د. أكرم فتاح
أستاذ في
جامعة دهوك
(اللذّة) بوصفها فكراً فلسفياً، يرى بأنها الخير الوحيد في
الوجود. وهذا المذهب قديم جديد في الوقت نفسه، تأسّس في العهد اليوناني القديم،
وظهر بثوبه الجديد في (مذهب المنفعة)، الذي ينادي به فلاسفة أوروبا في الوقت
الحاضر. ومن أبرز شخصياته القديمة: الفيلسوف (أبيقور اليوناني) 343 - 270 ق.م، الذي
ولد في (أثينا)، واختلف الكُتَّاب في أفكاره، وفي حياته الخاصة؛ فبعض المتأخّرين يصف حياته بالحياة المنعّمة غير الأخلاقيّة،
إلا أن غيرهم يقول بأن كل خطاباته تدلّ على أنه كان متواضعاً في طعامه وحياته، وأنّ
مفهوم اللذّة عنده لا يقصد به الإباحية الأخلاقية، أو ما شابه ذلك من مفاهيم.
ومن شخصيات المذهب في
العصـر الحديث: (جيرمي بنتام) 1748 - 1823م، أوّل فيلسوف بريطاني نادى
بمذهب اللذّة
في القرن التاسع عشـر الميلادي، وذلك في كتابه (مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع).
ومن الشخصيات الأخرى: (جون ستيوارت مل) 1806 -
1873م ، الفيلسوف البريطاني الذي نادى باللذّة والمنفعة. وكذلك: (جون لوك) 1632 -
1704م، وهو أيضاً فيلسوف بريطاني، ادّعى بأنّ فكرة الخير يجب أن تُعرّف بأنها هي
نفسها كلمة اللذّة، وعارض نظرية الحقّ الإلهي، وبأنّ الاختيار هو أساس المعرفة. وهو
يرى بأن اللذّة هي وحدها الخير، ولا توجد اللذّة إلا من خلال إقصاء الألم، وكل ما
يعكّر صفو العقل.
ولا يقصد باللذّة لذَّات أصحاب
الشهوات الحسيّة، ولا إدمان الشراب. فاللذّة نوعان: لذّة جسميّة، تبلغ أوج صورها
في الصحة الجسمية الكاملة. ولذّة عقلية، تعني التحرّر الكامل من الخوف والقلق. إن
آلام العقل أقسى من آلام البدن، التي يمكن تحمّلها، والتي تنتهي لا محالة بالموت.
انتشرت هذه الأفكار في الوقت الراهن، وهو الحصول على اللذّة بأية وسيلة كانت،
خيرها أو شرّها.
فلا بدّ أن نتحدّث عن هذا المذهب في العصور القديمة، حيث ترجع أصولها إلى
المدرسة القورينية في الفلسفة اليونانية القديمة (القرن الرابع ق.م)، وتُنسب
التسمية إلى (أرستبوس القورينائي)، أوَّل من قرن مفهومَي السعادة واللذّة، ليجعلَ
منهما كيانًا واحدًا، رُفعت فيه اللذّة بفضائلها ورذائلها كأعلى غايات الوجود
الإنساني، فاللذّة عنده الخير الأسمى والغاية القصوى في هذا الوجود، والتي ينبغي
على الإنسان أن يَحْصُلَ عليها.
ثم تبعه (أبيقور)(1)، بعد ذلك، في نزعته الحسيّة،
وإن كان المذهب الأخلاقي في الأبيقورية يميل إلى تفضيل لذّات العقل على لذّات الحسّ،
ويجعل من غاية الأخلاق الوصول إلى راحة العقل وطمأنينته(2).
في اليونان القديمة، بنى الأبيقوريون والقورينيون(3) فلسفتهم الأخلاقية على
فكرة أن اللذّة هي هدف الحياة الأوحد، إلا أن أتباع (أبيقور) كانوا يرون أن الناس
يجب أن يبحثوا عن لذّة العقل بدلاً من لذّة الجسد، وأن الشخص العاقل يجب أن يتجنّب
اللذّة التي يتبعها الألم(4). ونقع في الخطأ فيما لو سلمنا بأن اللذّة هي السعادة،
وللزم أن نقحم في مذهب اللذّة من هم أشدّ احتقاراً ومقتاً للذّة، غايةً للأخلاقيّة،
في الوقت الذي يجعلون من السعادة هي الغاية، كما هو الحال لدى (أفلاطون) و(سقراط).
يقول توفيق الطويل: "غاية الأخلاقية عند
(جيرمي بنتام)(5) و(جون ستيوارت مل)(6) هي السعادة، وكذلك الحال عند (أفلاطون)،
فمن غير المعقول أن يُحشـر (أفلاطون) في زمرة النفعيين. ولو أدرك (أفلاطون) (جون
ستيوارت مل) لاحتقر نظريته، ورآها شبيهة بنظرية السفسطائية، التي وحّدت بين
الفضيلة ولذّة الفرد، وإنْ كان (جون ستيوارت مل) يتجاوز لذّة الفرد إلى لذّة
الجماعة (7).
وفي هذه الظروف ظهر تيار فلسفة
الأخلاق، حيث يرى أصحابه أن الخير هو اللذّة، أو الفعل الذي يؤدي إلى اللذّة، وأن الشـرّ
هو الألم، أو ما يؤدّي إلى الألم؛ لأن كل إنسان بفطرته - في تصوّر هذا المذهب -
ينزع نحو تحقيق اللذّة، ويجتهد لتجنّب كلّ ألم.
وقد اختلف أنصار هذا المذهب في طبيعة اللذّة؛
هل هي حسيّة، أم عقلية، أم حسيّة وعقليّة معاً؟ وهل اللذّة سيكولوجية أم أخلاقية؟
وهل الخير يكمن في اللذّة الفردية، التي يحكمها مبدأ الأنانية، أم اللذّة الجماعية
التي تقوم على الإيثار وتحقيق اللذّة للجميع(8). قال (أرسطوطاليس): "اللذّة
في المحسوسات هو الشعور بالملائم، وفي المعقولات الشعور بالكمال الواصل إليه من
حيث يشعر به. فالأوّل مغتبط - سعيد - بذاته، ملتذّ بها، لأنه يعقل ذاته على كمال
حقيقتها وشرفها"(9).
فنحن نرى أن الناس بطبائعهم يسعون وراء اللذّة، ويجتنّبون الألم،
كالحيوانات، مع امتيازهم عن الحيوان باتّباعهم مبدأ النفعية، لاستخدامهم العقل،
لأن العقل هو الذي يحكم على الفعل الخير؛ إذ يعود بلذّة مستمّرة، تفوق فيه اللذّة
على الألم. وبالعكس، فإن الفعل الشرّير يؤدّي إلى زيادة الألم على اللذّة، مع
استمراره. ونحن نقيس اللذّات من حيث صفاتها الذاتية، كالشدّة، والمدّة، والثبات،
وقرب المنال، أو القدرة على إنتاج لذّات أخرى، وخلّوها من الألم، كما نقيسها
بالنظر إلى آثارها الاجتماعية؛ كخوف المواطنين من عواقب الجريمة؛ إذ إنها قدوة
سيئة، وتسبّب اضطرابًا اجتماعيًا، ينبغي على الفرد مراعاتها؛ لأن منفعة المجموع
شاملة للمنافع الفردية(10).
وقد اختلف الهنود، بعد وفاة
برخمنين(11)، بشأن اللذّة والشهوة الجسدية، إلى فرقتين:
الفريق الأوّل: يرى التناسل في هذا
العالم هو الخطأ الذي لا خطأ أبين منه، إذ هو نتيجة اللذّة الجسدانية، وثمرة
النطفة الشهوانية، فهو حرام، وما يؤدّي إليه من الطعام اللذيذ، والشراب الصافي.
وكلّ ما يهيج الشهوة واللذّة الحيوانية، وينشّط القوة البهيمية، فهو حرام أيضاً. واكتفوا
بالقليل من الغذاء، على قدر ما تثبت به أبدانهم، ومنهم من كان لا يرى ذلك القليل
أيضاً، ليكون لحاقه بالعالم الأعلى أسرع.
والفريق الثاني: يرون التناسل والطعام والشراب،
وسائر اللذّات، بالقدر الذي هو طريق الحقّ، حلالاً، وقليل منهم من يتعدّى عن
الطريق، ويطلب الزيادة. ومذهبهم في الباري تعالى أنه نور محض، إلا أنه لابس جسداً
ما، يستتر به، فلا يراه إلا من استأهل رؤيته، واستحقّها. ويزعمون أنهم كالأسير في
هذا العالم، فإنّ من حارب النفس الشهوانية حتى منعها عن ملاذها، فهو الناجي من دنيّات
العالم السفلي، ومن لم يمنعها، بقي أسيراً في بدنها، والذي يريد أن يحارب هذا أجمع،
فإنما يقدر على محاربتها بنفي التجبّر والعجب، وتسكين الشهوة والحرص، والبعد عمّا
يدلّ عليها، ويوصل إليها(12) (13).
ذهب الفيلسوف اليوناني (أرستبس) إلى
أن اللذّة هي صوت الطبيعة، وأن الغريزة هي المحرّك الأوّل لأفعال الإنسان، مثله في
ذلك كمثل الحيوان والطفل. وجعل معيار اللذّة والألم هو معيار القياس لخيريّة
الأفعال، وشرّيتها، وقصـر اللذّة على اللذات البدنية. فالإفراط فيها يؤدّي إلى
عواقب جسيمة، فنادى بضرورة اجتناب اللذات التي تجرّ آلامًا؛ لأنها عائقة في طريق تحقيق
السعادة.(14)
الفلاسفة أمثال (بنتام، ولوك، وميل) هم من الفلاسفة الماديين الحسيّين. فإن قولهم بمذهب المنفعة، لا يعني سوى المنفعة
الماديّة الحسيّة. وإذا كانت آلام العقل أقسـى من آلام البدن، فإن الإنسان يجب أن
يحيا حياة فاضلة حتى يستشعر اللذّة، لأن رجحان كفة اللذّة، التي هي مبعث السعادة،
يعني صيرورة حياة الإنسان مصدراً للمزيد من اللذّة(15).
وقد كان (أفلاطون) فطن إلى حساب
اللذات والآلام، ولكنه لم يعتبره حسابًا كميًّا مثل (بنتام)، إن اللذّة والألم
يرجعان إلى الكيف لا إلى الكم، ويستحيل قياس القيمة الذاتية للذّة ما باعتبار
الكم، ويستحيل الموازنة بين لذّتين من نوع واحد، كلذّة التفاح ولذّة الخوخ. ويصعب
الموازنة بين لذّتين مختلفتين بالنوع، ولا سيّما إذا كانت إحداهما حسيّة والأخرى
عقليّة أو فنيّة، وإنما يتّفق بعضها للذّةٍ، وبعض آخر للذّةٍ أخرى(16). والشخص
السادي، الذي يحصل اللذّة من إيقاع الألم بالآخرين، ولا يمكن أن نجعل كلّ لذّة
خيريّة، بل نعتبر الشخص السادي مريضاً نفسياً، وإن حصوله على لذّة من خلال تعذيب
شخص ما، فيعقبه ألم وعذاب يؤدّي به إلى عواقب مريرة(17).
ومن قال من الفلاسفة إن اللذّة هي
إدراك الملائم والألم هو إدراك المنافر، فقد أخطأ، فإن اللذّة والألم حالات يعقبان
إدراك الملائم والمنافر، فإن الحبّ لما يلائمه كالطعام المشتهى له ثلاثة أحوال،
أحدها: الحبّ كالشهوة، والثاني: إدراك المحبوب، كأكل الطعام، والثالث: اللذّة
الحاصلة(18).
ليس كلّ ما يفكّر فيه الإنسان، ويتخيّل، من سعادة، يمكن حصوله في الواقع.
وقد نحسب وجود لذّة وسعادة، فيحصل في الواقع شيء معاكس لما نتخيّله. فمثلاً:
السارق يتخيّل حصول مال ومنفعة فيما سرق، وشعور بلذّة، لكنه يتألم ويشعر بالندم
والحسـرة، وإن تظاهر بالفخر، وأنه صاحب ثروة وفيرة، لكن ضميره يعاتبه، إن بقي له
ضمير. وإذا استمرّ في هذا الفعل، يختم قلبه، ويموت ضميره، وتصبح السـرقة عنده أمراً
طبيعياً، كالإدمان.
الهوامش:
(1)
أبيقور: 341-270 ق م، فيلسوف يوناني،
مؤسس الأبيقورية، قال بأن المتعة أو (السعادة) هي غاية الحياة الإنسانية، مؤكّداً
أن هذه المتعة لا تتمّ للمرء من طريق اقتناص اللذّات الحسيّة، بل من طريق ممارسة
الفضيلة، واعتبر الإدراك الحسّي أساس المعرفة الأوحد. ينظر: منير البعلبكي، معجم
أعلام المورد، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م، ص46.
(3)
القورينية مدرسة تقول بمذهب اللذّة في
الأخلاق، هي المدرسة الثانية - بعد المدرسة الكلبيّة - التي ظهرت متأثرة بسقراط،
الذي كانت (السعادة) تحتلّ الصدارة في فلسفته، وكان يعدّها هي الغاية التي
تستهدفها أفعال الإنسان، فرغب بعض تلاميذه بهذه الفكرة، وأبرزهم: (أرسطبس)،
فحوّلها الانصراف عن حياة الزهد والإقبال إلى مباهج الحياة الحسيّة، فأنشأ مدرسة
تبشّر بهذه النزعة، وهي المدرسة (القورينائيّة)، وقد نسبت هذه التسمية إلى قرية
قورينا، باليونانية، في إقليم برقة في ليبيا. موضوع: القورينية. wiki.https://ar.wikipedia.org.
(4)
المعرفة، موضوع: مذهب اللذّة، https://www.marefa.org.
(5)
جيرمي بنتام: 1748-1831م، فيلسوف
وعالم اقتصاد بريطاني، تعرف فلسفته بـ(البنتامية)، وخلاصتها أن المتعة هي غاية
الحياة الأساسية، وأن هدف القانون هو "تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد
من الناس"، أشهر مؤلفاته (مقدّمة لمبادئ الاخلاق والتشريع). ينظر: منير
البعلبكي، معجم أعلام المورد، إعداد: د. رمزي البعلبكي، ص112.
(6)
جون ستيوارت مل: 1806-1873م، عالم
اقتصاد وفيلسوف بريطاني، ابن جيمس مل، نادى بالحرية الفردية، ودعا إلى الأخذ بمذهب
المنفعة. من أشهر آثاره: (مبادئ الاقتصاد السياسي) 1848م، و(عن الحرية) 1859م.
(8)
الأهرام، د. محمد عثمان الخشت،
الموضوع: مذهب اللذّة الأخلاق غير الأخلاقية، 24- 12-2013م. http://www.ahram.org.eg.
(9)
محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت
548هـ)، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، ج2، ص184.
(10)
موقع الألوكة، أ. د. مصطفى حلمي،
موضوع: المنفعة العامة، كأحد المذاهب الأخلاقية في الفلسفة الحديثة، 8-9-2012م، http://www.alukah.net.
(11)
برخمنين: حكيم هندي جيّد الذهن، نافذ
البصيرة، صائب الفكر، راغب في معرفة العوالم العلوية. قد أخذ من قلانوس الحكيم
حكمته، فلما توفي قلانوس ترأس برخمنين على الهند كلهم، فرغب الناس في تلطيف
الأبدان، وتهذيب الأنفس. وكان يقول: "أي امرئ هذّب نفسه، وأسرع الخروج عن هذا
العالم الدنس، وطهّر بدنه من أوساخه؛ ظهر له كل شيء، وعاين كل غائب، وقدر على كل
متعذّر". وكان محبوراً، مسروراً، ملتذّاً، عاشقاً، لا يملّ ولا يكلّ، ولا يمسّه
نصب ولا لغوب. الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548هـ)، مؤسسة
الحلب، ج3، ص107.
(12)
محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل
والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة – بيروت، ج2، 1404هـ، ص 262.
(13)
الندوة العالمية للشباب الإسلامي،
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط ومراجعة:
د. مانع بن حماد الجهني، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة
الرابعة، 1420 هـ، ج2، ص790-791.
(15)
موسوعة الرد على الصوفية، ج87، ص213.
(16)
يوسف بطرس كرم (ت 1959م)، تاريخ
الفلسفة الحديثة، مكتبة الدراسات الفلسفية، الطبعة الخامسة، ص333-334.
(17)
حسن مصطفى عبد المعطي وهدى محمد
قناوي، علم نفس النمو، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ج1، ص260.
(18)
محمد بن علي بن أحمد البعليّ (ت
778هـ)، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، المحقق: عبد المجيد سليم - محمد حامد
الفقي، مطبعة السنة المحمدية - تصوير دار الكتب العلمية، ص138.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق