أيوب حسين ئاميدى
إنَّ "ظاهرة الاتِّصال بين الأفراد والأمم والشُّعوب ظاهرةٌ قديمةٌ قدم الإنسان والأمم" ووجد الإعلام طريقه إلى جميع المجتمعات البشريَّة على الرَّغم من تباين الأزمنة والأمكنة والمستوى المعرفي لها، ذلك لأنَّ الإنسان على مرِّ التَّاريخ - ومع الحاجة إلى المأكل والمشرب والمأوى- كان بحاجة إلى التَّعرف على ما حوله من موجودات مختلفة..
وتسخيرها لأجل الوصول إلى ما يطمح إليه من أهداف، سواء أكانت هذه الموجودات قدرات بشريَّة، أو كونيَّة أو غيرها، وبذل في سبيل ذلك ما أُتيح له من طاقات وسُبل، بذا يمكننا أن نقول بأنَّ الإعلام لم يكن يوماً ما وليد عصر، أو أمة، أو حضارة، أو ثقافة، بل كان ولا يزال حاجةً إنسانيَّةً بحتةً في الإدارة والارتقاء نحو الأفضل، ولا يمكن للإنسان أنْ يستغني عنه يوماً ما.
كما واعتبرت الأُمم الإعلام من صمَّامات الأمان التي تحافظ بها على كيانها ووجودها وتحميه من الزَّوال، فهو عندها الحصن المنيع لأفكار الأُمة ومبادئها والحائل دون الاختراق الخارجي والغزو الفكريِّ لها، حيث أنَّ الأمم التي اختفت من الأنظار ولم يبقَ لها أثرٌ لم تختفِ لانقطاع نسلها ولا لموت أبنائها في إبادات جماعية، وإنّما اختفت لعدم قدرتها على الحفاظ على مبادئها ومعتقداتها أمام الهجمات الفكرية والإعلامية الخارجية التي أعجزتها عن الصُّمود لضعفها في ميادين الدفاع والمقاومة المطلوبة، فلا زال نسلُهم باقياً وفي ازدياد مستمر وأحفادهم موجودون ومنعَّمون ولكن بأسماءٍ ومسميَّات جديدة، وثيابٍ حاكتها أيادٍ غريبةٍ عنهم، بعد أن حبَّب إليهم الإعلام لِبسها، ففقدوا المبادئ وتنازلوا عن الهويَّة، فضاع المجد الذي بناه أجدادهم وغدوا أذناباً تابعةً لأمم أُخرى بعد أنْ كانوا سادة يقودون ويحكمون.
الإعلام في العصور القديمة
بدأ الإعلام مسيرته في المجتمعات البدائيَّة، بالاعتماد على الوسائل الفطريَّة البسيطة المتمثلة في القول والاستماع، حيث "كانت محادثة النَّاس مع بعضهم أول شكل من أشكال الإعلام والاتِّصال، وكانت وسائل الإعلام إذ ذاك لا تتجاوز الفم والأُذن،" ثم تطوَّرت الوسائل إلى دقِّ الطُّبول، والمزامير، وإشعال النِّيران في المرتفعات، والمناداة منها وفي السَّاحات العامَّة، واستمرَّ التَّطور فيها إلى أن وصل إلى ما نراه عليه الآن من قوةٍ في العرض وفعاليَّةٍ في التَّأثير. لقد تمثَّل الإعلام في المجتمعات البدائيَّة القديمة في عدَّة صور، من أبرزها ما يلي:
صورة "الدَّيدبان أو المراقب، الذي يتولَّى عمليَّة المراقبة من فوق قمم الجبال، وإنذار عشيرته أو قبيلته بالأخطار المقبلة أو الكوارث التي توشك أن تلحق بها، وإبلاغها بذلك لتأخذ أهبتها لمواجهة العدو والدِّفاع عن نفسها.
صورة الحكيم المُشير، حيث كان من أكبر رجال القبيلة سناً وأكثرهم خبرة وأغزرهم معرفةً بحوادث الأيَّام ومغازيها، والأساطير السَّائدة في البيئة، والمعتقدات والتَّقاليد، وإليه يلجأ أفراد القبيلة للاستشارة وطلب النُّصح.
صورة المعلم المربي، ويتم اختياره من بين أكثر أفراد القبيلة علماً، لكي يقوم بتربية الأطفال وتنشئتهم النَّشأة الاجتماعية الصّالحة" .
صورة متمثِّلة في "محاولات الحكام واهتماماتهم في التَّأثير على أتباعهم عن طريق تزويدهم بما يحببهم فيهم، والمحافظة على استتباب الحكم الدَّاخلي، ونشر السَّلام".
صورةٌ متمثِّلةٌ في "تبليغ المنشورات والأوامر التي كان يصدرها الحاكم أو السُّلطان" .
وأخيراً في صورة القاصِّ الذي يربِّي النَّفوس ويروح عنها بالقصَّة التي كانت "وسيلة التَّرفيه، وتولاها الرُّواة الذين كانوا يحكون القصص الشَّعبيَّة والأساطير وغيرها".
الاعلام عند اليونان
كان الاعلام سائدا في العصور القديمة عند اليونانيين مثلهم في ذلك مثل الأمم الأخرى؛ بل نستطيع أن نعدَّ الأمة اليونانيَّة من الأمم التي سبقت غيرها في هذا المجال حيث يلاحظ ذلك في المظاهر الإعلاميَّة المؤثرة التي كانت سائدة فيها والمتمثلة في ما يلي:
"انتشر فن الخطابة والملاحم الشِّعرية مثل الإلياذة والأوديسة للشَّاعر اليوناني الأعمى هوميروس، والتي تتحدث عن البطولات الحربيَّة لليونانييِّن في حروب طروادة وأثينا في قصائد حماسيَّة تلهب مشاعر الجماهير في الاستبسال والذّود عن الأُمة.
احتوى كتاب الجمهورية الذي وضعه أفلاطون على تعليمات تفصيليَّة حول ما ينبغي أن يقال للأهالي صغارهم وكبارهم على السَّواء في مدينته المثاليَّة، وكان أفلاطون ينظر إلى الخطابة كفن إقناع ضروريٍّ لرجل الدَّولة، يلزم أن يتعلمه ضمن برنامجه في تعلُّم السِّياسة.
الاتصال المباشر مع الجماهير التي تحتشد في الميادين العامَّة فتذاع عليهم الأخبار والمستجدَّات، ويُذكر أنَّ عّدَّاءً إغريقياً قطع ستةً وثلاثين كيلومتراً ركضاً لكي يعلن للشعب الأثيني انتصار جنوده في معركة مارتوان" .
إنَّ "الأسكندر الأكبر كان مؤمناً بأهمية الإعلام والنَّشر وطرق التَّأثير في الجماهير، فكان يجعل في ركابه طائفة من الشُّعراء والخطباء والمفكرين،" كما ومثَّلت "مسرحيات سوفلكيس ويوربيدس وإيسكيلوس شكلاً آخر من أشكال الاتصال الجماهيري بما تقدمه من عروض تراجيديَّة وكوميديَّة وساتيريَّة يستعرض فيها الكاتب الماضي والواقع المعاش وتقاليد المجتمع" .
كان الفيلسوف المعروف أرسطو يهتمُّ بالخطبة وكان يقول:
"إنَّ الخطابة هي القدرة على النظر في كلِّ ما يوصل إلى الإقناع في أية مسألة من المسائل وكان معنياّ بالخطابة والبلاغة، فحدَّد عناصرها واهتم بدراسة الخطيب والجمهور -أي المرسل والمستقبل- كما اهتم بالرِّسالة الاتصاليِّة –الخطبة- وعناصرها وما فيها من حجج وبراهين للتَّأثير على نفوس وعقول الجماهير المستمعة".
الاعلام عند الرُّومان
لم يكن الرومانيون أقل حظاً من الآخرين في ممارسة النشاط الإعلاميِّ المؤثِّر الذي تمثل في إصدار الصُّحف المختلفة المشارب وفي الإعلام الدِّعائيِّ المهتمِّ بالمجالات الحياتيَّة المتنوعة وغيرهما، ومن أبرز النَّشاطات الإعلاميَّة السائدة ما يلي:
في سنة 59 ق.م كانت الأكتادويرنا Actaduirna (الأحداث اليوميَّة)، نشرات خصِّصت للبلاغات الحكوميَّة- تُعلَّق في روما يوميَّاً في الميادين العامَّة على ما يشبه الملصقات اليوم، وكانت ترفع بعد مرور فترة معقولة من الوقت لكي تُحفظ كوثائق رسميَّة يُرجع إليها بعد ذلك، وكانت تحتوي أخباراً رسميَّةً مثل أخبار المحاكم والبلاط والمراسيم، وأخباراً أخرى خاصَّةً مثل أخبار المواليد والوفيَّات والزِّيجات وغيرها، فغدت بهذا سلفاً للصُّحف بشكلها الحالي. وبجانب ذلك كانت توجد Actasonatns وهي مضبطة لمجلس الشِّيوخ الروماني" .
انتشار الإعلام الرِّياضيِّ والتَّركيز عليه "كوسيلة لصرف أنظار الشَّعب عن المشكلات الحكوميِّة، وتوجيه اهتمامه إلى الأخبار الخاصَّة بالرِّياضة على اختلاف أشكالها، فكان الجمهور الرُّومانيُّ يحتشد في السَّاحات العامَّة لمشاهدة الأبطال الرِّياضيِّين والمصارعين، كما كان يحضر الحفلات التي تُقام لمصارعة الحيوانات المفترسة.
ظهور الدِّعاية التَّبشيريَّة كنوعٍ جديد من الاتصال في الحضارات القديمة، مُمثَّلاً في رسالة المبشرين المسيحييِّن الأوائل، ويُعتبر هذا التَّبشير نوعاً جديداً في تاريخ الدِّعاية الدِّينيَّة، فاليهوديَّة التي سبقت المسيحيَّة لم تكن تعنى بالدِّعاية أو اجتذاب النَّاس إليها، في حين أخذت المسيحيَّة تدعو لنفسها منذ البداية، كما اجتهدت لنشر تعاليم المسيح (عليه السَّلام) واجتذاب أكبر عدد ممكن لاعتناقها" .
انتشار "الدعاية السيّاسيّة في عهد الرومان واليونان باستخدام الرموز، والمباني الضَّخمة ذات الفن المعماريِّ المتميِّز وغيرها" .
"الرَّسائل الإخباريَّة (News letter) التي كانت موجودة في روما القديمة، حيث كان يحرِّرها أُناسٌ تخصَّصوا في جمع الأخبار وصياغتها، وتوصيل هذه الرَّسائل إلى من يقطنون بعيداً عن العواصم والمدن، وظلَّت هذه الرَّسائل الإخباريَّة وسيلة لتبادل المعلومات بين رجال الأعمال والسِّياسة حتى بعد اختراع آلة الطِّباعة.
الاعلام عند الفراعنة
لقد انتبه الفراعنة في مصر القديمة إلى المكانة العالية للإعلام ودوره في إدارة البلاد وتوجيه العباد فاتخذوه وسيلة في ذلك وأصبح جزءاً من تاريخ مصر القديم واتخذ أشكالا عدَّة تمثل أبرزها في ما يلي:
"كانت في مصر الفرعونيَّة أعيادٌ واحتفالاتٌ دينيَّةٌ تقدَّم فيها عظاتٌ، ومسرحيَّاتٌ، ورقصاتٌ وإخباريَّاتٌ، تستقطب اهتمام النَّاس، وكانت هذه الصُّور تسجَّل على جدران المعابد وأوراق البردى، وكان البعض منها متعلِّقاً بالقوانين وإجراءات التَّقاضي والأحكام والعقوبات، وتناولت أيضاً النَّصائح والإرشادات الخاصَّة بالأسرة وشكل العلاقات داخلها، وتوجيهات تحذِّر الشَّعب من الأمراض الاجتماعيَّة الخطيرة.
يقول المصرلوجي الشَّهير (جيمس برستد _ James breasted) إنَّ المصرييِّن القدماء عرفوا صوراً متقدِّمةً من الإعلام الحربيِّ، فهم لم يشيِّدوا الأهرامات والمعابد الضَّخمة من أجل الاحتفاظ بجثثهم وممارسة الطُّقوس الدّينيَّة فحسب، ولكنَّهم أقاموها ليسطِّروا على جدرانها أمجادهم الحربيَّة وانتصاراتهم في المعارك المختلفة، ويقول أيضاً إنَّ المسلات المصريَّة كانت تمثل إحدى الوسائل الإعلاميَّة، بما كان يُسجل عليها من مفاخر حضاريَّةٍ إلى جوار ما تؤديه من وظيفة دينيَّة.
يعتبر فكَّ رموز الهيروغليفيَّة المصريَّة بعد الحملة الفرنسيَّة على مصر وحل رموز المسماريَّة الآشوريَّة البابليَّة فتحاً جديداً في تاريخ العالم لأنها كشفتْ عن تقدُّمٍ في فنون الإعلام في الحضارات القديمة التي عرفت الكتابة واعتمدت عليها في الإعلام.
ويقول علماء المصريَّات، إنَّ الفراعنة عرفوا الصَّحافة منذ سبعةٍ وثلاثين قرناً خلت، وكانوا يسجِّلونها على أوراق البردي التي تعتبر بمثابة الصُّحف في عصرنا، فظهرت عندهم صحيفة القصر وكانت صحيفة هزليَّة تسخر من بعض أوضاع المجتمع وتتعرَّض لها بالنَّقد، بل إنَّها كانت تتناول أعمال الملوك والفراعنة الكبار وتناقشها بأسلوب فكاهيٍّ ساخر.
كما أنَّ هناك وثيقة يرجع عهدها إلى سنة )1750 ق.م( تدلُّ على وجود جريدةٍ رسميَّة تنطق بلسان الحكومة ويكتب فيها الوزير (رخمارا) مقالات يبيِّن فيها اتجاهات الحكومة" .
إنَّ "فراعنة مصر كانوا ينشرون أوامرهم في أقاصي الأرض التي يحكمونها، إذ يكتبون مراسيمهم ويرسلونها إلى كل مكانٍ، كما كانوا يأمرون بحفر هذه المراسيم على جدران المعابد ليقرأها النَّاس ويكونوا على علمٍ بها" .
الاعلام على أرض الرافدين وبلاد فارس
لقد كانت بلاد الرافدين وأرض فارس على شاكلة البلاد الأخرى مسرحا للعمليات الإعلاميَّة في العصور القديمة، ولم يصل إلينا الشيء الكثير مما قاموا به من ممارسة للعمل الإعلاميِّ إلا أنَّ القليل الموجود يدل على أنهما كانا يمارسان الإعلام بشكلٍ فعَّال لأنَّنا نستطيع أن نعد الموجود منه إعلاماً متطوراً مرَّ بمراحل متنوعة قبل أن يصل إلى ما هو عليه من النمو والرقي، ومن أبرز المظاهر الإعلاميَّة التي وجدت عن هذه البلاد ما يلي:
"لقد وجد علماء الآثار في العراق نشرات ترجع إلى سنة )1800 ق.م(، ترشد الزُّرَّاع إلى كيفيَّة بذر محاصيلهم وريِّها وعلاجها من الآفات، وتشبه هذه النَّشرات إلى حد كبير النَّشرات التي توجهها وزارات الزِّراعة إلى المزارعين في الدُّول المتقدمة"،
"يؤكد المؤرخ اليهودي يوسف فلافيوس أنَّه كان للبابلييِّن مؤرخون مكلفون بتسجيل الحوادث شأنهم شأن الصحفييِّن في العالم الحديث، ولقد كان لبابل في العصور القديمة شهرةٌ طيِّبةٌ في مصر الفراعنة وبلغت أوج مجدها في عهد حمورابي عام 210 ق.م الذي تنسب إليه أول صحيفة ظهرت في العالم وهي مجموعة حمورابي للقوانين التي عدها علماء التَّاريخ أول صحيفةٍ لتداول القوانين، مثل صحيفة الوقائع المصريَّة وغيرها من الصُّحف الرَّسميَّة التي تنشر القوانين واللَّوائح والقرارات".
كذلك بالنسبة للإعلام في بلاد فارسٍ حيث "دلَّت البحوث الأثرية الأخيرة عند أكياتانا عاصمة الميديِّين، على أنَّ الميديِّين ابتدعوا حروفاً هجائيَّةً جديدة تبلغ تسعاً وثلاثين علامةً مسماريةً، وكانوا يستخدمون هذه الحروف في كتابة اللُّغة الفارسيَّة على القطع الفخّاريَّة، كما استخدموها أيضاً كلِّما أرادوا أنْ يسجِّلوا وقائع إعلاميَّةٍ على المباني الحجريَّة" .
الإعلام في العصر الحديث
يجدر بنا الاهتمام بالإعلام اليوم وبدوره العظيم وأهميَّته في إدارة دفَّة الحياة نحو المناحي المتنوِّعة، إذ لا يغيب عن أذهاننا قدرته على التأثير والتوجيه في مجريات الأحداث السَّاخنة على السَّاحة العالميَّة على الرَّغم من سعة المساحة التي يشغلها، ضمن عملياتِ تخليةٍ وتحليةٍ للنُّفوس الإنسانيَّة وما تحمل من أفكارٍ، فبمجرد مناورات ومُؤثِراتٍ إعلاميَّةٍ محدودةٍ، إذا به يُجبر الناس على تصديق ما يذيعه من أنباء، وإن لم تكن معبرة عن حقيقة الأمر، وعلى الإيمان بما يبديه من آراء وإن كانت بعيدة عن الصَّواب، أو منصبَّةً في غير صالح المستقبِل ومستقبَل أمَّته، إنَّه السِّحر الإعلاميُّ _ إن صح التَّعبير_ الذي جعل من العالم كرةً زجاجيَّة صغيرة في يد غول يقلب فيها كيف يشاء، لقد "أصبح المستمع والمُشاهد يعتمد على أجهزة الإعلام ليس فقط في نقل الخبر، وإنّما في نقل المعلومات الثَّقافية، وفي تلقي التَّوجيهات والإرشادات في كافّة المجالات، حتَّى في التَّسلية والإمتاع بل أصبحت التَّسلية نفسها تُستغلُّ كقوالب فنِّيةٍ جذّابةٍ لنقل بعض الأفكار وغرس العادات والتقاليد وتعليم الكثير من المعلومات، وذلك كالتّمثيلية الإذاعية وبعض الرُّسوم والكاريكاتير في الصُّحف والمجلات،" وغيرها من البرامج التَّرفيهيَّة التي تبث في وسائل الإعلام المتنوعة.
لقد رافق الإعلام الإنسان وحافظ على كيانه في كل زمان ومكان، وبوسائل تنسجم مع طبيعة وقدرات المجتمع الذي يعيش فيه، إلا أنَّه ازدهر في القرون الأخيرة ازدهاراً ملحوظاً، حيث تحوَّل الإعلام فيها من الإعلام البدائيٍّ البسيط إلى الإعلام المتحضِّر المؤثر، ومن الإعلام المساند للقرارات الصادرة من قبل السلطات إلى الإعلام المؤثِّر على إصدار القرارات، من خلال الضَّغط على السُّلطات والحكومات وإجبارها على ذلك، وإلى الإعلام الموجه للجماهير المُستقبلة له بفعل القدرات العجيبة التي يمتلكها، ومن إعلام محدود بحدود محدَّدة إلى إعلام عالميٍّ أُمميٍّ لا تقدر الحدود المرسومة على إعاقة مسيرته ومخاطبته لشعوب العالم أجمع، كل هذا بفعل التَّطورات الهائلة في الوسائل والأساليب والتَّقنيات الحديثة.
الإعلام المقروء (الصَّحافة):
يعتبر الإعلام المقروء المتمثِّل في الصَّحافة من الوسائل الإعلامية القديمة، مع وجود خلاف بين المؤرخين في أصل نشأتها، حيث "يرى فريق من المؤرخين أنَّ الصَّحافة نشأت عند المصرييِّن القدماء والرُّومان لأنَّهم كانوا ينقشون الأخبار على الحجارة ويكتبونها بلغتهم على ورق البردي، ولذلك يرجع البعض باستعمال الإعلام المكتوب إلى الفراعنة، ويرى البعض الآخر "أنَّ أقدم جريدةٍ صدرت في العالم هي جريدة (كين بان) الصِّينيَّة التي صدرت عام 911 قبل الميلاد" .
ويرى فريق آخر من المؤرخين أنَّ الصَّحافة قد ظهرت في القرن الخامس عشر بعد أن اخترع يوحنا جوتنبرج الطِّباعة بالحروف المعدنية المتفرقة" ، والظَّاهر أنَّ الصَّحافة عند الصِّينيين والفراعنة والرومانييِّن وإن لم تكن على شاكلة الصَّحافة في العصر الحديث، إلا أنّها كانت تتمتَّع بقدر من مقومات الصُّحف، مقارنة بما جاء في قانون نقابة الصحفيين في مصر رقم 76 لسنة 1970م وفي المادّة 74 في تعريف الصَّحيفة حيث نصَّت على أنَّ الصَّحيفة يُقصد بها (الصُّحف، والمجلات، وسائر المطبوعات التي تصدر باسم واحد، وبصفة دوريَّة)، وكذلك قانون تنظيم الصَّحافة في مصر رقم 156 لسنة 1960م وتناولت المادة الأولى منه تعريف الصَّحيفة بأنها (الجرائد، والمجلات، وسائر المطبوعات التي تصدر باسم واحد وبصفة دورية)، "أمّا نظام المطبوعات السُّعودي فهو يعرف الصَّحيفة على أنَّها كلُّ مطبوعة دوريةٍ يتكرَّر صدورها في مواعيد محدَّدة كالصُّحف والمجلات والنّشرات،" ، وقد كانت هناك جريدة (كين بان) الصِّينية، وفي العهد الفرعوني صحيفة (القصر) التي كانت تكتب على أوراق البردي، وفي العهد الروماني صحيفة (الأحداث اليوميَّة- Actadiurna) التي يمكننا أن نطلق عليها اسم الصَّحيفة، وبذلك يتبيَّن رجحان رأي الفريق الأول من المؤرخين في أنَّ أصل الصَّحافة ونشأتها يعود إلى عهد المصريين القدماء في إصدارهم لصحيفة القصر.
إنَّ "أول قفزة للإعلام الكتابيِّ هي اكتشاف المطبعة، ففي سنة 1436م قام جوتنبرغ باختراع الطباعة بالحروف المعدنية المنفصلة"، حيث أصبحت عملية الطبع والنَّشر أسهل من ذي قبل، إلا أنَّ الاستفادة من المطابع في بداية الأمر ظلت محدودة ولم تكن بالمستوى المطلوب، وذلك لأنَّ "مردود المؤسَّسات الطِّباعيَّة كان قليلاً نظراً للتَّكلفة الباهظة، فلجأ أصحاب هذه المؤسَّسات إلى تغذية فضول النَّاس، وذلك بنشر أخبار الأحداث السِّياسيَّة الكبرى، ثمَّ نشر الأفكار والنَّزعات النَّاشئة عن النَّهضة والإصلاح الدينيِّ، وفي بداية القرن السَّابع عشر ولدت فكرة جمع الأخبار، وقام أصحاب المطابع بطبع النَّشرات الإخباريَّة، وظهرت أول صحيفة في أنفرس ببلجيكا قام بها أبراهام فيوهوتن في تلك المدينة، وظهرت ستراسبورغ سنة 1606م إحدى أوائل الصُّحف في فرنسا ثمَّ صحيفة الأغازيت سنة 1631م)."
ومن أوائل الصحف التي ظهرت في العالم بالمعنى الحديث ما يلي:
في أمريكا ظهرت الصّحافة في 25/9/1960م بنشرة اسمها (الوقائع الهامّة الخارجية والمحلية).
في ألمانيا صدرت أول جريدة مطبوعة سنة 1507م.
في إيطاليا صدرت أول جريدة مطبوعة سنة 1566م.
في هولندا صدرت أول جريدة مطبوعة سنة 1616م.
في إنجلترا صدرت أول جريدة مطبوعة سنة 1622م.
في السُّويد صدرت أول جريدة مطبوعة سنة 1624م.
في فرنسا صدرت أول جريدة مطبوعة سنة 1631م.
أمَّا في البلاد العربية فقد كانت أوائل الصُّحف الصَّادرة فيها ما يلي:
تعتبر مصر أول دولة عرفت الصَّحافة في البلاد العربيَّة وأول صحيفة أصدرت فيها هي صحيفة (كورييه دي يلجبت) باللُّغة الفرنسيَّة من قبل الفرنسييِّن المستعمرين في 29/8/1798م، ثمَّ أعقبتها بعد رحيل الفرنسييِّن بسنوات جريدة (الوقائع المصريَّة) سنة 1827م.
وأول صحيفة صادرة في لبنان كانت لخليل الخوري سنة 1858م، وهي أول صحيفة عربية يصدرها مواطن عربي، أمَّا أول مجلَّة لبنانيَّة فكانت مجلة (النَّشرة الشَّهريَّة) التي أصدرها يوسف السّلفون سنة 1866م.
أول صحيفة سوريَّة كان اسمها (سوريَّة)، أصدرها الوالي العثمانيِّ في دمشق سنة 1865م، التي كانت تحرَّر باللغتين العربيَّة والتُّركيَّة، وبعدها بسنتين صدرت صحيفة رسميَّة ثانيَّة باسم (غدير الفرات) بأمر من الوالي العثمانيِّ في حلب.
وفي العراق أمر الوالي العثمانيِّ مدحت باشا بإصدار صحيفة (الزَّوراء) الرَّسميَّة في بغداد سنة 1869م، وكانت أسبوعيَّة تحرَّر باللغتين العربيَّة والتُّركيَّة، وفي سنة 1885م أصدر العثمانيُّون جريدة (الموصل) الرَّسميَّة في الموصل، وبعدها بعشر سنوات صحيفة (البصرة) في البصرة.
وفي فلسطين فقد صدر الدستور العثمانيُّ سنة 1908م، فنقل أحد الصحفييِّن الفلسطينييِّن صحيفته (النَّفير) من الأسكندرية إلى القدس، ثمَّ إلى حيفا، ثمَّ إلى يافا.
أمَّا اليمن فقد عرفت هذه البلاد الطِّباعة والصَّحافة منذ سنة 1877، وقد أمر السُّلطان عبدالحميد في مدينة صنعاء بإنشاء أول مطبعة، وكانت تطبع جريدة (صنعاء) الأسبوعية باللغة العربيَّة والتُّركية، وبعد استقلال اليمن صدرت صحيفة (الإيمان)، ثمَّ مجلة (الحكمة اليمانيَّة)، وبعد ثورة 16/9/1962م وإعلان الجمهورية في اليمن صدرت صحفٌ جديدة مثل (الأخبار اليوميَّة)، و(الثَّورة)، و(الجمهوريَّة).
وفي السعوديِّة جلبت ولاية الحجاز سنة 1882 مطبعة لتطبع عليها صحيفة (الحجاز)، ولمَّا صدر الدستور العثماني سنة 1908 نشر بعض الحجازييِّن صحفاً في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، ثمَّ أصدر الشَّريف حسين في سنة 1916م صحيفة (القبلة) بعد إعلان الثَّورة العربيَّة خلال الحرب العالميَّة الأولى.
وفي الجزائر أُصدرت صحيفة (المبشِّر) سنة 1847م.
وفي تونس أُصدرت صحيفة (الرّائد التونسي) سنة 1860م.
وفي ليبيا أُصدرت صحيفة (طرابلس الغرب) سنة 1866م.
وفي مراكش أُصدرت صحيفة (المغرب) سنة 1889م.
وفي السّودان أُصدرت صحيفة (الغازيتة السُّودانيَّة) سنة 1889م.
وفي الحجاز أُصدرت صحيفة (الحجاز) سنة 1908م.
وفي الكويت أُصدرت مجلة (الكويت) سنة 1928 .
في العدد القادم نكمل مع الاعلام المسموع والاعلام المرئي ودورهما في الاعلام الحديث.
الهوامش
1- الأسطل، علي رضوان، 1984م، الوفود في العهد المكيِّ وأثرها الإعلاميُّ، ط1، الأردن، مكتبة المنار: ص63.
2- أبو هلاله، يوسف محي الدين، 1987م، الإعلام نشأته، أساليبه، وسائله، ما يؤثر فيه، ط1، عمان – الأردن، مكتب الرِّسالة الحديثة: ص7.
3- شرف، عبدالعزيز وآخرون، د.ت: ص22.
4- أبو هلاله، يوسف محي الدين، 1987م: ص8.
5- عبد الحليم، محي الدين، 2006م: ص15.
6- نجيب، عمارة: ص23.
7- أبو هلاله، يوسف محي الدين: ص9-10.
8- عبد الحليم، محي الدين: ص16.
9- شرف، عبدالعزيز وآخرون: ص24.
10- شرف، عبدالعزيز وآخرون: ص25.
11- هناك من يرى أنّ أصل صحيفة "الأحداث اليومية" كانت صحيفة "الأحداث العامَّة" التي اُلغيت فحلت محلها صحيفة "الأحداث اليوميَّة" كما جاء في كتاب، الإعلام نشأته، أساليبه، وسائله، ما يؤثر فيه، للدكتور يوسف محي الدين ابو هلالة، ص9.
12- نجيب، عمارة: ص24.
13- شرف، عبدالعزيز وآخرون: ص26.
14- بدر، احمد، د.ت، الإعلام الدولي- دراسات في الاتِّصال والدِّعاية الدَّوليَّة، ط4، القاهرة-مصر، دار قباء للطَّبع والنَّشر: ص14.
15- شرف، عبدالعزيز وآخرون: ص23 - 24.
16- أبو هلاله، يوسف محي الدين: ص8.
17- عبد الحليم، محي الدِّين: ص16.
18- عبدالله، صابر محمود، 2009م، الإعلام والصَّحافة، ط1، أربيل- العراق، مطبعة وزارة الثقافة في إقليم كوردستان: ص54
19- شرف، عبدالعزيز وآخرون: ص26.
20- كحيل، عبدالوهَّاب، 1985م: ص67.
21 -مروة، أديب، 1961، الصَّحافة العربية نشأتها وتطورها، ط1، بيروت – لبنان، دار مكتبة الحياة: ص54.
22- الدُّميري، مصطفى، 1987م، الصَّحافة في ضوء الإسلام، دط، مكة المكرَّمة- السعوديَّة، مكتبة الطَّالب الجامعي: ص34.
23- لدُّميري، مصطفى، 1987م: ص30.
24- أبو زيد، فاروق، 1986م، مدخل إلى علم الصَّحافة، دط، ، القاهرة – مصر، عالم الكتب: ص39.
25- أبو هلاله، يوسف محي الدين، 1987م: ص14.
26- ذهب الدكتور يوسف محي الدّين أبو هلالة إلى أنَّ جريدة (لاغازيت) كانت أول نشرةٍ صحافيَّة صورت في العالم بعد اكتشاف المطبعة. انظر إلى كتابه: الإعلام، نشأته، أساليبه، وسائله، ما يؤثر فيه: ص15.
27- الفتياني، تيسير محجوب، ـ1987م، مقومات رجل الإعلام الإسلاميِّ، ط1، عمان–الأردن، دار عمار: ص79-80.
28- الدُّميري، مصطفى: ص34-40.
29- نوار، عبدالعزيز سليمان وآخرون، 1999م، التَّاريخ الأوربي الحديث من عصر النَّهضة إلى نهاية الحرب العالميَّة الأولى، دط، القاهرة- مصر، دار الفكر العربي: ص11.
30- إجلال خليفة، 1980م، الوسيلة الصُّحفية، د.ط، المطبعة الفنية الحديثة، : ص47- ص48.
31- بدر، أحمد، د.ت: ص16.
32- أبو هلاله، يوسف محي الدِّين: ص15.
33- خليفة، إجلال، د.ت: ص49.
34- بدر، أحمد: ص17.
35- الجدولين مأخوذين من: الأُمم المتَّحدة - المكتب الإقليمي للدُّول العربية، تقرير التَّنميَّة الإنسانيَة العربيَّة للعام 2003،دط، عمان- أردن، طباعة المطبعة الوطنيَّة: ص193- ص194.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق