11‏/08‏/2012

الإعلام عبر التَّاريخ 1-2

أيوب حسين ئاميدى
إنَّ "ظاهرة الاتِّصال بين الأفراد والأمم والشُّعوب ظاهرةٌ قديمةٌ قدم الإنسان والأمم" ووجد الإعلام طريقه إلى جميع المجتمعات البشريَّة على الرَّغم من تباين الأزمنة والأمكنة والمستوى المعرفي لها، ذلك لأنَّ الإنسان على مرِّ التَّاريخ 
- ومع الحاجة إلى المأكل والمشرب والمأوى- كان بحاجة إلى التَّعرف على ما حوله من موجودات مختلفة وتسخيرها لأجل الوصول إلى ما يطمح إليه من أهداف، سواء أكانت هذه الموجودات قدرات بشريَّة، أو كونيَّة أو غيرها، وبذل في سبيل ذلك ما أُتيح له من طاقات وسُبل، بذا يمكننا أن نقول بأنَّ الإعلام لم يكن يوماً ما وليد عصر، أو أمة، أو حضارة، أو ثقافة، بل كان ولا يزال حاجةً إنسانيَّةً بحتةً في الإدارة والارتقاء نحو الأفضل، ولا يمكن للإنسان أنْ يستغني عنه يوماً ما.
كما واعتبرت الأُمم الإعلام من صمَّامات الأمان التي تحافظ بها على كيانها ووجودها وتحميه من الزَّوال، فهو عندها الحصن المنيع لأفكار الأُمة ومبادئها والحائل دون الاختراق الخارجي والغزو الفكريِّ لها، حيث أنَّ الأمم التي اختفت من الأنظار ولم يبقَ لها أثرٌ لم تختفِ لانقطاع نسلها ولا لموت أبنائها في إبادات جماعية، وإنّما اختفت لعدم قدرتها على الحفاظ على مبادئها ومعتقداتها أمام الهجمات الفكرية والإعلامية الخارجية التي أعجزتها عن الصُّمود لضعفها في ميادين الدفاع والمقاومة المطلوبة، فلا زال نسلُهم باقياً وفي ازدياد مستمر وأحفادهم موجودون ومنعَّمون ولكن بأسماءٍ ومسميَّات جديدة، وثيابٍ حاكتها أيادٍ غريبةٍ عنهم، بعد أن حبَّب إليهم الإعلام لِبسها، ففقدوا المبادئ وتنازلوا عن الهويَّة، فضاع المجد الذي بناه أجدادهم وغدوا أذناباً تابعةً لأمم أُخرى بعد أنْ كانوا سادة يقودون ويحكمون.

الإعلام في العصور القديمة
بدأ الإعلام مسيرته في المجتمعات البدائيَّة، بالاعتماد على الوسائل الفطريَّة البسيطة المتمثلة في القول والاستماع، حيث "كانت محادثة النَّاس مع بعضهم أول شكل من أشكال الإعلام والاتِّصال، وكانت وسائل الإعلام إذ ذاك لا تتجاوز الفم والأُذن،" ثم تطوَّرت الوسائل إلى دقِّ الطُّبول، والمزامير، وإشعال النِّيران في المرتفعات، والمناداة منها وفي السَّاحات العامَّة، واستمرَّ التَّطور فيها إلى أن وصل إلى ما نراه عليه الآن من قوةٍ في العرض وفعاليَّةٍ في التَّأثير. لقد تمثَّل الإعلام في المجتمعات البدائيَّة القديمة في عدَّة صور، من أبرزها ما يلي:
صورة "الدَّيدبان أو المراقب، الذي يتولَّى عمليَّة المراقبة من فوق قمم الجبال، وإنذار عشيرته أو قبيلته بالأخطار المقبلة أو الكوارث التي توشك أن تلحق بها، وإبلاغها بذلك لتأخذ أهبتها لمواجهة العدو والدِّفاع عن نفسها.
صورة الحكيم المُشير، حيث كان من أكبر رجال القبيلة سناً وأكثرهم خبرة وأغزرهم معرفةً بحوادث الأيَّام ومغازيها، والأساطير السَّائدة في البيئة، والمعتقدات والتَّقاليد، وإليه يلجأ أفراد القبيلة للاستشارة وطلب النُّصح.
صورة المعلم المربي، ويتم اختياره من بين أكثر أفراد القبيلة علماً، لكي يقوم بتربية الأطفال وتنشئتهم النَّشأة الاجتماعية الصّالحة" .
صورة متمثِّلة في "محاولات الحكام واهتماماتهم في التَّأثير على أتباعهم عن طريق تزويدهم بما يحببهم فيهم، والمحافظة على استتباب الحكم الدَّاخلي، ونشر السَّلام". 
صورةٌ متمثِّلةٌ في "تبليغ المنشورات والأوامر التي كان يصدرها الحاكم أو السُّلطان" .
وأخيراً في صورة القاصِّ الذي يربِّي النَّفوس ويروح عنها بالقصَّة التي كانت "وسيلة التَّرفيه، وتولاها الرُّواة الذين كانوا يحكون القصص الشَّعبيَّة والأساطير وغيرها". 

الاعلام عند اليونان 
كان الاعلام سائدا في العصور القديمة عند اليونانيين مثلهم في ذلك مثل الأمم الأخرى؛ بل نستطيع أن نعدَّ الأمة اليونانيَّة من الأمم التي سبقت غيرها في هذا المجال حيث يلاحظ ذلك في المظاهر الإعلاميَّة المؤثرة التي كانت سائدة فيها والمتمثلة في ما يلي:
"انتشر فن الخطابة والملاحم الشِّعرية مثل الإلياذة والأوديسة للشَّاعر اليوناني الأعمى هوميروس، والتي تتحدث عن البطولات الحربيَّة لليونانييِّن في حروب طروادة وأثينا في قصائد حماسيَّة تلهب مشاعر الجماهير في الاستبسال والذّود عن الأُمة.
احتوى كتاب الجمهورية الذي وضعه أفلاطون على تعليمات تفصيليَّة حول ما ينبغي أن يقال للأهالي صغارهم وكبارهم على السَّواء في مدينته المثاليَّة، وكان أفلاطون ينظر إلى الخطابة كفن إقناع ضروريٍّ لرجل الدَّولة، يلزم أن يتعلمه ضمن برنامجه في تعلُّم السِّياسة.
الاتصال المباشر مع الجماهير التي تحتشد في الميادين العامَّة فتذاع عليهم الأخبار والمستجدَّات، ويُذكر أنَّ عّدَّاءً إغريقياً قطع ستةً وثلاثين كيلومتراً ركضاً لكي يعلن للشعب الأثيني انتصار جنوده في معركة مارتوان" .
إنَّ "الأسكندر الأكبر كان مؤمناً بأهمية الإعلام والنَّشر وطرق التَّأثير في الجماهير، فكان يجعل في ركابه طائفة من الشُّعراء والخطباء والمفكرين،" كما ومثَّلت "مسرحيات سوفلكيس ويوربيدس وإيسكيلوس شكلاً آخر من أشكال الاتصال الجماهيري بما تقدمه من عروض تراجيديَّة وكوميديَّة وساتيريَّة يستعرض فيها الكاتب الماضي والواقع المعاش وتقاليد المجتمع" .
كان الفيلسوف المعروف أرسطو يهتمُّ بالخطبة وكان يقول:
"إنَّ الخطابة هي القدرة على النظر في كلِّ ما يوصل إلى الإقناع في أية مسألة من المسائل وكان معنياّ بالخطابة والبلاغة، فحدَّد عناصرها واهتم بدراسة الخطيب والجمهور -أي المرسل والمستقبل- كما اهتم بالرِّسالة الاتصاليِّة –الخطبة- وعناصرها وما فيها من حجج وبراهين للتَّأثير على نفوس وعقول الجماهير المستمعة". 

الاعلام عند الرُّومان
لم يكن الرومانيون أقل حظاً من الآخرين في ممارسة النشاط الإعلاميِّ المؤثِّر الذي تمثل في إصدار الصُّحف المختلفة المشارب وفي الإعلام الدِّعائيِّ المهتمِّ بالمجالات الحياتيَّة المتنوعة وغيرهما، ومن أبرز النَّشاطات الإعلاميَّة السائدة ما يلي:
في سنة 59 ق.م كانت الأكتادويرنا Actaduirna (الأحداث اليوميَّة)، نشرات خصِّصت للبلاغات الحكوميَّة- تُعلَّق في روما يوميَّاً في الميادين العامَّة على ما يشبه الملصقات اليوم، وكانت ترفع بعد مرور فترة معقولة من الوقت لكي تُحفظ كوثائق رسميَّة يُرجع إليها بعد ذلك، وكانت تحتوي أخباراً رسميَّةً مثل أخبار المحاكم والبلاط والمراسيم، وأخباراً أخرى خاصَّةً مثل أخبار المواليد والوفيَّات والزِّيجات وغيرها، فغدت بهذا سلفاً للصُّحف بشكلها الحالي. وبجانب ذلك كانت توجد Actasonatns وهي مضبطة لمجلس الشِّيوخ الروماني" .
انتشار الإعلام الرِّياضيِّ والتَّركيز عليه "كوسيلة لصرف أنظار الشَّعب عن المشكلات الحكوميِّة، وتوجيه اهتمامه إلى الأخبار الخاصَّة بالرِّياضة على اختلاف أشكالها، فكان الجمهور الرُّومانيُّ يحتشد في السَّاحات العامَّة لمشاهدة الأبطال الرِّياضيِّين والمصارعين، كما كان يحضر الحفلات التي تُقام لمصارعة الحيوانات المفترسة.
ظهور الدِّعاية التَّبشيريَّة كنوعٍ جديد من الاتصال في الحضارات القديمة، مُمثَّلاً في رسالة المبشرين المسيحييِّن الأوائل، ويُعتبر هذا التَّبشير نوعاً جديداً في تاريخ الدِّعاية الدِّينيَّة، فاليهوديَّة التي سبقت المسيحيَّة لم تكن تعنى بالدِّعاية أو اجتذاب النَّاس إليها، في حين أخذت المسيحيَّة تدعو لنفسها منذ البداية، كما اجتهدت لنشر تعاليم المسيح (عليه السَّلام) واجتذاب أكبر عدد ممكن لاعتناقها" .
انتشار "الدعاية السيّاسيّة في عهد الرومان واليونان باستخدام الرموز، والمباني الضَّخمة ذات الفن المعماريِّ المتميِّز وغيرها" .
"الرَّسائل الإخباريَّة (News letter) التي كانت موجودة في روما القديمة، حيث كان يحرِّرها أُناسٌ تخصَّصوا في جمع الأخبار وصياغتها، وتوصيل هذه الرَّسائل إلى من يقطنون بعيداً عن العواصم والمدن، وظلَّت هذه الرَّسائل الإخباريَّة وسيلة لتبادل المعلومات بين رجال الأعمال والسِّياسة حتى بعد اختراع آلة الطِّباعة.

الاعلام عند الفراعنة 
لقد انتبه الفراعنة في مصر القديمة إلى المكانة العالية للإعلام ودوره في إدارة البلاد وتوجيه العباد فاتخذوه وسيلة في ذلك وأصبح جزءاً من تاريخ مصر القديم واتخذ أشكالا عدَّة تمثل أبرزها في ما يلي:
"كانت في مصر الفرعونيَّة أعيادٌ واحتفالاتٌ دينيَّةٌ تقدَّم فيها عظاتٌ، ومسرحيَّاتٌ، ورقصاتٌ وإخباريَّاتٌ، تستقطب اهتمام النَّاس، وكانت هذه الصُّور تسجَّل على جدران المعابد وأوراق البردى، وكان البعض منها متعلِّقاً بالقوانين وإجراءات التَّقاضي والأحكام والعقوبات، وتناولت أيضاً النَّصائح والإرشادات الخاصَّة بالأسرة وشكل العلاقات داخلها، وتوجيهات تحذِّر الشَّعب من الأمراض الاجتماعيَّة الخطيرة.
يقول المصرلوجي الشَّهير (جيمس برستد _ James breasted) إنَّ المصرييِّن القدماء عرفوا صوراً متقدِّمةً من الإعلام الحربيِّ، فهم لم يشيِّدوا الأهرامات والمعابد الضَّخمة من أجل الاحتفاظ بجثثهم وممارسة الطُّقوس الدّينيَّة فحسب، ولكنَّهم أقاموها ليسطِّروا على جدرانها أمجادهم الحربيَّة وانتصاراتهم في المعارك المختلفة، ويقول أيضاً إنَّ المسلات المصريَّة كانت تمثل إحدى الوسائل الإعلاميَّة، بما كان يُسجل عليها من مفاخر حضاريَّةٍ إلى جوار ما تؤديه من وظيفة دينيَّة. 
يعتبر فكَّ رموز الهيروغليفيَّة المصريَّة بعد الحملة الفرنسيَّة على مصر وحل رموز المسماريَّة الآشوريَّة البابليَّة فتحاً جديداً في تاريخ العالم لأنها كشفتْ عن تقدُّمٍ في فنون الإعلام في الحضارات القديمة التي عرفت الكتابة واعتمدت عليها في الإعلام.
ويقول علماء المصريَّات، إنَّ الفراعنة عرفوا الصَّحافة منذ سبعةٍ وثلاثين قرناً خلت، وكانوا يسجِّلونها على أوراق البردي التي تعتبر بمثابة الصُّحف في عصرنا، فظهرت عندهم صحيفة القصر وكانت صحيفة هزليَّة تسخر من بعض أوضاع المجتمع وتتعرَّض لها بالنَّقد، بل إنَّها كانت تتناول أعمال الملوك والفراعنة الكبار وتناقشها بأسلوب فكاهيٍّ ساخر.
كما أنَّ هناك وثيقة يرجع عهدها إلى سنة )1750 ق.م( تدلُّ على وجود جريدةٍ رسميَّة تنطق بلسان الحكومة ويكتب فيها الوزير (رخمارا) مقالات يبيِّن فيها اتجاهات الحكومة" .
إنَّ "فراعنة مصر كانوا ينشرون أوامرهم في أقاصي الأرض التي يحكمونها، إذ يكتبون مراسيمهم ويرسلونها إلى كل مكانٍ، كما كانوا يأمرون بحفر هذه المراسيم على جدران المعابد ليقرأها النَّاس ويكونوا على علمٍ بها" .

الاعلام على أرض الرافدين وبلاد فارس
لقد كانت بلاد الرافدين وأرض فارس على شاكلة البلاد الأخرى مسرحا للعمليات الإعلاميَّة في العصور القديمة، ولم يصل إلينا الشيء الكثير مما قاموا به من ممارسة للعمل الإعلاميِّ إلا أنَّ القليل الموجود يدل على أنهما كانا يمارسان الإعلام بشكلٍ فعَّال لأنَّنا نستطيع أن نعد الموجود منه إعلاماً متطوراً مرَّ بمراحل متنوعة قبل أن يصل إلى ما هو عليه من النمو والرقي، ومن أبرز المظاهر الإعلاميَّة التي وجدت عن هذه البلاد ما يلي:
"لقد وجد علماء الآثار في العراق نشرات ترجع إلى سنة )1800 ق.م(، ترشد الزُّرَّاع إلى كيفيَّة بذر محاصيلهم وريِّها وعلاجها من الآفات، وتشبه هذه النَّشرات إلى حد كبير النَّشرات التي توجهها وزارات الزِّراعة إلى المزارعين في الدُّول المتقدمة"، 
"يؤكد المؤرخ اليهودي يوسف فلافيوس أنَّه كان للبابلييِّن مؤرخون مكلفون بتسجيل الحوادث شأنهم شأن الصحفييِّن في العالم الحديث، ولقد كان لبابل في العصور القديمة شهرةٌ طيِّبةٌ في مصر الفراعنة وبلغت أوج مجدها في عهد حمورابي عام 210 ق.م الذي تنسب إليه أول صحيفة ظهرت في العالم وهي مجموعة حمورابي للقوانين التي عدها علماء التَّاريخ أول صحيفةٍ لتداول القوانين، مثل صحيفة الوقائع المصريَّة وغيرها من الصُّحف الرَّسميَّة التي تنشر القوانين واللَّوائح والقرارات". 
كذلك بالنسبة للإعلام في بلاد فارسٍ حيث "دلَّت البحوث الأثرية الأخيرة عند أكياتانا عاصمة الميديِّين، على أنَّ الميديِّين ابتدعوا حروفاً هجائيَّةً جديدة تبلغ تسعاً وثلاثين علامةً مسماريةً، وكانوا يستخدمون هذه الحروف في كتابة اللُّغة الفارسيَّة على القطع الفخّاريَّة، كما استخدموها أيضاً كلِّما أرادوا أنْ يسجِّلوا وقائع إعلاميَّةٍ على المباني الحجريَّة" .

في العدد القادم نتحدث عن الاعلام في العصر الحديث ان شاء الله.

هناك 6 تعليقات:

  1. حقيقيه كلام جميل

    ردحذف
  2. هذا مقال رائع جدا أصاب فيه صاحبه كبد الحقيقة، وهو بلا شك مقدمة لمقالات أخرى في المجال الإعلامي، نظرا لما يمتسيه هذا الحقل المعرفي من أهمية بالغة؛ إن على مستوى الطرح التاريخي والكرونولوجي أو على مستوى ارتباط الإعلام بكل مناحي حياة الإنسان. فأنا صراحة أهنأ الأستاذ الباحث أيوب حسين ئاميدي على تقديمه لهذا العرض العمي الممتاز، وهنيئا لنا نحن القراء لننهل ونغترف، ولفريق المجلة وافر الشكر والثناء.
    محمد نصيحي ihican@yahoo.fr
    طالب باحث في الحوار الديني والثقافي
    كلية الآداب والعلوم الإنسانية
    جامعة السلطان مولاي سليمان/المغرب

    ردحذف
  3. يا سلام انه جميل للغاية

    ردحذف
  4. مقال جميل

    ردحذف
  5. اعلام ولا اروع

    ردحذف