قد تغذّى
من عمق الدين، وانتشر في جميع أغصانه.
ثم امتدّ حبّ هذين العالمين إلى أتباعهما وأصحابهما، وكل من كان طالباً
تحت رعايتهما، وتعلّم منهما وبلّغ.
وعن حبّ وتقدير كاك أحمد للشيخ السبحاني، تحدّث الشيخ (سيف الله
الحسيني)، الذي كان صديقاً قريباً من الشيخ ناصر في زمن تعليمه، وكان من المشايخ
الذين عندما سجن الشيخ السبحاني حاولوا واجتهدوا كثيراً لإطلاق سراحه. يروي
(الحسيني) عن هذه المحبة والتقرير قصة له، قائلاً:
"وفي سنة (۱۳٦۱هـ) أُبعدتُ
إلى مدينة من مدن محافظة (كرماشان) اسمها (كنكاور)، وكنت في إعدادية كنجاور
أدرِّسُ (العربية، والمنطق، والرؤية الدينية، والأدبيات)، حينذاك هاجر كاك أحمد ـ
رحمه الله ـ من (سنه) إلى (كرماشان)، في يوم ۳۱ خردادي سنة (۱۳٦۱)... خطر ببالي أن أزور كاك أحمد.. بعد السلام والاستخبار، فجأة دقّ أحد
البابَ، فتح كاك أحمد البابَ، رأينا أنه كاك ناصر السبحاني، كان آتياً من (باوه)،
ثم فتح الحوار بينهما... قرأ كاك ناصر الآية ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾،
وبيَّن: أن الصلاة في الحقيقة إن لم يكن فيها ذكر الله واقعياً، فليست هذه الصلاة
صلاة صحيحة، كما يقول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾.
آنذاك قام كاك أحمد باعتناقه، وقال: إنك لمجتهد، وهو قال متواضعاً: لا،
إني ليس لديّ ادّعاء، هذا شيء شفاف وواضح، يجب أن يعرفه كل واحد. والوقت الذي قال
له كاك أحمد: (إنك مجتهد)، كان في سنة (۱۳٦۱هـ)، ثم إلى
سنة (۱۳٦٨هـ) يكون التفاوت كثيراً. واضح أن الشيخ ناصر
في هذه الفترة استزاد من العلم كثيراً، وعلى حدّ علمي أن كاك ناصر بالنسبة إلى كاك
أحمد كان متواضعاً إلى حد يعرّفه بأنه (ناصح أمين). حقيقة رغم علمه العميق كان في
مقابل كاك أحمد هكذا، وفي الوقت نفسه يأتي كاك أحمد ينظر إلى كاك ناصر بعين
المجتهد الكبير"([19]).
وعلاوة على هذا الترابط بين هاتين الشخصيتين، كان هناك علاقة علم ومعرفة
وفكر وتبادل رأي واستفادة، لكن الشيخ ناصر كان أكثر استفادة من كاك أحمد، لأن "أكثر كلام كاك أحمد في شكل قواعد
وضوابط، وأتى الشيخ ناصر بكثير من كلامه وجعله منهجاً كبيراً، وهذه القريحة
الفلسفية لمفتي زاده، كانت سبباً لأن تكون مواضيعه منهجية (المواضيع المنهجية
والقواعدية)، ثم استفاد منها الشيخ ناصر، وبحث عنها في القرآن"([20]).
ولكن الفرق بينهما يظهر من حيث أن آراء السبحاني، أكثر ما يتجلّى فيها هو
(التحليل، والتأصيل)، أما آراء كاك أحمد، فأكثرها يميل إلى المتن والإشارة، وهذا
حاصل من فسحة مجال السبحاني وفرصته، في مقابل قلّة وقت مفتي زاده وفرصته وانشغاله
بتنظيم أمور الإخوان في (مكتب القرآن)، ثم
سجنه لمدة عشر سنوات.
وهنا أشير إلى مثالين ـ يقرأهما
القارئ في هذا البحث فيما بعد ـ:
المثال الأول: عندما يمثّل السبحاني في تفسير الحكمة المتغيّرة بـنصاب
الزكاة ومقداره، الذي يعتبره من الأمور التي يمكن أن تتغير بتغيّر الأحوال
والظروف، فكذلك مفتي زاده له الرأي نفسه، كما سجّله في حواشيه على كتاب (أولويات
الحركة الإسلامية) للدكتور يوسف القرضاوي، التي كتبها في السجن، وذكر ذلك في أماكن
أخرى.
المثال الثاني: كاك فارق فرساد ـ نوّر الله ضريحه ـ في شرح قصيدة لمفتي
زاده باسم (بصيص هجرة الرحمة) يقول: هذا التفسير الذي أقوله لكم الآن بخصوص
الأزمنة الثلاثة هو تفسير كاك أحمد، بمعنى لم يقل به أي مفسّر قبل كاك أحمد،
بإجمال تصوّروا في ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ
مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ أن الانسان مخيَّر، حسب ما يميل إليه، يقوم
في ليلةٍ الثلث، وفي ليلة الثلثان، وفي ليلة النصف.
لكن كاك أحمد يفسّره بنوع آخر، هذا جميل عندما نتأمّله، وهذا من
التفسيرات الاستثنائية له، يعني أوّل رأي أعلن في هذا المجال هو لـ (كاك أحمد)،
يقول: هذا صالح مع أوقات السنّة، عندما يكون النهار فيها طويلاً جداً والليل
قصيراً، معروف أن النهار الطويل للعمل والجهد، والليل قصير، إذن: يكون الثلثان
للنوم والاستراحة، والثلث لصلاة الليل. وفي أيام الخريف والشتاء يكون النهار
قصيراً جدّاً، والليل طويلاً، والعمل والجهد أقلّ في النهار، إذن: بنوم أقلّ يُنفّذ
العمل، ويكون الثلثان لصلاة الليل. وفي الأيام التي يتقارب فيها النهار والليل،
يتعيّن النصف لصلاة الليل. وفي ختام الآيات، عندما تسير خطتي هكذا، وتتجاوز حدود
السنّة، فينزل التخفيف؛ لأنه لو لم تتجاوز السنّة لا تستطيع تطبيق الآية([21]).
وكذلك ترى الشيخَ ناصر السبحاني يذكر نفس الرأي في عدّة مواضع([22]).
وكذلك في عدّة آراء وبحوث أخری - التي ذكرت بعضها في هذا البحث - تری
موقفهما إمّا متماثلاً، أو متقارباً.
على أيّ حال، موضوعي هو: نظرتهما حول مكانة السنّة، في المنظومة
التشريعية والقانونية، فأبدأ أوّلاً بنظر السبحاني مراعاة للطبعة الأولى، ثم بنظر
مفتي زاده.
ومن الجدير بالذكر أن هذه العلاقة الوثيقة بين هاتين الشخصيتين قد دامت
واستمرّت، رغم اختلافهما الحزبي والتنظيمي؛ لأن كاك أحمد كان له تنظيم خاص به،
وكان الشيخ ناصر عضواً في جماعة الإخوان. لذلك عندما أراد كاك أحمد وأعوانه تشكيل
حزب (المساواة)، بعض أصحاب كاك أحمد كانوا غافلين أن الشيخ ناصر عضو في جماعة
الإخوان، قالوا: لماذا لا يشارك كاك ناصر في حزب (المساواة)؟.
لذلك سأل كاك ناصر كاك أحمد قائلاً: كاك أحمد إني بايعت وعاهدت (الإخوان)،
هل يجوز أن أدخل هذا الحزب؟ فأجابه: لا، كاك ناصر، لا يجوز، والإخوان يخدمون الإسلام
أيضاً([23]).
القرآن هو مركز قراءة السبحاني
كان السبحاني ينظر بعين القرآن إلى جميع معالم الحياة الإنسانية، مثل:
(الدين، والفكر، والرؤية، والتصوّر، والأخلاق، والعلم، والتاريخ، والقانون،
والسلطة....إلخ).
وكذلك بتلك العين ينظر إلى الحديث وعلومه، وإلى القرآن نفسه؛ لأنه كان
يستنبط أسس فهم القرآن من القرآن نفسه، وحتى عندما يضع المقاييس لفهم القرآن، يرى
أنه يستدعي الخروج من القرآن في حالة واحدة فقط، ويجعلها معياراً، وهي: معرفة
اللغة العربية، وجذور الكلمات القرآنية([24]).
وكذلك يستخرج من القرآن كل من العلوم: أسباب النزول، ومصطلح الحديث...
إلخ، وستتبين تلك الحقيقة أكثر في ما بين دفتي هذا البحث فيما يأتي.
ففي هذا المنطلق، لو أردنا أن نضع لقباً وتعريفاً للسبحاني، نستطيع أن
نقول: إنه يستحق لقب (الرجل القرآني) بجدارة.
وعلى هذا الأساس أقول: لا أوافق على هذا الرأي الذي يقول: "ما فهمته
من الشيخ ناصر السبحاني، لكي ندرك شرح وتفسير جميع القرآن، نحتاج إلى الخروج من
القرآن، وهذا الخروج، هو الدخول في سيرة رسول الله"([25]).
لأن هذا الرأي لا يتوافق مع أقوال السبحاني نفسه، كما يتبين في هذه
النقاط:
أولاً: أن الشيخ ناصر في سياق ذكر مكانة السنّة وتصحيح تفسير الآية:
﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ يقول: "فهم من هذه الآية، أن
﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ تعني: أن {ما نزل} نفسه فيه إبهام
وإجمال وغموض، ويجب أن يتوقّف الإنسان عن فهمه، لكي يذهب ويعلم ماذا يقول الحديث!
في حال أن التبيين معناه الأوّل هو (التبليغ)... أليس هذا الكتاب نوراً؟ أليس سراجاً
منيراً؟ أليس هادياً؟ ماذا تعني أن نتوقّف في فهم معنى الألفاظ، إلى أن نجد رواية.
وفي المقابل كم من آيات القرآن مكية، وكم عندنا من أحاديث، وكم منها مدنية، حتى
أينما لم نجد الأحاديث نتعطّل؟([26]).
ثانياً: أن السنّة غير مختلفة مع القرآن، وأن السنّة هي الوجه العملي
للقرآن. يقول: "يجب أن ندرك السنّة بمعنى أوسع، على أن كثيراً من السنّة
موجودة في القرآن، حتى لو أن الإنسان - يعني لو وجد رجل خبير ـ يجب أن يستنبط من
القرآن جميع السنّة، وجميع تاريخ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصحابة"([27]).
ثالثاً: أن القرآن يتضمّن كل ما هو ضروري لهداية الإنسان. يقول:
"ليس في القرآن شيء، إلا أن هذا يقتضي أن يتوقّف على الاستدلال بالأحاديث،
حتى يرجع إلى القرآن، فبعض الأشياء، بل كثير منها يدركه غير رسول الله (صلى الله
عليه وسلم)، ولكن البعض الآخر لا يدركه غير رسول الله، كالصلاة في القرآن، كيف
تقام، لكن لو اجتمع جميع المؤمنين، لا يقدرون على تبيين ذلك في القرآن، فتكون
نتيجة هذا الموضوع: هذا الدليل الثاني (السنّة) هو القرآن في الأخير، بمعنى أنهما
يلتقيان ولا يختلفان"([28]).
بهذه الكلمات للشيخ ناصر تبيّن أن لفهم القرآن - عنده - لا نحتاج إلى
الخروج منه، بل بالعكس عند السبحاني لفهم جميع العلوم، خصوصاً السنّة، نحتاج إلى
الرجوع إلى القرآن.
بل إن صاحب الرأي السابق نفسه، يعترف بهذا فيقول: "ظاهر أن القرآن
عند السبحاني، منهج متكامل يكمّل نفسه، ولكن نحتاج إلى سنّة لفهم القرآن، أو على
الأقل لتبليغ القرآن؛ لأن البيان عند السبحاني مقابل للكتمان، والكتمان، إن كان
معناه الستر، فيكون مقابله هو التبليغ"([29]).
فكيف يقال إن القرآن عند السبحاني نظام متكامل يكمّل نفسه، في حين نحتاج
إلى سنّة لفهم القرآن؟! أليس هذان الكلامان متناقضين؟!.
لكن هذا ليس بمعنى رفض السنّة؛ لأنه كما قال السبحاني إننا في التفاصيل
والتطبيقات نفتقر إلى السنّة.
تفسير جديد للمصطلحات الثلاثة: (آيات، كتاب، حكمة)
هذا التفسير واحد من إبداعات السبحاني الجديدة، والرائعة، والذي يكون
بداية جيدة لفهم دور السنّة ومكانتها، وهو: تقسيم آيات القرآن إلى ثلاث مصطلحات،
وإعطاء معنى جديد لهذه المصطلحات، الأمر الذي يختلف كثيراً عمّا ذكره المفسّرون
قديماً وحديثاً، والذي لم أرَ أحداً يفسّره هكذا.
يرى السبحاني: أن القرآن مكوّن من ثلاثة محاور أو مفاهيم:
أوّلاً: (الآيات): والمراد بها: آياتُ الآفاق والأنفس، أي الآيات المتعلّقة
بالكون ونفس الإنسان. عندما تذكر الآيات مع الكتاب والحكمة، تعطي معنى مختلفاً.
ثانياً: (الكتاب): والمراد بها: تلك القواعد والأسس والتصوّرات والعقائد
الكلية، التي هي ضرورية للقيام بالواجبات.
ثالثاً: (الحكمة): والمراد بها: تطبيق تلك القواعد والضوابط الكلية، أو
بعبارة أخرى هي: تلك الوسائل التي تتّخذ بقصد تتبّع تلك القواعد الكلية وتطبيقها([30]).
يرى السبحاني: أن لفظ (الكتاب) كما يستعمل لكل القرآن، كذلك يستعمل للعقائد
والقيم، إن اقترن بكلمة (الحكمة). وهذا تفسير جديد لمصطلح الكتاب.
ويقول السبحاني في تفسير الآية: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ﴾: (هنا ليس المقصود بالكتاب القرآن، كل القرآن، لماذا؟.
لأن تلاوة الآيات تتمّ به، وهي في القرآن أيضاً، لذلك كانت الحكمة بعضها
في القرآن أيضاً. الكتاب هنا شيء، وتكون الحكمة طريقة تطبيقه. تلاوة الآيات: (يتلو
عليهم آياته) تتضمن مجموعة من مسائل التصوّرات، التي تتبيّن من خلال دلائلها،
والحكمة طريقة التطبيق في ميدان العمل. مثلاً "....الأصل في النظام السياسي
هو: أن الله معبود وحاكم، والإنسان منفّذ وخليفة. والأصل في النظام الاقتصادي هو:
أن الله هو المالك الحقيقي، والإنسان خليفة على النعم. والأصل في النظام الاجتماعي
هو: أن تكون الأخوّة الإيمانية أساس العلاقة"([31]). وبهذا يظهر لنا: أن السبحاني يعطي هذه المصطلحات
الثلاثة، معان مختلفة لما هو ثابت عند المفسرين؛ لأن عندهم: (آيات): هي آيات
القرآن، والكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي السنّة([32]).
القرآن يتضمن جميع الأحكام المتعلّقة بحياة الإنسان
يعتقد السبحاني: أن القرآن فيه جميع أحكام الله الضرورية لحياة الإنسان،
إمّا على هيئة جزئيات، أو على هيئة قواعد وضوابط كليّة. لذلك تراه - في مواضع
كثيرة - يدافع عن هذا الموضوع.
مثلاً: في كتاب (الولاية والإمامة)([33])،
وفي (أسس التصورات والقيم)([34])،
يقسّم حكم الله الوارد في القرآن إلى قسمين:
الأول: التصوّر والاعتقاد:
مجموعة مسائل؛ من خلالها يتحدّد تصوّر الإنسان ورؤيته عن الله والكون
والإنسان.
يرى السبحاني: أن في هذا القسم (التصوّر، الاعتقاد) بيّن الله صغيره
وكبيره، ولم يدع زاوية منه لأحد، فلم يبق لأي إنسان يريد أن يعرف الله، ويؤمن به
ويعبده، إلا أن يلقي السمع لهداية الله وبيانه([35]).
وفي موضع آخر، يؤكّد السبحاني على هذا الموضوع، ويقول: قسم الاعتقاديات،
مثبت ومعيّن، وذكر كلّه في القرآن، وإن ذكر في السنّة شيء عن الاعتقاد فهو مكرّر
لما في القرآن، ولكن بتعبير أبسط، لأناس مستوى فهمهم أدنى. وإنْ لم يكن مكرّراً
لما في القرآن، فهو بيان لأمور، لا يحتاج إليها في تكوين الإيمان؛ لأنها إنْ كانت
ضرورية، لكانت مبيّنة في القرآن؛ لأن الإيمان يجب أن يبنى على أساس اليقين، ولا
يحصل اليقين ممّا يتداخل فيه الظنّ، وحديث الآحاد يعطي الظنّ، لذلك لا يثبت اليقين
بما يتداخل فيه الظنّ، لذلك كل ما هو ضروري، ويثبت به اليقين، فهو مبيّن في
القرآن... لو كان جائز أن يقبله الإنسان (يعني حديث الآحاد في الاعتقاد)، فيستطيع
أن يقول: أظنّه هكذا، أو أشكّ في أن يكون الشأن هكذا، وهذا الشكّ كافٍ في هذه
الأرضية؛ لأنه أكملَ إيمانَه بأشياء أخرى، وأكملَ أسس التوجيه والحركة وانحيازه في
طريق التعبّد([36]).
وكذلك (كاك أحمد مفتي زاده) له الرأي نفسه، فيرى أن القرآن ذكر جميع
المصطلحات الاعتقادية، ولم يترك لأحد فيها شيئاً. لذلك يقول: كل ما هو ضروري أن
يعرفه الإنسان عن الاعتقاد تناوله القرآن، وكثير من هذه القواعد قالها الرسول عليه
الصلاة والسلام في أحاديثه، وأكّد عليها، حتى وإن لم تكن هذه الأحاديث موجودة،
يمكننا أن نفهم هذه القواعد الاعتقادية بالقرآن وحده([37]).
الثاني: الأحكام الجزئية والقواعد الكلية:
يقسّمها السبحاني إلى قسمين:
الأوّل:
في بيان بعض الأحكام الجزئية المعدودة، ليس بينها تناسب تندرج به في
قواعد كلية يكتفى بها عن بيان الجزئيات، فجاء ـ من ثمة ـ بيانُ كل منها بمفرده،
وقد ترتّب على ذلك أن يستوى في تلقيها الخواص والعوام... فهذه الأحكام الجزئية، قد
جاء بيان كثير منها في الكتاب نفسه، كما في كثير ممّا يتعلّق بالصلاة والحج
والصيام والنكاح والطلاق وغيرها، وبقيّتها قد وردت بشأنها في الكتاب ـ أيضاً ـ
إشارات، أدركها النبي (صلى الله عليه وبارك عليه) فجاء فيها بما يكفي من البيان([38]).
الثاني:
بيان مجموعة أحكام كثيرة متعلّقة بعضها ببعض، على هيئة قوانين وقواعد
كلية، واستنباط الجزئيات من هذه القواعد الكلية وُسِّدَ إلى المختصين...وهذه
القواعد الكلية مثبتة، بيّنها لأوّل مرّة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومجموعة
العلماء المختصين، من معالم الحياة المختلفة، وقام أصحاب النبي ببيانها وتطبيقها،
حتى يكون ـ أي البيان العملي للرسول وأصحابه ـ نموذجاً يحتذى من قبل جميع الأجيال
التي تأتي في المستقبل، وتتمسّك بمنهج الإيمان والعمل الصالح([39]).
وخلاصة هذا البحث هو: أن السبحاني يعتقد: أن حكم الله لهداية الإنسان،
بقسميه: (التصوّر والاعتقاد)، و(الأحكام والقيم)، كلّه في القرآن. ولكن تختلف
الأحكام عن التصوّر في مجال التلقي، الذي يقسمه السبحاني إلى ثلاثة أقسام:
أوّلاً: قسم من الأحكام موجّه إلى كل المخاطبين بأحكام الله، والعارفين
بلغة القرآن.
ثانياً: قسم منها موجّه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي يبيّن للناس.
ثالثاً: قسم منها يتوجّه في أيّ عصر إلى أهل الاجتهاد، وهم الذين يقومون
بتبيينها، كما قام به لأوّل مرة النبي وأهل الاجتهاد من أصحابه([40]).
هذا التقسيم، وتفسير السبحاني للقرآن ومكوناته، إبداع جديد، يؤكّد على
ذلك المبدأ الذي يصحبه دائماً، وهو أننا لفهم القرآن لا نحتاج إلى أي شيء، غير
معرفة لغة القرآن، وإن كنا نفتقر إلى السنّة، في بعض تفاصيل الأحكام.
يستحق الذكر أن (كاك أحمد مفتي زاده) أيضاً يرى: أن القرآن الكريم بيّن
الأمور المتعلّقة بالاعتقاد وأصول الأحكام، كما نذكر رأيه فيما يأتي في قسمه الخاص.
مصطلح الحكمة عند السبحاني
لو نظرنا بدقّة إلى تعريف السبحاني، وتقسيمه للحكمة وأمثالها، يتبيّن لنا
أن السبحاني قد أبدع إبداعاً عظيماً في هذا المجال. ويتبيّن لنا أيضاً أن منبع ذلك
الإبداع هو القرآن الكريم.
السبحاني - في عدّة مواضع - يعرّف الحكمة بما لم أرَ أحداً يعرّفها مثله -
مع رجوعي إلى كثير من التفاسير -، مع أن المفسّرين قد قدموا تعاريف وتفاسير مختلفة
لهذا المصطلح([41]).
في تعريف الحكمة بتعابير المختلفة يقول:
- مَجمُوعَةٌ مِنَ الأحكَامِ التّفصِيليَّةِ التي
تَهدِي إلى الصّوابِ في تَطبِيقِ القَواعِدِ الكلّيّةِ([42]).
-الطريقةُ الصحيحةُ للقيامِ بالتكاليف البعيدة عن الإفراط والتفريط([43]).
-الطريقة الوسط في تطبيق أصول العمل الصالح([44]).
الشيخ ناصر في كتاب (الدعوة ومراحلها) يعرف الحكمة بتعبيره، فيقول:
(الحكمة):
هي الطريقة الصحيحة لتطبيق تلك الأصول والقواعد، وتطبيقها في واقع الحياة([45]).
وكل هذه التعاريف تعبّر عن مضمون واحد، وهو: طريقة تطبيق القواعد الكلية
النظرية (الكتاب) التي بُينت في القرآن لهداية الناس.
أنواع الحكمة عند السبحاني
وفي هذا الموضوع كذلك، السبحاني - كعادته - أبدع فيه إبداعاً عظيماً، من
حيث تقسيمُ الحكمة، ومن حيث أمثلتُها.
يقسّم الحكمة إلى قسمين من جانبين: جانب الماهيّة، وجانب الثبوت والتغيّر.
الأوّل: أنواع الحكمة من حيث الماهيّة:
يقسّم الشيخ ناصر الحكمة من هذا الجانب إلى ثلاثة أقسام:
1. الحكمة الفردية: هي حياة رسول الله الشخصية ﴿
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
2. الحكمة الأسرية: هي حياة الرسول وزوجاته.
3. الحكمة الاجتماعية: هي حياته (صلى الله عليه
وسلم)، وحياة السابقين الأولين الذين آمنوا في بداية الدعوة، وحياتهم الجمعية
وإجماعهم على ما اتفقوا عليه.
ثم يقول: هذه مجموعة الحكمة، وهذا فيه شيء مهم جدّا! أجل، مجموعة الحكمة،
الحكمة الفردية، والأسرية أو العائلية والاجتماعية، فعلى هذا الأساس، تكون الإمامة
إلى ثلاث أنواع:
الإمامة الفردية.
الإمامة العائلية.
الإمامة الاجتماعية([46]).
الثاني: الحكمة من حيث الثبوت والتغيّر:
ومن هذا الجانب، يقسم السبحاني الحكمة إلى قسمين: الحكمة الثابتة،
والمتغيّرة المتطورة.
الحكمة الثابتة:
هي الأحكام الجزئية التي تتعلق بمجموعة من الأفعال، تكون المصلحة أو
المفسدة فيها ذاتية لازمة. إذن هذه الأحكام ثابتة([47]).
من هنا، يضرب السبحاني عدة أمثلة لهذا القسم، يقول: "في موضوع
الصدقات ورد في القرآن النهي عن المنّ والأذى، والإسراف، والتبذير، والتقتير،
والكنز. إن هذه الأفعال مفسدتها ذاتية وملازمة، فتلك النواهي الواردة، حكمها ثابث
ومستقر ومستمرّ"([48]).
وفي موضع آخر يقول: "الحسد، والبخل، حرام دائماً، والإيثار مستحب
دائماً، لكن أحياناً يكون واجباً، والسخاء والشجاعة والصبر واجب على الدوام...؛
لأن المصالح والمفاسد في هذه الأمور ذاتية لا تفارقها... وأحكامها ثابتة ومحصورة،
فمن أجل ذلك بُيِّنَ جميعها في القرآن"([49]).
الحكمة المتطوّرة:
هي الأحكام الجزئية التي ليست المصلحة أو المفسدة فيها ذاتية لازمة، بل
عرضية مؤقّتة، تابعة للظروف والأوضاع. إذن: هذه الأحكام غير ثابتة، بل متطوّرة([50]).
يمثّل السبحاني لهذا القسم بموضوع (أنصبة ومقادير الزكاة) الذي أعتقد -
مع أنه من اجتهادات السبحاني وإبداعاته الطريفة في الفكر الإسلامي - أنه يقتضي
البحث فيه والوقفة الجدية عليه - وفي الوقت نفسه تناولٌ في موضوع حسّاس، لم أرَ
أحداً يتطرّق إليه بهذه الجراءة، الموضوع الذي تراكمت عليه معرفة بديهية فقهية
خلال عشرات القرون.
غير أني رأيت أن كاك أحمد مفتي زاده له الرأي نفسه، لكن ليس بمثل هذا
البحث العميق الدقيق، الذي عند السبحاني. ولا أدري هل اقتبس السبحاني هذه الفكرة
منه، ثم بنى عليها، أو هو اجتهاد مستقل له؟.
في البداية نقوم بعرض نظر مفتي زاده عن هذا الموضوع، ثم نظر السبحاني عن
(أنصبة ومقادير الزكاة). مفتي زاده يضرب في حاشيته على كتاب (أولويات الحركة
الإسلامية) للقرضاوي، مثالاً للنصوص الكلية والأحكام المتغيّرة، فيقول:
"....خذ ذلك مثلاً (الزكاة). فلم يعيّن القرآن شيئاً
من أركانها، إلا في أصول عامة، حاصلها: (القسط) أيّ: الحدّ الوسط للجميع. فقرّر
رسولنا الكريم - حسب الأوضاع في مكة - ما نراه من إنفاق الأسوتين: مولانا أبي بكر،
وسيدتنا خديجة الكبرى، وحسب الأحوال في أوائل عهد الحياة في المدينة (الإخاء)؛ ثم
حسب ازدياد الجمعية وتفسّح الجغرافية الإسلامية، مع كثرة المشاكل، وقلّة الوسائل.
الزكويات، والنصابات، ومقادير الزكاة كلها عندي من المسائل الحكومية
القابلة للتغيير حسب الظروف، ولكن بتطبيق تلك النصوص العامة، التي تهدف جميعاً إلى
مجتمع، ليس فيه (كنز) ولا (إتراف). إذن فهل يبقى إلا القسط؟"([51]).
قبل أن أتحدث عن إبداع السبحاني، أودُّ أن أشير إلى أنه في سياق هذا
البحث، يتبيّن أن السبحاني في هذه المسألة (أنصبة ومقادير الزكاة) مرّ بمراحل متفرّقة،
إلى أنّه - بعد التعمّق والاستقراء الغزير - أخيراً تأصّل عنده هذا الرأي وترسّخ؛
لأنّه لو قرأنا كتابه المعنون (النظام الاقتصادي) لم نرَ فيه هذا الرأي، بل يذكر
مقادير زكاة الأموال المختلفة بصراحة، كما هو ثابت في التراث الفقهي([52]).
لكن أخيراً اكتشفتُ خيوط هذا الإبداع، التي أشار إليها السبحاني ــ على
خلاف عادته -في شرحه لأحاديث الأربعين، ويقرّ بمصدر هذا التحوّل في فكره، فيقول:
"أشار محمود أبو السعود في كتابه (الخطوط العريضة في الاقتصاد)([53])
إلى بعض هذه المسألة، وبعض العلماء - بدون أن يذكر أسمائهم - أشاروا إلى بعضها
الآخر، وإني جمّعت تلك الآراء، وأضفتُ عليها بعض الأشياء"([54]).
وحينما راجعت كتاب (خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي)، للعالم الاقتصادي
الشهير (محمود أبو السعود)، رأيته يتحدّث عن مسألة الزكاة هكذا، ويقول:
"لن نتعرّض لأقوال الأئمة والفقهاء في تفسيرهم لما تجب فيه الزكاة،
فقد اختلفوا اختلافا ًكبيراً، وهم في ذلك مجتهدون، اقتضهم ظروف الحياة في عصورهم
المختلفة أن يسايروا تطوّر المجتمعات البشرية، محافظين على روح التشريع الإسلامي
وحكمته... ولما كان من اتّساع آفاق التجارة، وقيام العمران بحيث يصعب قصر الزكاة
على المزكيات المعروفة... فالزكاة تطهّر المال وتزكّيه، وهي حقّ الله في ذلك
المال، ويجب أن تؤخذ لتصرف في مصارفها، ومصارفها إعالة الفرد الذي هو لبنة المجتمع
وأساسه، ثم المصالح العامة اللازمة لكل مجتمع عمراني.
لقد جاء الإسلام بنظام كامل للمجتمع، وأسّس الرسول ـ عليه السلام ـ دولة
بكل ما في هذه الكلمة من معان، فليس من المعقول أن يغفل الإسلام النظام المالي في
دولته، والمال عصب الدول. ثم إن الإسلام ذكر لنا الزكاة، وترك بابها مفتوحاً
للاجتهاد، فصار لزاما علينا أن نتقصّى حكمتها، وأن نخوض في معانيها، وأن نقيم
لأنفسنا نظاماً يتّفق مع أحكامها، ويساير مقتضيات مصالحنا المرسلة"([55]).
إنّما أشار (أبو السعود) - كما رأيت - إشارة مقتضبة بهذه الفكرة عن
الزكاة، وأن الإسلام جعل باب الاجتهاد مفتوحاً، بقصد تأسيس نظام ملائم، مع وقائع
الحياة ومقتضياته.
ويقول (أبو السعود) في مقدّمة بحثه: "إن نظرتنا إلى الاقتصاد
الإسلامي، تختلف عن كثير ممّا يراه الباحثون، ولا نغالي إذا قلنا: إننا انفردنا
بهذا الرأي الذي يراه القارئ في هذا البحث، وهو اجتهاد لم يسبقنا إليه أحد فيما
نعلم، وقد استوحيناه من نصوص القرآن والحديث، ومن روح هذا الدين الحنيف، وتعاليمه
السمحة"([56]).
والسبحاني لا يبيّن من هم هؤلاء العلماء، الذين أشار إليهم، هل هم من
علماء السلف، أو من المعاصرين؟ فإن كان يقصد العلماء المعاصرين، فهل يقصد رأي كاك
(أحمد مفتي زاده)؟
يؤسفني أن أقول: ليس لدي جواب لهذه الأسئلة، وهذا أحد الانتقادات التي
توجّه للعلامة السبحاني، إذ إنه لا يومئ إلى مصدر آرائه، ومنابعه، إلا نادراً،
كهذه الإشارة الصغيرة التي يشير إليها هنا.
يقول الشيخ السبحاني: "فيما يتعلّق بالصدقات التي تجبيها الحكومة،
ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أموالاً، وعيَّن أنصبة، وبيَّن مقاديرَ لما يجبى.
ولا شك أن هذه التعيينات إنما تحقّق الغايات التي قد تقرّرت القواعد المتعلّقة
بالمال لتحقيقها، في مثل الظروف الاقتصادية المشابهة لمجتمع عصر الرسول. وأمّا في
مثل الظروف القائمة في زماننا هذا، فأنّى لتلك التعيينات أن تحقّق تلك الغايات؟!"([57]).
وفي موضع آخر، يبيّن هذه المسألة بمثال، فيقول: "إحدى القواعد
العامة في مجال تعامل الإنسان مع النعم، هي: أنّ ما زاد عن قدر الحاجة ينفق
(العفو)([58])،
ويتصدّق به. فهذا (العفو) طريق التطبيق في هذه الأرضية، في أيّ زمن يكون بنوع، في
هذا الزمن. عندما نظر مبيِّن حكمة القرآن (صلى الله عليه وسلم) إلى ظروف المجتمع،
ورأى أن في المناطق العربية، في الأشجار إنّما تتعلّق الزكاة بـ (النخل والكرم)
فقط؛ لأنهما يبلغان حدّ الغنى، ولهذا كان بعض الأشجار إمّا غير موجودة، أو موجودة
لكن لا تبلغ ذلك الحدّ، لكي تخرج منه الزكاة، بسبب قلّة ثمارها، في حالة أن الأصل
القرآني العام (أخرجنا لكم من الأرض)، أو بيّن من الأقوات بعضها، أو عيَّن نصاب
بعض الأملاك الأخرى، بحسب ظروف الحياة في ذلك اليوم... أو أخذ قدر (العشر)، (نصف
العشر)، (ربع العشر).. فتلك حِكَم متطوّرة، ومع الأسف تُلُقيت عند الفقهاء بأنها حكمة
ثابتة، في حين أن الحكمة الثابتة هي إنفاق (العفو)، فهي تُطبَّق في كل زمان بشكل
مختلف، الآن في بلدتنا هذه لا يوجد النخل، وربّما لا يوجد الكرم في أماكن كثيرة،
بل يوجد (الجوز، الفراولة، التفاح، البرتقال، البطيخ...) تلك من تطبيقات ذلك
الأصل، هذه التطبيقات هي حكمة اليوم، وكذلك حدود الزكاة يجب أن تشرع هذه المرة في
ظل مراعاة المجتمع. فرضنا أننا في السنوات السابقة كنّا نحسب قدر النصاب ثلاثة أو
أربعة آلاف (تومان)([59])،
كان سعر الذهب هكذا، لكن الآن ثلاثة أو أربعة آلاف لا تساوي شيئاً يذكر... هذا لم
يذكر في القرآن، لأنه من القسم المتطوّر، يوكّل إلى الحكومة الإسلامية في وقته،
تطبّقه حسب الظروف والمناخ"([60]).
وفي موضع آخر، يبيّن السبحاني مبدأ ذلك الاجتهاد وقاعدته، فيقول:
"كما أن تبديل حكمٍ، مكان حكمٍ ثابت، تشريع لم يأذن به الله. يكون البقاء على
مقتضى حكمٍ متطوّر، بعد تطوّر ظرف الفعل المتعلّق، هو اتّخاذ شرع لم يرضه الله.
فعلى هذا، يجب أن يكون النظر قبل كل حكمٍ في الفعل المتعلّق هو به، من أيّ نوع هو.
وإنْ شئت فقل: يجب أن ينظر قبل الأحكام في غاياتها؛ فإنْ كانت الغاية لا تتحقّق
إلا بحكمٍ بعينه، فلا بد من التزام ذلك الحكم، وإنْ كانت بحيث لا يحقّقها في
الظروف المختلفة إلا الأحكام المتغيّرة، فلا بد من تغيّر الأحكام بتغيّر الظروف"([61]).
هذا التجديد الذي قام به السبحاني في هذا المجال، هو إعادة بناء الثابت
والمتغيّر في منظومة الفكر الإسلامي من جديد، على أساس مختلف للمعهود والمنقول
جيلاً بعد جيل، وذلك على أساس المصلحة والمفسدة الذاتية، أو العارضة. أو بمفهوم
آخر: هل تتحقّق غاية حكم هذا الأصل بذلك الحكم فقط، أم تتحقّق بالأحكام المختلفة
في أيّ زمن، حسب الظروف والأحوال؟.
لذلك ترى السبحاني يواجه بقوّة معطيات مئات القرون قبله، وكذلك الحكم
الذي عدَّه التراث الفقهي من ثوابت الشريعة، كالنصاب ومقادير الزكاة، يعطيه
السبحاني قراءة جديدة، بجرأة منقطعة النظير، ويقول: تلك حِكَمٌ متطورة، مع الأسف
تُلُقِّيت عند الفقهاء على أنها حِكَمٌ ثابتة!([62]).
السبحاني، في هذا الرأي وأمثاله، اعتمد على التأمّل في القرآن، كما يشير
إلى ذلك ويقول: من تأمّل في الأسس القرآنية، يدرك أن هذا العمل - يعني أنصبة
ومقادير الزكاة - تبيين وليس بتعيين، وأن بينهما فرقاً كبيراً، وبُعداً بعيداً، ثم
يضرب مثالاً لفهم هذا الموضوع([63]).
وبعد البحث في آراء العلامة مفتي زاده، أرى - ولو ظنّا قوياً - أن قصد
السبحاني ببعض العلماء الآخرين، هو كاك أحمد مفتي زاده؛ لأنه في عدّة مواضع ،
يتحدّث عن هذا الموضوع مختصراً ومفصّلاً، كما سيتبين ذلك في القسم الثانيr
* أستاذ مساعد بجامعة صلاح الدين/ كوردستان العراق
([24]) بعد ذكر مقدمة يقول: ثم بالتأمّل في معاني
المفردات، بالتحقيق في الكتب اللغوية المعتبرة، والتأمّل في نظم الجملة وتركيبها،
والتأمل في سياق تلك المجموعة من الآيات، التي يراد النظر فيها، والأهم من جميع
ذلك: معرفة محور آيات تلك السورة. الدعوة ومراحلها: الشيخ ناصر السبحاني، الطبعة
الأولى، 2012م، ص114. انظر: الولاية والإمامة: ناصر السبحاني، مؤسسة برهم، الطبعة
الأولى، 2007م، (ص139-140).
([26]) أصول الفقه: ناصر السبحاني، مخطوطة: ص21. وكذلك
في مكان آخر يقول: وألا تمتلأ الرواياتُ ذهنَه، ولا تكون حاكمة وقاضية على القرآن،
وفهم المعاني، ألفاظ القرآن دالّة على معانيها، فيستغني عن الاعتماد على هذه
الرواية أو تلك الرواية؛ لا لأن الرواية غير هامة، بل لأن القرآن قرآن، القرآن
كلام، ويجب أن يكون الكلام مستغنياَ في استقلالية الدلالة على المفاهيم، أي كلام
كان، حتى كلام الله، والقرآن مستقلّ في فهم أصل المعنى القرآني، لكن في التفاصيل
والتطبيقات تنسب إليه السنّة، وتطرح الأشياء الأخرى، وإلا ففي فهم أصل المراد، لو
كان القرآن متكئاً على الروايات، فكيف يكون كلاماً، فضلاً أن يصير نوراً أو برهاناً
أو سراجاً منيراً. الدعوة ومراحلها: ناصر السبحاني، الطبعة الأولى، 2012م، ص113.
([61]) رسالة في علوم الحديث:ص21-22. يُشبِّه السبحاني
هذا الموضوع بنموذج طبي، وذلك أن ابن سينا يعالج الجلد المتمزق فيأتي برأس نملة
كبيرة، ويضعها على الجرح، لتعضّها، ثم يقطع رأسها، ويدعها إلى أن يلتئم الموضع،
فهل من الحكمة أن نلتزم بوسيلة ابن سينا هذه، أو نتمسك بالغاية التي يقصد تحقيقها
وهي التئام الجرح، باستخدام أفضل الوسائل؟! فهل كان يستمرّ ابن سينا على وسيلته،
إن كان بين يديه هذه الوسائل الجديدة المتطورة؟. المصدر نفسه: ص22.
([63]) خلاصته: أن يُعلَّمَ
رجلٌ بناء المنازل، ثم لكي يتدرّب يُعطى بعضَ الحجر والطين، ليبني غرفة مساحتها
ثلاثة أمتار، وبعد تعليمه يقال له: ابنِ أيّ منزل تريده، لكن راعِ تلك الأسس، فهل
هذا يعني أنه لا بدّ أن يبني الغرف بهذا القياس، أو أنَّ عليه فقط أن يلتزم
بالأسس، وهو حرٌّ على أي قياس يبنيه؟! إذن تعليم هذا الرجل البناء تبيين، وليس
تعييناً؛ لأن الأسس العامة في بناء هذه الغرفة لا تختصّ بهذه الخصوصية والقياس،
وكذلك القواعد القرآنية، فإنها عامة. شرح الأربعين:ص45-46.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق