03‏/07‏/2015

حسن المطروشي: لو خيّر الشاعر بين الشعر وبيع الخضار على الرصيف، لاختار الثاني دون تردد.

حاوره: بسام الطعان
هو شاعر ومترجم وصحفي عُماني، دبلوم في مهارات الترجمة (عربي، إنكليزي) مسؤول القسم الثقافي بجريدة الوطن، حاصل على جوائز عدة، ينشر أعماله في الصحف والدوريات العربية. صدر له:
 1ـ فاطمة/ـ مجموعة شعرية.
 2ـ فلينظر الإنسان مم خلق/ دراسة علمية.
 3ـ قسم/ مجموعة شعرية.
 4ـ وحيدا .. كقبر أبي/ مجموعة شعرية.
 5ـ على السفح إيّا/ مجموعة شعرية.

- الشاعر الذي في داخلك، من هو، وماذا يريد؟
** لا أعتقد أن الشاعر قرر أن يكون شاعرا بمحض إرادته هو، وربما لو خير بين الشعر، وبين بيع الخضار على الرصيف، لاختار الثاني دون تردد. ذاك أن طريق الشعر موغل في العذاب والعزلات العظيمة والآلام الكبيرة .. طريق يستدرجك عبر المجاهيل القصية في ممرات الحلم والحنين والأسئلة. لذلك تبقى المسألة بالنسبة للشاعر أنه يكتب النص، ويعيش لذته بمرارتها المتناهية، دون أن يحدد أهدافا كبيرة، أو يرسم انتصارات وهمية في عالم الواقع، كما يقول لورانس داريل: "إن ما ينتظرنا نحن الفنانين، هي تلك التسوية الفرحة، التي نتوصل إليها عن طريق الفن، مع كل ما جرحنا وخذلنا في الحياة اليومية". ولذلك لا أعرف شيئا مما أريد، أكثر مما قاله الشاعر الألماني هولدرلين: "أنا ابن الأرض، خلقت لأحب وأتألم". كل ما أعرفه و أتذكره أنني خرجت ذات تيه من بيت أسرتي، التي تقطن في منطقة ساحلية تدعى (شناص)، في أقاصي الشمال من سلطنة عمان، لأبحث عن ذاتي في المدائن والأرصفة والمطارات البعيدة، وها أنا ذا أقف على حافة الكون، أحمل في قبضتي الكثير من الحنين والحزن والقصائد والفقد.
- صدرت لك حديثا مجموعتك الشعرية الرابعة، التي حملت عنوان (على السفح إيَّا).. هل لك أن تحدثنا عن هذه المجموعة وما تضيفه إلى تجربتك؟
** هذه المجموعة قطرة أخرى من نزيف القلب، تنبجس منها عذابات أكثر من أربع سنوات، منذ صدور مجموعتي الشعرية الثالثة (وحيدا .. كقبر أبي). هذه السنوات الأربع حملت في طياتها كل آلام الحياة وتناقضاها، وخوفها من المجهول.. ففيها أتممت الأربعين، وما أدراك ما سن الأربعين بالنسبة للإنسان.. هذه المرحلة الرهيبة التي طتب عنها كل المبدعين والفلاسفة، وتحدثت عنها الديانات والنبوات.
تلخص قصائد هذه المجموعة تغيرات حياتية ورؤيوية وثقافية وشخصية كثيرة بالنسبة لي. وقد ضمت بين دفتيها 25 نصاً شعرياً، مقسمة على جزئين. جمل الجزء الأول عنوان: (دفتر الملاك)، وهو يحتوي على القصيدة الطويلة. أما الجزء الثاني، فحمل عنوان: (دفتر الفراشة)، وهو يحتوي على القصائد القصيرة والومضات الشعرية التي تنتهي بالمفارقات والخواتيم اللامتوقعة.. تماماً كما تنتهي الحياة.
- سوق الشعر العربي، هل هي رائجة، وتتجه إلى الازدهار، أم إلى الكساد؟
** أنا لا أنظر إلى الحراك الشعري على أساس أنه سوق تحكمه قوانين الرواج والكساد، بقدر ما هو مشهد يضم في تجلياته نهرا يحفر عكس الاتجاه السائد .. يحفر للعمق، بعيدا عن ضجيج المادة، وصخب الجنس، ولغة الاستهلاك والتسطيح والاستلاب الروحي والوجداني للإنسان.. فالشاعر ليس معنيا بدغدغة مشاعر الجماهير، ومداعبة الحواس، وإثارة الشعارات الخاوية.. الشاعر ليس نافخ بوق، أو ضابط إيقاع في حفلة راقصة.. إن للشاعر مهام أخرى، أكثر عمقا ونضجا وأصالة في الحياة.. وإذا لم يتخيل الشاعر أنه جاء لتغيير العالم، كالأنبياء، فليدع قلمه جانبا، ويمتهن دور المهرج.
- هل القارئ العربي بات يبتعد عن الشعر، بسبب تخليه عن أصالته، وارتدائه ثوب الحداثة؟
** الحديث في هذا الموضوع يقودنا إلى جدلية العلاقة بين كل من الشاعر والنص والقارئ، والتي تعد في أغلب الأحيان علاقة مائية غير محكومة بمسلمات منطقية محددة. إلا أن الشعر في تاريخه فن نخبوي بالدرجة الأولى. فـ(المتنبـي) كان شاعر صفوة، و(أبو تمام) كذلك، و(أبو نواس)، وغيرهم أيضا، بالرغم مما يقال عن أن الشعر ديوان العرب. وحين نقلب صفحات النقد العربي القديم، نجد أن هذه الرؤية كانت متبلورة، وموجودة في الوعي الشعري لدى العرب والمسلمين. ومن أمثلة ذلك: قول (أبي إسحاق الصابي)، وهو من نقاد العصر العباسي الثاني، حيث يقول: "إن أفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه، إلا بعد مماطلة منه". ونتذكر هنا جواب أبي تمام حين سئل: لماذا لا تقول ما يفهم؟ فقال: ولماذا لا تفهمون ما يقال؟. أما (إمرؤ القيس)، فقد فسر ما يأتي به من كلام بليغ، على أنه من إيحاء الجن له، وفقا للعرف السائد قبل الإسلام، حيث قال:
تخيرني الجن أشعارها
 فما شئت من شعرهن اصطفيت
والكلام يطول في هذه القضية، إلا أن للشعر الحديث تقنياته ورؤاه وجدلياته الإبداعية، التي جعلت من القصيدة لغة مصفاة نقية، تعطيك الدلالة، وتترك لك مهمة الوصول إلى المعنى أو الفهم الخاص بك. كالإصبع، في المثل الصيني، يشير إلى القمر، ولكن لا يوصل إليه. فالشاعر ليس معنيا - في الدرجة الأولى- بعموم القراء، وإنما هو معني بالتعاطي مع نصه، الذي يولد من مخيلته الخصبة، وفق اشتراطاته وملابساته، نابضا متمردا مليئا بالبوح والأسرار الهاجعة في أغواره السحيقة.
القصيدة هي عالمي الصوفي، ولحظة الكتابة هي الطقس الوجداني، الذي أمارس فيه كشوفاتي وكراماتي، وأحاور فيه تجلياتي عبر الكلمة والصورة الشعرية، التي أعتبرها مراوغة واقتناصا لأبعد الطيوف تحليقا في عالم الروح القصي، المليء بالدهشة والجمال، الذي ينهمر رذاذه على شرفات القلب، عبر فتوحات الروح، التي تزخر بالهبات والأنغام والرؤى. فلا غرابة أن تأتي القصيدة صاخبة بالأصوات، مشحونة بالأطياف، وأصوات الأولياء، وبكاء الغيوم، وظلال الكهنة، وحنين العشاق. إن للشعر لغة مشفرة، تتحرك عبر الانزياحات والمجازيات المتخيلة، بعيدا عن الأطر القواميسية الجاهزة. إنها لغة المجاز، التي يقول عنها الإمام الزركشي: "لو سقط المجاز من القرآن، سقط شطر الحسن".
- ماذا تقول للشعراء الذين يكتبون باسم الحداثة كتابات تتسم بالتحلل من القيود التقليدية، وفي مقدمتها الوزن والقافية، وهو ما تمارسه قصيدة النثر، التي لا تلتزم ببحور الشعر؟
** أجد نفسي مع الشعر في كل تجلياته، ولست ضد التجديد والحداثة، بل إنني أرى أن التجديد سنة طبيعية من سنن الحياة.. ولكن لي رأيا حول بعض المفاهيم، فأنا أفضل استخدام مصطلح (النثر الشعري)، بدلا من (قصيدة النثر)، كما أفضل استخدام (الأوزان العروضية)، بدلا من (البحور الكلاسيكية). فإذا اتضح تصوري للمسألة، فقد اتضح موقفي منها .. فأما بالنسبة لقصيدة النثر، فهي في تصوري نثر أدبي، يتميز بشعرية اللغة، إلا أنه لا يرقى إلى أن نسميه قصيدة، مهما بلغ من التأنق. وهذا ليس انتقاصا من حق هذا اللون الأدبي، فعدم تصنيفه شعرا، لا يقتضي الانتقاص منه. وأعتقد أن هذا هو المطب الذي وقع فيه أصحاب هذا الجنس الأدبي، حينما نسبوه إلى الشعر، بدلا من اقتراح مسمى آخر له، باعتباره جنسا أدبيا جديدا، له خواصه واقتراحاته واشتراطاته الفنية .
أنا أكتب الشعر الحر، وأعمد إلى كتابة القصيدة المقفاة، وفق صياغات جديدة، وتقنيات مبتكرة، بحيث تستوعب القصيدة أساليب الكتابة الحديثة، وتستخدم كل الطرق المبتكرة في الشعر، مع الاحتفاظ بالشكل التقليدي الأصيل للقصيدة. ولا أتصور أن الوزن يمثل عائقا أمام الإبداع في الشعر، إذا كان الشاعر يتحلى بالموهبة والثقافة، التي تؤهله لكتابة قصيدة أصيلة، وفق اشتراطاتها وقواعدها الوزنية واللغوية والإبداعية. إن الذي يجد الوزن قيدا، هو الشاعر البسيط، ذو الموهبة الضعيفة، والثقافة المنقوصة. وبالتالي، فالعيب ليس في الوزن، وإنما في الشاعر.
العروض عند العرب، علم واسع، ومساحاته متعددة، و يقدم للشاعر خيارات كبيرة. كما أن الشعر الحر، قد فتح نوافذ ومنافذ جديدة للشعر الموزون. وبالتالي، فليس ثمة من مسوغ حقيقي لدينا للهروب من الإيقاع الوزني للقصيدة، بخلاف الأمم الأخرى، التي تركت الأوزان الشعرية، ولجأت إلى الكتابة خارج الوزن. فذلك يعود إلى الفقر في الوزان لديهم، فالبعض لديهم بحران عروضيان فقط، أما نحن فلدينا ستة عشر بحرا أساسيا، ناهيك عن تفريعاتها ومجزوءاتها ومشطوراتها وخياراتها المتعددة والمرنة في الكتابة.. باختصار، أنا أميل للقصيدة الموزونة، فهي تعطيني النشوة العليا للشعر.
- كيف ترى واقع القصيدة العُمانية المعاصرة؟
** المشهد الشعري في (عمان)، يمتد في أفقه التاريخي إلى أعماق الزمن، يمتد إلى (الخليل بن أحمد الفراهيدي)، و(المبرد)، و(ابن دريد)، مرورا بكل حقب التاريخ، بل إن الشعر العماني لم يشهد الضعف الذي مر به الشعر العربي كله، في فترة ما يسمى بعصور الظلام، حيث ظهر في ذلك الوقت شعراء عمانيون، يصنفهم البعض في درجة امرئ القيس، مثل: سليمان البهاني، وغيره. وقد شهد العصر الحديث في عمان، نهضة شعرية كبيرة، رافقت التحول الضخم الذي شهده البلد، فكان أن برز شعراء كبار، مثل: عبد الله الخليلي، وعبد الله الطائي، وغيرهم في مجال الشعر المقفى. ثم جاء من بعدهم جيل قصيدة التفعيلة، الذي برز فيه العديد من الأصوات، مثل: الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسي، وهلال بن محمد العامري، وسعيد الصقلاوي، وغيرهم. إلى جانب جيل القصيدة النثرية، الذي برز فيه العديد من الأصوات أيضا، مثل: سيف الرحبـي، ومحمد الحارثي، وسماء عيسى، وعبد الله حبيب، وطالب المعمري، وآخرون. ثم بعد ذلك جاء جيل القصيدة التسعينية، أي ما بعد قصيدة النثر، ويتميز هذا الجيل في أغلبه بعودته للتراث، وتمسكه بالكتابة في إطار الوزن. هذا الجيل، الذي أعد نفسي أحد مكوناته، برز فيه شعراء عديدون، مثل: محمد عبد الكريم الشحي، وعمر عبد الله محروس، وعلي الرواحي، وعبد الله المعمري، وخميس بن قلم، وغيرهم كثير. إن ما ذكرته ليس سوى نموذج بسيط من باب التدليل فقط، أما الواقع الشعري في عمان، فإنه زاخر بالكثير من العطاء والألوان والأصوات المميزة، وهو مشهد نابض، وحيوي، ويضاهي سواه في بقية الدول العربية الشقيقة.
- لك آراء أثارت حولك الكثير من ردود الأفعال، لا سيما رفضك بأن يكون (أحمد شوقي) أمير الشعراء، وأن تكون (أم كلثوم) سيدة الغناء العربي.. ما الذي جعلك تتبنى هذا الموقف؟
** أعتقد أن هذا الموضوع تم تضخيمه وإعطاؤه أكبر مما ينبغي، فأنا حين تحدثت عن الألقاب رفضتها لذاتها، ولم أتطرق إلى ذكر الأشخاص. أي أنني أرفض لقب (أمير الشعراء)، ولم أتحدث عن أحمد شوقي، وأرفض لقب (سيدة الغناء العربي)، أو (سيد الغناء العربي)، ولم أتحدث عن أم كلثوم، كتجربة غنائية، على الإطلاق. ولكن الناس نسيت النعت، وذهبت إلى المنعوت!
أنا ما زلت عند رأيي، أن الشعر لا يقبل الإمارة والأمراء، فهذه مناصب سياسية، والشعر بعيد عنها.. اللفظة تحمل في مفهومها دلالة الأمر، التي يقابلها النهي، وهي دلالات سلطوية، يرفضها منطق الإبداع، الذي يقوم أساسا على الحرية والتمرد، فكيف أقبل أميراً على نفسي، في فضاء الحرية والانطلاق؟
أما عن لقب (سيدة الغناء العربي)، فأعتقد أن أغلب العرب لا يتقبله، لأنه ببساطة يشترط على الفنانة، أو الفنان، الذي يحمل هذا اللقب، أن يتسيد الجميع، في غناء كافة ألوان الغناء العربي، وفنونه وضروبه المتعددة، وهذا أمر متعسر. ففي كل قطر وبقعة من العالم العربي، هناك فنون وألوان غنائية لا يستطيع أداءها إلا أهل ذلك القطر. فبلاد الشام لها تراثها الغنائي والموسيقي الخاص، وبلاد المغرب العربي لها أيضا إرثها الموسيقي والإيقاعي الخاص، والعراق له تراثه الموسيقي الكبير، والخليج العربي له فنونه وكنوزه الموسيقية العظيمة، ومصر لها تاريخها الغنائي العميق. وبالتالي من الصعب تنصيب مغنٍ واحد أوحد على جميع هذا الإرث وكنوزه، واعتباره سيد الغناء العربي.
- ولكنك في بعض حواراتك ذكرت (أم كلثوم) بالاسم، ولم تتردد في ذلك؟

** نعم حدث ذلك عندما كثر الجدل، وأخذ الناس يتحدثون عن المنعوت، وينسون النعت، كما قلت، وهنا لم أتردد في إبداء رأيي، كشاعر، في كلمات بعض الأغاني التي تغنت بها أم كلثوم، وقلت إنها كلمات متدنية في مستواها الشعري. وأنا هنا أتحدث عن ذائقتي كشاعر، وليس كناقد فني، ولم أتطرق للموسيقى والألحان، كما أنني لم أتطرق إلى صوت أم كلثوم، بل تحدثت عن الشعر الذي تغنت به، وهو شعر في أغلبه يكرس للذائقة الشعبية التقليدية، وينقصه الكثير من مقومات الشعر الجيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق