سالم
الحاج
مفهوم
العصيان السياسي
(العصيان
السياسي) مصطلح حديث، لم يعرف قديما، ولم يجر ذكره في كتب السياسة، أو الفقه، أو
اللغة، عند القدماء. وهو مصطلح نشأ في (الغرب) الحديث، وانتقل إلينا عن طريق الترجمة.
ومن هنا، فإن الوقوف على أصل هذا المصطلح، ومدلولاته اللغوية، وغيرها، يتطلب النظر
في جذوره الغربية أولا، ثم البحث بعد ذلك في دلالاته في اللغة العربية .
العصيان
السياسي في المصطلح الحديث:
لم
أعثر على تعريف دقيق لهذا المصطلح، في كتب الموسوعات والمعاجم، التي تحت يدي، وهذا
يدل على حداثة هذا المصطلح في الاستعمال السياسي والقانوني.. ولكن هذه الكتب نفسها
تتحدث عن مصطلحات
أخرى، قريبة في المعنى والاستعمال من هذا المصطلح، وذلك مثل:
العصيان المدني، العنف السياسي. مما يجعلنا نعرج أولا على تعريف هذه المصطلحات،
لنستخرج منها، أو من دلالاتها، تعريف (العصيان السياسي)..
تعرف
(موسوعة السياسة) مصطلح (عصيان) كما يلي: هو"حركة مقاومة ضد دولة، أو سلطة،
صاحبة سيادة على أرض العصيان، أو أفراده... والعصيان حالة من السلسلة تتمثل
بالامتناع عن القيام بالأعمال والمهمات، أو عدم السماح للسلطات بممارسة دورها
ومهماتها، كالجباية والأمن والإدارة. . وذلك بهدف الحصول على بعض المطالب أو
المكاسب، من خلال هذه الطريقة السلبية"([1]).
ولكن
هل يشترط في العصيان أن يكون سلبيا بالضرورة ؟.. إن النظر في أشكال العصيان، كما
يعرفها صاحب الموسوعة نفسه، حيث يقول: "وللعصيان أشكال متعددة، فمنها العصيان
المدني، والمسلح، والعسكري، وعصيان العصابات.."([2])، يدلنا على أن العصيان لا يشترط بالضرورة أن يكون سلبيا، فقد يكون
عنيفا ومسلحا، فهو فعل، وليس مجرد امتناع، وخاصة عندما يكون مسلحا، كما في حالة
العصيان العسكري. كما أن حالات (العصيان المدني) أيضا سرعان ما تتطور من الحالة
السلبية إلى الموقف الإيجابي، إذ "يبلغ العصيان مرحلة إيجابية بالامتناع عن
دفع الضرائب، أو بإضراب موظفي الدولة، أو امتناعهم عن تنفيذ القوانين واللوائح
التي تصدرها السلطات "([3]).
وإذا
كان (العصيان العسكري) معناه: "التمرد وعدم الطاعة، أو الهجوم المباشر على
السلطة العسكرية (بما في ذلك البحرية)، من قبل مجموعة أفراد تابعين لتلك
السلطة"([4])، فإن (العصيان المدني)، هو - كما عرفته (موسوعة السياسة):
"عمل، أو سلسلة أعمال، يكون القيام بها عمداً، على سبيل التحدي للسلطات
المدنية، من أجل الوصول إلى هدف معلن.. شكْلٌ من أشكال المقاومة السلبية التي لا
تصل إلى حد العنف، أو التمرد، ولا تقتصر على تظاهرات متفرقة، ومعزولة، يقوم بها
الأفراد، أو الجماعات"([5]). أو هو: "تمرد بين بعض المواطنين المدنيين، ضد السلطة
الحاكمة، وطنية كانت أو محتلة، ويشمل هؤلاء: أفراد الجمهور، والموظفين العموميين.
فمن ثم يتميز العصيان المدني عن العصيان العسكري، الذي هو تمرد قد يبلغ مبلغ
الثورة، بين أفراد القوات المسلحة، والذي يعتبر جناية كبرى، يعاقب مقترفها
بالإعدام"([6]) .
أما
(قاموس الفكر السياسي)، فيعرف واضعوه (العصيان المدني) بقولهم: إنه "عصيان
متعمد للقانون، لأسباب دينية، أو أخلاقية، أو سياسية. والعصيان المدني يقتضي، في
أضيق معانيه، أن لا يحترم قانون ظالم، ولكن المصطلح يستعمل، أيضا، للدلالة على
معارضة لسياسة، أوعلى الضغوط من أجل الحصول على إصلاح سياسي، عندما تعبر عن نفسها
في عدم احترام القانون"([7]).
ومن
هذه التعريفات نخلص إلى القول بأن (العصيان المدني) هو: امتناع بعض، أو عامة
المواطنين، عن طاعة أوامر وقوانين السلطة، بأساليب بعيدة عن العنف، ولكنها مؤثرة،
وقوية، تعبرعن نفسها على شكل امتناع عن طاعة القانون الظالم، أو عدم احترامه،
والضغط من أجل الحصول على إصلاح سياسي.. ولكنها من الممكن أن تتطور، وتشكل مقدمات
مقاومة كلية للنظام القائم، أو تؤدي إلى أشكال عنيفة من الاحتجاج أو التمرد([8]).. ومن أشكال
العصيان المدني، التي يذكرها صاحب (موسوعة السياسة): الامتناع عن دفع الضرائب، أو
الامتناع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، أو حملة صيام ومقاطعة شاملة (مثال: غاندي
في الهند)([9]). ومن الأشكال
الأخرى: مقاطعة
الوارادات الأجنبية، ومقاطعة السلع الاحتكارية، أو إضراب موظفي
الدولة، أو امتناعهم عن تنفيذ القوانين واللوائح، والتي تتضمن إهدار حقوق
المواطنين المشروعة، "كما يعتبر من قبيل العصيان المدني، ولاء المواطنين
لحكومة تشكل في المنفى بعيدا عن إقليم الدولة"([10]).
وإذا كان العصيان المدني لونا من ألوان النضال المدني غير العنيف، فإن أشكال
النضال السلمي غير العنيف، وصل بها البعض إلى حوالي مائتي نوع([11])، ومنها في
العصر الحاضر مايسميه البعض بـ(العصيان المدني الألكتروني)، وهو" شكل من
أشكال الضغط - غير العنيف -على المؤسسات الحكومية، أو الرسمية، المنخرطة في أعمال
غير أخلاقية، أو غير قانونية، أو تضر بالإنسانية بطريقة أو بأخرى، حيث يمكن من
خلال بيئة إلكترونية، تدويل وحشد وتنظيم وتأليب الرأي العام عالميا"([12]). و"بينما
يقوم المتظاهرون بسد المداخل والمخارج والممرات، لمنع تدفق المسؤولين، يعترض ناشطو
العصيان الإلكتروني التدفق المعلوماتي لمختلف الهيئات، لشلها وتعطيلها، وهو ما
يُحدِث ضغطا ماليا، لا يمكن للتظاهر البشري الذي يجري في الشارع أن يحدثه، حيث إن
تدفق المعلومات ورؤوس الأموال من أهم عناصر الحياة في المجتمعات الرأسمالية"([13]) .
العصيان
المدني والعنف
ذكرنا
أن العصيان المدني، رغم سلميته وعدم استخدامه للسلاح، لا يخلو من ضروب من العنف
والسلوك المؤذي للآخرين. ومن هنا فإنه لا بد من العروج على معنى (العنف)، وأشكاله،
والعلاقة بينه وبين العصيان، وغير ذلك. ورغم أن العنف قديم قدم العالم، إلا أن
الحديث عنه يوشك أن يكون معاصرا([14]). وقد عرف بعضهم
(العنف) بأنه: " كل عمل من أعمال القوة، يخل بما للأشخاص من حرمة مصونة،
لذواتهم، أموالهم، وأعراضهم"([15]). في حين يعرفه
آخرون بأنه: "التسبب بأضرار للآخرين، بالقتل، والتشويه، أوالجرح. ويمكن توسيع
معنى المصطلح إلى التهديد بهذه الأفعال، وإلى كل مايضر معنويا، أو جسديا، بل يمكن
أن يشمل تدمير الممتلكات. وقد امتد بعض الكتاب السياسيين بمفهوم العنف إلى نتائج
الأنظمة السياسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، القمعية، التي تضر بالأشخاص
الذين تحكمهم"([16]). وعرّفه باحث
معاصر بأنه: " كل سلوك – فعلي أو قولي- يتضمن استخداما للقوة، أو تهديدا
باستخدامها، لإلحاق الأذى والضرر بالذات، أو بالآخرين، وإتلاف الممتلكات، لتحقيق
أهداف معينة"([17]).
والعنف
ظاهرة مركبة، كأي ظاهرة بشرية أخرى، لها جوانبها المتعددة، سياسية، أو اجتماعية،
أو اقتصادية، أو ثقافية، "وهي ظاهرة توصف بأنها عامة، وتوجد في كل المجتمعات
بدرجات متفاوتة. والعنف قد يمارسه الفرد ضد نفسه، أو ضد الآخرين، وقد تمارسه جماعة
ضد جماعة أخرى في المجتمع، وقد تمارسه الدولة على المستوى الداخلي، أو
الخارجي"([18]).
فالعنف،
إذن، هو سلوك، يهدف إلى تحقيق أغراض معينة، سواء باستخدام القوة، أو بالتهديد بها،
وسواء كان ذلك للإضرار بالنفس، أو بالآخرين..
ولكن
أين تقع، أو متى تنشأ، علاقة العنف بالسياسة ؟.. من الواضح أن ذلك يرتبط بالغاية،
أو الهدف، من وراء استخدام العنف. فـ" ثمة شبه اتفاق بين أغلب الدارسين
لظاهرة العنف السياسي، على أن العنف يصبح سياسيا عندما تكون الأهداف، أو دوافعه،
سياسية. رغم الاختلاف بينهم في تحديد طبيعة ونوعية هذه الأهداف، وطبيعة القوى
المرتبطة بها... ولذلك فإن أغلب الباحثين والدارسين يعرّفون (العنف السياسي)،
بأنه: استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها، لتحقيق أغراض سياسية "([19]).
إذاً،
فالعنف السياسي هو شكل من أشكال العنف، ولكنه يتميز بكون بواعثه، أو أهدافه،
سياسية. "وعلى الرغم من أن بعض المهتمين قد استخدموا مفهومي: العنف
الاجتماعي، والعنف السياسي، كمترادفين، إلا أن بمفهوم العنف الاجتماعي معنى أشمل
من العنف السياسي، لأن العنف الاجتماعي يحوي كل مظاهر القوة والقمع الذي يطال
الحياة الاجتماعية، الأمر الذي يجعل العنف السياسي أحد مظاهر العنف الاجتماعي،
وليس مرادفا له"([20]).
وبناءا
على ما تقدم نستطيع القول: إن العنف، والعنف السياسي، له أشكال وصور متعددة؛ فهناك
العنف الذي تمارسه الدولة ضد الأفراد، أو الجماعات، وهناك عنف يمارس ضد السلطة،
وأجهزتها، ورجالها، وهناك العنف الذي تمارسه دولة ضد أخرى، وهناك العنف الذي
يمارسه الأفراد، أو الجماعات، ضد بعضهم البعض([21]).
كما أن العنف السياسي، قد يكون منظما (الانقلابات، وعمليات الاغتيال)، أو غير منظم
(أحداث الشغب). وقد يكون فردياً (الاغتيال والاختطاف)، أو جماعياً (المظاهرات
والإضرابات وأحداث الشغب). وقد يكون علنياً (المظاهرات، مثلا)، أو سرّياً
(الاغتيالات، مثلا). وقد تستغرق أعمال العنف فترة طويلة(الحروب)، أو تكون سريعة
ومؤقتة (المظاهرات والاغتيالات)([22]).
العنف
السياسي بين الشرعية والمشروعية
إن
العنف ظاهرة اجتماعية قديمة قدم البشر، وأسبابها عديدة ومتشابكة، وقد حاول
الباحثون وعلماء الاجتماع، في العصر الحديث، دراسة هذه الظاهرة، وقدموا تفسيرات
عديدة لها، وطرحت نظريات مختلفة في هذا الشأن. فهناك مدارس حاولت تنميط السلوك
البشري في مقولات محددة، ووقعت أسيرة للحتميات المختلفة، كالحتمية البيولوجية،
والبيئية، والسايكولوجية.. فمن هؤلاء من يرد السلوك العنفي - والإجرامي، بشكل عام
- إلى الفطرة، ويرى هؤلاء أن العنف سلوك فطري يولد مع الإنسان، كما هي نظرية
(لمبورزو)، التي ترى أن بعض الناس يولدون بخصائص شخصية معينة، تؤهلهم ليكونوا
مجرمين بالفطرة([23]).. أو نظرية
(فرويد)([24])، الذي يذهب إلى
أن الإنسان يولد ومعه غريزتان، هما: غريزة الحب (أو الجنس)، وغريزة العدوان. وبذلك
فالعنف ما هو إلا استجابة طبيعية لتلك الغريزة في داخل الإنسان([25]). ومن الباحثين
من يردها إلى البيئة التي تحيط بالإنسان، فهؤلاء يرون أن العنف سلوك مكتسب. ومن
أبرز نظريات هذه المدرسة، النظرية التي تقول إن العنف يكتسب، أو يتعلم، بالملاحظة.
وجوهرها: أن الإنسان يبدأ، منذ طفولته، بتعلم السلوك العنيف، عن طريق ملاحظة نماذج
العنف، التي يشاهدها في التلفزيون، والسينما، وفي كل مكان من حوله([26]) ..
وفي
الحقيقة، فإن (العنف)، وكأي ظاهرة اجتماعية أخرى، لا يمكن تفسيره في ضوء عامل
واحد، أو حتى بضعة عوامل محددة- كما هو الحال بالنسبة للظواهر الطبيعية-، فهو
ظاهرة بشرية معقدة ومتداخلة.. ولكن الذي يهمنا هنا، هو الإشارة إلى عوامل أخرى
كامنة، غير الذي ركزت عليه المدارس السالفة الذكر، وهي مجموعة من العوامل
والاختلالات الكامنة في الهياكل الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية، للمجتمع، وهي
ما يطلق عليه اسم (وضعية العنف الهيكلي)، أو (العنف الخفي). فهذه الوضعية هي التي
تؤدي إلى وجود الصراعات الاجتماعية الممتدة، وهي صراعات تضرب بجذورها في عمق
البناء الاجتماعي، والتكوين الثقافي للمجتمعات، ولها علاقة وثيقة بظهور العنف
السلوكي، عند الأفراد والجماعات([27]).. ولعل
المتابعة الدقيقة لحركة المجتمعات، وظهور حركات المعارضة، واندلاع الثورات، تؤكد
وجود علاقة قوية بين الاختلالات الهيكلية سالفة الذكر، وبين تزايد مظاهر (ظاهرة
العنف)، وانتشارها في تلك المجتمعات.. ولعل ذلك هو بعض أسرار ذلك التأكيد الدائم
لوجود العلاقة بين الكفر وبين الفقر، في الأدبيات الإسلامية، انطلاقا من النهج
القرآني الذي يركز على ذم الترف والمترفين، وينهى عن (الإسراف) في كل شيء: [يَا
بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا
تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ](الأعراف:31)،[وَإِذَا أَرَدْنَا
أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً](الاسراء:16). "والآيات
القرآنية، والآحاديث النبوية، في كراهة الترف وتحريمه، متواترة كثيرة بصفة بارزة،
تشعر أنه مِنْ أكرِهِ الحرام إلى الله ورسوله. والإسلام الذي يحض الناس على التمتع
بطيبات الحياة، ويكره أن يحرموها على أنفسهم، وهي لهم حلال، ويدعو إلى جعل الحياة
بهيجة مقبولة، لا قاتمة منبوذة.. هذا الإسلام نفسه يكره السرف والترف، تلك
الكراهية الشديدة العنيفة"([28]) ..
وعلى
الجانب الآخر، فإن الإسلام ينظر إلى الفقر على" أنه خطر على العقيدة، وخطرعلى
الأخلاق، وخطر على سلامة التفكير، وخطر على الأسرة، وعلى المجتمع، وفضلا عن ذلك
فإنه يعتبره بلاء يستعاذ بالله من شره... وقد قرن رسول الله الفقر في تعوذه
بالكفر، وهو شر ما يستعاذ به، دلالة على خطره. فعن أبي بكر مرفوعا: {اللهم إني
أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت}(رواه
أبو داود).."([29]). وهذه المقابلة
بين الترف من جانب، والفقر من جانب آخر، وبينهما وبين الكفر من جانب آخر، هي
مقابلة يقررها الواقع التاريخي لمختلف الحضارات البشرية، وتعترف بها أيضاً علوم
الاجتماع الحديثة. "فالمعدم والمحروم والمقموع، اقتصاديا، وسياسيا، أو فكريا،
كلا أو بعضاً، يناضل ويعمل للذب عن حقوقه، وأصحاب القوة والمصلحة، يجاهدون من أجل
الإبقاء على الوضع الراهن. ويمكننا الاستفادة من النصوص الإسلامية، الواردة في ذم
الفقر والاضطهاد، كمعالم لتحديد الخطوط العامة لهذا النوع من الصراع"([30]). إن وجود الفقر
والحرمان، في قطاعات عديدة من المجتمع، يهيىء الأرضية لنمو بذور (العنف)
و(الجريمة) في المجتمع، كما أنه - كما أسلفنا-، يشكل نوعا من (العنف الخفي)، أو
غير المباشر، الذي يمارس من قبل فئات محددة تجاه قطاعات عريضة من المجتمع([31]).. ومن هنا فإنه
لا يمكن دراسة ظاهرة معقدة مثل العنف، دون الاهتمام بجذوره العميقة، ودوافعه.
فالعنف - كظاهرة اجتماعية بشرية - له جذور وأسباب عديدة، تضرب بعيدا في عمق
التركيبات الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية، للمجتمعات.. ولذلك،
فإنه من الطبيعي أن يجري الحديث عن (السياسة)، كلما طرح موضوع العنف، لأن
"العنف السياسي يمثل جانبا مهما لظاهرة العنف، بمعناها المجتمعي الشامل، ذلك
أن إثارة قضية العنف السياسي، ليس في جوهره إلا طرحا لطبيعة السلطة والدولة في
المجتمع. والارتباط وثيق بين السياسة والعنف، فالسياسة لا تقوم دون عنف، وإن كانت
لا تقتصر عليه"([32]). ذلك أن
السياسة – بما هي نشاط اجتماعي يقوم على تنظيم الأفراد والجماعات، داخل الوحدة
السياسية – فإنها لذلك " تعتمد على القوة في تأمين الاستقرار الداخلي، وضمان
الأمن الخارجي. فالقوة، إذا، تشكل واحدا من أهم المرتكزات التي تقوم عليها
السياسة. والقوة تعني العنف، ولكنه عنف موزون، مبدئيا، ومدعوم بالقانون والأنظمة.
إنه عنف لا بد منه، وتبرره المصلحة العليا للدولة "([33])..
فالعنف الذي تستخدمه الدولة هو عنف مبرر في النهاية، لأنه عنف يستمد شرعيته من
الأنظمة والقوانين، وهو يستمد شرعيته أيضا من قيام الدولة بوظائفها في تأمين
النظام والأمن، وتوفير الحاجات الأساسية للمواطنين، وصيانة التكامل الإقليمي
للدولة. "ولكننا لا نستطيع إغفال أن بعض استعمالات العنف، من قبل الدولة، قد
ينتج عنه الكثير من المشاكل، لأن الدولة، في بعض الأحيان، قد تكون على درجة عالية
من القمع والتفرقة، في استعمالها للعنف وأدواته"([34]).
ومن
هنا ينشأ الافتراق بين المشروعية والشرعية، فإنه إذا كان استعمال الدولة للعنف
أمرا مشروعا في مبتدأ الأمر، أي أنه مطابق للقوانين، وفي إطارها، فإنه قد يفقد صفة
الشرعية في بعض الحالات، أي أنه لا يحوز على الرضا والقبول من قبل المواطنين، إما
لإفراطها في استعمال القوة، أو لسوء استخدامها لها، أو لكونها فاقدة للشرعية أصلا
كنظام سياسي.. ومن هنا، فإن القوانين التي تسبغ على ممارسات النظام صفة المشروعية،
تتحول هي الأخرى، في مثل هذه الحالات، إلى قوانين فاقدة للشرعية، "وبخاصة إذا
كانت صادرة طبقا لإرادة الحاكم، ولا تعبر عن إرادة المحكومين"([35]). "وهنا
يتحول الأمر من مناقشة مشروعية السلوك، إلى مناقشة حجية الأسس والمقومات
القانونية، وغير القانونية، التي يستند إليها"([36]).
أما
العنف الموجه ضد الدولة، أي الذي يقوم به الأفراد، أو الجماعات، ضد السلطة، فإن
البعض يدخله في الإطار العام لتعريف الجريمة، إذ هو سلوك مخالف للقانون، ولا يبرر
وصفه بـ(السياسي) أن يكون خارج الإطار العام للفعل الجرمي. ومن ثم يبقى الأمر أمر
تجريم وعقاب، وخروج على القانون، يعامل بموجب القوانين الجنائية السائدة في
البلاد([37]).
وهناك
اتجاه آخر، يرى أن شرعية استخدام العنف، من قبل المواطنين، تتوقف على طبيعة النظام
السياسي الحاكم؛ ففي ظل النظم التسلطية القهرية، يكون ذلك أمرا مشروعا وشرعيا،
لانعدام وجود القنوات الشرعية المألوفة للمشاركة في السلطة، أو لتغييرها. ولذا
"نرى أن العنف السياسي، في الغالب، هو من الأدوات المهمة - إن لم يكن الأداة
الوحيدة- للتحرر من الظلم والطغيان، في المجتمعات التي تحتكر السلطة والثروة
والسلاح"([38]).
وبالتالي،
فإن من الضروري والمهم، سواء بالنسبة إلى السلطة، أو بالنسبة للأفراد، أو
الجماعات، أن يكون لجوؤها إلى العنف شرعيا، ومشروعا، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة
على الجميع، لأن العنف يجرّ مزيدا من العنف.. فحين يكون العنف شرعيا، فإن من يقع
عليهم فعل العنف، يكونون أكثر تفهما له، وأقدر على التعامل مع آثاره.. ولما كان من
مصلحة الجميع أن يكون استعمال العنف محصورا بجهة واحدة هي الدولة، أو السلطة، فإن
في وجود السلطة، وقوتها، ضمان للأمن واستتباب له، وفي ضعفها، ازدهار للفتنة،
والانفلات الأمني، وكثرة الهرج.. ومن هنا ذهب الكثير من العلماء، في القديم
والحديث، إلى أن وجود السلطة، ولو كانت ظالمة، هو أفضل من عدم وجودها، لأن عدم
وجودها يفتح على الجميع أبواب العنف والفتن([39]).
ويذهب بعض الباحثين، إلى أن نقض حق الدولة في احتكار العنف، هو الخطوة الأولى نحو
السير في طريق الفوضى، التي ستقود الجميع إلى ميادين الحرب الأهلية، أو حرب الكل
ضد الكل. ولقد "برهنت الوقائع أنه حيث غابت الدولة، يغيب الأمن العام، ويحل
مكانه الأمن الخاص"([40])، حيث يتوزع
العنف على الجميع، ولا يسلم من شرره أحد!..
متى
يكون عنف الدولة شرعيا؟
لقد
مر بنا آنفا أن الدولة – بحكم طبيعتها، وفي إطار أدائها لوظائفها- تحتكر حق
استخدام القوة، وقد أصبح هذا الأمر من البديهيات التي لا يختلف عليها علماء
الاجتماع، أو السياسة. ذلك "أن وجود المجتمع، والحاجة إلى تنظيمه، للوصول إلى
تحقيق أهدافه، يقتضي دائما اتخاذ قرارات، ثم تنفيذها، الأمر الذي يتطلب استخدام
القوة حينا، أو التهديد بها أحيانا أخرى. وعليه، فإن الإجبار هو واقعة ملازمة
للحياة الاجتماعية الجمعية"([41]). ولكن التساؤل
الذي يطرح هنا، هو حول طبيعة وحدود العنف الذي تمارسه الدولة، عبر أجهزتها
المختلفة،- وهو العنف الذي يحظى بشرعية مسلم بها، بحكم طبيعة الدولة وآليات عملها-
والفرق بينه وبين العنف الذي يعتبر نوعا من التعسف في استخدام السلطة.. فهل يمكن
التمييز بين المستويين لممارسة العنف؟ ومتى ترتفع الشرعية عن عنف السلطة، فيغدو
عنفا فاقدا للشرعية؟
وبداية
يجب الانتباه إلى أن شرعية العنف، الذي تستعمله السلطة، مرتبط ارتباطا مباشرا
بشرعية السلطة نفسها. فشرعية السلطة "هي التي تخول الدولة استعمال القوة ضد
المخالفين والجانحين والعصاة، ولولا هذه الشرعية لكانت قوة الدولة قوة تعسفية، ولكان
استعمالها غير عادل ولا منصف... وشرعية السلطة هي التي تجعل الأفراد يخضعون
لتعاليم وأوامر الدولة"([42]). ومن البديهي
أن الدول التي "تنهض على أسس شرعية قوية، واعتراف عام من الشعب بحق السيادة،
لا تحتاج إلى استخدام القهر والعنف لتحقيق الامتثال والطاعة"([43]). وعلى العكس
"كلما كانت الحكومة ذات شرعية محدودة، إذ لا يؤيدها الأغلبية المطلقة من
أفراد الشعب، كلما كانت أكثر ميلا إلى استخدام العنف"([44]).
فهي علاقة مطردة إذن بين شرعية السلطة، وبين شرعية العنف الذي تلجأ إليه: كلما وجد
أحدهما، وجد الآخر، وكلما نقص، أو زال، زال الآخر مثله. كما أن هناك "علاقة
عكسية بين السلطة واستخدام القوة، فكلما تطلب النظام السياسي مزيدا من القوة
للحفاظ على مكانته، كلما مال لأن يفقد شرعيته في نظر جمهوره"([45])، ذلك أن
"للشرعية تأثيرا إيجابيا على سلوك السلطة السياسية، فكلما كانت السلطة شرعية،
كلما قل لجوؤها للوسائل القمعية"([46]).
"وعليه فإن السياسة المجدية من قبل الدولة، هي التي تتفادى قدر الإمكان
اللجوء إلى أساليب العنف"([47]). لأن استخدام
القوة والعنف، من جانب السلطة، ليس مشرعا على أبوابه من دون ضوابط، بل هو محكوم
بفكرة الصالح العام، وقد تدفع الدولة من شرعيتها، وقد تغامر باستقرار نظامها
ومجتمعها، إن لجأت إلى العنف، دون حساب لعواقبه. وكلما سارت الدولة باتجاه
المصالحة مع شعبها، وكلما كانت السلطة السياسية قائمة على أساس رضائي، واختيار حر
من الشعب، قلّت احتمالات الصراعات والنزاعات العنفية، وهدأت الأحوال بين السلطة
والشعب، وبين أبناء المجتمع أنفسهم. ذلك أن "كل المجتمعات تنطوي على مقدار
معين من العنف، وذلك إما بسبب عدم تلاحمها أو اندماج عناصرها تماما، أو لسبب سوء
أداء الوظائف التي يقوم بها التنظيم الاجتماعي"([48]).
ومن ثَمّ فإن المجتمعات التي تستطيع أن تتغلب على تناقضاتها، ومكامن العنف فيها،
هي التي تنجح، في النهاية، في الوصول إلى ما يمكن تسميته بالمجتمع الأقل عنفا، أو
الأكثر أمنا. وفي الحقيقة فإن "احتدام النزاعات والحروب في المجتمع الواحد،
أو بين الدولة والمجتمع، ليس من جراء وجود حالات التنوع والانتماءات المتعددة،
وإنما هو من جراء التعاطي مع هذه الحالات بعقلية قسرية وقهرية وتهميشية. ولا شك أن
العنف لا يؤدي إلا إلى مثله، وكذلك القسر والقهر. لذلك فإن استخدام القوة القهرية
يزيد حالات الاحتدام بين المجتمع والدولة معا. فالدولة القهرية لا تصنع سلما
اجتماعيا، وإنما هي تؤسس لنزاعات وحروب عديدة"([49]).
ومن
هنا، فإننا يمكننا القول: بأن هناك خيطا رفيعا يفصل بين العنف الشرعي، وبين التعسف
في استخدام القوة والعنف، من قبل الدولة، أو السلطة. "وإذا كان من الممكن
إجراء مثل هذا التمييز في الدول الديمقراطية المستقرة، التي تتمتع بوجود أطر
قانونية واضحة ومستقرة، تحظى باحترام الحاكم والمحكوم... فإنه من الصعوبة بمكان
التمييز بين المستويين لممارسة العنف، في ظل ظروف سياسية تتسم بشيوع ظاهرة التفرد
والاستبداد بالسلطة.."([50])، وهذا من
الوضوح بمكان، لأن الدولة ذات النظام المستبد، تميل إلى الإسراف في استخدام القوة
والعنف، ولا تحسب حسابا لعواقب ذلك، لأنها لا تخشى المحاسبة أولاً، ولأنها لا تملك
الآليات البديلة لذلك ثانياً.
العصيان،
الدلالات اللغوية
يقول
(ابن منظور)([51]) في (لسان
العرب) في مادة (عصا): "العَصا: العُودُ... وفلان صلب العصا، وصليب العصا،
إذا كان يعنف بالإبل فيضربها بالعصا... ورجل ليّنُ العصا: رَفيقٌ حَسَنُ السياسة
لما يَلِي، يكنّون بذلك عن قِلّة الضرب بالعصا... وعصاهُ بالعصا، فهو يَعْصوهُ
عَصْوا، إذا ضَربَه بالعصا. وعصى بها: أَخَذها... وعَصاهُ العصا: أَعطاهُ
إيّاها... وألقى المسافرُ عَصاهُ: إذا بَلَغَ مَوْضِعه وأَقَامَ ... وقَرَعْته
بالعصا: ضَرَبْته... والعِصْيانُ: خلاف الطّاعةِ. عَصى العبْدُ رَبَّه، إذا خالفَ
أَمْره، وعَصى فُلانٌ أميرَهُ يَعْصيه عِصِيّاً وعِصْياناً ومَعْصية: إذا لمْ
يُطعْه، فهو عاصٍ وعصيّ... ويقال للجماعة إذا خرجت عن طاعة السلطان: قد اسْتَعْصَت
عليه ... والعاصي: الفَصِيلُ، إذا لمْ يَتْبع أُمَّه، لأنَّه كأَنَّه يَعصيها،
وقَدْ عَصى أُمَّه. والعاصي: العِرْقُ الذي لا يَرْقأ. وعِرْقٌ عاصٍ: لا يَنقطعْ
دَمُه"([52]). وذكر
(الأصفهاني)([53]) في (مفرداته)
معان قريبة من ذلك: "يقال: ألقى فلان عصاه، إذا نزل؛ تصوّراً بحالِ مَنْ
عَادَ مِن سَفَرِه، قالَ الشاعرُ: فَأَلقَتْ عصاها، واسْتَقرّتْ بها النّوى.
وعَصَى عِصْياناً: إذا خَرَجَ عنِ الطّاعة، وأَصْلُه أنْ يَتَمنّع بعصاه. قال:
[وعصَى آدمُ ربَّه]، [ومَنْ يَعْص اللهَ ورَسُولَه]، [الآنَ وقدْ عَصيْتَ قبل].
ويقال فيمن فارق الجماعة: فلانٌ شَقَّ العصا"([54]).
نفهم
من العرض السابق، أن المعنى اللغوي المتبادر إلى الذهن من كلمة (العصيان)، هو
الامتناع والشدة والخروج عن الطاعة، وهو المبنى الأساس للكلمة في مدلولها المعاصر.
وقد مر معنا آنفا أن (العصيان)، في المصطلح السياسي الحديث، يأتي بمعنى:
"حركة مقاومة ضد دولة، أو سلطة، صاحبة سيادة على أرض العصيان، أو
أفراده"([55]). وأن (العصيان)
في مثل حركة المقاومة هذه، يتمثل في البداية في سلسلة من عمليات "الامتناع عن
القيام بالأعمال والمهمات، أو عدم السماح للسلطات بممارسة دورها ومهماتها،
كالجباية والأمن والإدارة. وذلك بهدف الحصول على بعض المطالب أو المكاسب، من خلال
هذه الطريقة السلبية"([56]). وخلصنا إلى أن
(العصيان المدني) يمكن إيجاز معانيه بالقول: إنه امتناع بعض، أو عامة المواطنين،
عن طاعة أوامر وقوانين السلطة، بأساليب بعيدة عن العنف، ولكنها جماعية، مؤثرة،
تعبرعن نفسها على شكل امتناع عن طاعة القانون الظالم، أو عدم احترامه، والضغط من
أجل الحصول على إصلاح سياسي.. ويمكن لها أن تتطور، وتشكل مقدمات مقاومة كلية
للنظام القائم، أو تؤدي إلى أشكال عنيفة من الاحتجاج أو التمرد([57]).
وإذا
كان ما تقدم هو معنى (العصيان المدني)، وقد رأينا أنه يمكن أن يتمثل في صور عديدة،
كما أن أسباب قيامه تختلف وتتنوع باختلاف الظروف والأحوال، فإن (العصيان السياسي)
لا يبتعد كثيرا عن هذه المعاني، عدا أنه يختلف عنها في شيء أساسي واحد، هو الغاية
أو الهدف الذي يقوم من أجله هذا العصيان. فالعصيان السياسي يتميز بكون أهدافه
ودوافعه سياسية في المقام الأول، ولا يشترط فيه أن يكون (عصيانا مدنيا)، بل قد
يكون كذلك، وقد يكون عسكريا مسلحا، ولكنه ينضوي تحت اسم (العصيان السياسي)، بناء
على دوافعه وأسبابه([58]). فالعصيان
السياسي إذن هو معنى أشمل من العصيان المدني، وهو يتقاطع معه ولا يستغرقه، فقد
يكون العصيان مدنيا ولا يحمل أهدافا سياسية، وفي المقابل فإن العصيان السياسي لا
يشترط فيه بالضرورة أن يكون مدنيا !. وهكذا فنحن أمام مصطلح يتحدد بدوافعه، وليس
بأشكاله، فإذا كانت دوافع وأهداف العصيان سياسية، فنحن أمام عصيان سياسي، ولا يهم
بعد ذلك أن يكون هذا العصيان مدنيا، أو لا يكون!. ويذهب باحث سياسي معاصر إلى أن
معنى (العصيان السياسي)، هو النقيض لفكرة (الطاعة السياسية)، وهو
يعتبر"العصيان السياسي ومقاومة الطغيان السياسي حقًّا ثابتًا للأمة ككل،
وللرأي العام كحقيقة رقمية، وظاهرة كمية متحركة، والتي تمتلك الحق المطلق في رفض
ومقاومة النظام السياسي... وتغييره لآخر تراه محققا لذلك"([59]).
ومن
جانب آخر، فإنه لا بد من الانتباه إلى أن هناك تمايزا بين مفهومي (العصيان
السياسي) و(المدني)، وبين مجموعة أخرى من المفاهيم، التي قد تتقاطع في بعض جوانبها
معها، ولكنها في النهاية تختلف عنها. وذلك مثل: (العنف السياسي)، و(الصراع
السياسي)، و(الإرهاب السياسي)، وغيرها. فالعنف السياسي، كما رأينا في تعريفه، هو
"استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها، لتحقيق أهداف سياسية"([60])، وبما أن
(العصيان) السياسي أو المدني، هو نوع من أنواع استخدام القوة، أو التهديد
باستخدامها، بغض النظر عن طبيعة وشكل هذه القوة المستخدمة، فهو ولا شك يعتبر نوعا
من (العنف السياسي)، ولكنه ربما كان في أدنى درجاته. وإذا كان هناك من يربط بين
(العصيان)، وبين عدم استخدام العنف والقوة، فإن الأمور – على أرض الواقع - كثيرا
ما لا تسير على هذا الشكل، وغالبا ما يتغلغل العنف أعمال (العصيان المدني)
و(العصيان السياسي)، ومن هنا اعتبرها البعض أشكالا متعددة للعنف([61]). ورأى آخرون
"أن العصيان المدني يمكن أن يشكل مقدمات مقاومة كلية للنظام القائم، أو أن
يؤدي إلى أشكال عنيفة من الاحتجاج أو التمرد"([62]).
أما
(الصراع السياسي)، فهو "التصادم والتعارض بين فريقين، أو أكثر، لديهما من
الاختلافات القيمية والمصلحية، ما يكفي لجعلهما ينخرطان في سلسلة من الأفعال، تهدف
بالدرجة الأولى إلى إلحاق الأذى والضرر بالطرف الآخر"([63]).
فالصراع السياسي هو مفهوم أوسع من مفهوم العنف السياسي، ومن الممكن أن يكون الصراع
عنيفا، أو غير عنيف، إذ أن صور الصراع وآلياته متعددة. "ويعد العنف... إحدى
هذه الآليات في إدارة الصراع وحسمه. وتتوقف شدة الصراع على كمّ وكيف العنف
المستخدم فيه"([64]). وبالمقارنة مع
مفهوم (العصيان السياسي)، فإنه يمكن القول: بأن هذا الأخير هو أحد أشكال الصراع
السياسي، إذ إن العصيان هو في النهاية صراع إرادات وقوى ومصالح، كما أنه يمكن أن
يكون عنيفا أيضا، كما سنرى عند حديثنا عن العصيان السياسي المسلح أو العسكري.
أما
(الإرهاب السياسي)، فهو "سلوك رمزي يقوم على أساس الاستخدام المنظم للعنف، أو
التهديد باستخدامه، بشكل يترتب عليه خلق حالة نفسية، من الخوف والرهبة وعدم الشعور
بالأمان لدى المستهدفين، وذلك لتحقيق أهداف سياسية"([65]).
فالإرهاب والعنف متلازمان، إذاً، كما أن (الإرهاب السياسي) هو شكل من أشكال
(الصراع السياسي) بين الدولة ومعارضيها، أو بين أكثر من دولة، على المستوى
العالمي. ولكن مفهوم (العصيان السياسي) يبقى بعيدا - نوعا ما - عن مفهوم (الإرهاب
السياسي)، دون أن يعني ذلك عدم تداخلهما، فمن الممكن لأعمال العصيان أن تتطور
أحيانا، حتى تصل إلى استعمال أقصى درجات القوة، بما في ذلك ما يدخل تحت مفهوم
(الإرهاب).
صور
العصيان السياسي وأشكاله
إذا
كان (العصيان السياسي)، كما مر معنا آنفا، هو (عصيان) يتميز بدوافعه السياسية، ولا
يشترط فيه بالضرورة أن يكون مدنيا، إذ قد يكون مسلحا أحيانا، ولكنه يحمل أهدافا
ودوافع سياسية. فإننا، وبناء على ذلك، نستطيع القول بأن (العصيان السياسي) نوعان:
عصيان سياسي مدني، وعصيان سياسي مسلح.
أولاً:العصيان
السياسي المدني:
(العصيان
السياسي المدني)، هو ذات (العصيان المدني)، الذي ذكرنا تعاريفه، وتحدثنا عن صوره،
ولكنه أضيق نطاقا منه، إذ إن كل عصيان سياسي مدني، هو (عصيان مدني) بالضرورة، ولكن
ليس كل (عصيان مدني) سياسيا بالضرورة، والفارق أو المميز بينهما هو الأهداف التي
ينطلق كل منهما لتحقيقها. وقد يشتركان في الدوافع، ولكنهما يتمايزان في الأهداف في
النهاية: فالعصيان السياسي المدني أهدافه سياسية بالضرورة، ولكن دوافعه قد تتعدد وتتباين،
فقد تكون دوافعه – فضلا عن الدوافع السياسية- اقتصادية، أو اجتماعية، أو
فكرية(آيديولوجية)، أو غيرها. وهو بذلك يشترك مع (العصيان المدني)، الذي لا تعدو
دوافعه أن تكون شيئا مما ذكرنا، ولكنه يختلف عنه في الأهداف والغايات، التي يسعى
كل منهما لتحقيقها. ففي حين يسعى (العصيان المدني السياسي) إلى تحقيق أهداف سياسية
بالضرورة، فإن (العصيان المدني) لا يشترط فيه ذلك، إذ إن أهدافه مرتبطة ومتداخلة
مع دوافعه، التي تسببت في نشوئه، وآنذاك فإن أهدافه قد تكون اقتصادية، أو
اجتماعية، أو فكرية، بحسب الدافع الذي قام على أساسه.
ويشترك
(العصيان المدني) و(العصيان السياسي المدني) في كون الوسائل التي يستعملانها في
سبيل تحقيق أهدافهما، مدنية، ويختلفان في الأهداف، كما أسلفنا. و(العصيان المدني)
وإن كان قد جاء كمصطلح في مقابل (العصيان العسكري)، ولكن ذلك لا يمنع أن يشترك
العسكريون في (العصيان المدني)، وآنذاك يكون عصيانهم مدنيا، بمعنى أنه يعتمد على
الوسائل المدنية، البعيدة عن العنف([66]). فالوسائل إذاً
هي المميزة لـ(مدنية) العصيان، والأهداف هي التي تميز (غائيته)، أي هل هو عصيان
سياسي أم غيره؟
ومع
ذلك، ومع أن (العصيان السياسي المدني) يتميز بوسائله المدنية، فإن ذلك لا ينفي أن
تتخلله أعمال عنف، أو استخدام لوسائل عنيفة، أو أن يكون مقدمة لأعمال عنيفة([67]). وبذلك فإن هذا
(العصيان) ليس بعيدا عن أعمال العنف، وإن كانت غير مقصودة، أو غير أساسية فيه.
بمعنى أن العصيان السياسي المدني، وإن كان يراد له أن يكون عصيانا (مدنياً)، بعيدا
عن استعمال القوة، أو العنف، ولكن (العصيان) ذاته، والآليات المستعملة فيه، هي في
ذاتها مولّدة للعنف، وفيها نوع من أنواع استخدام القوة، أو التلويح بها. ومن هنا
"كانت إحدى المسائل المركزية غير المحلولة، هي معرفة ما إذا كان هدف العصيان
المدني(= السياسي) التصرف عن طريق الإقناع، أم عن طريق القسر"([68]). ومن هنا أيضا
جاء تكييف العصيان المدني - ومنه: السياسي المدني- على أنه يقع " في منتصف
الطريق بين الصورتين الدستوريتين، صورتي: العمل السياسي، والثورة"([69]).
صور
العصيان السياسي المدني
(العصيان
السياسي المدني) –كما رأينا – يلتقي مع (العصيان المدني) في جوانب عديدة، ويختلفان
في شيء أساسي هام، هو الغاية أو الهدف السياسي الذي يمتاز به الأول. وعلى ذلك، فإن
كل الصور المعروفة للعصيان المدني، هي في الوقت ذاته صور للعصيان السياسي المدني،
ولكنها تمتاز عنها بالهدف الذي تسعى إلى تحقيقه. وقد رأينا أن صور العصيان المدني
عديدة جدا، بحيث تجاوز بها البعض المئات، ومنها: مقاطعة الانتخابات، مقاطعة
المراكز، والمؤسسات، والوظائف الحكومية، الإضراب، المظاهرات، عصيان القوانين التي
يستفيد منها النظام، إقامة مؤسسات اقتصادية بديلة، الإضراب عن الطعام، الصيام
الجماعي كتعبير احتجاجي، الامتناع عن دفع الضرائب، الامتناع عن الالتحاق بالجيش،
إلخ..([70]).
هذه
إذاً، وغيرها، كلها صور لـ(العصيان السياسي المدني)، وهي تشترك جميعا في كونها
وسائل وآليات (مدنية)، تستخدم لتحقيق أهداف سياسية، من قبل مجموعة سياسية، أو حزب،
أو حتى قطاعات من المجتمع، أو نقابات، أو غيرها.
ولكن
هذه الوسائل المدنية لا تعني – كما ألمحنا من قبل – أن الصلة مبتوتة بين (العصيان
السياسي المدني)، وبين العنف والقوة. فالفعل اللاعنيف لا يعني افتقاده للقوة...
"والحقيقة أن هذا الفهم الخاطئ يقوم هو ذاته على تجاهل لطبيعة القوة في
السياسة، وللدور الحاسم الذي تلعبه القوة في الكفاح اللاعنيف"([71]). والمقصود
بـ(القوة) هنا، هو "كل مظاهر النفوذ ووسائل الضغط، بما في ذلك العقوبات
المتاحة لجماعة أو مجتمع معين، والتي يستخدمها للدفاع عن نفسه، ولتطبيق سياساته،
ولإدارة الصراعات الداخلية والدولية... وتستخدم هذه القوة لتمكين الجماعة من تحقيق
هدف معين؛ مثل: تطبيق أو تغيير السياسات، أو إقناع الآخرين بالتصرف على النحو الذي
يريده مالكي(كذا) القوة، مثل إقناعهم بالمشاركة في المعارضة، أو بدعم النظام
القائم وسياساته وعلاقاته، أو لتغيير وتدمير نمط توزيع القوة القائم. وقد تستخدم القوة
لتحقيق خليط من هذه الأهداف"([72]). والحقيقة إن
فلسفة (العصيان المدني) تقوم على انتزاع مكامن القوة التي تعتمد عليها الأنظمة
الحاكمة، في مواجهة الجماهير، والتي تتركز بالدرجة الأساس على مديات الطاعة
والتعاون التي يبديها المحكومون لحكامهم. فمن دون تعاون وطاعة المحكومين، لا يمكن
لأي نظام حاكم أن يستمر في الحكم طويلا. ومن هنا تستمد آليات الصراع المدني
السياسي قوتها وتأثيرها، فهي تعتمد على هدم جدار الطاعة الذي تعتمد عليه الأنظمة.
فعندما تهب قطاعات من الشعب للدفاع عن حقوقها، أو للتصدي لظلم النظام وبطشه،
بالامتناع عن تقديم الطاعة والتعاون، فإنها تصيب النظام في مقتل، وخاصة إذا كانت
مساحة هذا الامتناع كبيرة ومؤثرة. وهكذا فكلما اتسع نطاق العصيان، زادت قوتها،
وحققت أهدافها بسهولة وحسم. "وعندما تنجح الحركة في الاستمرار في عدم التعاون
ورفض الطاعة، في وجه العقوبات التي يفرضها الحاكم، تصبح نهاية النظام على مرمى
البصر. وهكذا يعتمد كل الحكام في مواقفهم، وفي قوتهم السياسية، على تعاون
المحكومين. ويتضح أن النظرية التي تقول إن القوة مستمدة من العنف، وأن النصر حليف
الطرف الذي يستطيع ممارسة أكبر قدر من العنف، هي نظرية خاطئة"([73]).
ثانيا:
العصيان السياسي المسلح:
رأينا
أن (العصيان السياسي) يختلف عن (العصيان المدني)، بأهدافه السياسية، التي يسعى
إليها القائمون على العصيان. ورأينا كذلك أن هذين النوعين من العصيان، وعلى الرغم
من اختلافهما في الأهداف، فإنهما يشتركان في الوسائل التي يعتمدان عليها، وهي
الوسائل المدنية السلمية. أما (العصيان السياسي المسلح)، فإنه يشترك مع (العصيان
السياسي المدني) في الأهداف التي يسعيان إلى تحقيقها، وهي أهداف سياسية في
النهاية، ولكنهما يتمايزان في (الوسائل) التي يلجآن إليها: ففي حين يعتمد (العصيان
السياسي المدني) وسائل مدنية سلمية، كما أسلفنا. فإن (العصيان السياسي المسلح)
يتميز بوسائله الحربية القتالية، وباللجوء إلى القوة والسلاح والصدامات المسلحة
العنيفة، مع جيوش وقوات النظام الحاكم.
ولا
بد من الإشارة إلى أن (العصيان السياسي المسلح)، هو شيء آخر غير (العصيان
العسكري)، على الرغم من اتحادهما في الوسائل المستخدمة فيهما. فـ(العصيان العسكري)
هو "التمرد وعدم الطاعة، أو الهجوم المباشر على السلطة العسكرية (بما في ذلك
البحرية)، من قبل مجموعة أفراد تابعين لتلك السلطة"([74]).
أي أن القائمين عليه هم من (العسكر) أو(الجيش)، ولهم ارتباط وظيفي بالسلطة التي
يقومون ضدها بفعل العصيان. كما أن أهداف القائمين على هذا النوع من العصيان لا
يشترط، أو ليست بالضرورة سياسية، فقد تكون الأهداف محاولة لتحسين الظروف المعيشية،
أو قد تكون أهدافا اجتماعية، أو ثقافية، أو غير ذلك. أما (العصيان السياسي
المسلح)، فهو عصيان يمتاز بأهدافه السياسية بالدرجة الأولى، وهو يشترك مع (العصيان
العسكري) في الوسائل المستخدمة، حيث يعول كليهما على الوسائل الحربية والقتالية
العنيفة في المقام الأول، ولكنه يختلف عنه في أنه لا يشترط في القائمين على
العصيان أن يكونوا من (العسكر، أو الجيش)، بل هم في الغالب من الناس العاديين،
المدنيين، ولكنهم قد لجأوا إلى حمل السلاح، كوسيلة للتغيير ومقاومة النظام، وكطريق
لتحقيق أهدافهم السياسية.
ولا
بد من الإشارة هنا، إلى أن مفهوما تراثياً إسلامياً، مثل (الخروج على الحاكم)،
يتطابق مع مفهوم (العصيان السياسي المسلح)، الذي نتحدث عنه. فـ(الخروج) هو الآخر،
عصيان مسلح، يقوم به طائفة من الناس، كبرت أو صغرت، ويستهدفون تحقيق أهداف سياسية،
في الغالب. كما أن مفهوما إسلاميا مثل (البغي)، هو الآخر، يدخل تحت مسمّى (العصيان
السياسي المسلح)، لأن البغي – كما سنرى فيما يأتي- هو حركة عصيان مسلح، ذات أهداف
سياسية. وقد تحدث فقهاؤنا عن (التأويل) و(الشوكة)، إلى جانب فعل (الخروج) الفعلي،
كشروط أساسية لاعتبار الخروج بغيا. وهذه الشروط هي التي تدفع إلى اعتبار (البغي)
من نوع (العصيان السياسي المسلح)، على اعتبار أن (التأويل) هو الهدف أو الغاية
السياسية من وراء الخروج، وأن (الشوكة) هي استعمال القوة والسلاح. وهل (العصيان
السياسي المسلح) إلا اجتماع هذين: الهدف السياسي، واستعمال القوة والسلاح!؟. أما
مفهوم (الفتنة)، فهو أقرب إلى مفهوم (العنف السياسي) من غيره، وهذا على اعتبار أن
تكون دوافع الفتنة وأسبابها سياسية، وإلا فهي مجرد هرج وفوضى، قد تتداخل مع مفاهيم
أخرى كـ(الحرب الأهلية)، التي تعني: "حالة صراع مسلح يقع بين فريقين أو أكثر،
في أراضي دولة واحدة، نتيجة لنزاعات حادة، وتعذر إيجاد أرضية مشتركة لحلها
بالتدريج، أو بالوسائل السلمية"([75])..
وسنحاول فيما يأتي أن نعرّف بهذه المصطلحات، وغيرها، بشكل مبسط، وبما ينسجم مع
مقاصد هذه الدراسة.
الهوامش:
([12]) سليمان، هشام، عندما يكون
العصيان ألكترونيا، مجلة (ميزوبوتاميا)الألكترونية، دورية موسوعية تعنى بإحياء
الهوية الوطنية، تصدر عن مركز دراسات الأمة العراقية، العدد الرابع، www.mesopotamia4347.com.
([39]) يقول الإمام الجويني في
(الغياثي):"ولو ترك الناس فوضى، لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع...
مع تفنن الآراء، وتفرق الأهواء، لانتشر النظام، وهلك العظام، وتوثبت الطغام
والعوام... وما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن". الجويني، أبو
المعالي عبدالملك بن عبدالله(ت478هـ)، غياث الأمم في التياث الظلم، دار الكتب
العلمية، بيروت، ط2، 2003، ص16.
([51]) ابن منظور، هو: محمد بن
مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي ثم المصري جمال الدين أبو الفضل. ولد سنة
(630هـ). كان عارفا بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة، وعمّر وكبر وحدّث، فأكثروا
عنه. وكان مغرى باختصار كتب الأدب المطولة، اختصر الأغاني والعقد والذخيرة ونشوان
المحاضرة ومفردات ابن البيطار والتواريخ الكبار، وكان لا يمل من ذلك. وخدم في
ديوان الإنشاء طول عمره، وولي قضاء طرابلس. توفي سنة (711هـ).
([53]) هو أبو القاسم الحسين بن
محمد بن الفضل بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني. لم تعرف ولادته. واختلفوا في
تاريخ وفاته، فهو عند البعض سنة (565هـ)، وهو عند المتأخرين سنة (502هـ). منزلته
عظيمة في الثقافة العربية، وبخاصة في ميادين اللغة والأدب والحكمة والتفسير. وله
كتب كثيرة، منها: الذريعة إلى مكارم الشريعة، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين،
تحقيق البيان في تأويل القرآن، وغيرها. واختلفوا في تشيّعه، ومنهم من ذهب إلى أنه
كان من المعتزلة.
([66]) مرسي، د. هشام وآخرين، مقال
(العصيان المدني مقاومة أم احتجاج؟)، موقع: www.taqhier.net (academy
of change).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق