د.
دحام إبراهيم الهسنياني
لقد تميّزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من
الشرائع الأخرى بهذه الخاصية، ألا وهي خاصية التدرّج في التشريع، وكان التدرّج في
التشـريع رحمة من الشارع عز وجل بالعباد، لأنه يساير الفطرة البشرية وطبيعة
الإنسان التي تأبى التحوّل الفجائي، كما أن الالتزام بتحريم أمر قد اعتاده الإنسان
فيه ضرب من الصعوبة، وهذا مخالف لما عليه شريعة الإسلام المبنية على الوسطية
والتيسير.
1.
مفهوم التدرّج في اللغة والاصطلاح:
التدرّج في اللغة: دَرَجَ من باب دخل، ودرج الشـيء يدرج
درجاً ودَرَجاناً ودريجاً فهو دارج، أي مشـى مشياً ضعيفاً، ودنا، ومضـى لسبيله.
ودرجه إلى كذا، واستدرجه، بمعنى: أدناه منه على التدريج، فتدرّج. واستدرجه: رقّاه
من درجة إلى درجة، وأدناه على التدريج فتدرّج هو، كدرَّجه إلى كذا تدريجاً: عوّده
إياه، كأنما رقّاه منزلة بعد
أخرى، والتدرّج أخذ الشيء قليلاً قليلاً ([1]). ونخلص من ذلك أن التدرّج هو الأخذ شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً، وعدم تناوله الأمر دفعة واحدة.
أخرى، والتدرّج أخذ الشيء قليلاً قليلاً ([1]). ونخلص من ذلك أن التدرّج هو الأخذ شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً، وعدم تناوله الأمر دفعة واحدة.
التدرّج في الاصطلاح: تجزئة العمل المادي أو المعنوي إلى أجزاء متعددات، بحسب نسبة
المسافة بين البدء والغاية، وبحسب قدرة العامل من عمله، منجزاً له، مسهل وموطئ
للانتقال إلى ما بعده في الترتيب الطبيعي، بغية عمله، حتى إنجازه واجتناء ثمرته،
ويكون العمل فيه ميسراً سهلاً([2]).
والتدرّج في التشريع: هو نزول الأحكام الشرعية على المسلمين شيئاً فشيئاً طوال فترة
البعثة النبوية، حتّى انتهى بتمام الشريعة وكمال الإسلام. ويمكن الكلام على هذا
الجانب بما يأتي:
2.
حقيقة التدرّج في التشريع:
كان التدرّج في التشريع في عهد النبوة يعتمد على محورين أساسيين:
1) بيان الأحكام الشرعية بالتدرّج،
حسب نزولها من السماء، وتفسيرها وبيانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى
تكامل الدين، وتم بناؤه، ونزل قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}([3])،
وقد انتهى هذا الجانب بانقطاع الوحي، ولكنه يبقى نموذجاً وأساساً أمام العلماء في
الاجتهاد في المستجدات والوقائع الجديدة.
2) التطبيق العملي للأحكام الشرعية
التي كانت تنزل، وتفسر، وتبيّن، وكان هذا التطبيق بالتدرّج أيضاً.
فالآية السابقة تبيّن كمال الدين، وانتهاء التنزيل، وتقرّر في الوقت
نفسه منهج التدرّج في تطبيق الدين والدعوة إليه، وأنه لا تعارض بين الأمرين، لأن
الكمال لا يكون إلا بعد الشـروع في البناء، حتى يصل إلى غايته([4]).
والبشر هم البشر في كل عصر، فيهم المؤمن القوي وصاحب العزيمة
والإرادة، وفيهم المتوسط في الالتزام والتطبيق، وفيهم الضعيف المتثاقل. ولذلك كان التدرّج
مطلوباً، وأمراً واقعاً، لهذه الأصناف الثلاثة الذين أشار إليهم القرآن الكريم،
فقال: ]ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[([5]). قال القرطبي: "فمن أصحّ ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس (رض)
{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: الكافر. وقال الحسن: إنه فاسق. وعن
عكرمة وقتادة والضحاك والفراء، أن المقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: التقي على
الإطلاق. وقالوا: هذه الآية نظير قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}.
وفي قوله: أن يكون الظالم لنفسه: هو الذي عمل الصغائر. والمقتصد: هو الذي يعطي
الدنيا حقها، والآخرة حقها..."([6]).
قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا}([7]).
فالله سبحانه أمر بالتقوى والسمع والطاعة حسب
الاستطاعة، والاستطاعة أن يلتزم الإنسان شيئاً فشيئاً. ويصعب تحمّل التكاليف دفعة واحدة،
وبشكل مفاجئ، وإنْ تحمّلها فلا يستطيع الاستمرار عليها. قال القرطبي: "فاتقوا
الله أيها الناس، وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم
فتنتهم، وتصدّكم عن الواجب لله عليكم"([8])،
وهو ما ورد في الآية التي سبقت ذلك قوله: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}([9]).
قال ابن كثير: "أي: جهدكم وطاقتكم"([10])،
وقال القاسمي: "أي: جهدكم ووسعكم، أي: ابذلوا فيها استطاعتكم. واسمعوا
وأطيعوا، أي: افهموا هذه الأوامر، واعملوا بها". وقال: "فإن مدار الشـريعة
على قوله: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} المفسـّر لقوله: {اتَّقُوا
اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}([11])..
وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)([12]).
وعن ابن عباس (رض) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -بعث معاذاً (رض)
إلى اليمن، قال: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله،
وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في
كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم
تؤخذ من أغنيائهم، وتردّ على فقرائهم...)([13]).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يكلّف معاذاً بالدعوة إلى الإسلام،
ويرشده إلى منهج التدرّج في التنفيذ والتطبيق، ويرسم أمامه الهدف الأول في تقرير
الإيمان الصحيح بالشهادتين، وترسيخ أصوله في النفوس، فإنْ تحقّق ذلك، وتوثّق الصلة
بالله، وتربط المؤمن بربّه، فإنْ تحقّق ذلك كلّفهم بالفريضة المتعلّقة بأموالهم،
لتؤخذ من أغنيائهم، وتردّ على فقرائهم، وتحقّق المواساة فيما بينهم.
عن أمّ المؤمنين عائشة (رض) قالت: (إنما نزل أوّل ما نزل سورة من
المفصّل، فيها ذكر الجنّة والنّار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال
والحرام. ولو نزل أوّل ما نزل لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو
نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً)([14]).
وهذا تصريح لمنهج القرآن والإسلام في التدرّج، وتنمية الإيمان والوازع الديني،
والترغيب بالجنّة، والترهيب بالنّار، حتى يستقرّ الإسلام في النفوس، ويثوب المؤمن
إلى ربّه، وبعد ذلك شرع الله الأحكام، فبيّن الحلال، وحذّر من الحرام([15]).
قال ابن حجر: "وأشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أوّل ما نزل
من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنّة، وللكافر والعاصي
بالنّار، فلمّا اطمأنّت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولو نزل أوّل شيء لا تشربوا
الخمر لقالوا: لا ندعها، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف"([16]).
عن أبي سعيد الخدري (رض) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه،
وذلك أضعف الإيمان)([17]).
فهذا الحديث يدلّ على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، كما قال ابن رجب([18])،
وأن الإنكار متدرّج من اليد إلى اللسان، إلى القلب.
وهذا من أقوى الأدلة عن صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - على التدرّج
في تطبيق الشـريعة عند العجز عن إقامتها كاملة. ونقل ابن رجب آثاراً عن الصحابة،
وغيرهم، في درجات إنكار المنكر([19]).
3.
منهج الدعوة النبوية في التدرّج والتشريع:
إن الأحاديث التي تدلّ على التدرّج كثيرة، وأكثر منها الأحاديث
الفعلية التي تبيّن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التدرّج بالدعوة،
وتطبيق ذلك عملياً، كما مارسه في مكة والمدينة، ومع مختلف الأفراد والجماعات
والقبائل والوفود، وأن ما قاله فيما سبق، ترجمه عملياً في الدعوة، ومارسه في
الحياة.. ونشير إليه باختصار:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكلّف النّاس فجأة بالدين كلّه،
سواء في العقيدة أو في الشريعة، بل بدأ بالأهمّ فالأهمّ، وتدرّج معهم في تفصيل
العقائد والأحكام طوال فترة البعثة على أساس ترتيب الأولويات، فاعتمد على تثبيت
العقيدة أوّلاً، ثم تدرّج معهم إلى بيان القيم الدينية والأحكام العامة التي نزلت
على الأنبياء السابقين، ثم تدرّج معهم إلى التكليف بالأوامر والنواهي، وقدّم في كلّ
ذلك الضـروريات الخمس، وهي: المحافظة على الدين والنفس والعقل والنسل والمال([20]).
وفي مجال العقيدة، ركّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوّلاً على
تثبيت الإيمان بوجود الله، والدعوة إلى وحدانيته، ثم بيان سائر صفاته، وبعد ذلك
يأتي الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر.
وبعد استقرار الإيمان، حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
الاستقامة في السلوك والأعمال، تنفيذاً لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}([21])،
وأكّد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما أرشد أحد الصحابة، فقال له:
(قل: آمنت بالله، ثمّ استقم)([22]).
وجاء الأسلوب في القرآن الكريم والحديث السابق بلفظ (ثمّ) التي تدلّ على العطف مع
التراخي، وليس بحرف الفاء، الذي يفيد العطف مع التعقيب.
وبيّن ابن رجب علاقة الحديث بالآية، فقال: "هذا منتزع من قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}([23]):
استقاموا على طاعة الله، وأداء فرائضه، وإخلاص الدين والعمل". ثم قال: "الاستقامة:
هي سلوك الصـراط المستقيم، وهو الدين القيّم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسـرة،
ويشمل ذلك فعل الطاعات كلّها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلّها كذلك. فصارت
هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلّه"([24]).
إن التدرّج الزمني في التشريع ييسر فهم أحكامه على أحسن وجه، وييسـر
معرفته حكماً حكماً، وهذا ما يلمسه المدقّق في نزول الأوامر والنواهي في بداية
الإسلام على سنّة التدرّج، مراعاة للتيسير على الناس، والتخفيف عنهم، ورفع الحرج
في أخذهم باليسير من التكاليف والأحكام([25]).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: "والحكمة من ذلك أن هذا النهج في التشريع
يجعل الأحكام أخفّ على النفس ممّا لو نزلت دفعة واحدة، وبالتالي أدعى إلى القبول
والامتثال. كما أن في هذا التدرّج تيسيراً للمخاطبين لمعرفة الأحكام وحفظها،
والإحاطة بأسبابها وظروف تشريعها"([26]).
اتّجه التشريع الإسلامي أوّلاً لبناء الفرد السويّ بإصلاحه وتغيير ما
بنفسه، قبل البدء ببناء المجتمع، وقبل تغيير الأنظمة والأحكام. وهذا هو التوجّه
القرآني في ذلك، فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}([27])،
وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}([28]).
والحكمة في ذلك أن الفرد هو الأساس لبناء الأسرة، والأسرة هي اللبنة الأولى لبناء
المجتمع، وعندما تصلح النفوس، وتتربى تربية إسلامية كاملة، فإنها تتلقى الأحكام
الشـرعية برحابة صدر، وتتّجه ذاتياً إلى تنفيذها وتطبيقها. وهذا ما فعله رسول الله
بالمؤمنين في مكة أوّلاً، ثمّ في المدينة([29]).
إن القرآن الكريم هو المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي، ولم ينزل
القرآن الكريم دفعة واحدة، بل نزل منجّماً، أي مفرّقاً ومجزّءاً بالسورة
والسورتين، والآية والآيتين والثلاث، على مدى ثلاث وعشـرين سنة. وهذا أكبر دليل
على التدرّج في الدعوة، والأوامر، والنواهي. وجاء التكليف بذلك متدرّجاً، قال الله
تعالى: ]وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً[([30]).
قال القرطبي: "فرقناه: بتخفيف الراء، ومعناه بيّناه وأوضحناه،
وفرّقنا فيه بين الحق والباطل. وقال ابن عباس (رض): فصّلناه. وقرأ بعض الصحابة
والتابعين: ]فَرَقْنَاهُ[ بالتشديد، أي أنزلناه شيئاً بعد شيء، لا جملة واحدة.. ولا خلاف أنه
نزل إلى السماء جملة واحدة... وعن الأنباري: "أن الله سبحانه أنزل القرآن
جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرّق على النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة،
وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جواباً لمستجير يسأل، ويوقف جبريل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على موضع السورة والآية). وقوله: ]عَلَى مُكْثٍ[ أي: تطاول في المدّة، شيئاً بعد شيء"([31]).
وقال أيضاً: "ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة
القدر جملة واحدة، ثم كان جبريل ينزل به نجماً نجماً من الأوامر، والنواهي،
والأسباب، وذلك في عشـرين سنة أو أكثر"([32]).
وكان نزول القرآن منجّماً مثار احتجاج الكفار، واعتراض المشـركين، وحكى القرآن ذلك
عنهم، وردّ عليهم، وبيّن الحكمة من التنجيم، فقال سبحانه: ]وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ
جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلاً، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيرًا[([33]).
فالسرّ في تدرّج القرآن بالأحكام في الأوامر والنواهي، ونزوله منجّماً،
هو أن الناس اعتادوا أموراً موروثة، ولم يألفوا الأحكام الشـرعية الجديدة، فلو
خوطبوا بها دفعة واحدة، وكلّفوا بما لم يتعودوا، لأعرضوا، أو ملّوا، أو تباطؤوا في
التنفيذ. وهو ما وضّحته السيدة عائشة (رض) قالت: (إنما نزل أوّل ما نزل من القرآن
سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل
الحلال والحرام. ولو نزل أوّل الأمر: لا تشـربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر
أبداً، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً)([34]).
يقول الشيخ محمود شلتوت([35]):
"ويرجع أساس التفرقة بين المكي والمدني إلى أن حياة المؤمنين بمكة لم تكن
حياة قارّة متركزة، وبهذا لم يكن المؤمنون على استعداد لأن يخاطبوا بنظام تفصيلي.
ولكن حين ارتحلوا إلى المدينة، وتكونوا بأخوّة الإيمان جماعة متميزة في الحياة،
نزلت عليهم بهذا الاعتبار التشريعات المنظّمة لأحوالهم، المركّزة لشؤونهم، الفاصلة
بينهم وبين غيرهم"([36]).
4.
التدرّج في العبادات:
إن العبادات الأساسية في الإسلام هي الصلاة، والصيام، والزكاة،
والحج، وهي مع الشهادة تمثّل أركان الإسلام الخمسة. وهذه العبادات التي يؤدّيها
المسلمون لم تشـرّع دفعة واحدة، وإنّما شـرّعت بالتدرّج، لتؤكّد مبدأ التدرّج في
التشريع الذي يمثّل منهج الإسلام.
وذكرنا سابقاً أن القرآن الكريم كان يذكر الصلاة والزكاة من وصايا
الأنبياء السابقين لتنبيه الأذهان إليها، وتوجيههم نحوها، ثم فرضها شيئاً فشيئاً.
فشرعت الصلاة في أوّل الأمر صلاتين فقط، صلاة في الغداة، وصلاة في العشي، واستمر
المسلمون على ذلك في مكة حتى نهاية العام العاشر للبعثة، ووقع الإسراء والمعراج،
وفرض الله خمس صلوات على المسلمين، وكانت صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين
ركعتين، فأقرّت في السفر، وزيدت في الحضـر إلى أربع([37])،
واستقرّ الأمر على ذلك حتى تقوم الساعة.
وكانت الزكاة في أوّل الأمر اختيارية، وكان المسلم يخرج ما شاء صدقة
لله، لقوله تعالى: ]وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ: الْعَفْوَ[([38])، ثم فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، فقال تعالى: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ[([39])، وبيّن الله سبحانه مصارف الزكاة، فقال تعالى: ]إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[([40]). وحدّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أنصبة الزكاة في النقود،
والتجارة، والزروع والثمار، والحيوان، بياناً لقوله تعالى: ]وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ([41])[([42]).
وعزم رسول الله، مع المسلمين،
لأداء العمرة في السنة السادسة للهجرة عام الحديبية، فصدّه المشركون، وقضاها في
العام التالي. ثمّ فرض الحج في السنة التاسعة للهجرة، على القول الراجح.
وكذلك الصيام كان مفروضاً في يوم عاشوراء، وفي بعض الأيام المعدودات،
حتى فرض الصيام شهراً كاملاً في رمضان.
5.
التدرّج في المحرّمات:
أ-
التدرّج في عقوبة الزنا:
كان الزنا شائعاً ومنتشراً في الجاهلية، وسعى الإسلام إلى اقتلاع هذه
الرذيلة بالتربية والتوجيه على سبيل التدرّج، شأن الطبيب الذي يعالج المرض ويرعى
أحواله شيئاً فشيئاً. ونزل تحريم الزنا في عدّة آيات، بعد أن استقر الإيمان في
الصدور، وتهيّأت النفوس لغرس الفضائل. ولم تفرض العقوبة على الزاني إلا بعد ذلك،
وعلى سبيل التدرّج، فجعل عقوبة الزاني أوّلاً الحبس في البيوت، فقال تعالى: ]وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً[([43])، ولما تأهّلت النفوس لتقبّل العقوبة، أنزل الله سبحانه العقوبة
الصارمة بجلد الزاني غير المحصن، أي غير المتزوج، مائة جلدة، فقال تعالى: ]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ[([44])، ونزل حكم الزاني المحصن، أي المتزوج، بالرجم، بآية الشيخ والشيخة
المنسوخة لفظاً لا حكماً، مع فعل النبيّ برجم ماعز والغامدية، وغيرهما. وكانت
التربية الإيمانية تدفع الزاني إلى الاعتراف والإقرار وطلب التطهير من دنس الزنا،
وهو ما فعله ماعز والغامدية، فكان للتدرّج أثر بالغ في تقرير العقوبة، والتدرّج في
التكليف بها([45]).
ب-
التدرّج في تحريم الخمر:
كانت الخمر مستحكمة عند العرب، ولم يتعرّض القرآن لتحريمها صراحة
طوال العهد المكي، وشطراً من العهد المدني، كما ذكرت السيدة عائشة (رض) فيما سبق.
وسلك القرآن الكريم في تحريمها طريق التدرّج بشكل صريح وواضح. ولذلك يتّجه معظم
الباحثين إلى الاقتصار على التمثيل للتدرّج في التشـريع على تحريم الخمر.
وبدأ القرآن الكريم بالإشارة إليها في قوله تعالى: ]وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا[([46])، فجعل القرآن السكر مقابلاً للرزق الحسن، إشارة إلى أنه غير حسن.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن الخمر، ويطلب بعض الصحابة البيان
الشافي فيها([47])،
قال تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[([48])، فكانت الإشارة إلى التحريم باعتبار الإثم فيها أكثر من النفع، وأن
هذا يقتضي أن تكون حراماً، ولكن لم يصرّح بطلب الكفّ عنها.
وبقليل من التأمّل يلاحظ المتفكّر المتدبّر أنّ ما إثمه أكبر من نفعه
ينبغي أن يكون حراماً، فهو من هذا البيان القرآني يصل بنفسه إلى حكم بتحريم الخمر،
ولو لم يأت فيه تصـريح بهذا التحريم، فما زاد ضرّه على نفعه، فعلى أهل الفكر
الثاقب والرأي الحصيف، أن يجتنبوه، لأنهم يعلمون من حساب الربح والخسارة أن من شرب
الخمر وأدمن عليه كان خاسراً، فهم لا يمارسون عملاً يكونون فيه خاسرين. ولهذا ختم
الله هذه الآية بقوله: ]...كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ[)([49]).
وحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع أحد المسلمين يصلي وهو
سكران، فخلط في القرآن الكريم، فنزل التحريم الجزئي بمنع الشـرب قبل الصلاة. فقال تعالى:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ[([50])، فامتنع الناس عن شرب الخمر قبل الصلوات الخمس بوقت كاف، وكاد الشـرب
أن ينحصـر بعد العشاء. وفي كل هذه الأوقات كانت التربية الإيمانية تزداد، والتوجّه
إلى الله سبحانه ينمو باطّراد، والالتزام بالأحكام الشرعية يشتدّ، وتزكّت النفوس،
وأصبحت متهيّئة لتقبّل التحريم القاطع، فنزل قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِـرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[([51]). ثمّ علّل التحريم، لقطع سبل الشيطان منها، وتشجيع المسلمين
للابتعاد عنها، فقال تعالى: ]إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ
وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ[([52]). وهنا ارتفعت صيحة الإيمان، وثمار التربية والقناعة، فقالوا:
(انتهينا، انتهينا يا رب)، وقام الناس إلى دنان الخمر فأراقوها، وكسـروا جرارها،
وقطعوا كل صلة بها، وحققوا بذلك معجزة عجزت عنها أكبر الدول اليوم([53]).
وآتى التدرّج في التشريع والتحريم ثماره، وبقيت آيات الخمر المتدرّجة
تتلى على الناس لتكون وسيلة دائمة ومستمرة لتربية الأجيال المسلمة.
ت-
التدرّج في تحريم الربا:
يكاد أن يكون التدرّج في تحريم الربا كالتدرّج في تحريم الخمر، وكان
الربا مسيطراً على عقول الناس الذين يعشقون المال، ويتفنّنون في جمعه وتكديسه،
فأراد الله أن يقتلع هذه الجرثومة من النفوس، وسلك في سبيل ذلك مبدأ التدرّج.
وكانت أول إشارة إلى التنفير من الربا أن القرآن الكريم وصفه بأنه لا نماء فيه ولا
بركة، فقال تعالى: ]وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا
يَرْبُو عِنْدَ اللهِ[([54]).
ثم بيّن القرآن الكريم أن الربا ظلم للفقراء والضعفاء والمحتاجين،
وأنه استغلال من أصحاب الثروة، وأن ذلك كان سبباً لتحريم بعض الطيبات على اليهود،
فقال تعالى: ]فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[([55]).
ثم نهى الله سبحانه عن الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، الذي كان
شائعاً عند العرب، فقال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[([56])، إلى أن جاء التحريم النهائي للربا بجميع أنواعه، مع التهديد الشديد
بالحرب من الله على المرابين، فأنزل الله سبحانه النصّ الأخير القاطع بتحريم الربا
كلّه، قلّ أم كثر، وكان هذا آخر أو من أواخر ما نزل من القرآن المجيد، ضمّ إلى أوّل
سورة من سور التنزيل المدني، للدلالة على أن خطّة التحريم القطعي الشامل لكل الربا،
قليله وكثيره، خطّة كان من مقتضـى إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة أن يكون هذا
التحريم من أحكام نظامها الاقتصادي منذ تأسيسها، ولكن حكمة التدرّج في التنفيذ
اقتضت تأخير إنزال النصّ التحريمي القاطع إلى أواخر المرحلة المدنية، وبعد أن ثبتت
قواعد الدولة الإسلامية([57]).
فقال الله تعالى: ]الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ
إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ
كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ
وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَـرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ
لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[([58]).
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (كان من
آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا...)([59]). وعن ابن عباس قال: (آخر آية نزلت على
النبي - صلى الله عليه وسلم - آية الربا)([60]).
وأعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع أن كل ربا
الجاهلية موضوع، ولعن رسول الله آكل الربا، وموكّله، وشاهديه، وكاتبه([61]).
وتقبّل المؤمنون هذا التحريم، وقطعوا صلتهم به، خوفاً من الله سبحانه، وطمعاً في
رضوانه، فتمّ تحريم الربا نهائياً بعد تسع سنوات من الهجرة([62]).
6.
التدرّج في فرض الجهاد:
تعرّض القرآن الكريم لأمر الجهاد والقتال في أوائل سور القرآن
نزولاً، وأنه سيقوم به المسلمون في المستقبل، فقال تعالى: ]عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْـرِبُونَ فِي
الأرض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ[([63])، ولم يأذن القرآن الكريم بالقتال طوال العهد المكي، حتى ولو
بالمعاملة بالمثل، أو على سبيل ردّ العدوان، وكان الإيذاء والضرب والقتل يصيب بعض
المسلمين، ويشكون ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأمرهم بالصبر، وذلك
لقلّة عدد المسلمين، وعدم توفر مقوّمات القتال، بل أمرهم القرآن بالعفو والصبر على
الأعداء، والإعراض عنهم، قال تعالى: ]اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْـرِكِينَ[([64]). وفي ذات الوقت كان القرآن الكريم يدرّب الناس على الجهاد بالدعوة
والبيان والجهاد بالقرآن، فقال تعالى: ]فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[([65])، أي جاهدهم بالقرآن. وأمرهم أيضاً باحتمال الأذى امتحاناً لهم
واختباراً، فقال تعالى: ]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ
لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[([66]). وطلب أهل بيعة العقبة الثانية الإذن لهم بقتال المشـركين، فمنعهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنّه لم يؤمر بذلك([67]).
ولما هاجر رسول الله، وقامت الدولة الإسلامية، وقوي المسلمون، أذن
لهم في القتال دفاعاً عن أنفسهم، فقال تعالى: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ
عَلَى نَصْـرِهِمْ لَقَدِيرٌ[([68]). ولمّا اشتدّ أمر المسلمين، وتهيّأت نفوسهم بشكل كامل، فرض الله
عليهم القتال فرضاً، فقال تعالى: ]وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[([69])، وقال تعالى: ]وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ للهِ[([70])، واستقرّ الجهاد، وأصبح ذروة سنام الإسلام، وجاهد رسول الله،
وصحابته، رضوان الله عليهم، ورغّب به النبي - صلى الله عليه وسلم - ترغيباً
شديداً، ولم تنسخ الآيات السابقة، بل بقيت مطبّقة يعمل بها المسلمون حسب الظروف
والإمكانات، أفراداً وجماعات، ليكون الجهاد على مراتب وأنواع، حتى ذكر ابن القيم
رحمه الله ثلاث عشـرة مرتبة من مراتب الجهاد([71]).
المبحث الرابع: ضوابط التدرّج:
إن التدرّج في تطبيق الشريعة الإسلامية يجب أن يسير على طريق واضح،
وخطىً ثابتة، وضوابط محددة، ويأخذ بعين الاعتبار المسلمات السابقة التي تعتبر من
أهم ضوابط التدرّج، مع الالتزام بفقه الأولويات، التي يجب تقديمها ورعايتها والحرص
عليها.
1- الغاية من التدرّج:
يجب أن تكون الغاية من التدرّج واضحة من أول الطريق، وهي العزم
الأكيد على تطبيق الشـريعة كاملة عند توفر الإمكانيات والقدرات والظروف، ويجب أن
يكون هذا اعتقاداً جازماً في أذهان القائمين والساعين إلى التدرّج في تطبيق
الشريعة، ليتفق ذلك مع ما قرّرناه سابقاً أن الشـريعة كل لا يتجزأ، وأن التدرّج
مجرد وسيلة، لا غاية في حد ذاته، وأن التطبيق الكامل للشـريعة هو جزء من العقيدة،
لأن الإيمان اعتقاد وعمل([72]).
2-
شمول التطبيق:
إن
التدرّج في تطبيق الشـريعة لا يعني تطبيقها على فئة دون أخرى، وعلى أناس دون
غيرهم، فالتطبيق الكلي، يجب أن يكون شاملاً لجميع المواطنين المقيمين في أرض
الدولة، مهما كانت أديانهم وانتماءاتهم وأوصافهم. وهذا في مجال التشـريع يشمل
المسلم وغير المسلم، في المعاملات والعقوبات، وهذا شأن جميع التشـريعات المعمول
بها في العالم، ويضيف الإسلام على ذلك أنه يراعي ما يتعلّق بعقائد غير المسلمين،
فيتركون وشأنهم فيه، وتراعى أحكامهم الدينية في تطبيقه فيما بينهم حصـراً. كما
يعني الشمول تطبيق الشريعة في جميع ميادين الحياة، بحسب ما تقتضيه المصالح
والحاجات في التدرّج فيها([73]).
3- مراعاة التطوّر والمستجدات:
يجب عند التدرّج في تطبيق الشـريعة مراعاة التطوّر التقني والعلمي
والوسائل الحديثة في المواصلات، والاتصالات، والإذاعة، والتلفاز، والحاسوب،
والمعلوماتية، ومجاراة التطور المستمر فيها عالمياً، والاستفادة منها. كما يجب وضع
الأحكام الشـرعية، من قبل العلماء، مع الاجتهاد الجماعي في المجامع والندوات
والمؤتمرات، للأمور المستجدة، لأنها تفرض نفسها على الواقع والحياة، وتستدعي
تكييفها، وبيان الحكم الشرعي لها. وإن كان بعضها محرّماً، وممنوعاً، ويتنافى مع
مبادئ الشـرع وأحكامه، فيجب إيجاد البديل لها، فالله سبحانه وتعالى ما حرّم شيئاً
إلا وشرع ما يقابله من الحلال([74]).
4- الأحكام المتّفق عليها:
إن التدرّج في التطبيق يقتضي البدء بتقنين الأحكام المتّفق عليها بين
المذاهب، لأنّها تجمع ولا تفرّق، وأدلّتها قوية وثابتة، ولا يخالف فيها أحد
تقريباً، فيعتبر شبه إجماع، ومعظمها ثابت بالنص، ويؤيدها غالباً الإجماع، وتكون
بمثابة القطعي الذي يجب الوقوف عنده([75]).
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: "إن هذه القطعيات هي التي
يجب أن تكون أساس التفقيه والتثقيف، وأساس الدعوة والإعلام، وأساس التربية
والتعليم، وأساس الوجود الإسلامي كله"([76]).
5- الأهمّ فالأهمّ:
إن البدء في تطبيق الشريعة يجب أن يتمّ بتقديم الأهمّ فالأهمّ. وهذا
ضابط تقرّره الشـريعة، ومبادئ العقل، والمنطق، ويؤيّده الواقع. ونصّ على ذلك إمام
الحرمين الجويني فقال: "البداية بالأهمّ، ثمّ الأهمّ"([77]).
وقال ابن تيمية عن مصارف الأموال الموجودة في بيت المال: "وأمّا المصارف،
فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهمّ فالأهمّ من مصالح المسلمين"([78]).
6- التخيّر والانتقاء:
إن التدرّج في التطبيق في عصـرنا الحاضـر يتّفق مع مبدأ التخيّر من
الأحكام الفقهية، والانتقاء من مختلف المذاهب، واعتبار المذاهب الاجتهادية كمذهب
واحد كبير في الشريعة، واعتبار أقوال المذاهب كآراء وأقوال في المذهب العام، دون
تقديس لقول إمام، أو تعصّب له. ويتمّ التخيّر والانتقاء على أساس قوة الدليل، وما
يحقّق مصالح الناس، ويواجه الحياة المعاصرة، والحوادث المتجدّدة، والظروف الطارئة.
ولا يكون الانتقاء والتخيّر وفق الأهواء، وتتبّع الرخص في المذاهب،
وزلّات العلماء، ولا يتمّ بطرح ما تؤيّده الأدلة من النصوص والإجماع. وإنما ينحصـر
ذلك فيما يكون مأخذه القياس والاستحسان والاستصلاح والعرف وسد الذرائع، وغير ذلك
من مصادر الاجتهاد فيما لا نص فيه، ممّا اختلف فيه الأئمة والفقهاء ما بين مثبت
وناف، وموسّع ومضيّق.
لذلك يقول القرافي: "ليس كل الأحكام (يعني الاجتهادية) يجوز
العمل بها، ولا كلّ الفتاوى الصادرة عن المجتهدين يجوز التقليد فيها، بل في كلّ
مذهب مسائل، إذا حقّق النظر فيها، امتنع تقليد ذلك الإمام فيها"([79]).
وهذا ما يقرّر في حقّ تقليد الفرد، فكيف في حقّ الأمّة عامة، وعند توفر العلماء،
ومجلس الشورى، وهيئة التشريع الإسلامية، فهو أولى.
ويقول القرافي أيضاً: "كلّ شيء أفتى فيه المجتهد، فخرجت فتياه
فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجليّ السالم عن المعارض
الراجح، لا يجوز لمقلّده أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دين الله...". ثم
يقول: "فعلى هذا، يجب على أهل العصـر تفقّد مذاهبهم، فكلّ ما وجدوه من هذا
النوع، يحرم عليهم الفتيا به. ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه، لكنه قد يقلّ، وقد
يكثر... ثم يضع المنهج لذلك"([80]).
وهذا رأيه في الأقوال والفتاوى الصادة عن الأئمة المجتهدين، فيكون فعل ذلك بالأولى
في أقوال المقلّدين، وفتاوى المتأخرين([81]).
وهذا المبدأ والضابط هو ما سارت عليه قوانين الأحوال الشخصية
المعاصرة، في معظم البلاد العربية والإسلامية، وحقّق نتائج طيّبة في الغالب.
قال العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، عن اختيار قانون الأحوال الشخصية من
مختلف المذاهب: "وقد جاء هذا القانون، في موضوعه، خير برهان عملي على ما في
الفقه الإسلامي - بمعناه الواسع في مختلف مذاهبه، وأصوله - من كفاية، وقابلية
للاستجابة إلى شتى الحاجات التشريعية الزمنية"([82]).
وقال الدكتور القرضاوي: "ومن أبواب السياسة التي لوليّ الأمر:
اختيار أحد الوجوه الجائزة في القضية الواحدة، حسبما يرى من الخيرة والمصلحة للأمّة"([83]).
7- الأخفّ أو الأشدّ:
ويتفرّع عن المبدأ السابق: الاختيار والانتقاء، مبدأ آخر، وهو الأخذ
بالرأي الأخفّ من المذاهب، أو الرأي الأشدّ، بحسب المصلحة العامة، ومراعاة الأحوال
القائمة، والانسجام مع المعمول به عملياً، داخل البلد أو خارجه.
مثال الأخذ بالأخفّ: عدم إقامة الحدّ على غير المسلم بسبب شرب الخمر،
وهو رأي الإمام أبي حنيفة، وإنّما يعاقب تعزيزاً إذا صاحب الشـرب ذنب آخر،
كالإعلان، والإفساد، والمجاهرة في الاجتماعات العامة، وأثناء قيادة السيارة، أو
أمام الجماهير. ومثله الأخذ برأي الإمام أبي حنيفة في التوسّع في درء الحدود
بالشبهات، وخاصة في حدّ الزنا.
ومثال الأخذ بالأشد: إقامة الحدّ على السارق من بيت المال، وخزينة
الدولة، ومال الوقف، أخذاً برأي الإمام مالك، وهو الموافق للاتجاه العام في
التشديد على عقوبة من يعتدي على الأموال العامة. ومثل ذلك الأخذ بالقول الأشدّ في
وصول عقوبة التعزيز إلى القتل، في الجرائم الكبرى، كالتجسّس، والخيانة، والمتاجرة
بالمخدّرات([84]).
8– الواجبات والمحرّمات:
إن الأعمال تتفاوت في رتبة طلبها من الشـرع تفاوتاً كبيراً؛ كالفرض،
والواجب، والمندوب، والمستحبّ، ثمّ يأتي المباح؛ وهو ما خيّر الشارع في فعله وتركه.
فيجب التركيز، والبدء بالفرائض والواجبات، كالزكاة، وإقامة العدل، وحفظ الأنفس
والأعراض والأموال، ثم يأتي بالدرجة الثانية المندوب والمستحبّ، كالصدقات. ويستفاد
ذلك من الحديث القدسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: (من
عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بأفضل ممّا افترضته عليه)([85]).
ثم تأتي المباحات، التي يتّسع مجالها أمام الحاكم المسلم، بالإيجاب فيها أو
التحريم، حسب المصلحة.
ومثل ذلك في المنهيّات التي ليست في مرتبة واحدة، بل هي مراتب
متفاوتة، فأعلاها الكبائر، وأدناها المكروه تنزيهاً، أو خلاف الأولى([86]).
وعند التدرّج في التطبيق، يجب البدء أولاً بالمحرّمات، والتركيز عليها، لقوله عليه
والصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء
فاجتنبوه)([87]).
([35]) فقيه ومفسّر مصري.
ولد في منية بالبحيرة، وتخرّج بالأزهر (1918)، وتنقّل في التدريس إلى أن نقل للقسم
العالي بالقاهرة (1927). وكان داعية إصلاح نيّر الفكرة، يقول بفتح باب الاجتهاد.
وسعى إلى إصلاح الأزهر، عيّن وكيلاً لكلية الشريعة، ثم كان من أعضاء كبار العلماء
(1941)، ومن أعضاء مجمع اللغة العربية (1946)، ثم شيخاً للأزهر (1958) إلى وفاته.
وكان خطيباً موهوباً جهير الصوت. له 26 مؤلفاً مطبوعاً، منها: التفسير وحكم
الشريعة في استبدال النقد بالهدي، والقرآن والمرأة، والقرآن والقتال، والإسلام
والتكافل الاجتماعي، والدعوة المحمدية
وتوجيهات الإسلام، والإسلام عقيدة وشريعة. توّفي سنة 1963م. (الأعلام:
7/173).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق