الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
واجه
جمال الدين الأفغاني (1254-1314ﻫ/ 1838-1898م)
مسألة الانحطاط في العالم الإسلامي، فقدّم خطاباً إصلاحياً يبحث في أسبابها
من خلال تجديد المفاهيم الدينية والسياسية، لكي تتوافق هذه المفاهيم مع الظروف
الاجتماعية والتاريخية التي بدأت تتغيّر في العالم الإسلامي نتيجة لتحدّيات
الحداثة السياسية، بوجهها الفكري والتاريخي، متمثّلاً بالاستعمار. والســؤال الذي
يطرح في هذا المجال، هو: كيف سيواجه فكرة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة
السياسية، التي طرحتها الحداثة؟ وكيف وهل يمكن للعقل أن ينظّم الحياة الاجتماعية،
دون حاجة إلى الشرع؟
برز
خطاب الأفغاني في خضمّ تلك المواجهة بين العالمين الإسلامي وأوروبا الحديثة، فقد
أدرك طبيعة المعادلة الصعبة بين ثوابت العالم الإسلامي الراسخة، ومتغيّرات العالم
الغربي، وتحوّلاته، ليقدّم تصوّراته إزاء العالم الإسلامي، ويبلور مواقفه السياسية
إزاء أوروبا. فكان خطابه عبارة عن مواجهة لمشكلات المسلمين؛ فحدّد استراتيجيته
لمواجهتها، بالدعوة إلى وحدة المسلمين في إطار رابطة دينية سياسية (طوباوية)، بصـرف
النظر عن لغاتهم وأجناسهم وأوطانهم (السيد 1986 ، ص 197-198).
ينطلق
الإصلاح عند الأفغاني بوصفه تعبيراً عن الهويّة أوّلاً، ثمّ يستمدّ من أوروبا ما يتلاءم مع طبيعة هذه
الهويّة، وحاجاتها. لأن تقليد النموذج الأوربي، بكلّ عيوبه ونظمه ومفاهيمه؛ مثل:
الفصل بين الدين والدولة، يؤدّي بالعالم الإسلامي إلى حالة من التبعية السياسية
والحضارية. فالبداية من إصلاح حياة المسلمين السياسية والاجتماعية، انطلاقاً من
مفاهيمهم الدينية، والقضاء على الأسباب التي تحول بينهم وبين مجاراة الحضارة
الحديثة، والردّ على تحديّاتها. وإذا كان الطهطاوي وخير الدين قد اعتقدا بأن إنشاء
مؤسسات سياسية وعلمية، على النمط الأوروبي، كفيلة بحلّ معضلات العالم الإسلامي،
دون أنْ يشكّل ذلك أيّ تهديد، فإن المسألة - في خطاب الأفغاني - أصبحت كيفيّة إنقاذ
العالم الإسلامي من الانهيار.
فكان يرى أن سبب غلبة
الدول الأوروبية على الدول الإسلامية هو العلم، "فالدول المسيحية اليوم إنما
يغلبون الحكومات الإسلامية بالعلم، مصدر القوّة، وينغلب المسلمون بالجهل، مصدر
الضعف". كما يرجع أسباب ضعف الإمبراطورية العثمانية، ونشوء المسألة الشرقية،
إلى تحكّم الجهل بالعلم، "إذ لو راقبت الدولة العثمانية حركات العالم الأوروبي،
وجرت معه حيثما جرى في مضمار المدنية والحضارة، وقرنت إلى فتوحاتها المادية القوّة
العلمية، على نحو ما فعلت اليابان – أقلّه - لما كانت ثمّة مسألة شرقية"
(الأفغاني، 1981، ص288- 299). فقد دعا
الأفغاني المسلمين للاستعانة بالعلوم الأوروبية، من أجل التحديث والتطوير؛ فعلى
المسلمين - إذا أرادوا الخروج من كهوف التخلّف - أن يأخذوا من أوروبا ما ينفعهم من
العلوم الحديثة، مع المحافظة على الشخصية الإسلامية، والطبيعة الخاصة المميزة لها.
وقد
حرص الأفغاني في هذا المجال، على تذكير المسلمين المحدثين بأمجادهم الماضية، وهاجم
الجمود والتقليد، واعتبرها عوائق في طريق النهضة ، "لأن الشـرائع تتغيّر بتغيّر
أحوال الأمم" (الأفغاني، 1981، ص281- 288 و
210). فلم يكن هدفه التأكيد على أهميّة العلم، ودوره في نهضة الأوروبيين،
فقط، بل أيضاً إبراز إيجابية تعاليم الإسلام، إذا فهمها المسلمون فهماً صحيحاً،
وتجنيب الإسلام ذلك المصير الذي آلت إليه المسيحية، بسبب موقفها السلبي من العلوم
الحديثة من ناحية؛ علاوة على الوقوف في
وجه التيار المادي، الزاحف من أوروبا، الذي اعتقد أنه يهدّد مستقبل الإسلام،
وعقائده، من ناحية أخرى. لأنه اعتبر الغرب والشرق كائنين تاريخيين متخاصمين:
"إن الغرب يواجه الشرق، وروح الحملات الصليبية لا تزال تجيش في الأفئدة". ونجده يحصـر ما سمّاه (المسألة
الشـرقية)، في أنها "عراك بين الغربي
والشرقي – وقد لبس كلّ منهما لصاحبه درعاً من الدين - فالغربيّ تدرّع بالنصرانيّة،
والشرقيّ بالإسلاميّة. وأهل الديانتين كالآلة الصمّاء بأيدي محرّكيها. فالقائمون
بالنصرانيّة يسخّرون الدين لأجل الدنيا، ويحسنون أمر دنياهم، وما تتطلّبه مظاهر
الحياة. والعاملون بالإسلاميّة يخسرون الدين والدنيا معاً" (الأفغاني (1980)،
ص 209).
إن هذا التصوّر الذي يقدّمه الأفغاني لصراع الشـرق
والغرب، أو أوروبا تحديداً، تصوّر تبسيطي، لا يعي حقيقة الظرف الحضاري الماثل
أمامه، وهو ظرف صار تقدّم أوروبا فيه أمراً حاصلاً، وهو تقدّم كان بكسـر حدود
الدين، لا بالتمسّك برابطته. فيبدو مشـروع الأفغاني يسير باتّجاه معاكس تماماً لاتّجاه
التقدّم الأوربي، ممّا يجعله يحمل في ذاته أسباب فشله.
واجه
الأفغاني في باريس عام 1883، أعنف هجوم شنّه (أرنست رينان) على الإسلام، في
محاضرته الشهيرة في (السوربون)، عن (الإسلام والعلم)، وادّعى فيها أن الإسلام
والعلم لا يتّفقان، وأن الإسلام يعلّم التعصّب الأعمى، واحتقار الأديان الأخرى.
فقال: كلّ إنسان يتمتع بالحدّ الأدنى من الاطّلاع على شؤون العصـر، يرى بوضوح
الدونيّة الحالية للبلدان الإسلامية، والانحطاط الذي يميّز الدول التي يحكمها
الإسلام، والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعليمها إلاّ من هذه
الديانة. (رينان، 2009، ص48)
وقد
عبّر (رينان) عن هذا الرأي لاقتناعه بأن المزج بين حقلين مختلفين تماماً عن بعضهما؛
كحقلي: العقل - الدين، يؤدّي إلى نتائج مفزعة، لأن الدين حين يتعدّى حدوده، يحدّ
من قدرة الإنسان على بلوغ التمدّن عن طريق العلم، وحين يتسلّح بالوحي، الفائق
لقدرة العقل البشري، يجعل هذا الأخير قاصراً عن فهم ذاته، وبلوغ كماله. فالدولة
القائمة على الوحي هي عدوة الرّقي، إنها تخنق العقل البشـري، وتقضـي على التقدّم،
وليس أضرّ بالحريّة من نظام اجتماعي يسيطر فيه الدين على الحياة المدنية. (رينان،
2009، ص48)
لم
يوافق الأفغاني رينان على نقد الدين، فالدين - برأيه - ضرورة من الضـرورات التي
تحرّر الإنسان من الأوهام، وتجعله يعرف معنى وجود الله، والعالم ، وجوده الشخصـي،
والخير والشر، لأنه لا يتمكّن من التمييز بين الخير والشـر بواسطة عقله، أو ضميره،
إنه يتمكّن من خلال الدين فقط in Hourani, Albert (1983), pp.121))، لذلك لا يبدو أن الأفغاني
كان ملحداً، كما يعتقد (خدوري) Kedourie, (1996) ,
pp.312-313))، أو قد شكّ بحقيقة هذا الدين، كما تقول (سيليفيا
حاييم):
‘’ his
skepticism concerning Islam as a religion come out very clearly in the well-
known re joinder he made to Ernest Renan in the journal des Dēbats in 1883 … he
agree with Renan that Islam had sought to arrest scientific activity . But in
this, he said, Islam’s attitude was similar to that of the Christian Church;
the conclusion he was driving at was that very religion could be obscurantist.’’
(Haim,
1962, pp10)
لأنه كان
يرى "أن الدين ...، تتلقاه العقول عن المبشّرين المنذرين، فهو مكسوب لمن لم
يختصّهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ، والدراسة، والتعليم، والتلقين"
(الأفغاني وعبده، 1980، ص 64). الدين، إذن،
هو من الله، يقتصر دور العقل البشـري على تلّقي مبادئه عن الأنبياء، الذين يتلقّونه
بواسطة الوحي. وأمّا الأمم، فعليها أن تكسب المقدرة على فهمه عند تلقّيه، ولا دور
لها في نزوله. ( الأفغاني، وعبده، 1980، ص65).
فتشديد خطاب الأفغاني على
دور الدين، البالغ الأهمية، في موقفه السياسي، يدلّ على أنه لا ينكر أصول الدين
الإسلامي. بل اعتبر من أسباب ضعف المسلمين،
وخضوعهم للاستعمار الأوروبي، هو ابتعادهم عن العقائد الإسلامية.
من
هذا نشأت عنده ضرورة إصلاح عقليّة المسلم، وليس دينه؛ إصلاح حياة المسلمين، السياسية
والاجتماعية، انطلاقاً من إصلاح ذواتهم، ومفاهيمهم الدينية نفسها.. وتغيّر أحوال
المسلمين السياسية، لا بدّ أن يسبقه تغيير أو إصلاح في فهم الناس للعقيدة الدينية
نفسها، حتّى يمكنهم مواجهة الاستعمار الأوروبي، واستيعاب العلوم الحديثة، التي لا تتنافى
مع التعاليم الدينية، إذا ما فهم المسلمون هذه التعاليم فهماً صحيحاً.
الدين ضرورة اجتماعية
دافع الأفغاني عن الإسلام،
والحضارة الإسلامية، في ردوده على (رينان)،
الذي أراد أن يـُعيد سبب تأخّر المسلمين إلى طبيعة الدين
الإسلامي؛ فقد ردّ على رأي (رينان) القائل بأن الديانة الإسلامية كانت لها نشأة
خاصة تناهض العلم، بتســاؤل قال فيه: "أصدر هذا الشـرّ عن الديانة الإسلامية،
أمْ كان منشؤه الصورة التي انتشـرت بها الديانة الإسلامية في العالم؟ أم أن أخلاق
الشعوب التي اعتنقت الإسلام، أو حملت على اعتناقه بالقوّة، وعاداتها، وملكاتها
الطبيعية، هي جميعاً مصدر ذلك؟" (الأفغاني، 1980، ص322)، وأجاب عنه: إن الدين
الإسلامي أصيل غير مزيّف، أو غير منقول عن أيّة شريعة أخرى، وهو صالح لكل زمان
ومكان، لا يحتاج إلى أيّ إصلاح أو تطوير على الإطلاق؛ وقد أخطأ حكماء الإفرنج
عندما اعتبروا أن الشريعة الإسلامية، بأحكامها المتقنة، وإحاطتها التامة
بالمعاملات بين أبناء البشر، وفصلها بين الدعوى في منازعاتهم، يمكن أن تكون نتيجة
تقاليد البداوة، أو هي نسخة من القانون الروماني، أو من صياغة الإيرانيين".
(الأفغاني 1987، ص129 ). وإذا كان هناك من خلل، فإنه يعود إلى الظروف التاريخية لانتشار
الدعوة الإسلامية، أو إلى عادات وأخلاق الشعوب التي اعتنقت الإسلام. وعلى هذا الأساس
دعا المسلمين إلى الابتعاد عن التقليد، لأن محاكاة أقوال السالفين، وأفعالهم، تفسد
الدين والعقل معاً..
“The
door of ijtihad is not closed, and it is a duty as well as a right for men to
apply the principles of the Quran anew to the problems of their time.” Hourani,
1983 pp127)
وعليه، إن رأي (براون) (7Browne,
1910, pp ) بأنّ الأفغاني يعترف
بإمكانيّة قيام دولة فاضلة على أساس العقل البشري، مثلما يمكن قيامها على أساس الشـريعة
الإسلامية، حيث يرى أن الدولة التي تقام على أساس الدين يمكن لها أن تستقرّ أيضاً
في تدبيرها وتنظيمها للمجتمع على أساس العقل، أيْ يمكن الاعتماد على العقل في
استخراج الأحكام الدينية التي توجّه السلوك البشري، رأي ينقصه الدليل. والنظر إلى
خطاب الأفغاني في بنيته الكليّة؛ لأن الأفغاني يرى في الدين الطريق القويم، وسبب (السعادة)
الوحيد، فيقول: "فلم تبق ريبة أن الدين هو السبب الفرد لسعادة الإنسان. فلو
قام الدين على قواعد الأمر الألهي الحقّ، ولم يخالطه شيء من أباطيل من يزعمونه ولا
يعرفونه، فلا ريب أنه سيكون سبباً في السعادة التامة، والنعيم الكامل، ويذهب
بمعتقديه في جواد الكمال الصوري والمعنوي، ويصعد بهم إلى ذروة الفضل الظاهري
والباطني؛ ويرفع أعلام المدنيّة لطلّابها، بل يفيض على المتدينين من ديم الكمال
العقلي والنفسـي، ممّا يظفر بسعادة الدارين". (الأفغاني، ص209).
فيبدو تصوّر الأفغاني في
قطيعة تامة مع اللحظة التاريخية التي يعيشها، ويبدو نظره في تقدّم الغرب نظراً
خارجياً خالياً من فهم سياق الحداثة التاريخية والفكرية. فالإسلام عنده شامل لكل أسباب
التحضّر، وليس تقدّم أوروبا على العالم الإسلامي في أمور الدين، بل في أمور ماديّة
أدّت إلى التفوّق السياسي.
والملفت في خطاب الأفغاني
أنه رغم إقراره بتقدّم أوروبا الماديّ، إلا أنه يصـرّ على أن نهضة الشرق لا تكون إلا
بالعودة إلى الإسلام! فهو لا يؤمن بأن العقل قادر على استنباط
قوانين الطبيعة والحكم على أفعال البشـر؛ فدوره لا يتعدّى استنباط الأحكام من
القرآن والسنّة، ولم تتعدّ التفسيرات الرمزية غير البحث في القرآن
عن الإشارات إلى اكتشافات العلوم الحديثة،
والمؤسسات السياسية الحديثة. (Hourani, Albert (1983): pp.127)
فبالرغم من قدرات العقل، إلا
أنه لم يستطع أن يحلّ محلّ الدين، ولم تستطع الفلسفة أن تنتصر على الدين. وقد ذهبت
(حاييم) إلى أن الأفغاني كان يرى أنه من زمن بعيد نشــأ صراع بين الدوغما وبين
الفكر المنفتح، بين الدين والفلسفة، وأن هذا الصـراع لن يتوقف، كما لن يؤدي إلى
انتصار أيّ منهما، لأن البشر لا يمكنهم الاستغناء والاكتفاء بمدارك العقل.
“Because
reason does no attract the masses and its teaching are understood only by a few
choice spirits, and also because science, however beautiful it is, dos not
wholly satisfy humanity, which is a thirst for an ideal which it like to place
in obscure and distant regions which philosophers and men of science can
neither discern nor explore”
(Haim, (1962), pp.11)
وهكذا، فإن الدين
حاجة بشرية لا يمكن الاستغناء عنها، بل إنه يساعد على خلق مدنيّة إنسانية مزدهرة،
وإذا كانت المدنيّة الأوروبية - كما عبّر عنها (غيزو) في (التحفة الأدبية في تاريخ
تمدّن الممالك الأوربية) - قد أبعدت الدين عن السياسة والتشـريع، وجعلت العقل وحده
الحكم على أفعال الناس وأقوالهم ومواقفهم، والقبول بما ينتجه من قيم ومبادئ
وقوانين ونظم، والعمل بمقتضاها، وأن الإنسان يحكم العالم بأفكاره وعواطفه وطاقاته
الخلقية ( (Hourani, 1983, pp.115، فإن الأفغاني يرى أن المدنيّة
الإسلامية قد رفعت من مكانة العقل، دون أن تنحّي الدين جانباً. وقد كان للأمّة
الإسلامية، في أوج مجدها، الخصائص الضرورية للمدنيّة المزدهرة، ولم يحصل أيّ تعارض
بين الدين والعقل والمدنيّة؛ علاوة على أن الإسلام يحرّر العقل من الأوهام، ويعطيه
دوره الفعّال في إنماء المجتمع وتقدّمه وتمدّنه.
ومن أجل الدفاع عن الدين، وضع الأفغاني أهم وأوسع
كتاب له، وهو (الردّ على الدهريين)، الذي هاجم
فيه من سمّاهم الدهريين، الذين يفسـّرون الكون بدون افتراض وجود الله، ويهدمون أسس
المجتمع الإنساني، وينزلون الناس من على عرش المدنيّة الإنسانيّة إلى حضيض
الحيوانيّة. (الأفغاني 1333هـ، ص 31-39). فالإسلام
عنده - حسب (حوراني)- إيمان بالتعالي، ويشجّع على استعمال العقل بحريّة، لأن
ما يكتشفه العقل بذاته لا يتعارض مع حقائق الإسلام. فالإسلام يعتبر العقل الإنساني
قادراً على معرفة واختبار كل شيء.
لكن (حوراني) ينقد الأفغاني قائلاً:
إذا كان للعقل هكذا قدرة، لماذا الحاجة إذن إلى النبوّة؟ ليبحث عن الجواب في أقوال
الأفغاني، الذي يرى الحاجة بدوره تتمثّل بالوظيفة العمليّة للنبوّة.
لكن نقد (حوراني) من جنس فكر
الأفغاني، بينما المسألة تتعلّق بأن خطاب الأفغاني هذا يعبّر عن العقليّة
الدوغمائيّة القروسطيّة التي تؤمن بوحدة الحقّ، وبوحدة الحقيقة، ومطلقيّتها، والتي
لم تستوعب كلّ الثورة الفكرية لعصر التنوير، وما بعده.
الدين، من وجهة نظر الأفغاني، هو
ضرورة اجتماعية لا غنى عنها، لأنه مصدر المُـثل العليا، ومصدر الإلزام الأخلاقي،
والرادع الحقيقي للجنس البشـري عن ارتكاب الأخطاء والمفاسد والشرور. ومن هنا يأتي
التلازم بين الدين والدنيا، بين الدين والسلطة السياسية.
انبثاق السلطة الوازعة من الشريعة
الإلهية
لقد كان اهتمام الأفغاني كبيراً بجمع المسلمين؛
المتفرّقين في دول وأمم وقوميات مختلفة، تحت راية الإسلام، وتنظيم سلطتهم السياسية
الحاكمة، وتحديد شروطها، وتعيين الحقوق العامة والخاصة، ووضع حدود المعاملات بين
الناس، من خلال الإسلام. فالعقيدة الإسلامية ليست، كأديان أخرى، لا تقتصر على
الجانب الروحي والأخلاقي، ولكنها تشمل الجانب الدنيوي أيضاً.
وفي هذا المعنى كتب الأفغاني
مقالاً، في جورنال (العروة الوثقى)، بعنوان: (الجنسية والديانة الإسلامية)، يحدّد
فيه نظرته إلى الدين الإسلامي، الذي يختلف عن الأديان الأخرى، لأنه دين ودنيا. وممّا
جاء فيه: "لم تكن أصول الدين الإسلامي قاصرة على دعوة الخلق للحقّ، وملاحظة أحوال
النفوس؛ من وجهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى، بل هي
كما كانت كافلة لهذا، جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد، وبيان الحقوق،
كليّها وجزئيّها، وتحديد السلطة الرادعة التي تقوم بتنفيذ المشـروعات، وإقامة
الحدود، وتعيين شروطها، حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشدّ الناس خضوعاً
لها، ولن ينالها بوراثة، ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية أو ثروة مالية،
وإنّما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة، والقدرة على تنفيذها، ورضا الأمّة.
فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الالهية، التي لا تميّز بين جنس
وجنس، واجتماع آراء الأمّة. وليس للوازع أدنى امتياز عنهم إلا بكونه أحرصهم على
حفظ الشـريعة والدفاع عنها". (الأفغاني 1981، ص50).
يتضمّن هذا النص جملة أفكار هامة:
أولاً: لا تقتصر
أصول الدين الإسلامي على التوجيه الروحي والخلقي للناس، الذين يحثّهم على عمل
الخير، والابتعاد عن المنكر، والعيش وفق تعاليمه في هذه الدنيا، تمهيداً لبلوغ
السعادة والنعيم في العالم الآخر. أي إن الهدف النهائي للدين ليس العالم الآخر
فحسب، إنّما تنظيم الحياة الدنيوية، والاهتمام بكل جزئياتها، وتفاصيل العقود
والمعاملات بين الناس. وهذا يعني أن أصول الدين هي التي تعيّن حقوق الأفراد، وتفصل
في الخلافات بينهم، كما أنها تعيّن الحقوق العامة، أي حقوق الجماعة الإسلامية كلّها.
لذلك، وانطلاقاً من هذا النصّ
بالذات، نتساءل عمّا يعتبره الأفغاني (أصول الدين)؟ والأصول هي المبادئ الأساسيّة
التي لا قيام للدين إلا بها، كالقول بوحدانيّة الله، واليوم الآخر، والثواب
والعقاب؛ فهل تنظيم العقود، والمعاملات، وأحكام المحاكمات، في جزئيات الحياة،
يعتبر أصلاً من أصول الدين؟
ثانياً: والأهمّ
من ذلك كلّه أن (أصول الدين) تحدّد السلطة الوازعة في المجتمع، أي الحاكم
والخليفة، وتحدّد له مهامه التي تنحصـر في تنفيذ الأوامر التي حدّدها الشـرع،
فصارت مشروعات، ولا يمكن للحاكم أنْ يحلّل أو يحرّم استنادا إلى أحكام العقل، وحده
الشرع يحدّد المحضورات والمباحات.
ثالثاً: إن أصول
الدين تعيّن شروط قيام السلطة الوازعة، بحيث لا ينالها إلا من كان من أشدّ الناس
خضوعاً للدين وأصوله، ولا يمكن أن ينال الحاكم الوازع السلطة بالوراثة، أو بالقوّة
البدنية، أو الثروة المالية، أو حتى بالامتياز القومي، لأن الشـريعة لا تميّز بين
جنس وآخر.
رابعاً: إن وازع
الإسلام الحقيقي ليس هو الحاكم أو الخليفة، إنما هو شريعتهم المقدسة الإلهيّة. فمن
عمل على تطبيق أحكامها كان مقبولاً، وطاعته واجبة على كلّ المؤمنين. لكنه لا يحدّد
بالضبط هل تجوز الثورة على الحاكم الذي يخالف أحكام الشريعة، أم لا؟
خامساً: ومنعاً
لاختلاف قد يحصل في اختيار الحاكم الوازع، فقد حدّد النصّ شرطاً إضافيّاً لمن يحقّ
له استلام السلطة، وهو إجماع آراء الأمّة، لكن دون أن يحدّد كيفيّة الإجماع، ولا
شروطه.
فيوضّح هذا النصّ بعض الجوانب
الهامة من نظرة الأفغاني إلى الدين الإسلامي، لأنّه - برأيه - يؤلّف نظاماً شاملاً
لكلّ نواحي الحياة الدنيا والآخرة، فيقول: "إن الدين الإسلامي لم تكن تختلف
وجهته عن سائر الأديان إلى الآخرة فقط، ولكن مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في
دنياهم ما يكسبهم السعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح
الشرعي بسعادة الدارين، وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس المتباينة والأمم
المختلفة". (الأفغاني، جمال الدين - 1981، ص 36)
كان الأفغاني يحثّ المسلمين على أن لا
ينسوا ما جاء به دينهم، الذي كانت أحكامه داعية إلى المساواة بين الأجناس
المتباينة والأمم المختلفة. وقد تنبّه إلى ذلك، ورأى أن هناك واقعاً معاشاً
للمسلمين، وهو هذا التفرّق بين أمّته على أساس الجنس، وهو مخالف لما كان يدعو إليه
الإسلام كما يجب أن يكون عليه الواقع، وهو تجاوز رابطة الجنس بين أفراد الأمّة
المسلمة. وقد قال في ذلك الأفغاني: "إن المتديّن بالدين الإسلامي، متى رسخ
فيه اعتقاده، يلهو عن جنسه، وشعبه، ويلتفت عن الروابط الخاصة، إلى العلاقات العامة،
وهي علاقة المعتقد"، وبهذا فإن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم
واعتقادهم. (أبو حمدان، 1989، ص 83)
وعليه، إذا كان الدين الإسلامي قد أتى
بما فيه مصلحة العباد في دنياهم، وإذا كان يساوي في أحكامه بين الأمم المختلفة؛
فما هي النتيجة المترتّبة على الصعيد السياسي؟ هل يعني ذلك إمكانيّة قيام جامعة إسلامية
لهذه الأمم المختلفة؟
حلم الجامعة الإسلامية، وواقع الأمم
والدول:
ركّز الأفغاني في دعوته أن تكون
الجامعة الإسلامية (العروة الوثقى)، ورمز وحدة الأمة، وأن تصبح جبهة سياسية
لمواجهة الغرب، فالمسلمون أمّة واحدة رغم اختلاف أوطانهم وأجناسهم ولغاتهم. وإن
الهدف الأوّل لكل عمل سياسي إسلامي هو
استرداد تلك الوحدة الدينية السياسية الضائعة، لأن بها وحدها يستطيع العالم
الإسلامي الصمود أمام أوروبا، وتحرير أراضيه من سيطرتها، فهي الدعوة إلى التحرّر
الوطني والقومي، لأن الإسلام ليس مجرّد دين فقط، بل أيضاً هويّة قوميّة (عوض 1980، ص 159).
إن هاجس الوحدة بين
المسلمين واضح في خطاب الأفغاني، فقد بان له أن ذاك هو المسلك الوحيد الكفيل
بإرجاع الضائع، وبالوقوف ضدّ الهيمنة الأوروبية المحدقة بالشعوب الإسلامية. Amin, (1948, pp.67))
ولم يجد وسيلة أفضل من الدين يستحثّ بها المسلمين على رفض كل سلطة غريبة عنهم. لأن "دينهم يرسم عليهم أن لا يدينوا لسلطة من يخالفهم، بل الركن الأعظم لدينهم طرح ولاية الأجنبي عنهم، وكشفها عن ديارهم ... [نظراً] لما بينهم من الإخاء المؤزّر بمناطق العقائد، يحسب كل واحد منهم أن سقوط طائفة من بني ملّته تحت سلطة الأجانب، سقوط لنفسه. ذلك إحساس يشعر به وجدانه، ولا يجد عنه مسلّياّ". (الأفغاني، جمال الدين، 1981، ص26). وهذا الشعور بالأخوّة الدينية هو الذي يدفعهم إلى الاتّفاق. "وليس ذلك ببدع منهم، فالاتّفاق من أصول دينهم، {إنّما المؤمنون أخوة}، فيقيمون بالوحدة سدّاً يحول عنهم هذه السيول المتدفّقة من جميع الجوانب" (الأفغاني، 1981، ص 28).
ولم يجد وسيلة أفضل من الدين يستحثّ بها المسلمين على رفض كل سلطة غريبة عنهم. لأن "دينهم يرسم عليهم أن لا يدينوا لسلطة من يخالفهم، بل الركن الأعظم لدينهم طرح ولاية الأجنبي عنهم، وكشفها عن ديارهم ... [نظراً] لما بينهم من الإخاء المؤزّر بمناطق العقائد، يحسب كل واحد منهم أن سقوط طائفة من بني ملّته تحت سلطة الأجانب، سقوط لنفسه. ذلك إحساس يشعر به وجدانه، ولا يجد عنه مسلّياّ". (الأفغاني، جمال الدين، 1981، ص26). وهذا الشعور بالأخوّة الدينية هو الذي يدفعهم إلى الاتّفاق. "وليس ذلك ببدع منهم، فالاتّفاق من أصول دينهم، {إنّما المؤمنون أخوة}، فيقيمون بالوحدة سدّاً يحول عنهم هذه السيول المتدفّقة من جميع الجوانب" (الأفغاني، 1981، ص 28).
وذهبتْ إلى هذا الرأي، أيضاً، (حاييم) في أن الإسلام،
في خطاب الأفغاني، يعدّ عاملاً أساسياً،
حيث يعتبره السند الوحيد الجامع بين المسلمين، فيمكن - بالتالي - توظيفه
كأيديولوجية،
من أجل تحقيق أهدافه السياسية.Haim,
(1962, pp9-10)
إذ كانت الحقول المعرفية
التي يخوض فيها، تفضـي به دائماً إلى السياسة. فـ"أحاديث الأفغاني الفلسفية،
تنقلب - في معظم الحالات - إلى خطب سياسية. فلم يكن يَـشْرع في الكلام عن حريّة الإرادة
الإنسانية، إلا وينتهي الحديث عن الحكم الذاتي". (إسماعيل، 1986، ص 51-53).
فطبقاً لـ(بلاك)، رغم أن
الأفغاني كان يهتم بالفلسفة والعلم الأوروبيين، إلا أنه سرعان ما ينتقل إلى
السياسة، التي تكون هنا تحدّياً للسياسة الأوروبية Black
(2001, pp304).
ولكننا، من جهة أخرى، لا نوافق (بلاك)
على رأيه، حينما يقول إن الأفغاني يمثّل ذروة
الداعين للحداثة، ولكنّه في الوقت نفسه المؤسّس للأصولية الإسلامية. إن هذا الرأي
تنقصة الدقة، ولا يستند إلى دليل، فمقاومة الاستعمار الأوروبي سياسياً، لا تعني أنه
ضد أفكار الحداثة، إذ كان يؤيّد الحكم الدستوري مثلاً، ووجّه نقداً حادّاً للدولة
السلطانية؛ النقد الذي أسّس للأفكار السياسية الإصلاحية التي جاءت بعده، متمثّلة
بالدفاع عن دولة وطنية حديثة. فهناك
قطيعة إبستيمولوجية لا استمرارية بين خطاب الإصلاحية الإسلامية وخطاب الأصولية. Belkeziz , 2009 , pp 41-42 )
لقد أيّد الأفغاني فكرة الخلافة
الإسلامية، حتى يتوحّد المسلمون، وتزداد قوتهم وشوكتهم، ويحصل لهم التغلّب على
سواهم من الأمم. "فالوفاق، والغلب، عمادان قويّان، وركنان شديدان من أركان
الديانة الإسلامية، وفرضان محتومان على من يتمسّك بهما. ومن خالف أمر الله فيما
فرض منهما، عوقب من مقته بالخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة" (الأفغاني،
1981، ص30 -13).
لكن، من جهة أخرى، إذا كان الدين يأمر
بالوحدة للتغلّب، وحفظ الأمم في الوجود، على مقدار حظّها من الوحدة، فكيف يمكن أن
تكون، وأيّ شكل من أشكال الوحدة يمكن تحقيقها بين الأمم والدول التي تدين
بالإسلام؟ وهل بالإمكان قيام سلطة إسلاميّة واحدة؟ لم
يتّخذ الأفغاني في مجال دعوته برنامجاً متكاملاً محدّد المراحل، واضح الأهداف،
"لقد سلك جمال الدين الأفغاني مسلكاً جعل من سلفيّته الإصلاحية حركة (ثورية)،
برغماتية، ظرفيّة، تسترشد بما (أصلح أوّل الأمّة)، دون التسلّح بنظرة مستقبليّة
متعدّدة الأبعاد. فكانت نظرته إلى المستقبل تقف عند مقاومة الاستعمار. أمّا ما
سيخلف الاستعمار، أمّا الوضع الداخلي للأقطار الإسلامية، فلم يكن لديه عنه أيّ تصوّر
واضح - سوى ما عبّر عنه الإمام مالك بـ (ما أصلح أوّل الأمّة) - (الجابري، 2005،
ص31).
وهيمنت على عقليته آليّة
القياس في التوفيق وموازنة الأمور بين الماضي والحاضر، وبين العرب وأوروبا. فأحد
نقاط التناقض في خطاب الأفغاني تعود إلى الصـراع بين رغبته في الاقتباس من الحداثة
الأوروبية، وفي الوقت نفسه الحاجة إلى الحفاظ على الهويّة الإسلاميّة. (Keddie, 1968, pp.43) .
فلا يعبّر خطاب الأفغاني عن
تفكير منطقي ومنظّم في طبيعة وأسباب الأحداث التاريخية التي كانت جارية، إذ لم يكن
أكثر من تعبير عن ردّ فعل ظرفي تجاه تلك الأحداث. (جدعان، 1981، ص163). فنقص
أدواته المنهجية في بناء خطاب إصلاحي يعبّر عن رؤية متماسكة، جعلت هذا الخطاب لا ينتج
إلا خططاً مبسّطة، وحلولاً مثالية، غير قابلة للتطبيق، وهو يتناول مسألة كبيرة الأهميّة،
ومعقّدة، بأسلوب كتابي، أو خطابي، هي قضية الإصلاح والتقدّم.
كان الأفغاني يعرف صعوبة قيام دولة
واحدة لكل المسلمين، لذلك رأى أن مساواة الإسلام في أحكامه بين القوميات المختلفة، لا يجعل منها أمّة واحدة إلا
بالمعنى الديني؛ فلم يتحدّث عن الدولة الإسلامية الواحدة التي تجسّد الهويّة
الجماعية للمسلمين، بل إن جامعة إسلاميّة واحدة تعبّر عن الذات الإسلامية، والهويّة
المميّزة، قد تكون كافية للدلالة على ما هو جامع بينها. فليست الدولة الواحدة شرطاً
لقيام الجامعة الواحدة، إذ يكفي أن يكون هناك نوع من التعاون بين الدول الإسلامية
المتعددة، وأن يعبّر منصب الخلافة عن نوع من السلطة الروحية والرمزية الذي يشدّ
وحدة المسلمين.
أما لماذا لم يجعل الأفغاني الدولة الواحدة شرطاً
لقيام الجامعة الإسلامية، فإن السبب يعود - كما يرى نصّار (نصّار، 1986، ص36) -
إلى النهج التوفيقي الذي طبع خطاب الأفغاني، وحال دون طرح الدولة الإسلامية.
والشعار الذي يختصر أفكاره، من هذه الناحية، هو شعار الجامعة الإسلامية، وهو شعار
توفيقي بامتياز.
لقد استعاض الأفغاني عن فكرة
الدولة الإسلامية بـ (الجامعة الإسلامية)، لأنه كان يطمح إلى جمع كلمة المسلمين في
الشكل الممكن. وعندما كان يستعمل مصطلح (الأمّة الإسلامية)، لم يقصد به أمّة واحدة
تلغي وجود الأمم الأخرى، أو تهيمن عليها، وتحلّ محلّها. فإلى جانب (الأمّة
الإسلاميّة) كانت ترد، عنده، "فكرة الأمّة تارة بالمعنى الديني، وطوراً بأحد
المعاني اللادينية المتداولة. وترد تحت قلمه، إلى جانب عبارة الأمّة الإسلامية،
عبارات: الأمّة العربية، والأمّة الإيرانية، أو الفارسية، والأمّة الإنجليزية، وأمّة
الروس". (نصار، 1986، ص40).
لكن الرابطة الدينية تشكّل - بنظر
الأفغاني - أقوى الروابط العقائدية، التي تفوق رابطة القومية. وبهذا المعنى يقول:
"إن المتديّن بالدين الإسلامي، متى رسخ فيه اعتقاده، يلهو عن جنسه، وشعبه،
ويلتفت عن الرابطة الخاصة، إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقد".
(الأفغاني، 1981، ص35). فالرابطة الإسلامية التي دعا إليها الأفغاني، لا تعني أن
ترتفع الحدود الوطنية؛ بل هدفه أن يستقلّ كلّ بلد إسلامي بذاته، مع انتماء الكلّ
إلى هيكل إسلامي كبير.
لكن يتّضح أن مشـروع الأفغاني كان
يرنو إلى إحياء بقايا الأمبراطورية العثمانية، واستمرار نظام الولايات كأجزاء
منها. ونرى أن هذا المشـروع قد تمسّك بالشأن العقدي، واعتبره طريقاً للنهوض.
بين الرابطة الدينية والرابطة
القومية
رغم اعتراف الأفغاني بوجود الرابطة
القومية، إلا أنه يصـرّ على وجود رابطة أقوى، هي الرابطة الملـيّة، التي تتجاوز كل
الروابط والعصبيات، فإن رابطة المسلمين "المليّة أقوى من روابط الجنس،
واللغة". (الأفغاني، 1981، ص 341). ويشير هذا النصّ إلى العوامل التي يمكن أن
تشكّل رابطة بين الناس، ومنها: رابطة
القومية، ورابطة اللغة، ولكن الرابطة الدينية أهمّها على الإطلاق، ولم يذكر
رابطة الدولة الواحدة، كعامل من العوامل الجامعة التي تعطي الشعوب الخاضعة لها ميّزات
خاصة.
لقد تحدّث الأفغاني عن الرابطة
القومية: "إن الأمّة المؤلّفة من أفراد يختلفون في المشارب، وتربطهم روابط
الاجتماع والقومية، وتلحمهم وحدة اللغة والأصل والوطن، ويطيعون شريعة واحدة...
وتحكمهم سياسة واحدة، وحكومة واحدة - هذه الأمّة تكون رمزاً لسعادة الفرد".
(الأفغاني، 1985، ص32). فالتعصّب للجنس ينشأ بحكم الحاجة والضرورة في كل أمّة،
واستطلاع أهوائها يثبت، لجليّ النظر ودقيقه، وجود تعصّب للجنس، ونعرة عليه، عند الأغلب
منهم". (الأفغاني، 1981، ص 34). لكن الأفغاني لا يعتبر التعصّب للجنس
"من الوجدانيات الطبيعيّة"، بل "من الملكات العارضة على الأنفس،
ترسمها على ألواحها الضـرورات". وهو أمر يدعو إلى العجب، ويجعلنا نتساءل مع (نصّار):
"لماذا لا تستحقّ هذه الملكات العارضة أن توصف بأنها طبيعية؟ أساسها حاجات
طبيعية، وميول طبيعية، وأسبابها متوفرة في تاريخ اجتماعي طويل، فماذا ينقصها حتى
تكون طبيعية في الإنسان"؟. (نصار، 1986، ص41-43).
الواضح من سياق النص، أن
الأفغاني كان يمهّد للقول بزوال العصبية الجنسية عندما تزول الضرورة التي أدّت إلى
نشوئها، فلو كانت طبيعية لما تغيّرت، أو زالت، "فالطبيعي لا يتغير". ومن
شروط زوال العصبية الجنسية أمران متلازمان، فهو يقول: "الاعتماد على حاكم،
تتصاغر لديه القوى، وتتضاءل لعظمته القدرة، وتخضع لسلطته النفوس بالطبع، وتكون
بالنسبة إليه متساوية الأقدام، وهو مبدأ الكلّ، وقهّار السماوات والأرض، ثم يكون
القائم من قبله بتنفيذ أحكامه مساهماً للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم
الحاكمين، فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى، وأيقنت بمشاركة القيّم على أحكامه
لعامتهم في التضامن لما أمر به، اطمانّت في حفظ الحقّ، ودفع الشـرّ، إلى صاحب هذه
السلطة المقدسة، واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها". (الأفغاني 1981، ص35).
وهذا يعني أن السلطة
الحقيقية، المبطلة لدواعي العصبية الجنسية، هي سلطة الله الذي يمارس سلطته بواسطة أحكامه،
أي شريعته الإلهية المقدّسة، وبواسطة الحاكم أو صاحب السلطة السياسية الذي يجب أن
يكون خاضعا لأحكام الله، حتى تطمئن النفوس لسلطته.
لقد كان الأفغاني يتمنّى زوال العصبية الجنسية، لكن
الواقع التاريخي يثبت أن الرابطة الدينية لم تستطع أن تلغي وجود الرابطة الجنسية
القومية، بل العكس من ذلك تماماً، فإن عدداَ من الدول القومية كانت قائمة في
الواقع التاريخي، قبل وبعد، قيام الروابط الدينية .
لقد عانى الأفغاني، كثيراً، طيلة
حياته، من انحطاط وضعف الدول الإسلامية، ومن تدّخل الدول الأوروبية، وسيطرتها على
دول كبيرة كانت خاضعة لسلطة الدولة العثمانية الإسلامية، وكان يحلم بصدّ هذا
العدوان، وإعادة مجد الدولة الإسلامية (الأفغاني،
1981، ص 38)، أو على الأقلّ الحفاظ على الدولة العثمانية من السقوط؛ لكنّه كان دائماً يصطدم بعقبات من داخل العالم
الإسلامي، ومن الاستعمار الخارجي. وكان لا بدّ، برأيه، من العودة إلى العقيدة
الدينية، ودعوة المسلمين - على اختلاف أقطارهم، وجنسياتهم - إلى رفض أيّ نوع من أنواع
العصبيّات، ما عدا عصبيّتهم الإسلامية.
وما يمكن أن نخلص إليه في هذه المسألة، أن هناك
فرقاً بين تمنيّات الأفغاني، وما هو واقع تاريخي واجتماعي وسياسي. فالواقع
التاريخي، أن العالم الإسلامي هو دول إسلامية، وليس دولة إسلامية واحدة، تخضع
لسلطة سياسية واحدة. وهو يعترف بهذه الحقيقة، حين يقول: "إن من أدرنة [في
تركيا]، إلى بيشاور [في باكستان]، دولاً
إسلاميّة متّصلة الأراضي، متّحدة العقيدة، يجمعهم القرآن... فلو اتّفقوا فليس ذلك
ببدع منهم، فالاتفاق من أصول دينهم، وبالوحدة يقيمون سدّاً يحول عنهم هذه السيول
المتدفقة عليهم من جميع الجوانب". (الأفغاني، 1981، ص28).
إن في هذه المساحات الشاسعة من الأرض
دولاً اسلإمية، وإن كان يجمع بينها القرآن، لكن لا يمكنها أن تشكّل دولة إسلامية
واحدة، يحكمها رئيس واحد. وهذا ما يوضّحه الأفغاني نفسه، لإزالة أيّ التباس، حيث
يقول: "لا ألتمس بقولي هذا [وحدة المسلمين] أن يكون مالك الأمر في الجميع
شخصاً واحداً، فإن هذا ربّما كان عسيراً. ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن،
ووجهة وحدتهم الدين. وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن
حياته بحياته، وبقاءه ببقائه". (الأفغاني ، 1981، ص29).
وما جاء
في هذا النصّ يؤكد قناعته بأن أيّ وحدة يدعو إليها لا يمكن أن تلغي وجود الأمم
المتعددة، والدول المتعددة، وأن أقصى شكل يمكن أن تبلغه الوحدة بينها، هو شكل
الجامعة الدينية التي تسعى لإزالة الخلافات بين الطوائف والمذاهب، وبين الدول
والقوميات التي تدين بالإسلام، وتجعلها تتّفق لمواجهة الخطر الواحد، دون أن تبلغ
مرحلة التوحيد.
وقد برهن الواقع التاريخي أن
الرابطة الدينية غير قادرة على إزالة الرابطة القومية، ولو تمّنى الأفغاني من كل
قلبه وعقله إزالتها، بدليل أن الدولة العثمانية، التي سيطرت
على دول كثيرة، لم تستطع أن تجعلها دولة إسلامية واحدة.
إن مقولة: الإسلام دين
ودولة، لم يستعملها الأفغاني، وإن كان يعتبر أن السلطة الوازعة للمسلمين هي
شريعتهم الإلهية، إنّما استعمل مقولة الدنيا والآخرة، وسعادة الدارين، والمساواة
بين الأجناس المتباينة والأمم المختلفة، عن طريق الدين، أي إقامة جامعة إسلامية،
تكون السلطة السياسية فيها قوية قادرة على مواجهة الأطماع الأوروبية، ووضع قوانين
للدولة مستمدّة من الشريعة الإلهية.
وبناءً عليه، آراء الأفغاني
تشير إلى أنها تعبّر عن حركة سياسية إسلامية تهدف إلى نشـر دعوة إصلاحية إسلامية
على طول العالم الإسلامي، ومقاومة الاستعمار.
وكانت آراؤه متقلّبة حول (الجامعة
الإسلامية)، فهي عنده وحدة المسلمين مرّة، وحكومات إسلاميّة مستقلّة مرّة ثانية.
ومع هذا، فهو مصـرّ في كل الحالات على أن تكون السلطة إسلامية كاملة، لا انفصال
بينها وبين أوضاع الحياة اليومية الحيّة، ولذلك كان أشدّ خصوم العلمانيين المهمّشين
للدين، من وجهة نظره.
يعبّر خطابه عن مقاومته
أشكال الاستعمار الأوروبي، وثقافته المادية الملحدة، والتي تنفي قيمة الروح والدين
بشكل صريح، من وجهة نظره. ومن هنا جاءت محاربته للمذهب الدهري ـ الطبيعي.
ثلاثة مبادئ عليا تحكم خطاب
الأفغاني: أوّلاً: العمل على بعث وتطهير الإسلام، كوسيلة وحيدة لإنهاء حالة
انحطاط الشعوب الإسلامية، والتي ستمكّنها من ربط الاتّصال من جديد بماضيها المجيد؛
وكلّ خطاب الحركة الإصلاحية، ممثّلة في محمد عبده، وتلامذته لاحقاً، ليس إلا بلورة
ودعوة لمبدئه هذا. ثانياً: النضال من أجل تحقيق وحدة المسلمين تحت عنوان
الجامعة الإسلامية، ليستعيد المسلمون حيويّتهم السالفة. فالأفغاني يعتبر الداعي الأوّل
لفكرة الوحدة الإسلامية. ثالثاً: مقاومة مناورات الدول الاستعمارية الأوروبية،
التي تهدف إلى الهيمنة على البلدان الإسلامية.
لم
تسنح الفرصة لجمال الدين الأفغاني لإغناء أفكاره، وتعميق منهجه الإصلاحي، فكان
شديد الانشغال بأفكاره العمليّة (الجامعة الإسلامية)، وهي الرابطة اللازمة لحشد
القوى، رسمياً وشعبياً، للتصدّي للأطماع الغربية، فلم ينتج الكثير من الكتابة
المنظّمة، والمعمّقة. أثار إشكاليّة التأخّر والتقدّم من خلال السؤال: لماذا تقدّمت
الأمم الأوروبية المسيحيّة، وازدادت قوّة، وتأخّر المسلمون؟ فدعا إلى إعادة بناء
نظام الأمّة، وإلى سيادة العدل والحريّة. وقد كان لدعوته الإصلاحية امتدادات عميقة
في الفكر الإسلامي الحديثr
المصادر:
أبو حمدان، سمير، (1989)، الفكر السياسي عند جمال الدين
الأفغاني، مجلة الاجتهاد، العدد 2، بيروت، دار الاجتهاد.
الأفغاني، جمال الدين، (1979)،
الأعمال الكاملة، ج2 ، الكتابات السياسية، تحقيق: محمد عمارة، بيروت، المؤسسة
العربية للدراسات والنشر.
(الأفغاني، جمال الدين: الردّ على الدهريين)،
تحقيق: محمود أبو ريّة، القاهرة، دار الكرنك، ص209 .
الأفغاني، جمال الدين (1333هـ)،
الردّ على الدهريين، مصر، مطبعة الجماليّة،
ص 31-39 .
الأفغاني، جمال الدين (1985)،
سلسلة الأعمال المجهولة، تحقيق وتقديم: علي شلش، لندن، دار رياض نجيب الريس، ص32.
الجابري، محمد عابد (2005)،
في نقد الحاجة إلى الإصلاح، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ص31.
المخزومي، محمد (1980)، خاطرات
جمال الدين الأفغاني، ط1، بيروت، دار
الحقيقة.
الحدّاد،
محمد (2009)، قواعد التنوير، بيروت، دار الطليعة،
ص48.
عوض، لويس (1980)، تاريخ
الفكر المصري الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج2، القاهرة، ص 159.
إسماعيل، عزّ الدين (1986)،
الأفغاني النافخ في نيران الثورة، بيروت، دار العودة، ص 51-53.
جدعان، د. فهمي (1981)، أسس
التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط2، بيروت، المؤسسة العربية
للدراسات والنشر، ص163.
نصّار، نصيف (1986)، تصوّرات الأمّة
المعاصرة، الكويت، ص36.
(al-fghàni, Jamàl al-Dīn
(1903): al-radd ‘ala’L-dhariyyī,
in Hourani, Albert (1983), pp.121)
Kedourie, Elie (1996) ‘’ The Elusive Jamàl
al-Dīn al-fghàni, comment’’,
Muslim World, vol.LIX, n3-4, July- October,
pp.312-313)
Hourani, Albert (1983): Arabic Thought in the
Liberal Age, Cambridge, Cambridge University Press, pp127)
Browne,
E.G (1910): The Persian Revolution, Cambridge, Cambridge university press
Amin, Ahmed (1948): Zu'ama 'al-islah fi al-'asr al-hadith
(leaders of Reform in the Modern Era), Cairo, Maktabat al-Nahda al-Massriyya
Black,
Antony (2001): The History of Islamic Political Thought, From the Prophet to
the Present, Edinburgh, Edinburgh University Press, pp304)
Belkeziz , Abdelilah
(2009) : The State in Contemporary Islamic Thought, London,I.B.Tauris
&Co.Ltd ,
Keddie,
R, Nikki (1968) : An Islamic Response to Imperialism: political writings of
sayyid Jamāl
al-Dīn
al-Afghānī
, Berkeley, University of California press, pp.43 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق