أ. د. فرست مرعي
هناك خاصية متميّزة في الإسلام، وهي أنه دين ديناميكي واقعي،
يفي بمتطلّبات الدنيا والآخرة معاً، ولكنه - في الوقت نفسه - لا يسمح بالمؤثّرات
والفلسفات الأخرى أن تكون جزءاً من بنيته أو نسيجه. أي بعبارة أخرى: أنه دين يبني
مرتكزاته العقدية على الأصالة فحسب، ويبني متغيّراته على الأصالة والمعاصرة معاً.
فالعقيدة والأحكام والأخلاق فيه ثابتة ثبات الجبال الشامخات،
والفقه والمعاملات فيه متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان. ومع ذلك، فإنه يرفض رفضاً
قاطعاً إجراء عمليات تغيير جذرية، أو راديكالية، تمسّ جوهره، كما حدث لأديان أخرى
سماوية وأرضية. هذه الميزة، أو الخاصيّة، أكسبته مرونة طيلة تاريخه، الذي يمتدّ
لأكثر من ألف وأربعمائة عام. فلا عجب أن تنادت أصوات نشاز، من بين أتباعه، بإحداث
تغيير في هذا السياق، ليشمل تغيير القاعدة الكلية الآنفة الذكر.. ولكنه كان على
الدوام يلاقي معارضة صلبة، لأنه لو حدث تغيير بنيوي فيه، على
غرار بعض الأديان
الأخرى، السماوية وغير السماوية، التي أصبحت إلى حد ما تلفيقية، لأصبح ديناً بالاسم
فقط؛ جوهره يحوي شذرات من الوحي، ممزوج بالفلسفة والأفكار الأخرى.
ولما كان النوروز، أو النيروز، عيداً شرقيّاً، شمل أمماً
وطوائف كثيرة، تمتدّ جغرافيّاً من (هضبة البامير) و(التبت) شرقاً، مروراً بالهضبة
الإيرانية، وكوردستان، وانتهاءً بمصـر النيل غرباً. لذا، لا يستطيع الباحث أن يحدّد
أمّة، أو عرقاً، بعينه، صاحب هذا العيد.. ولكن الفرس، بما لهم من حضارة عريقة قبل الإسلام:
العهد الأخميني (559-331 ق.م)، والعهد الفرثي – الأشكاني (250-226 ق.م)، والعهد
الساساني (226ق.م - 640م)، استطاعوا استغلال هذه المناسبة، وجعلها حكراً على
جنسهم، لأن غالبية الأمم الأخرى؛ من كورد وبلوش وبشتون وصغد وطاجيك، كانوا يعتبرون
من رعاياهم، فلا مناص من اعتبار النوروز والمهرجان وغيرها ممّا يتميّز به الفرس.
فروى أنس بن مالك (رض) قال:[ قدم رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال (ما هذان اليومان؟) قالوا (كنّا
نلعب فيهما في الجاهلية)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد
أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر]([1]).(رواه
أبو داود بهذا اللفظ. ورواه أحمد والنسائي، وهذا إسناد على شرط مسلم). وتذكر بعض
المصادر أنهما كانا يوما النوروز والمهرجان([2])،
فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاحتفال بهما، ودعاهم إلى الاحتفال
بعيد الفطر والأضحى، لأنه خشي أن يكون الاحتفال بهذين العيدين الفارسيين، إحياءً
وترويجاً لشعائر الجاهلية. ورمى من وراء دعوتهم إلى الاحتفال بالعيدين الإسلاميين:
الفطر والأضحى، التنويه بشعائر الدين الجديد، وليجعل من هذه الاحتفالات الإسلامية
فرصة لذكر الله، وعبادته، وإظهار الطاعة له، وليجمع لهم كذلك، إلى متعة الاحتفال
الدنيوية، متعة العظة الروحية. ففي عيد الفطر يفرح المسلمون بما قدّموه خلال شهر
الصوم؛ من ألوان الطاعة والعبادة، ويحتفلون بانتهاء الصوم، واستقبال الفطر،
احتفالاً يجمع بين متعة الروح، ومتعة البدن. وفي عيد الأضحى يتمثّل المسلمون أيضاً
نعمة رضاء الله على من أطاعه من عباده، حين يذكرون قصة إبراهيم - عليه السلام -،
يوم همّ بذبح ولده إسماعيل، وكيف أنعم الله عليهما، بأنْ فداه بذبح عظيم. وإلى
جانب هذه المعاني الدينية السامية، التي يتمثّلها المسلمون في احتفالاهم بعيد الأضحى،
ينعمون أيضاً بما في العيد من متع دنيوية.
وهكذا ترى أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يشأ أن تمضي
احتفالاتهم في ظلّ دينهم الجديد، دون أن تجمع العظة الدينية إلى جانب البهجة
الدنيوية. وأراد أن يتّخذ من أيام بهجتهم، ومرحهم، فرصة للإفادة من دينهم، وتمكين
أمره بينهم، حتى لا ينفصل دينهم عن دنياهم، وليذكروا دينهم عندما يحتفلون بشؤون
دنياهم، وليذكروا دنياهم عندما يقبلون على أمور دينهم([3]).
ومرّ عهد صدر الإسلام، ولم يكن لهذا العيد، ولا لغيره من أعياد
الفرس القديمة، شأن عند العرب في المجتمع الإسلامي. وعندما احتفل بعض الدهاقين في
خلافة علي بن ابي طالب بهذا العيد، وقدّموا إليه هدية ممّا صنعواه من الحلوى، لم
يكن - رضي الله عنه - يعرف شيئاً عن مناسبة هذه الهدية، فلمّا سأل، قيل له إنه يوم
نوروز. فقال مازحاً متفكهاً: نوروزنا كلّ يوم([4]).
وفي
روايات عن الشيعة الإمامية بهذا الخصوص: ومنها ما
رواه الشيخ الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) مرسلا: "وَأُتِيَ
عَلِيٌّ ع بِهَدِيَّةِ النَّيْرُوزِ، فَقَالَ عليه السلام: مَا هَذَا؟ قَالُوا يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمُ النَّيْرُوزُ، فَقَالَ عليه السلام: اصْنَعُوا
لَنَا كُلَّ يَوْمٍ نَيْرُوزاً([5])". وفي
رواية أخرى قال:"نیرزونا کلُّ یوم"([6]).
وفي
رواية أخرى عن (دعائم الإسلام): " انَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِ فَالُوذَجٌ،
فَقَالَ - عليه السلام -: مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمُ نَيْرُوزٍ.
فقال - عليه السلام -: فَنَيْرِزُوا إِنْ قَدَرْتُمْ كُلَّ
يَوْمٍ. يَعْنِي تَهَادَوْا وَتَوَاصَلُوا فِي اللَّهِ"([7]).
ووجه الدلالة: أن اليومين الجاهليين لم يقرّهما رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: [إن الله قد أبدلكم
بهما يومين آخرين]، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل
والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما، كقوله تعالى : {أفتتخذونه
وذرّيته أولياء من دوني وهم لكم عدو، بئس للظالمين بدلاً}، وقوله تعالى: {وبدّلناهم
بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}، وقوله تعالى : {فبدّل الذين
ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}، وقوله تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب}، ومنه الحديث:
[فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به خيراً منه مقعداً في الجنة.
ويقال للآخر: انظر إلى مقعدك من الجنة، أبدلك الله به مقعداً من النار]، وقول عمر
رضي الله عنه للبيد "ما فعل شعرك؟ قال: أبدلني الله به البقرة وآل عمران"،
وهذا كثير في الكلام.. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: [قد أبدلكم الله بهما] خيراً،
يقتضي ترك الجمع بينهما، لا سيّما قوله خيراً منهما يقتضـي الاعتياض بما شرع لنا،
عمّا كان في الجاهلية. وأيضاً فقوله لهم: [إن الله قد أبدلك]، لمّا سألهم عن
اليومين، فأجابوه إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية، دليل على أنه نهاهم
عنهما، اعتياضاً بيومي الإسلام. إذ لو لم يقصد النهي، لم يكن ذكر هذا الإبدال
مناسباً، إذ أصل شرع اليومين الواجبين الإسلاميين كانوا يعملونه، ولم يكونوا
ليتركوه لأجل يومي الجاهلية. وفي قول أنس بن مالك: (ولهم يومان يلعبون فيهما)،
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: [إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيراً منهما]
دليل على أن أنساً – رضي الله عنه - فهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
أبدلكم بهما تعويضاً باليومين المبدلين.. وأيضاً، فإن ذينك اليومين الجاهليين قد
ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا
عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما، ونحوه ممّا كانوا يفعلونه،
لكانوا قد بقوا على العادة، إذ العادات لا تغيّر إلا بمغيّر يزيلها؛ لا سيّما
وطباع النساء، والصبيان، وكثير من الناس، متشوّقة إلى اليوم الذي يتّخذونه عيداً
للبطالة واللعب. ولهذا، قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم
في أعيادهم، لقوّة مقتضيها من نفوسهم، وتوفّر همم الجماهير على اتّخاذها. فلولا قوّة
المانع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكانت باقية، ولو على وجه ضعيف، فعلم
أن المانع القوي منه كان ثابتاً، وكل ما منع منه الرسول منعاً قوياً، كان محرماً،
إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا. وهذا أمر بيّن، لا شبهة فيه، فإن مثل ذينك العيدين،
لو عاد الناس إليهما بنوع ما، ممّا كان يفعل فيهما، إن رخص فيه كان مراغمة بينه
وبين ما نهى عنه، فهو المطلوب والمحذور في أعياد أهل الكتابين، التي نقرّهم عليها،
أشدّ من المحذور في أعياد الجاهلية، التي لا نقرّهم عليها. فإن الأمّة قد حذروا
مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين
الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر، عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً.. ولو
لم يكن أشدّ منه، فإنه مثله على ما لا يخفى، إذ الشرّ الذي له فاعل موجود، يخالف
على الناس منه، أكثر من شرّ لا مقتضى له([8]).
وبخصوص موقف الإسلام من النوروز، فهناك آثار ترجع إلى الخلفاء
الراشدين، والصحابة، حولها. وفحواها: وبالإسناد إلى أبي أسامة، عن حمّاد بن زيد،
عن هشام، عن محمد بن سيرين، قال:" أتي علي (رض) بهدية النيروز. فقال: ما هذه؟
قالوا يا أمير المؤمنين هذا يوم النيروز. قال فاصنعوا كل يوم نيروزاً. قال أبو
أسامة: كره رضي الله عنه أن يقول: نيروزاً"([9]).
وأمّا قول ابن تيمية (المتوفى سنة 728هــ /1328م) بخصوص كره
الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب لموافقتهم في لفظ عيد النيروز، الذي
ينفردون به، فكيف يوافقهم في العمل. يبدو أن محقّق الكتاب أشار إلى هذه النقطة في
الهامش، في معرض التعليق بقوله: لقد ذكر البيهقي، في سننه الكبرى، تحت لفظ فيروز:
ربّما كره الإمام علي أن يقول نيروزاً - حسب تعليل أبي أسامة - فقال: فيروزاً.
ومن المعلوم أن لفظة فيروز ترد في اللغتين الفارسية والكوردية
بمعنى: مبارك، أي أنت عندما تبارك لشيء ما تقول له باللغة الكوردية
(بيروزبت)، فضلاً أن بعض الملوك الفرس، وبعض الشخصيات الفارسية والكوردية، جاء اسمها
بلفظة (پيروز)، وعندما يحاول النحاة العرب تعريب
كلمة (پيروز)، فإنهم يغيّرون الپاء الفارسية
المثلثة إلى الفاء، فتتحوّل كلمة پيروز إلى فيروز.
ورغم ذلك، قال البيهقي
في شرحه لهذا الأثر: وفي هذا "الكراهة لتخصيص يوم بذلك، لم يجعله الشرع
مخصوصاً به". أما شيخ الإسلام ابن تيمية فعلق على ذلك قائلاً: "وأما علي
(رض)، فكره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به، بكيف بموافقتهم في هذا
العمل". يبدو أن هناك تصحيفاً في كلمة الفيروز، ولولا ذلك لما علّق عليها شيخ
الإسلام ابن تيمية التعليق الآنف الذكر.
ومن جانب آخر، فقد روي بإسناد صحيح عن أبي أسامة، حدثنا عوف،
عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو (ابن العاص) قال: "من بنى ببلاد
الأعاجم، فصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبّه فيهم، حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم
القيامة"([10]).
وأما عبد الله بن عمر بن الخطاب، فصرّح قائلاً:" من بنى
ببلادهم (بلاد الفرس)، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبّه بهم، حتّى يموت، حشر
معهم" ([11]).
والسؤال الذي يتبادل إلى الذهن: لماذا قبل الإمام علي بن أبي
طالب هذه الهدية، وقال: اصنعوا كلّ يوماً نيروزاً، أو فيروزاً، إذا صحّ قول
التصحيف؟! لأنه لو أراد المنع، أو حرّمه، لكان قد قال قولاً يفي المطلوب بصورة لا
لبس فيها.
وهذا ما حاول الباحث السعودي (الدكتور سفر الحوالي)، في كتابه،
جاهداً، التأكيد على حرمة الاحتفال بالنيروز والمهرجان، واعتبار ذلك من الكبائر
المحرّمة، وكلّ واحدة من هذه الأمور منكر بعينه([12]).
ومن جانب آخر، كانت هناك عادة دفع الضريبة، من قبل الشعوب
الخاضعة للدولة الفارسية الساسانية، في عيدي النوروز والمهرجان، ولمّا جاء الإسلام
ألغى هذه الضـريبة، ولم يتمّ أخذها في خلافة الراشد الثاني عمر بن
الخطاب(13-23هـ/634- 644م)، الذي اعتبرها ضريبة غير شرعية، وهو الذي حطّم
الإمبراطورية الفارسية الساسانية، وحدث أوّل احتكاك مباشر في عهده بين المسلمين
الفاتحين والفرس المجوس. ولكن يبدو أن بعض الولاة المسلمين، في عهد الخليفة الراشد
الثالث عثمان بن عفان (24-35هـ/644-655م)، أخذ هدايا النوروز والمهرجان، وهم كلّ
من: (الوليد بن عقبة بن معيط)، و(سعيد بن العاص)، فلما تناها الخبر إلى الخليفة
عثمان بن عفان، كتب إليهما ينهاهما عن ذلك([13]).
أما في عصر الخليفة الراشد الرابع: علي بن أبي طالب(35-40هـ/
655-660م)، فقد أخذ واليه على (أصفهان): (عمرو بن سلمة) هدايا النوروز مع الخراج([14]).
ولما تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة (41-60هـ/661-680م)،
جعل هدايا النوروز والمهرجان ضريبة إلزامية، وطلب من أهل سواد الكوفة دفعها..
فبلغت قيمة الهدايا خمسين ألف درهم.. كما كتب معاوية إلى عامله على البصرة (عبد
الرحمن بن أبي بكرة)، أن يحمل إليه هدايا النوروز والمهرجان، فبلغت عشرة آلاف درهم([15]).
وأثناء ثورة الصحابي عبدالله بن الزبير بن العوام ضد الدولة الأموية،
في سنوات (64-73هـ/684-692م)، أثناء حكم الخليفة عبدالملك بن مروان، فقد بلغت
هدايا النوروز والمهرجان حوالي عشرين ألف درهم. ويرجع السبب في قلّتها إلى
الإضطرابات والفوضى التي عمّت منطقة الكوفة أثناء حوادث الفتنة الثانية([16]).
وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65-86هـ/685-705م)،
أظهر (الحجّاج) حرصاً شديداً على جباية الأموال للدولة الأموية، لمكافحة الحركات
المعارضة، فأعاد استلام هدايا النوروز والمهرجان مع الضرائب، وبلغت قيمتها حوالي
أربعين ألف درهم([17]).
وعندما تولى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز
(99-101هـ/718-720م) مقاليد الحكم، أبطل رسوم وهدايا النوروز والمهرجان. ويتّضح
ذلك من خلال الكتاب الذي وجّهه إلى والي الكوفة (عبدالحميد بن عبدالرحمن)، حيث أمر
بألا يأخذ هدية النوروز والمهرجان([18]).
ولكن سلفه في الخلافة: يزيد بن عبد الملك (101-105هـ/719-723م)،
أعاد ضريبة النوروز، وكتب إلى واليه على العراق (عمر بن هبيرة) سنة 105هـ، يأمره
بمسح أرض السواد(= جنوب العراق)، وإعادة ضريبة النوروز([19]).
وكانت هدية (حسّان النبطي) إلى هشام بن عبدالملك(105-120ه/723-743م)،
من الكثرة والضخامة، حتى أن الخليفة الأموي استكثرها على نفسه، وأمر أن تضمّ لبيت
المال.. وكان حسّان قد أهدى إلى هشام، وإلى أمّهات أولاده، هدايا كثيرة؛ من الكساء
والجوهر والعطر.. وقد ذكر الجاحظ أن هذه الهدية لم يسمع بمثلها في الإسلام([20]).
وقد أهديت هدايا في أواخر العصر الاموي إلى نصر بن
سيار(125-132هـ/743-750م)، الوالي الأمويّ على المشرق الإسلامي في سنة 126هـ/744م،
بمناسبة النوروز.
وفي العصر العباسي أعيدت هدايا ورسوم النوروز والمهرجان من
جديد، سيّما وأن أغلب الوزراء العباسيين كانوا من الفرس، لذا فلا عجب أن حاولوا
إحياء مظاهر أسلافهم القدماء.
وقد روى المحدّث الشيعي الإمامي (ابن
شهر أشوب السـروي المازندراني)، في كتابه المناقب، وقال: "حکی أن المنصور (=الخليفة
العباسي أبو جعفر 136-158هـ/ 754-775م)، تقدّم إلى موسى بن جعفر (= موسى الكاظم،
المتوفّى سنة 183هـ/799م)، بالجلوس للتهنئة في یوم النیروز، وقبض ما یحمل إلیه،
فقال (ابن جعفر): إني قد فتّشت الأخبار عن جدّي رسول الله - صلى الله عليه وآله -،
فلم أجد لهذا خبراً، وإنه سنّة للفرس، ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أن نحیی ما
محاه الإسلام. فقال المنصور: إنّما نفعل هذا سیاسة للجند، فسألتك بالله العظیم ألا
جلست، فجلس، ودخلت علیه الملوك والأمراء والأجناد یهنئونه، ویحملون إلیه الهدایا
والتحف"([21]).
وقدّم الشاعر المعروف (أبو العتاهية) هدايا النوروز إلى
الخليفة العباسي محمد المهدي (158-168هـ/775-784م)([22]).
وعلى السياق نفسه، يقول أبو ريحان البيروني: "في عهد
هارون الرشيد تجمع مُلاّك الأراضي مرة أخرى، وطلبوا من يحيى بن خالد بن برمك أن
يؤخّر عيد النيروز ما يقرب من الشهرين([23]). وأراد
يحيى أن ينفّذ ما أرادوا، لكن خصومه تناقلوا الأقاويل حول هذا الأمر، وقالوا إن يحيى
موالٍ للدين الزرادشتي، ونتيجة لهذا كفّ خالد عن هذا العمل، ولم يعقّب، وبقي الحال
على ما كان عليه"([24]).
وأهدى أحمد بن يوسف الكاتب هدية النيروز إلى الخليفة العباسي
المأمون (198-218هـ/813-833م)، وهي عبارة عن سفط من الذهب، فيه قطعة عود هندي،
وكتب مع الهدية: (هذا يوم جرت فيه العادة باتحاف العبيد للسادة). وأهدى القاسم بن
عيسـى العجلي هدايا ثمينة إلى المأمون بمناسبة عيد المهرجان، وتتكّون من مائة حمل
زعفران في شبك أبريسم، على مائة أتان شهب وحشية مريبة. كما أهدى أبو عبادة الوزير
مصحفاً إلى المأمون يوم المهرجان.
وأهدت شجن، (جارية المتوكّل) (232-247هـ/847-861م)، إليه هدايا
نفيسة، واحتفلت مع جواري القصر بهذه المناسبة، وكانت هديتها عشرون غزالاً مرباة،
بعشرين سرجاً صينياً، على كلّ غزال فرج صغير من ذهب مشبّك، فيه المسك والعنبر...
مع كل غزال وصيفة بمنطقة ذهب، وفي يدها قضيب ذهب، في رأسه جوهرة ياقوت([25]).
وكان الخليفة المتوكّل يخرج في احتفاله بالنوروز عن الجدّ الذي
ينبغي لخليفة أن يلزمه. فقد روي أنه كان يدعو إليه في هذا اليوم أصحاب السماجات (=
الممثلون الهزليون)، ويدنيهم من مجلسه، ولا يتوقّر معهم. وفي يوم نوروز دخل عليه (إسحاق
بن إبراهيم)، فرآهم وقد جذبوا رداءه، فعاد غاضباً. ولاحظ المتوكّل ذلك، فأمر باستدعائه،
وسأله في ذلك، فقال له: أتجلس في مجلس يبتذّ لك فيه هؤلاء الكلاب حتى يجذبوا ذيلك،
وكل واحد منهم متنكّر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو خبيث، فيثبت بك.
فمتى كان يستقال هذا، ولو أخليت الأرض منهم. فقال المتوكّل: يا أبا الحسين، والله
لا تراني على مثلها أبداً"([26]).
ولشدّة اهتمام الخليفة بالنوروز، رأى بأنه ليس من المناسب
افتتاح الخراج فيه، بعد أن استشار الفلكيين سنة245ه/859م، وأراد أن يؤجّل افتتاح
الخراج حتى 17 حزيران/يونيو، ولكنه قتل قبل أن ينفّذ هذا الأمر. ولذا قال الشاعر
البحتري:
إن يوم النيروز عاد إلى العهد الذي كان سُنَة أردشير
وأورد القلقشندي ذلك بالتفصيل، وبيّن أن سبب ذلك هو إشفاق
الخليفة على الناس، حيث كان الخراج يجبى قبل نضوج الزرع.
وفي سنة 323ه/934م، احتفل (مرداويج بن زيار)([27])
احتفالاً عظيماً بهذا العيد، فأوقد النيران ليلة النوروز على قمم الجبال، وأطلق
الطيور في الجوّ، وقد علق بأرجلها النفط، وكان النفط يشتعل وهي تطير. وامتلأت
السماء ليلتها بالنار المتطايرة في كل مكان، حتى بدّد ضوء النيران ظلمة الليل. وفي
يوم النوروز أقام وليمة في الصحراء. ومن جملة ما قدّم، في تلك الوليمة، مائتين من
البقر مشوية صحاحاً. وأمّا الغنم، فبلغ ما شوي منها ثلاثة آلاف رأس، هذا عدا
المطبوخ. وقد زاد عدد الدجاج، وغيره من أنواع الطير، التي قدّمت في تلك الوليمة،
على عشرة آلاف. أما ألوان الحلوى، فقد جاوزت العد والحصر.
وكان عبدالله بن طاهر([28])، يوزّع
ثيابه على الناس في عيدي النوروز والمهرجان، أسوةً بما كان يفعله ملوك الفرس
القدماء.
ويقدّم لنا المافروخي الأصفهاني، من علماء القرن الخامس الهجري([29])،
وصفاً للاحتفال بالنوروز في مدينة (جي)، من ضواحي أصفهان، فيذكر أن أهالي أصفهان
كانوا يخرجون كلّ سنة، وقت النوروز، إلى سوق تلك المدينة، التي تسمّى (سوق جرين)،
للتجارة واللعب واللهو، لا فرق في ذلك بين كبيرهم وصغيرهم، حتّى كانت تغصّ بجموعهم
المدينة. وكان فناخسرو عضد الدولة([30])، يعجب في
صغره بتلك السوق، وما يجري فيها من ألوان اللهو المرح. فلما تولّى الملك، واستولى
على فارس، أمر أن يتّخذوا خارج (شيراز) سوقاً على نمط سوق جرين، عرفت باسم سوق الأمير.
وقد جذبت هذه السوق أهل شيراز، وما حولها من البلدان، واجتمع فيها خلق كثير من أهل
اللهو والمجون. وكان الناس يفدون إليها للبيع واللهو. وكان الأمير، لرغبته في
الاستمتاع بما يجري في تلك السوق، قد اتّخذ لنفسه قصـراً يشرف عليها، فكان يجلس في
قصـره، مع ندمائه، يشـربون ويطربون ويستمتعون بما يشاهدونه من أحوال الناس في تلك
السوق.
النوروز المعتضدي:
كانت السنة الفارسية تتكّون من اثني عشـر شهراً، وكلّ شهر يتكوّن
من ثلاثين يوماً، ويضيف الفرس خمسة أيام إلى السنة، فيصبح مجموع أيامها (265) يوماً،
ويضيفون شهراً كبيساً بعد مرور 120 سنة، لضبط مواسم الزراعة، وجمع الضرائب. وفي
العهود الإسلامية، كان يباشر بجمع الخراج مع بداية السنة الفارسية عيد نوروز، وكان
الوقت ملائماً، ولكن بمرور الزمن أهمل الفرس كبس سنتهم، فأصبح موسم جمع الخراج مبكّراً
قبل نضوج الزرع، ممّا أدّى إلى إرهاق كاهل دافعي الخراج.
وحاول وزير هارون الرشيد (170-193ه/786-809م): يحيى البرمكي،
تأخير افتتاح الخراج إلى ما بعد نوروز، إلا أنه لم ينفّذ الأمر، لأن أعداءه اتّهموه
بأنه يحاول إحياء المجوسية.. وقام الخليفة المتوكّل أيضاً بمحاولته سنة 245هـ
/859م، كما أشير إلى ذلك سابقاً.
وتأخر هذا الأمر حتّى جاء الخليفة المعتصد (279-289ه/892-902م)،
فاتّخذ إجراء اقتصادياً في مصلحة دافعي الخراج، إذ جعل جباية الخراج في يوم معلوم،
وهو الحادي عشر من حزيران، موسم حصاد المحاصيل الشتوية وتسويقها، وأرادوا تأخير
الاحتفال بعيد النوروز حتّى ذلك اليوم، ولذلك سمّي بالنوروز المعتصدي. فأورد
الطبري بأن المعتضد كتب سنة 282هـ/895م إلى جميع العمال في الأمصار بترك افتتاح
الخراج في نوروز العجم، وتأخير الأمر إلى الحادي عشر من حزيران. ويستدلّ مما أورده
الطبري، وابن الجوزي، بأن المعتضد حاول إجبار الناس على الاحتفال بالنوروز، فذكر بأن
المعتصد حاول منع الناس من إيقاد النيران ليلة النوروز، أو صبّ الماء بعيد
النوروز.
واستناداً إلى رواية الطبري، يبدو أن المعتضد كان يحتفل بعيد
نوروز حتـــى سنة 282هـ/895م، ثم أراد أن يفرض على الناس أن الاحتفال به في 11
حزيران، إلا أنه فشل في إقناع الناس، ولذلك حاول منعهم الاحتفال بالعيد؛ من قبيل
منعهم من إيقاد النيران ليلة النوروز، إذ ثمة ما يشير بأنه احتفل بالعيد، وقدّمت
له زوجته (قطر الندى) ثلاثين وصيفة، مع هدايا ذهبية فاخرة، بهذه المناسبة([31]).
ومما يؤكّد كون المعتضد حاول تغيير موسم الاحتفال بالنوروز، ما
أورده التنّوخي من أن زوجة المعتضد: السيدة شغب (أمّ المقتدر)، احتفلت بالنوروز
المعتضدي احتفالاً كبيراً في قصر الخلافة، وبذلت الأموال، واستخدمت الأقمشة
النفيسة، وجعلتها مثل حبّ القطن، وأشبعتها بدهن البيلسان، وأوقدت النيران على
جدران القصـر، وأضيء نهر دجلة بنيران النوروز([32]).
لم يقتصـر الأمر على الخليفة في الاحتفال بعيد النوروز، وأخذ
الهدايا، وتبادلها مع الناس، بل شارك فيها الأمراء والوزراء والولاة وعامة الناس.
فذكر الشاعر (سلم الخاسر) بأنه دخل على الفضل بن يحيى البرمكي،
في يوم النوروز، فرأى الهدايا بين يديه. ونظّم (علي بن جبلة) قصيدة في مدح القائد
العباسي (حميد الطوسي)، بمناسبة عيد نوروز، فسرّ بها، وأهدى له ما أهدي إليه في
النوروز، فبلغت قيمته مائتي ألف درهم([33]).
أمّا عامة الناس، فاحتفلوا بعيد النوروز، إذ كانوا يلبسون أفخر
الملابس، ويتبادلون الزيارات، ويقدّمون لبعضهم الحلوى، والبيض الملوّن، فضلاً عن إيقاد
النيران، ورشّ الماء، وممارسة الألعاب الشعبية.
أمّا أصحاب المجون، فكانوا يصطحبون معهم الجواري والفتيات
الحسان إلى البساتين، ويقضون وقتاً سعيداً على أنغام الموسيقى.
وتقام في نوروز مجالس الأدب، حيث يقوم الشعراء بتنظيم قصائدهم
بهذه المناسبة، ثم يلقونها أمام الخليفة، ويهنئونه
بالعيد. ووجدوا في النوروز فرصة لعرض مطاليبهم، وبثّ شكواهم إلى الخليفة. فقدّم
البحتري قصيدة أظهر فيها تذمّره من دفع الخراج، ودعا الخليفة إلى إعفائه من هذه
الضريبة، إذ ورد في قصيدته:
لا تخل من عيشٍ يكرُّ سروره أبداً، ونيروزٍ عليك معاد
وأبدى بعض العلماء امتعاضهم من
الاحتفال بهذه المناسبة، إذ سبقت الإشارة إلى ذلك؛ عندما دخل إسحق بن إبراهيم على المتوكّل،
يوم النوروز، وهو يحتفل بهذه المناسبة، مع ندمائه، فخرج من مجلس الخليفة وهو غاضب.
ومرّ أحد العلماء في حي شعبي يوم النوروز، فصبّ عليه المحتفلون ماء النوروز، فبدأ
بنفض ملابسه، وهو يقول:
إذا قلّ ماء الوجه، قلّ حياؤه ولا خير في وجه قلّ ماؤه([34])
وأورد الخطيب البغدادي رواية تشير إلى
أن: عبدالجبار بن وائل، وعلقمة بن مرشد وطلحة الأيام، وزبير الأيامي، كانوا يصومون
يوم النوروز، ويعتكفون في المسجد، ويقولون بأن نوروز عيد المشركين([35]).
ولعلّ استغلال أهل السماجات (أصحاب المجون والخلاعة) هذه المناسبة، وخروجهم عن الأدب،
وشربهم الخمر، دفع العلماء إلى اتّخاذ موقف معادٍ من الاحتفال بعيدي النوروز
والمهرجان، عكس القرامطة، الذين كانوا يعظّمون النوروز والمهرجان، ويصومون فيهما([36]).
احتفال الأمراء المسلمين بعيد النوروز:
لم يقتصر الاحتفال بالنوروز على مركز الخلافة فحسب، وإنّما احتفل به العديد
من الأمراء المسلمين في المشـرق. فاحتفل به أمراء الدولة الطاهرية([37])
(255-259ه /821-873م)، في خراسان. وجاء في إحدى المصادر، بأن عبدالله بن طاهر بن
الحسين (213-230ه / 828 - 844م)، احتفل بعيد نوروز، ووزّع الكسوة على الناس، ولم
يترك في خزائنه ثوباً واحداً([38]).
وفي مدينة بخارى، عاصمة السامانيين (261-389ه / 874-999م)، دأب أمراؤها على إحياء
التراث الفارسي، وكانوا يكرمون قادة الجيش، ومسؤولي الدولة، ويخلعون عليهم الخلع
الربيعية، بمناسبة النوروز([39]).
وأشار البيروني إلى احتفال عضد الدولة
البويهي (238/949 – 372هـ/983م) بالنوروز، وكيف تمّ إيقاد الشموع والقناديل على
باب كلواذي في بغداد، وإيقاد النيران على نهر دجلة([40]). وكان
يتمّ إضاءة قصور بغداد، وإحياؤها بضياء الشموع، وتعلّق الأعلام في الأسواق، وتقام
القباب الخاصة بالاحتفالات، وتضـرب الطبول على باب الأمير وقت الصلوات الخمسة،
ويمدح الشعراء الأمير البويهي. فهذا الشاعر أبو إسحاق يمدح عضد الدولة في نوروز
قائلاً:
تهنّ بهذا اليوم، واحظ بخيره وكن أبداً بالعود منه على وعد
أرى الناس يهدون هدايا نفيسة إليك، ولم يترك لي الدهر ما أهدي([41])
أما البيهقي، فيقدّم لنا صورة أخرى من
الاحتفالات التي كانت تقام في العالم الإسلامي، احتفالاً بيوم النوروز
عام431ه/1040مـ، فيقول عن السلطان مسعود الغزنوي، إنه في يوم الخميس الثامن عشر من
شهر جمادي الآخرة، احتفل بعيد النوروز. وكان الناس قد قدّموا إليه الكثير من
الهدايا. واحتفى السلطان بهذا العيد احتفالاً عظيماً، وتقدّم إليه الشعراء بقصائد
المديح. وكانت السعادة تبدو على محيّاه؛ إذ مرّ عليه الشتاء هادئاً، لم تقع فيه
حوادث تشغل قلبه. وأمر للمطربين، وللنّاس، بصلات([42]).
الاحتفال بعيد النوروز في مصر:
إن الاحتفالات الخاصة بالنوروز في مصـر، تختلف كلياً عمّا يجري من احتفالات
في العراق، وإيران، وغيرها من بلاد المشـرق الإسلامي. فرغم أن القلقشندي لم يشـر إلى
الاحتفال بعيد النوروز في مصر، وإنّما اكتفى بذكر الجذور التاريخية له، والمراسيم
التي كانت تجري فيها آنذاك([43]).
ولكن أحد المؤرّخين المعاصرين، أورد الاحتفال بالعيد في العهد الفاطمي (358-369 ه–
567ـ-1171م)([44]) ، فذكر
أن الخليفة المعز لدين الله (341-365ه / 953ـ-975م) منع الناس سنة 363هـ/974م من إيقاد
النيران في الطرق العامة، أو رشّ الماء، ممّا يدلّ على وصول الاحتفال بهذا العيد إلى
الذروة.
وفي سنة 374هـ/984م تمّ إيقاد النيران،
وزاد اللعب بالماء، وطاف أهل الأسواق، وخرج الناس في القاهرة بلعبهم، فلعبوا ثلاث أيام،
وكانت فرصة لأهل السماجات لممارسة اللهو؛ بما فيه شرب الخمر، أو طلطة بالماء، ورشّ
النّاس به. فأمر الخليفة المعزّ لدين الله، منادياً، أن يأمر الناس بالكفّ عن ذلك،
وعدم إيقاد النيران، أو رشّ الماء. والظاهر أن هذا المنع ضاعف من شوق الناس إلى
هذا العبث، لأنهم في السنة التالية تمادوا في إيقاد النيران، وصبّ الماء، وأتوا من
السخافات ما جعل المعزّ يعود إلى تحذيرهم، واستعمال الشدّة معهم. وتمّ حبس بعض
الناس([45]).
وكان للنوروز عند العامة في مصر، أمير
يخرج في هذا اليوم في ملابس المهرّجين، بألوانها الفاقعة المتنافرة، وقد طلى وجهه
بالمساحيق والأصباغ، ويركبونه على دابة، يطوفون به في الطرق والمحلات، ويطلبون من
الناس إعطاءهم هدية أمير النوروز، فمن دفع لهم، أخلوا سبيله، ومن امتنع عن تلبية
طلبهم، رشّوه بالقاذورات. ولهذا كان الكثير من الأغنياء يبقون في بيوتهم، خوفاً من
أمير النوروز وموكبه([46]).
وكانت الأسواق تعطّل في مثل هذا اليوم، إذ كان الناس ينطلقون على سجيتهم، دون حياء
أو قيود، وقلما انقضـى هذا اليوم دون أن تقع حوادث يذهب ضحيتها بعض الناس. وهذا
يدلّ على أن المصـريين كانوا يحتفلون بالنوروز بشكل ينسجم مع تراثهم القبطي القديم،
والذي كانوا يسمّون النوروز بعيد (شمّ النسيم)، والذي كان يصادف شهر أيلول/
سبتمبر.
ويصف المقريزي ما كان يجري بمصر في
هذه الاحتفالات خلال النوروز، فيذكر أنهم في سنة592هـ/1196م استحدثوا عادة التراجم
بالبيض، والتصافح بالأنطاع، إلى جانب ما عرف من التراشّ بالماء.
فلما آل الأمر في مصر إلى السلطان
المملوكي (برقوق)([47]
)، منع الناس من هذا العبث، وهدّد من من خالف بالعقوبة، فاضطّر الناس إلى
التزام الجادة في القاهرة، ومن أراد منهم أن يعبث، خرج إلى البرك والمنتزهات، ولم
تعد الأسواق تتعطّل، كما كان الأمر من قبل، ولم تتوقف حركة البيع والشراء، وأمن
الناس على أنفسهم من الحوادث، بعد أن كان يوم النوروز لا يخلو من قتيل أو أكثر([48]).
المهرجان:
احتفل الخلفاء العباسيون بالمهرجان، فضلاً عن احتفالهم بالنوروز. ويأتي هذا
العيد بعد عيد نوروز ب (194) يوماً، ويصادف (26) تشرين الأول من كل عام. وكان
الاحتفال به يستمرّ ستة أيام، ويتمّ فيه تغيير فرش وستائر دار الخلافة، إيذاناً
بدخول الشتاء. ويحضر أرباب الدولة، وأصحاب الدواوين، والقادة، والقضاة، للتهنئة
بالعيد، واستلام الخلع الشتوية؛ من ملابس وأقمشة([49]).
وعادة يتمّ مدّ الموائد في القصـر،
ويلقي الشعراء قصائدهم، متفائلين بالمهرجان، كما يقدّم المهنئون هداياهم إلى
الخليفة، في اليوم الأوّل من العيد. وتجدر الإشارة إلى أنه كان يتمّ إشعال النيران
أيضاً، لأن المهرجان كان مشابهاً للنوروز في الكثير من رسومه وممارساته.
واحتفل البويهيون بالمهرجان، إذ أهدى
الشاعر أبو هلال الصابيّ اصطرلاباً إلى عضد الدولة، أرفقه بقصيدة جاء فيها:
لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
وحاول بعض الخلفاء منع الاحتفال بعيد
النوروز والمهرجان، ففي سنة 363هـ/973م، أبطل الخليفة الطائع (363-381هـ – 974-991م)،
هذا العيد، ولكن النّاس احتفلوا به بشكل أكبر من السابق، وحاول الخليفة منعهم،
واستمرّ يؤدّب الناس ثلاث أيام، فلم ينفع التأديب، وظل العيد جارياً، واحتفل به في
كل سنة([50]).
وسبب ذلك هو ضعف سلطة الخليفة
السياسية، ولهذا تشبّث خلفاء بني العباس في العهد البويهي (334-447ه – 946 - 1055م)
بنفوذهم الديني، للتعويض عما فقدوه للأمير البويهي، وأرادوا أن يظهروا أمام الناس
بمظهر التقوى، ولهذا حاولوا منع إقامة الاحتفالات، أو التخفيف من حدّتها، على أقلّ
تقدير.
[8] ) ابن تيمية: اقتضاء
الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق وتعليق: ناصر بن عبد الكريم العقل،
مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1411 هـ-1991م، ج1، ص458.
[9]) ابن تيمية: اقتضاء
الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ج1، ص458.
[15]) اليعقوبي: تاريخ
اليعقوبي، بيروت، 1995، ج2 ، ص218.
[18] ) محمد بن جرير
الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج4، ص70
[20] ) الجاحظ : المحاسن
والاضداد، ص283.
[21]) ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب ،ج4 ، ص318؛ ولمزيد من
المعلومات ينظر: المجلسي: بحار الأنوار، ج95، ص419 وج48 ،ص108 و 109
[22] ) المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص326.
[23]) كان التقليد القديم يقضي بأن تحتسب الأيام الكبيسة، فلما أبطل
هذا التقليد بصورة تجعل القوم يحتفلون بعيد النيروز قبل جني المحصول. وكان هذا يضر
بالمزارعين، إذ كان لزاماً عليهم عند ذاك أن يدفعوا الضرائب المفروضة عليهم. انظر:
(إدوارد براون: تاريخ الأدب في إيران، ترجمه إلى الفارسية: علي باشا صالح، ترجمه
إلى العربية: أحمد كمال الدين حلمي، المجلس الأعلى للثقافة، مصـر، ج1، البابان
الثالث والرابع، ص59 هامش 5.
[25]) الخالديان، أبو بكر
محمد بن هاشم الخالدي، وأبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي: الهدايا والتحف، القاهرة،
1964م، ص57 وما بعدها.
[27] ) مرداويج بن زيار:
مؤسس الدولة الزيارية في طبرستان وجرجان (= كركان). استولى أيضاً على أصفهان
وهمدان. وكانت آماله كبيرة في إحياء مجد الفرس، وتحطيم الخلافة العباسية. وعندما
ثار النزاع بينه وبين البويهيين، أراد أن يتخلّص منهم، ثم يتّجه بعد ذلك إلى بغداد
للاستيلاء عليها. ولكنه قتل في أصفهان سنة323ه/934م، وهو يستعدّ لملاقاة آل بويه.
استمرت دولته من 316-434ه/928-1042م.
[28]) عبدالله بن طاهر:
عبدالله بن طاهر بن طاهر ذي اليمينين، قائد المأمون الشهير، من أصل فارسي. ولّاه
المأمون على (خراسان) في 205ه/820م، واستطاع بعد ذلك أن يستقلّ بحكم خراسان، ويؤسّس
الدولة الطاهرية، التي حكمت من 205ه لغاية 259ه، إلى أن سقطت على يد الصفاريين.
[29] ) المافروخي: هو مفضل
بن سعد بن الحسين المافروخي الأصفهاني، نسبة إلى مافروخ بن بختيار جدّه، وكان من
الموالي العجم. ومافروخ مركّبة من ماء فرخ، أي: القمر المبارك. ألّف المافروخي
كتابه (محاسن أصفهان) بين سنوات خمس وستين وخمس وثمانين وأربعمائة. وهو من معاصـري
ألب أرسلان وملكشاه من سلاطين السلاجقة. وقد ترجم الكتاب إلى الفارسية محمد بن عبد
الرضا الحسيني العلوي، في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة، بأمر الوزير غياث الدين محمد
بن الوزير رشيد فضل الله، مؤلّف كتاب (جامع التواريخ).
[30]) عضد الدولة: هو
فناخسرو بن ركن الدولة. تولّى الحكم بعد قتله لابن عمه بختيار بن عز الدولة
سنة367هـ/978م، توفّي سنة372هـ/983م.
[50] ) آدم ميتز: الحضارة
الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ج2، ص294- 295.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق