03‏/07‏/2015

ندوة (الحوار) الثانية/ تطبيق الشريعة بين الدولة والأمة..

أدار الندوة، وأعدها للنشر، بعد تعريبها: سرهد أحمد
نظمت مجلة (الحوار) يوم الخميس الموافق 16/4/ 2015، ندوتها الفكرية الثانية في (أربيل)، تحت عنوان (تطبيق الشريعة بين الدولة والأمة). ويأتي اختيار (الحوار) لهذا الموضوع محوراً للنقاش، توخياً لتنظير حديث لمفاهيم (الشريعة والدولة والأمة)، وبيان مديات العلاقة بينها، خصوصاً وأننا إزاء تحولات سياسية وفكرية وثقافية متجددة، لا بد من احتوائها ضمن أطر النقل والعقل، باعتبارهما، متلازمين، هما المنحة الربانية لتقويم سلوك الإنسان وترشيد توجهاته.
وتهدف (الحوار) من خلال معالجة هذا الموضوع أيضاً إلى الرد على المنهج الظاهري والحرفي، الذي هو أصل علة التطرف والغلو الذي ابتليت به المجتمعات الإسلامية، ومن جهة التأكيد على أن الأصل في الشريعة – تطبيقاً كانت أم اتباعاً – إنما هو تحقيق المقاصد الكبرى والمقاصد العليا للتشريع الإسلامي.
وشارك في الندوة كل من الأساتذة:) سالم الحاج)/ رئيس تحرير مجلة (الحوار)، و(عمر إسماعيل)/ الباحث في الفكر الإسلامي، و(علي صالح ميران)/ رئيس تحرير مجلة (پەيامى راستى)، و(هيوا حامد)/ كاتب وباحث قانوني، و(عبد اللطيف ياسين)/ رئيس تحرير صحيفة (يكگرتو)، و(إسماعيل نوري)/ الباحث في القرآن والفكر الإسلامي، و(هيوا علي)/ الأكاديمي والباحث الاجتماعي.

 وفيما يلي نص الحوار الذي تضمنته (الندوة)، التي استغرقت زهاء الساعتين:

* الحوار: أستاذ عمر، ماذا نعني بـ (الشريعة) و(الدولة) و(الأمة)، وما مفاهيمها؟
الأستاذ (عمر إسماعيل):
لأجل تقصي تعاريف عميقة ودقيقة للمصطلحات الثلاثة سنحتاج مزيداً من الوقت، فاستعراض تعاريف (الشريعة والدولة والأمة) يحتاج لوحده إلى ندوة خاصة، وسأحاول الاختصار في التعاريف لضيق الوقت. وأقول إن مصطلحات (الشريعة والدولة والأمة) مصطلحات (عربية)، لا بد من البحث في جذورها اللغوية، لنقف على دلالاتها بشكل أوسع. فـ(الشريعة) وردت بمعنى (الطريق) أو (المنهج) أو (السبيل) أو (السنة)، ووردت كذلك بمعنى (الشرعة)، أي مصدر الماء الذي يرد إليه الناس للارتواء والتزود بالماء. وفي (القرآن الكريم) ورد هذا المصطلح في أربعة مواطن: في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}، وفي قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ }، وكذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. ويمكن العودة كذلك إلى كتب التفاسير، لمعرفة المعاني اللغوية لمصطلح الشريعة. ولا يختلف المعنى اللغوي كثيرا عن المفهوم الاصطلاحي للمصطلح، فهو يقصد به تلك القواعد التي ذكرها (القرآن الكريم)، والتي يرجع إليها المسلمون لتنظيم أمورهم الحياتية، كما يرجع الضمآن الذي يرد مصدر الماء للارتواء. وبحسب فهمي: (الشريعة) هي مفهوم عام وشامل، يتضمن (العقيدة والقيم والأخلاق والأحكام والعبادات)، وأيضا: (حقوق الإنسان، وصيانة كرامته، والحفاظ على حريته، باعتباره أعلى قيمة في هذا الكون). وخير ما يعبر عن هذه الشمولية والعمومية، ما ورد في الحديث الشريف: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ"، فهو يعطينا مفهوماً شاملاً لمصطلح (الشريعة). وفي ذات السياق، فقد وضع (الإمام أبو بكر الآجري) مصنفاً بعنوان (الشريعة)، مع أنه كتاب في موضوع (العقيدة)، مما يوحي بأن مفهوم الشريعة يشمل العقيدة أيضا. وكذلك فإن (الإمام الراغب الأصفهاني)، له مصنف بعنوان (الذريعة إلى مكارم الشريعة)، وهو في فلسفة الأخلاق، بما يعني أن مفهوم الشريعة، عنده، يشتمل على الأخلاق. لكن يجب أن نبادر بالقول، حتى لا يساء فهم قولنا بعمومية الشريعة، وشموليتها: إننا نقصد تلك الثوابت القطعية (قطعية الثبوت والدلالة)، في القرآن والسنة، وليس ما ورد في كتب الفقه والفتاوى، وشروحات العلماء والفقهاء، كل في زمانهم، فنحن لسنا ملزمين بها. أما تعريف (الدولة)، فهي باختصار: "التجسيد القانوني لأمة ذات سيادة"، وهي -كما يبين فقه (النظام الدستوري)- تنشأ حقوقيا، عندما تجتمع ثلاثة عناصر أساسية، هي: الإقليم، الرقعة الجغرافية، والشعب والسلطة السياسية. و(الدولة) في الفكر الإسلامي، هي مؤسسة من المؤسسات المجتمعية التي ينشئها (المسلمون)، أو أي شعب آخر، لتحقيق الأهداف التي اجتمعوا عليها. فالدولة، بالنسبة إلى المسلمين، أو لنقل: المجتمعات الإسلامية، هي: الإطار النظامي الذي تجسد الجماعة المسلمة، من خلاله، استخلافها السياسي، لتحقيق شهودها الإيماني، وتنظم شؤونها الحياتية. والغاية هي تنظيم وإدارة حياة المجتمع.
أما مصطلح (الأمة)، فهو مصطلح ومفهوم إسلامي بحت، لم يرد في أية لغة أخرى، وليس له - كما أرى - مرادف في اللغات الأخرى، لذلك يجب أن نبحث في تعريفه، ومعرفة أبعاد دلالاته، من المصادر الإسلامية. فالمفهوم ولد مع مجيء الإسلام، وتجسد عمليا بالتحديد بعدما وضعت (صحيفة المدينة)، أو كما يسميها البعض: دستور المدينة. فهي كيان حضاري، وهي كيان فوق الدولة والقومية. وقد أوردت هذا المفهوم في رسالتي لنيل درجة الماجستير في الفكر الإسلامي، وعرضت فيه أكثر من سبعة (مدلولات قرآنية) لمعنى (الأمة). وأضيف بالقول إن مصطلح (الأمة) ليس مفهوماً سياسياً مجرداً، إنما هو مفهوم حضاري كبير، و(الأمة) يمكن أن تشتمل على العديد من القوميات والشعوب.

الأستاذ (علي صالح ميران):
(الشريعة) - حسب علمي- مجموعة من الأحكام والحدود، يسنها شخص ذو علم ودراية، ويلزم بها أشخاصاً آخرين. فـ(الشريعة الإسلامية) شريعة سماوية منزلة من لدن الله (عز وجل)، فهو أعلم بالإنسان من نفسه، وبمصالحه. وليس وارداً أن تكون الشرائع كلها سماوية، فهناك (شرائع وضعية)، مثل: (شريعة حمورابي) و(شريعة كونفشيوس)، وهي تعاليم أرضية من أناس ادعوا الزهد والتجرد، وتبقى الشرائع السماوية مصادر هداية للبشرية. وفيما يتعلق بتعريف (الدولة)، فهي عبارة عن مجموعة مؤسسات، يديرها أشخاص لهم قابلية وخبرة، تتوسع الدولة وينضبط حالها بمؤهلاتهم. ولربما أدار (الدولة) أشخاص دون ذلك، فحينذاك تسوء الأحوال. أما تعريف (الأمة)، فأرى أنها تعني الرابطة الجامعة والمصير المشترك لمجموعة من الناس، وهذه الروابط والمشتركات قد تكون (ديناً)، أو (تاريخاً) مشتركا، أو (لغة) مشتركة.

الأستاذ (هيوا حامد):
بداية لا إجماع من الفقهاء على تعريف محدد لـ(الشريعة). ففي رأي بعض الفقهاء، هي تأتي مرادفة لـ(التشريع) في وقتنا الحاضر، وهي تلك "القواعد العامة المجردة، التي تنظم حركة الأفراد في المجتمع". لكن إذا كانت العقائد والعبادات ضمن (الشريعة)، فحينئذ لا مجال لتنظيمها مطلقاً، "فلا اجتهاد ولا رأي في مورد النص". وبتصوري، فإن هذا التصنيف لمغزى (الشريعة) أحدث جدلاً داخل التيارات الإسلامية نفسها، فيما يخص كيفية عرض مفهوم (الشريعة)، وكيفية تطبيقها، في مواجهة المتسائلين من (العلمانيين).
وأقولها بصراحة: الإسلاميون يفتقدون تصوراً واضحاً لمعنى (الشريعة)، أو مفهوم (تطبيق الشريعة). وإذا كانت (الشريعة) تشتمل على (العقائد) و(العبادات) -كما أشار الأستاذ (عمر اسماعيل) في إجابته- فأحسب أن الاتباع هو الأصل في التعاطي معهما، لا التطبيق عنوة. فالدين، أو الشريعة، ذاتها، لا توجه أحداً إلى فرضها على بقية الناس بالإكراه. وقد تعمقت، في هذه الأيام، مخاوف الناس إزاء تطبيق (الشريعة)، فحين يجري الحديث عن هذا الموضوع، يتبادر إلى أذهانهم قطع الأيدي والأعناق والجَلْد!
أما بالنسبة لمصطلح (الدولة)، فيعني "كل كيان سياسي داخل مجتمع ما، ضمن رقعة جغراقية محددة، فيها سلطة قهرية". وحول مصطلح (الأمة)، قد أختلف مع الأستاذ (عمر إسماعيل) في تعريفه، فهي وفق علمي "كيان غير محسوس (خيال)، وغير متجسد، يعبر عن الإرادة العامة".

الأستاذ (عبد اللطيف ياسين):
بداية أنوه إلى إشكالية تتعلق بالمقصود من تطبيق الشريعة بين الدولة والأمة، فالإشكالية بالأساس تكمن في التعريف ذاته. وما تفضل به الأستاذ (عمر إسماعيل)، في تعريفه لـ(الشريعة) هو تعريف (كلاسيكي) (تراثي). بمعنى أن مفهوم (الشريعة) وضع في غير سياقه القرآني، وهذا التعريف وضعه العلماء المعاصرون، وليس وارداً في (القرآن الكريم) ولا في (السنة النبوية) المطهرة.
أما (الدولة)، فهي رقعة جغرافية، سياسية، جامعة لعدد من الناس، يخضعون لدستور وقوانين محددة. وبخصوص تعريف (الأمة)، أتفق مع التعريف الذي تفضل به الأستاذ (علي صالح ميران)، وهو أن (الأمة) مجموعة روابط ومشتركات، حتى أن مصطلح (الأمة) ليس قاصراً على الإنسان فحسب، الحيوانات كذلك تشكل كل مجموعة (أمة) بحد ذاتها، كما ورد في (القرآن الكريم) قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}.

* الحوار: نعيد طرح السؤال الأول على الأساتذة (سالم الحاج) و(إسماعيل نوري) و(هيوا علي)..
الأستاذ (سالم الحاج):
عندما نطلق القول، ونذكر (الشريعة) بـ(ال) التعريف، فهنا يمكننا القول بأنها تشتمل على (العقيدة) أيضاً. فـ(الشريعة) - بمفهومها العام-، هي الدين كله، والمصطلح تطور مرحلياً. وفي عصرنا الحاضر، يجري الحديث الآن عن تطبيق (الشريعة)، تطبيق (الحدود - القوانين) منها، وإلا فإن بقية الشريعة مطبقة، فالمسلمون يصومون ويصلون، ويلتزمون بالقواعد الأخلاقية، وكل ذلك بشكل عام ونسبـي بالطبع. أما بشأن تعريف (الدولة – الدولة الإسلامية)، فلم تستعمل في اللغة العربية بهذا المفهوم المعاصر لها، وهذا المصطلح تطور هو الآخر شيئاً فشيئاً، ففي البداية: (المرحلة الراشدية)، لم يكن مصطلح الدولة متداولاً، لكن في مرحلة لاحقة (الحقبة الأموية) أطلقت تسمية (الدولة) على الكيان السياسي الذي كان قائماً حينها، وهكذا تباعاً أطلق العلماء تسمية الدولة على الحقبة العباسية، فالعثمانية.
وفيما يتعلق بتعريف (الأمة)، فجذرها اللغوي جاء من (أمّ)، بمعنى: القصد والتوجه، أو بمعنى الائتمام، أو الاجتماع على أمر، وعادة ما تجتمع (الأمة) على (عقيدة) و(فكرة). فـ (الأمة) الجماعة من الناس. وبالطبع، فإن مفهوم (الأمة) قد تطور هو الآخر، فـ(الأمة) في الفكر الإسلامي له مدلولات أساسية. ولا ننسى أن مصطلح (الأمة الإسلامية) – بهذه الإضافة- لم يرد هو الآخر في (القرآن الكريم)، فالقرآن الكريم استعمل اللفظة بمعناها اللغوي، وهو معنى أوسع من مفهوم (القوم)، أو (الشعب)، أو (العشيرة). كما في قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}.

الأستاذ (إسماعيل نوري):
أرى أن هذا الموضوع المطروح للنقاش يتسم بالعمومية، أي: هل تعريف (الشريعة) هنا من (المنظور القرآني)، أم من منظور (الفكر الإسلامي)؟. وكذلك تعريف (الدولة) و(الأمة).. على أي حال، هناك إشكالية في تعريف بعض المفردات والمصطلحات، لأن مدلولات بعضها في (القرآن الكريم) مغايرة تماماً لما هي عليه في (الفكر الإسلامي). وهذه حقيقة يجب أن نعيها جميعا، لأن الشائع والراسخ في أذهان ومشاعر كل فرد مسلم، حيال العديد من المصطلحات والمفردات، هو ما ورد وشاع في (الفكر الإسلامي)، لا ما هو عليه في (القرآن الكريم)، وهذا واقع حال للأسف، حتى أضحى (القرآن الكريم) تابعاً لـ(الفكر الإسلامي)، وليس العكس!.. فالشريعة، عند خواص الناس وعوامهم، تعني (الأحكام) و(الحدود)، وليس القواعد (الإيمانية) و(الأخلاقية). وحتى في مجال (الأحكام) و(الحدود)، هناك تضييق في هذا الباب. فمثلاً: (الشورى)، أصبحت عبارة مجردة في بطون الكتب والمصنفات، ولم يستطع المسلمون الالتزام بها، منذ عصر الخليفة (معاوية بن أبي سفيان). وكذلك عبارة (العدالة)، فرغم مدلولها القرآني الكبير، اضمحلت، لضعف تطبيقها.
وأما فيما يتعلق بتعريف (الدولة)، فهي مفردة حديثة، لم ترد في (القرآن الكريم)، ولم يؤخذ بها في (التاريخ الإسلامي)، بل أطلقت تسميات أخرى: كالخلافة، والسلطنة، وغيرها. وتعريف الدولة، في السياقات القانونية الحديثة، تعني: "تلك الجغرافية السياسية المحددة، التي يعيش عليها شعب، يشترك في لغة واحدة، أو عدة لغات، أو ثقافة واحدة، أو عدة ثقافات، وهناك نظام يأخذ على عاتقه إدارة أمور الشعب". فيما يتصل بـ(الأمة)، فقد عبر عنها (القرآن الكريم) بمجموعة أشخاص، مبنية أفكارهم على رسالة ومنهج واحد، رغم تباينهم في اللغة والجغرافية والنظام السياسي.

الأستاذ (هيوا علي):
بالنسبة لتعاريف المصطلحات الثلاثة، هناك إشكالية، نتيجة تراكمات تاريخية.. فـ(الدولة)، مصطلح حديث، وهو مرتبط بـ(أمة) محددة الكيان، ذات دولة محددة الأركان. ونحن، إزاء مشروع إقامة (الدولة الكوردية)، يتوجب على إسلاميي كوردستان طرح رؤاهم لشكل الدولة المرتقبة. وفيما يخص تعريف (الشريعة)، من وجهة نظري: "هي تلك الأنظمة والقواعد والقوانين التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع، سواء كانت (شريعة) (سماوية)، أم (وضعية)". أما (الأمة)، فتعني: "جماعة من الناس تربطهم حاجات"، ولها مدلول قرآني: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين}.

الأستاذ (عمر إسماعيل) يضيف في مداخلة قائلاً: 
بالعودة إلى تعريف (الشريعة)، فالأولى القول: (اتباع الشريعة)، بدلاً من (تطبيق الشريعة)، فالأخير مصطلح غير قرآني. فحين نقول: (تطبيق الشريعة)، لا بد من (سلطة) لتطبيقها، كما أن (الشريعة) ليست بمجملها أو كلها قوانين، حتى تقوم (السلطة)، أو الدولة، بتنفيذها وتطبيقها، وتمارس بموجبه التدخل في كل شؤون المجتمع، والتوغل في فضائه العام، وتلزم المواطنين بتطبيقها. فالشريعة - كما أشرنا سابقا- مدلولها شامل، منها ما هو قانوني، نعم يجب أن يكون مؤيدا بالسلطة التنفيذية. ولكن هذا الجزء من الشريعة هو الأقل، مقارنة بالجوانب الإيمانية والأخلاقية والقيمية الأخرى، والتي يمارسها المواطنون بقرار شخصي، من دون إلزامهم من قبل سلطة خارجية، وبعيدا عن سلطة الدولة. وهناك مفكرون يصنفونها إلى (أحكام عقائدية)، و(أحكام حقوقية). وحقيقة أن الخوف يتلبس الكثيرين حيال ( تطبيق الشريعة)، فحين يسمعون بذلك يتبادر إلى أذهانهم إقامة (الحدود)، مثل: (قطع اليد، والرجم، والجلد). في حين إن (الشريعة) ليست حدودا فحسب. وهناك سؤال يفرض نفسه، وهو: هل (تطبيق الشريعة) من واجبات (الدولة)، أم (الأمة)؟!..
بالنسبة لمصطلح (الأمة)، أكرر القول، وأنا أجريت بحثاً عن هذا الموضوع، لم ترد هذه العبارة -كـ(مفهوم) و(اصطلاح) - في أي لغة سوى (اللغة العربية)، وفي اللغتين الفرنسية والإنكليزية، جاء مصطلح (القومية) في مقابل مصطلح (الأمة)، فـ(الأمة) "مصطلح مغاير، له مفاهيم ودلالات مختلفة جداً عن القومية". وعليه:
أولاً: (الأمة) "جماعة يسودها الإيمان بالمقومات الأساسية للدين الإسلامي، أو مرجعية الإسلام، هذا الإيمان يتخذ معنىً عقدياً عند المسلم، وقد يتخذ معنى حضارياً ثقافياً عند غير المسلم.
ثانياً: "هذه الجماعة تملك إدراكاً واحداً، في كل ما له صلة بهذه المرجعية، وأهمها بالطبع: الخضوع لهذه المرجعية، واحترام ما ينبثق عنها، كنظام متكامل للسلوك الفردي والجماعي، الذي تجسده الشريعة". وحين ورد في (وثيقة المدينة) بأن فلان وفلان جزء من (الأمة)، كان القصد منه (البعد الثقافي) لمفهوم الأمة.

الأستاذ (سالم الحاج) معقباً على إضافة الأستاذ (عمر إسماعيل):
كما تفضلتم، وأنتم لكم بحث مسهب حول مفهوم (الأمة)، وذكرتم بأن لمصطلح (الأمة) معان (لغوية) و(اصطلاحية) عدة وردت في (القرآن الكريم)، فهل ذكرت عبارة (الأمة الإسلامية) عند علمائنا السابقين؟

الأستاذ (عمر إسماعيل) يجيب بالنفي، قائلاً:
لا، لم يرد لعبارة (الأمة الإسلامية) ذكر في المؤلفات الإسلامية القديمة.

الأستاذ (عبد اللطيف ياسين) يضيف:
أعتقد أن تعريف (الأمة)، والمصطلحين الآخرين، يجعلنا محكومين بعدة تعاريف (تراثية) (كلاسيكية). فـ(تطبيق الشريعة) تدور حول تعريفه إشكالية كبيرة في الفكر الإسلامي، فمثلاً يقال إن (القرآن الكريم) ناسخ لـ(التوراة والإنجيل)، بينما (القرآن الكريم) نفسه يقول: {وَأَنزَلنَا إلَيكَ الكتَابَ بالحَقّ مصَدّقاً لمَا بَينَ يَدَيه منَ الكتَاب وَمهَيمناً عَلَيه}، فقوله: (مصدقاً)، يعني أن جانب (الوحي) في (التوراة والإنجيل) يصدق ما ورد في (القرآن الكريم). وبالنسبة لبعد (الهيمنة): فالمقصود به أن (القرآن الكريم) له بعد شمولي، أي: يشمل الإنسانية جمعاء. وكما يقول دكتور (محمد عبدالله دراز): إن القرآن جاء مصدقا لما قبله، فهو مصدق للتوراة والإنجيل معا، وليس معنى التصديق هو التذكير فقط دون تبديل، إذ جاء الإنجيل بتعديل أحكام التوراة، فأعلن عيسى أنه أتى ليحل لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم، وكذلك جاء القرآن بتعديل بعض أحكام الإنجيل، إذ أعلن كتاب الله أنه نزل ليحل للناس كل الطيبات.. ويحرم عليهم كل الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم.

الأستاذ (هيوا حامد)، من ناحيته، يضيف:
 في (القانون الدستوري) هناك (سيادة الشعب) و(سيادة الأمة). فـ(الشعب) أكبر من (القومية)، وكذلك (الأمة) أكبر من (القومية) - والسؤال لماذا؟ لأنه في (الفقه الدستوري) حين يتم التطرق لـ (سيادة الأمة)، فذاك يعني: "كافة القوميات المجتمعة في كيان سياسي واحد". و(الأمة) كيان مجرد، كما أوضحت آنفاً، فهي: "تعبير عن إرادة عامة غير مجسدة". أما (الشعب): فـ"يعبر عن إرادته في البرلمان"، فـ(البرلمان) - بحسب (القانون الدستوري)- يجسد إرادة (الشعب). و(الأمة) لا تُوَكِّل، فهي: "مجموعة قيم ومبادئ، على افتراض أن كل أفراد المجتمع تنازلوا وأوجدوا (سيادة) لهذه (الأمة)، التي هي كيان وهمي".

الأستاذ (عمر إسماعيل) مضيفاً:
مصطلح (الأمة الاسلامية) مصطلح حديث. فـ(القرآن الكريم) حين يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، وقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، لم يرد فيه بمفهوم (الأمة الإسلامية). (الأمة) هنا وردت كمفهوم حضاري، وليست مفهوما سياسيا.

الأستاذ (عبد اللطيف ياسين) يضيف:
 في البداية حين تطرقت إلى تعريف (الأمة)، ومفهومها، أردت تناول ذلك من خلال المفهومين (الفلسفي والحضاري)، وأجدد التأكيد على أنه لا بد من التعاطي مع المصطلحات من أبعاد مدلولاتها القرآنية.

الأستاذ (إسماعيل نوري) يضيف من جانبه:
بالنسبة لمفهوم (الأمة) يجب العودة إلى (القرآن الكريم)، ففي (سورة الأنبياء) يتحدث عن (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وزكريا وأيوب)، وفي آخر السورة يقول: {وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. فهولاء (الأنبياء والرسل) هم (أمة)، لأن (منهجهم واحد)، رغم اختلاف (اللغات) و(الألسن)، واختلاف (أماكنهم) و(أزمنتهم) و(شعوبهم). فـ(الأمة) في هذه الآية تعني (الدين) باعتقادي.

الأستاذ (هيوا حامد) يضيف في مداخلة أخرى:
أريد أن أستعرض لكم المزيد بشأن (السيادة) في (الفقه الدستوري) الحديث: فلو ورد في (الدستور) أن (السيادة) لـ(الأمة)، وليس لـ(الشعب)، لتغيرت مجموعة قواعد في الحياة العامة. فمثلاً، إذا كانت (السيادة لـلأمة)، فحينها ستكون (الانتخابات) واجبة على أفراد المجتمع، ولا يمكن التنازل عنها مطلقاً. وفي حال كانت (السيادة لـلشعب)، ولأنه توكيل، وهو شيء مجسد، فيمكن ممارسة هذا الحق، من عدمه.

الأستاذ (إسماعيل نوري) في إضافة أخرى:
إطلاق مفردة (شعب) على عدة مكونات ضمن الدولة الواحدة خطأ من الناحيتين (اللغوية) و(الاصطلاحية)، فحين يقال: (الشعب العراقي)، فذاك هو الخطأ بعينه، لأن مفردة (الشعب) تطلق على أولئك الأفراد الذين تجمعهم لغة واحدة. وأعيد القول بأن إشكالية (تحليل وتفسير وفهم) (المصطلحات) لا تنتهي، ولأننا ندعي الرسالية فلا بد من الرجوع إلى (المصدر الأصلي)، وهو (القرآن الكريم)، لأنه المرجع الوحيد لحل تلك الإشكالية. فمثلاً: عبارة (مكروه) عند (الأصوليين)، تشير إلى الإتيان بفعل له وجه الكراهة، ولا تكتب على فاعله (سيئة)، وهذا يتعارض مع صريح (القرآن)، فـ(المكروه) ورد بمفهوم آخر. وكذلك مصطلح (الشريعة)، يحمل غير المعنى الشائع المتداول.

الأستاذ (عمر إسماعيل) يضيف مجدداً:
(الشعب) في الفكر السياسي، هو مجموعة من الأفراد ضمن (دولة واحدة)، أما (القوم) أو (القومية)، فربما تعددت ضمن (الدولة الواحدة). وبالعودة إلى مفهوم (الشريعة)، فقد أورد العلامة (الطاهر بن عاشور) - رحمه الله- في كتابه (مقاصد الشريعة)، مصطلح (الشريعة) في مقابل (التشريع). وأجزم بأن (المصطلحات) تسري عليها تغيرات كبيرة بمرور الزمن. هذا من جهة، ومن جهة ثانية إذا قلنا (تطبيق الشريعة)، فذاك منوط بجهة منفذة، وهي (السلطة السياسية)، لأن جزءا منها أحكام حقوقية، كما أسلفنا القول. ومن جهة أخرى، لو أردنا تجاوز الإشكالية المتعلقة بمفهوم (الأمة)، لكان من الأنسب اختيار هذا العنوان: (تطبيق الشريعة بين الدولة والمجتمع).

الأستاذ (عبد اللطيف ياسين):
علينا أن نبدأ من (أصل التعريف)، فمثلاً أصل تعريف مصطلح (التآخي) هو (الأمة الواحدة). وفي مسألة (التحكيم)، التي وردت في (القرآن الكريم)، قوله تعالى {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وردت في (أهل الكتاب)، وهم (أمة مستقلة)، أن يتحاكموا إلى (الإنجيل)، حتى داخل المجتمع الإسلامي. فالآيات التي ورد فيها التحكيم {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}، وردت ثلاث مرات في سورة واحدة، وكانت حصة (أهل الكتاب) (اليهود والنصارى) مرتين.
لذا أرى أن مفهوم (تطبيق الشريعة)، بهذا الاسم، أمر مستحدث، قد تأثر بالواقع السياسي والفكري في بداية القرن المنصرم. ولا أستبعد أن ظهور هذا المفهوم، داخل الخطاب الإسلامي، كان - ولا يزال- جزءا من التأزم الفكري والسياسي، على وجه الخصوص. وفي نفس الوقت، أراه شَرَكاً وقع فيه العمل الإسلامي، ولا يزال يأن تحت وطأة هذا التعريف والمفهوم. ناهيك عن إشكالية السياق، والتنسيق، وهو يحد من جانبه الأبعد انفتاحية القرآن على الأمم والحضارات..  
(يستأذن الأستاذ (عبد اللطيف ياسين)، بعد هذه المداخلة، ويغادر الندوة، لأمر طارئ)..

الحوار: السؤال الثاني: كيف تناول العلماء المعاصرون موضوع (الشريعة)، وما هي تصوراتهم إزاء مصطلحي (الدولة) و(الأمة)؟
الأستاذ (عمر إسماعيل):
بلا شك تناول المسلمون الأوائل مسألة (الشريعة)، ومنهم (علماء الأصول)، الذين قالوا: "إن الشريعة هي ذلك الجزء الثابت"، وميزوا بين (الفقه) و(الشريعة)، فـ(الشريعة) ثابتة، و(الفقه) هو الممارسة العملية، وتطبيقات في (مكان وزمان) معين. فتنزيل (الشريعة) من (الخطاب الإلهي) إلى (الحركة البشرية) تؤثر فيه مجموعة عوامل، منها أن تطبيق (الأحكام) يتغير بتغير (الزمان والمكان)، ومن مجتمع لآخر، ومن تراث وثقافة، إلى تراث وثقافة أخرى.
فدلالات المصطلح -كما ذكرت- طرأ عليها تغيير كبير. فالشريعة بداية، من الناحية اللغوية -كما قلت - مصدر الارتواء. ثم: الأحكام الثابتة بالقرآن، سواء تعلقت بالعقائد أو المعاملات (معاملات وعبادات). ثم: الأحكام (معاملات وعبادات)، دون العقائد. وهو ما يوحي به، مثلا، كتاب (الإسلام عقيدة وشريعة) للشيخ شلتوت، حيث قسم الإسلام إلى عقيدة وشريعة، ومعناه أن العقيدة غير الشريعة. وآخر تغيير طرأ على مفهوم (الشريعة)، هو ما جاء في مقابل (التشريع)، أي (تشريع القانون)، وهذا ما أورده العلامة (الطاهر بن عاشور)، في مؤلفه ( مقاصد الشريعة). وبالنسبة لتناول (قدامى المسلمين) لمصطلح (الأمة)، فقد استعرضته في إجابتي سابقا، ولا أحبذ العودة إليه مجدداً، وللإشكالات الكبيرة التي تحيط بهذه المفردة.
أما (الدولة)، فإنه في بداية مجيء (الإسلام)، وتحديداً مع بدء عصر (الخلافة الراشدة)، ومروراً بـ(الخلافة الأموية)، لم يتداول العلماء المعاصرون هذه المفردة في أدبياتهم الفكرية، فلم ترد عبارة بهذا المعنى في المفاهيم السياسية في تلكم الحقبتين. لكن في العصر العباسي ظهر مصطلح (الدولة)، وجرى تداوله كـ(مصطلح سياسي)، فقد كان يقال: (الدولة البويهية)، و(دولة السلاجقة)، وحتى إن لم يجر تناوله كمصطلح ومفهوم، لكن كـ(واقع) و(تطبيق) جرى ممارسة الدولة من حيث التنظيم والسلطة. وفي (الترات الفكري والثقافي الإسلامي) استخدمت مصطلحات (الإمارة) و(الخلافة) و(السلطنة) بدل مصطلح الدولة.

الأستاذ (علي صالح ميران):
هذا السؤال هو قريب جداً من السؤال الأول. بالنسبة لتناول مصطلح (الشريعة) عند (قدامى المسلمين)، فالواضح أن المصطلح اتخذ طابعاً قدسياً، لارتباطه بـ(النصوص المنزلة)، غير القابلة للتأويل والاجتهاد. أما فيما يتعلق بتطبيقها، فذاك أمر آخر مرتبط بالواقع.
وبخصوص مصطلح (الدولة)، فهو لم يرد في (القرآن الكريم)، وإن كان أحد أهداف الرسول (عليه الصلاة والسلام) هو تأسيس دولة للمسلمين. فاستعمال المصطلح لم يرد بظاهره في عصر (الخلفاء الراشدين)، ورغم ذلك أنشأت الدولة، ووضعت لها القوانين والنظم، لضبط سلوك (الحكام) و(المحكومين) بمرور الوقت.

الأستاذ (هيوا حامد):
بتصوري أنه مع (مسيرة البشرية)، سواء كانت مجتمعات كبيرة أم صغيرة، تم اللجوء إلى تنظيم (كيان سياسي)، لكن ليس بالشكل الحالي. لأن استخدام مفردة (الدولة) في (الفكر السياسي الحديث) لا يتجاوز الـ(200 إلى 250 سنة). وهذا لا يعني عدم اكتراث (العلماء القدامى) لموضوع (الدولة)، فـ(الدولة) نتاج طبيعي لتطور (المجتمع البشري). ففي السابق اتخذت (الدولة) أشكالاً متعددة: إمبراطورية، قيصرية، وغيرها. وأرى أن عدم تداول مصطلح (الدولة)، إلا في القرون الثلاثة الأخيرة، ليس نقصاً تنظيرياً وفكرياً. وبالنسبة لـتناول المعاصرين لمصطلح (الأمة)، أجدد التأكيد على أن (الأمة) كيان غير متجسد، فقد جرى استخدام (سيادة الأمة) من أجل تقييد (سلطات الحاكم).


الأستاذ (سالم الحاج):
مصطلحات (الدولة) و(الأمة) كلها (عربية)، في أصلها اللغوي، تقابلها عبارات باللغة (الإنكليزية)، واللغات الأجنبية الأخرى. فمن الناحية اللغوية، ونحن ذكرنا جميعاً أن (الأمة) تحديداً وردت في (القرآن الكريم) على أنها: جماعة من الناس ذات رسالة، وتجمعهم قيم عليا، سواء في عالم (البشر)، أو حتى في العوالم الأخرى. فمن هذا المنظور اللغوي ورد مصطلح (الأمة) في (القرآن الكريم)، كدلالة على أن هؤلاء الناس المتبعين للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أصبحوا (أمة) من دون الناس: (الأمة الإسلامية). لكن المفهوم المعاصر لـ(الأمة) يتضمن أبعاداً (قانونية) و(سياسية)، وهو لا يختلف عن المفهوم الآنف الذكر، والذي يشير إلى أن (الأمة) تعلو (القومية)، ويمكن أن تتألف من مجموعة دول: (الأمة الألمانية) (الأمة العربية)، وليس شرطاً أن يكون مطابقاً لمفهومي (الدولة) و(الشعب)، وهو أقرب إلى (المفهوم القرآني) أو (المفهوم الإسلامي).
بالنسبة لـ(الدولة)، أصلها اللغوي من (دال.. يدول.. دولة)، بمعنى: التداول، الانتقال، والتغيير. لكن هذا المصطلح، والعالق في أذهاننا جميعاً، لم يستعمل في (اللغة العربية)، بمفهومه المعاصر، ولا كذلك في اللغات الأخرى. فمصطلح (الدولة)، بمفهومه الحديث في الفكر السياسي المعاصر، لم تتداوله الأقوام السابقة، لكن وردت مصطلحات (ممالك) و(سلطنات) و(إمبراطوريات). و(الدولة) لها مفهوم قومي تقريباً (الدولة القومية) (الدولة القطرية)، وحالياً لنشوئها ضوابط في (الأمم المتحدة) و(القانون الدولي العام)، منها: الاعتراف والسيادة.
أما مصطلح (الشريعة)، فإذا تجاوزنا التحليل اللغوي، فهو مساوٍ للدين، أو مجموع أحكام الإسلام، ويشمل: (العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والقيم)، والمشكلة أن هذا المفهوم يجري تضييقه في الوقت الراهن، وكما يقال (فقد ضيقوا واسعاً)، واختُزِل بـ(إقامة الحدود). هذا إلى جانب الجدل المحتدم حالياً حول من المناط به (تطبيق الشريعة)؟ وهل الأخلاق والقيم، التي هي جزء من الشريعة، يتم فرضها؟! وهل للدولة دور في تطبيق الشريعة؟! وقد أشار الأخوة إلى بعض هذه المعاني. فلا يمكن فرض (الشريعة)، من قبل السلطة، ولا هو من مهام أجهزة الحكم والسلطة أن تقوم بفرض الشريعة، إلا في بعض جوانبها (القانونية) المرتبطة بـ(الحدود). في الحقيقة ظهرت مشكلة في هذا السياق، لم يكن لها وجود في السابق.

الحوار: السؤال الثالث: هل يمكن حصر مفهوم (الأمة) في عوامل اللغة والدين والتاريخ، وما إلى ذلك؟
الأستاذ (إسماعيل نوري):
المنطقي أن دراسة كل مرحلة (زمنية)، أو حقبة (حضارية)، بحاجة إلى منهج خاص، يأخذ بمعطيات ذاك الزمان، لا معطيات الوقت الحاضر. فكل (حضارة) تجسد مجموعة قيم، وإذا كان الحديث يدور حول (مصطلحات سالفة)، فهناك مجموعة مصطلحات مندثرة، ربما توجد في بطون الكتب والمصنفات فقط، لا وجود لها في الواقع المعاش. مثلاً: إذا بحثنا في بطون الكتب، سنجد ذكراً لـ(الإمامة) و(السلطنة) و(الإمارة) و(الخلافة)، ولا نجد تناولاً للمصطلحات الحديثة الشائعة فيها. ونرى حضوراً لعبارات ( الفقه) و(الاجتهاد)، وغياباً لمصطلحات كـ(القانون) و (الدستور) و(النظام)، كما أشار إليه الأستاذ (هيوا حامد). فـ(الدستور) قضية عصرية، فهو ينظم صلاحيات (الحاكم)، ويقنن علاقته بـ(المحكوم). وفي عصور (الخلافة الإسلامية)، كان الخليفة هو من تتركز بيده إدارة المؤسسات السياسية، والعسكرية، وغيرها، وينحصر إصدار القرارات في شخصه، حتى الوزراء كانوا مجرد أدوات تنفيذ، لا أكثر. وبخصوص (الشريعة)، فأصلها عبارة عن كلمات أنزلها الله لهداية الإنسان، وهي شاملة لـ(الأحكام) و(الحدود) و( القيم) و(الأخلاق)، وهذه جميعها غير منفصلة، ومرتبطة ببعضها، وردت بهذا السياق في (القرآن الكريم)، وعليه لا يمكن التعاطي معها جزئياً، وبخلاف ذلك سنتسبب في تشويه الدين، كما يحدث اليوم. على أية حال، مع احترامي الكبير للعلماء المعاصرين، كان الجانب (النظري) يطغى على الجانب (العملي) و(التطبيقي) في تعاملهم مع المصطلحات والمفاهيم، وهكذا كان حال (قدامى المسلمين)، فقد كانوا يرون (الشريعة) نصوصاً (ثابتة)، و(الفقه) نصوصاً (اجتهادية)، وفي أحايين كثيرة كانوا يخلطون بين (الفهم) و(الممارسة)، رغم تباينهما. فـ(الاجتهاد) على شقين: الأول: دلالة النصوص، والثاني: كيفية التطبيق، صواباً كان أم خطأ، فهذا أمر آخر. لذلك أصبحت الغلبة والعلوية لـ(الفقه)، أي أن (الاجتهادات) و(الروايات) أضحت (الأصل)، وتم نسيان (الأصل). وكما قلت، هناك بعض المصطلحات في (القرآن الكريم) لم يتناولها (الفقه) كثيراً، مثل: (الشورى). ولأن غالبية الخلفاء (توارثوا الحكم)، أو نالوه بـ(القوة المسلحة)، استحدث الفقهاء إزاء ذلك مصطلح (المتغلب - الحاكم المتغلب)، فغاب مصطلح (الشورى). وكذلك مصطلح (الأمة)، واستحدث بدلاً عنه مصطلح (دار الإسلام): "وهي تلك الرقعة الجغرافية التي يطبق فيها الإسلام"، بغض النظر عن اختلاف الناس في الدين، في ظل دار الإسلام، المهم أن قمة الهرم السياسي كانت للمسلمين.

الأستاذ (عمر إسماعيل) يضيف:
بين (الدولة) و(الأمة) عموم وخصوص من الوجهين، ربما تكون (الأمة الواحدة) مشتملة على عدة دول، وقد تكون (الدولة الواحدة) مشتملة على أمم متعددة.

الأستاذ (هيوا علي):
لا أتحدث عن مفهوم (الأمة)، فالأستاذ (عمر إسماعيل) له قصب السبق في ذلك، خصوصاً وأن رسالته للماجستير عن مفهوم (الأمة)، فأكتفي بملاحظة قصيرة، وأقول: إن المصطلحات الحالية بحاجة إلى قراءة جديدة، فما فائدة المصطلحات إذا لم تساعدني في الواقع الحياتي! أنا أحسب أن مفهوم (الأمة) يأتي في مقابل (الأحلاف) و(التكتلات الدولية)، كـ(الاتحاد الأوروبي)، الذي تتضامن دوله لأهداف وغايات مشتركة. وأعتقد أن القصد من قول (الأمة الاسلامية)، هو( الهوية). وبالنسبة لـ(الشريعة)، فقد وردت في (القرآن الكريم) كـ(فعل) و(اسم)، فالأمر متعلق بـ(الثوابت والمتغيرات)، لأن (الشريعة) تشتمل على (الثوابت والمتغيرات). فقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ}، ففعل أداء التشريع في الدين هو الشرعة والمنهاج.
وبشأن مصطلح (الدولة)، أتصور أن ارتباط (الدولة) بـ(القومية) آخذ بالاضمحلال، وأظن أنه في العصور السابقة كانت هناك (كيانات سياسية مستقلة)، لكن ضمن إطار(الخلافة) الواحدة.

الحوار: السؤال الرابع: ما هي شروط (تطبيق الشريعة)؟
الأستاذ (عمر إسماعيل):
مبدأياً الرجوع إلى (الشريعة) واجب. ومجاراة للمصطلح، سواء كان (تطبيق الشريعة)، أم (اتباع الشريعة)، فهو (واجب)، وأصل من (أصول الدين)، بدليل قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وهناك العديد من (الآيات القرآنية) للدلالة على (الشريعة) جاءت بهذا التعريف: "هي القواعد والقوانين التي أنزلها الله عن طريق الوحي إلى الإنسانية، وجعلها مرجعاً لجميع القوانين والنظم والقواعد، فهي واجبة، والالتزام بها واجب على المستويين (الشخصي – الفرد) و(الفضاء العام – الدولة)، حيث يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. هذا من حيث الوجوب، على شرط عدم تجزئة (الشريعة)، استناداً للتعريف الشامل الذي ذكرته. فهذه الشمولية في النظرة لـ(الشريعة)، ابتداءاً من (العقيدة) و(الأحكام)، نستنبط منها شيئين:
الأول: لا يمكن القول بأن (الشريعة) معطلة، لأنه وفق المفهوم الشامل لـ(الشريعة)، فإن جزءاً منها مطبق بالفعل. ولو تدبرنا (القرآن الكريم) لوجدنا أن الخطاب موجه إلى المجتمع ككل، وليس لشخص بعينه، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، ذكر (89) مرة في القرآن، ابتداءاً من (إقامة الصلاة)، وحتى (النكاح والزواج)، حيث يقول تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
الثاني: اتباع (الشريعة)، أو تطبيقها، ليس محصوراً في (الدولة)، فالجدل الحاصل داخل (المجتمع)، أو (التيارات الإسلامية)، أو حتى داخل التيارات المناهضة لـ(التيار الإسلامي)، بين مؤيد ومعارض لمسألة تطبيق (الشريعة).. مكمن المشكلة هو حصر تطبيق (الشريعة) في مسائل (إقامة الحدود) (القطع والجلد والتعزير). ويجب أن نعي قضية غاية في الأهمية، وهي أن كل نظام (قانوني) و(تشريعي) له غايات وأهداف عليا، يسعى لتحقيقها أثناء سنه لـ(التشريعات) و(القوانين)، وهي تحقيق (العدالة الاجتماعية)، و(صيانة كرامة الإنسان). لقد حدد الفقهاء حقوقا أساسية للإنسان في المجتمع المسلم، أو في دولة مسلمة، ينبغي أن تتوافر له، قبل تطبيق الحدود، حيث ينبغي أن يكون للإنسان بيت يؤويه، ويحفظه وأولاده من برد الشتاء، وحرارة الصيف، وطعام وشراب ملائمان، وكساء يستره ويكفيه صيفا وشتاء، وخادم يساعده، إذا كان غير قادر على تلبية حاجاته بنفسه، ومركب يركبه، إذا اقتضت مصلحته إلى ذلك. بعد ذلك، وبعد توفير الحاجات الأساسية، إذا سرق الإنسان، أعقبه تطبيق (الحدود). فلا يمكن للدولة سن العقوبات، وإنفاذها، قبل تحقيق العدالة والحرية والرفاهية في المجتمع. وأضيف أيضاً: إن حيز (إقامة الحدود) ضيق دائماً، هذا من جهة، ومن جهة ثانية مسألة (تطبيق الشريعة)، أو (الالتزام بالشريعة)، من مسؤوليات (الأمة- المجتمع)، وليس من مسؤوليات (السلطة السياسية) وحدها. فالدولة إحدى المؤسسات التي ينشؤها المجتمع، لتطبيق ذلك الجزء الذي يتطلب تنفيذه من (الشريعة – التشريع)، فـ(الدولة) مؤسسة سياسية إلى جانب المؤسسات الأخرى التي ينشؤها المجتمع، لتطبيق (الأحكام الحقوقية) في (الشريعة).

الحوار: نستشف سؤالاً من إجابة الأستاذ (عمر إسماعيل)، وهو عدم جواز القول بأن (الشريعة معطلة)؟
الأستاذ (علي صالح ميران):
حتى في القرون السالفة لم يجر (تطبيق الشريعة) مئة بالمئة، فتطبيقها كان نسبياً. ولكن لـ(تطبيق الشريعة) شروط، منها: (فهم الوحي)، أي الأخذ بنظر الاعتبار مصالح العباد، فالصحابة (رضوان الله عليهم) طبقوا (الشريعة) وفق (مقتضيات المصلحة)، مثلاً: قام الخليفة (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) بتعليق حد (قطع اليد)، وعدم توزيع (أرض السواد)، تحقيقاً لمصلحة مبتغاة.

الحوار: سؤال آخر: إذا كان مبدأ المصلحة هو الأصل في (تطبيق الشريعة)، فهل يمكن الاحتكام إلى (قوانين وضعية)، طالما كان الأصل فيها دفع المفاسد وجلب المصالح؟

الأستاذ (هيوا حامد):
بداية أرغب بالتنويه إلى عدة مسائل حول (تطبيق الشريعة)، منها: إن سلمنا بأن (الشريعة الإسلامية) ليست مرادفا لـ مفهوم (التشريع) المعاصر، أي إنها ليست مجرد بعض الأحكام والحدود، فإن تطبيقها، أو اتباعها، ليس مرهوناً بوجود الدولة، بدليل أنه وبعد سقوط الخلافة الإسلامية، لم يعد يوجد دولة في العالم الإسلامي تطبق الشريعة، على المستوى الرسمي. أما على المستوى الشعبـي، فإن الشعوب الإسلامية قامت - ولا تزال تقوم - بتطبيق الشريعة الإسلامية، بل ويزداد التمسك بأحكام الشريعة يوما بعد يوم، بفضل جهود الدعاة والمصلحين. وخير مثال، هو أنه مع عدم وجود (الدولة الإسلامية)، فلا زالت تجري، في المجتمعات الإسلامية الحالية، تأدية (فريضة الزكاة) تلقائياً، ونحن نعلم أن (جباية الزكاة) كانت وظيفة (الدولة) في (العصور الإسلامية) السالفة. ولذلك لو تتبعنا (التاريخ الإسلامي)، لما لاحظنا إقامة (الحد) على أحد، بسبب عدم التزامه بـ(الشريعة)، أوعدم إيمانه بها. لكن ذلك حصل بالفعل في أوروبا، خلال العصور الوسطى، إبان سلطة الكنيسة، فأقيمت (محاكم التفتيش)، للاقتصاص من المخالفين للمعتقدات الكاثوليكية، والبروتستانتية. فمن غير الممكن استخدام (الدولة) وسيلة لفرض (الشريعة)، بمفهومها الواسع، فإذا فرضت عليك الدولة (الصلاة والصوم)، فما حاجة الدعوة والهداية، ولماذا الثواب والعقاب الأخروي أصلاً؟! فالإكراه يمحو وظيفة (الدعوة) و(الإرشاد)، التي هي الأصل في الحث على (اتباع الشريعة)، والالتزام بها، وهي وظيفة الأفراد لا الدولة، بدليل قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}. إضافة إلى ذلك، فالدولة كائن متغير، تتغير خصائصها ووضيفتها وفقا لتطور المجتمعات. ولذا، فإنه من غير المستبعد، أن نرى يوما دولا لا تتدخل في أي شأن داخل مجتمعاتها، غير شؤون الدفاع عن الحدود، وبعض الأمور البروتوكولية،وتترك تنظيم شؤون المجتمعات لأنفسها.

الأستاذ (سالم الحاج):
أتفق مع هذا الطرح، فـ(الأوامر) و(التوجيهات) (القرآنية) موجهة للفرد والجماعة على حد سواء، ولا ذكر فيها لـ(الدولة). فـ(القرآن الكريم) لم يذكر (النظام السياسي) وتنصيب (الخليفة)، المسلمون هم من بادروا إلى ذلك الأمر، بعد وفاة (الرسول) (عليه الصلاة والسلام)، كحاجة وضرورة لملء الفراغ الذي تركه (الرسول) (صلى الله عليه وسلم)، مع عدم تعيينه لأحد بعده، لتولي (إمامة المسلمين). فمصطلح (تطبيق الشريعة) غير دقيق. وكما أشار آنفاً الأستاذ (علي صالح ميران) فإن (الشريعة) لم تطبق بحذافيرها مئة بالمئة، في أي زمان، لأن تطبيقها في الواقع خاضع للاجتهاد، فـ(الشريعة) جاءت منزلة كاملة، لكن تطبيقها خاضع لأحوال وظروف الزمان والمكان، وعلى هذا فـ(تطبيق الشريعة) نسبـي. ونصل بذلك إلى نتيجة مفادها أن (اتباع الشريعة) واجب على (الفرد) و(الجماعة)، و(الخطاب القرآني) موجه للاثنين معاً، وليس للدولة أو النظام السياسي. ومعلوم أن مسألة (تطبيق الشريعة) أحدثت مشكلة وجدلاً داخل التيارات الإسلامية نفسها. ونعيد التأكيد على أن (الإسلام) نفسه مطبق، ويبقى أن نفهم من المستهدف من خطاب: {فَاقْطَعُواْ}، وهو بصيغة (الجمع): هل الأفراد من يقومون بمهمة (إقامة الحدود)، كل من جانبه، أم أن هناك سلطة (قضاء) (إمام) تناط به هذه المهمة؟!.. بالطبع إن الدولة، أو مؤسساتها، هي التي تنوب عن (الأمة)، في مسألة (إقامة الحدود)، ولا يحق للأفراد اللجوء إلى ذلك بأنفسهم..
أما مسألة الأخذ بـ(قوانين وضعية)، إلى جانب (الأحكام الشرعية)، فهذه مسألة قيل فيها الكثير، وليس هناك ما يمنع من الأخذ بأية أحكام، أو قوانين لا تتعارض مع كليات الشرع.

الأستاذ (إسماعيل نوري):
أولاً: إن شرط (تطبيق الشريعة) شاع بين (المسلمين) في كليات وجزئيات (الشريعة). ثانياً: (الشريعة) مجموعة بنود مرتبطة ببعضها، لا تؤدي مهمتها، التي أنزلها الله (تعالى)، وهي منفصلة. ثالثاً: الشخص المتبع لـ(الشريعة) لا يقال له (عابد) و(صالح)، فـ(العبودية) و(الصلاح) أمران آخران، وهما مدارج ومنازل ينالهما المسلم بـالتقيد بـ(الفروض والطاعات). رابعاً: (الشريعة) تشتمل مقاصد (دنيوية)، وأخرى (أخروية). خامساً: (تطبيق الشريعة) على مستوى الأمة، يتضمن مبادئ (الشورى) و(العدل) و(الحرية) و(الشرعية) و(المشروعية). سادساً: تطبيق الأحكام يبدأ من الأعلى، وإلى الأسفل، من أعلى فرد في السلطة، إلى آخر فرد في الدولة، وليس من قاعدة الهرم إلى قمته. سابعاً: (تطبيق الشريعة) في جزء منه منوط بالفرد، وفي جزء آخر منوط بالمجتمع، وفي جزء آخر أيضاً مناط بالدولة. فمثلاً: إذا كان المطلوب تحقيق (العدالة والأمن والرخاء)، ولهذه المسائل الثلاثة مدلولات قرآنية، فمن يحقق ذلك، إن لم تكن الدولة ذاتها؟ فمن البديهي أن (الأحكام القانونية)، التي تنظم المجتمع، يناط تطبيقها بالدولة، وتكون مقترنة بـ(الإكراه) و(الجزاء). وما تفضل به الأستاذ (هيوا حامد)، بشأن (الإيمان) و(القيم) و(الأخلاق)، فهذه مسائل (فردية)، لا علاقة لها بـ(الدولة) أساساً، وليس هناك خطاب إلهي يدعو إلى ربطها بصلاحيات (الدولة)، لكن غالبية التيارات المتطرفة تربطها بعمل (الدولة).

الأستاذ (هيوا حامد) يعقب باختصار:
حالياً بدأ يتبلور (تصور واضح) و(فهم ناضج) لدى (التيارات الإسلامية الوسطية)، بشأن (تطبيق) أو(اتباع) الشريعة. فالمفكر الإسلامي (راشد الغنوشي)، وغيره من المفكرين الإسلاميين، لديهم طروحات في هذا السياق، تتمحور حول ( الدولة المدنية) بـ(مرجعية إسلامية). وأرى بأن واجب الدولة تجاه الشريعة الإسلامية، في المجتمعات الإسلامية، هي حماية (الدعوة)، وليس فرض أحكام الشريعة على المواطنين.

 الأستاذ (إسماعيل نوري):
الخضوع للقوانين أمر لازم، خصوصاً وأن الشخص الذي يعيش في دولة أجنبية، مثل (فرنسا)، تتحاكم إلى (دستور)، مبني على (قوانين وضعية)، مستفتى عليه من قبل الشعب، لا بد من أن يحترم تلك الإرادة، ويخضع لها. وهناك أمر آخر، وهو أن (القرآن الكريم) يأمر بـ(إقامة الحد) على السارق الذي اتخذ من السرقة مهنة، لا السرقة بهدف سد الرمق وتجنب الهلاك.

الحوار: هل الشريعة بحاجة إلى تهيئة أرضية مجتمعية لتطبيقها، أو القبول باتباعها؟
الأستاذ (هيوا علي):
أنا أتفق مع القول بأن (تطبيق الشريعة) مرتبط بـ(الأمة)، كما أشار إليه الأساتذة، وأنه لا بد من وجود (كيان سياسي) تناط به مسؤولية (تطبيق الشريعة)، في شق الأحكام القانونية والحقوقية، وخلق الاستعداد لدى الناس للقبول بـ(الشريعة)، وتطبيقها عليهم، باعتبارها منزلة من الله (تعالى). ولا يمكن (تطبيق الشريعة الإسلامية) على غير (المسلمين)، لأن ذلك ينافي مفهوم (الدولة المدنية) ذات (المرجعية الإسلامية)، التي تنادي (التيارات الإسلامية الوسطية) بإقامتها. والأمر الآخر في (تطبيق الشريعة)، هو(جلب المصالح، ودرء المفاسد)، سواء كانت (مصالح) أو (مفاسد) (سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية). والسؤال هنا: كيف يمكن إيجاد حيز لـ(المسلمين) لإدراج شريعتهم في الدستور، والتحاكم إليها في (الدولة الحديثة)؟

الأستاذ (عمر إسماعيل):
أشدد على أن (الدولة)، كأي مؤسسة ينشئها المجتمع، وأحبذ استخدام مصطلح (المجتمع)، بدلاً عن مصطلح (الأمة)، لأن (الأمة الإسلامية) نفسها باتت مفككة، وعليه فإذا استطاع مجتمع ما تسيير شؤونه بنفسه، وتحقيق قيم (العدالة والكرامة الإنسانية)، فحينذاك تكون (السلطة – الدولة) غير واجبة كـ(واجب ديني)، بل كـ(واجب سياسي واجتماعي). وبالعودة إلى مسألة (الشريعة)، وتحديداً (الأحكام الحقوقية)، فتطبيقها منوط بجهات سيادية، كـ(المحاكم والقضاة)، وهي مخولة من المجتمع ذاته للقيام بإنفاذ (التشريع). ونؤكد دوماً أن الالتزام بـ(الشريعة) هو أصل وواجب ليس فيه نظر. ولا جدال حول أن (الشريعة هي المرجع)، لكن السؤال هو: من هي الجهة التي تقرر (مرجعية الشريعة)؟ هل هي (السلطة السياسية)؟ الإشكال يكمن هنا.. هناك من يتصور أنه بمجرد (سيادة الإسلام)، و(تنصيب الخليفة)، يجري (تطبيق الشريعة) دون مقدمات! يجب أن لا نغفل أن (تطبيق الشريعة) عملية اجتماعية تخلو من الإكراه، بدليل قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. وإذا كان ذلك في مسألة (العقيدة)، فكيف بمسألة (تطبيق الأحكام)؟! وهنا بيت القصيد: قضية (السيادة). فبعض الإسلاميين يقولون بأن (السيادة لله)، وآخرون يشددون على أنها لـ(الشعب) أو (الأمة)، فـ(الشعب) هو المكلف بـ(تطبيق الشريعة)، إذا قررت غالبيته أن (الشريعة) هي المرجع، من خلال آلية (الاستفتاء). وفي هذه النقطة أجيب على سؤال الأستاذ (هيوا حامد)، ويجب العمل على تحصين المجتمع، وتوفير سبل العيش والاكتفاء لأفراده، من خلال خلق المناخ والأرضية المناسبة لذلك، كما أشار الأستاذ (إسماعيل نوري)، فـلماذا (الشاب) يرتكب معصية الزنا!؟ في ظل ما يسمى (الدولة الإسلامية)، التي من المفترض أنها يسرت له سبل الزواج والعفاف، وتأمين حياة كريمة في ظل مجتمع لا تسود فيه رذيلة. إذاً (الدولة) تتحمل المسؤولية، فالأولى إقامة (حد الجلد) على المتسببين بحصول تلك الجريرة. وما كان تعليق (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) حد قطع اليد على السارق، إلا لعدم حصوله على قوت يومه، وفي حال تحقق الرخاء في المجتمع، وتيسرت سبل العيش الكريم، وعمد شخص ما إلى ارتكاب المخالفات، فذلك هو الاستهتار بعينه. وكما قال الشيخ (محمود غريب) (رحمه الله): هناك (يد عاملة)، فالإسلام يحترمها، وهناك (يد عاطلة)، يحرص الاسلام على إيجاد عمل لها. وهناك (يد بها عاهة)، يجب تأمين معيشتها. ويد ثالثة (مستهترة)، هي من يقام عليها الحد. وأود أن أوضح شيئاً آخر، وهو أن إقامة (الدولة الإسلامية) ليست قراراً فوقياً، ولا يمكن أن يكون عبر الانقلابات العسكرية، بل هي عملية اجتماعية واسعة.
كلمة أخيرة: (الدولة) في (الفكر السياسي الإسلامي)، وما تقدمه خبرة المسلمين العملية، عبر تاريخ طويل، فإن وظائفها - كما أرى- محدودة، فهي ليست (دولة شمولية)، (متغولة)، كما هي اليوم، بل تنحصر مهامها في إدارة شؤون (الداخلية، والخارجية، والعدل، والمالية)، والمجتمع هو الذي يسير أموره في بقية الأبعاد. وذلك وارد في (التاريخ الإسلامي)، منذ عصر (الرسول) (صلى الله عليه وسلم)، ومروراً بـ(الخلافة الراشدة)، وانتهاءاً بـ(العثمانية). فبقية المجالات الحيوية، كالتربية والتعليم والصحة والتجارة والزراعة والصناعة، وغيرها من الشؤون الاجتماعية كلها، فإن (المجتمع) هو الذي يتولى إدارتها، وتسيير أمورها، وتنظيمها. لذلك لو استعرضنا تاريخ العصور الإسلامية: الراشدية، والأموية، والعباسية، و..، لا نجد هناك من يسمى وزير أو مدير أو والٍ للشؤون الزراعية والتربوية والصحية...إلخ. فعلى هذا الأساس، فإن المواطن العادي في تلك المجتمعات الإسلامية، حاجته إلى الدولة ضئيلة، ومراجعاته إلى دوائرها قليلة جدا، ولذلك لم يتأثر كثيرا بما يصدر من السلطات من ظلم أو مخالفات..

الأستاذ (سالم الحاج):
لنفترض جدلاً صحة استخدام عبارة (تطبيق الشريعة) - وهي في ذاتها عبارة (إشكالوية)-، ولكن (الحدود)، أو القوانين الجزائية، الواردة في القرآن: {فَاقْطَعُواْ}، و{أدَّوْا}،..إلخ، فهذا (الخطاب القرآني) موجه إلى (المجتمع)، وهو الذي يقوم بتحقيق ذلك عن طريق (السلطة)، التي يمنحها الشرعية. فـ(إقامة الدولة) جزء من (اتباع أو تطبيق الشريعة)، لأن بعض المفاهيم كـ(العدل) و(الشورى)، لا تتحقق إلا بوجود (الدولة). و(الشرع) هو (مصدر القوانين)، وهو (مقدس)، لأنه (الدين - الإسلام) نفسه، فهو الضابط لسلوك وتصرفات الأفراد، ونحن نستنبط منه (الفقه)، الذي هو الاجتهاد المتغير بتغير (الزمان) و(المكان).

الحوار: تفضل الأستاذ (عمر إسماعيل) بالقول إن (الشريعة) (واجبة)، وهي (المرجع)... هل تتفق مع هذا الطرح؟ السؤال موجه إلى الأستاذ (علي صالح ميران)؟
الأستاذ (علي صالح ميران):
ليس هناك (نص قطعي الثبوت) فيما يخص (الحكم) و(السلطة)، والدليل عدم تحديد أو تعيين (الرسول) (صلى الله عليه وسلم)، قبيل وفاته، خليفة له. ولو كان هناك نص (قطعي الثبوت)، لما تجرأ أحد على الخروج على (منهاج الخلافة)، وجعل الحكم (ملكاً عضوضاً). ومن ناحية ثانية، (تطبيق الشريعة) في المجتمع يتوجب فيه إجراء (استفتاء عام) لمعرفة مديات قبول الناس بتحكيم (الشريعة الإسلامية).

الأستاذ (عمر إسماعيل) يعلق:
كان الأفضل أن نركز في هذه (الندوة) على مفهوم (السيادة) في (الفكر الإسلامي)، لمن تكون (السيادة)؟ فـ(السيادة) مصطلح حديث. يقول (جان بودان): هي "الإرادة العليا التي يمكن أن تكون موجودة في المجتمع"، أو "القوة العظمى التي تعتمد القوانين"، ووفق ذلك نسأل: هذه الإرادة، التي تجعل الإسلام مرجعاً داخل المجتمع، لمن تكون؟. ومن الواضح أن الجدل لا زال قائماً بين (الإسلاميين) حول لمن تكون (السيادة)، فالبعض يقول (لله)، والبعض الآخر يقول (للشريعة)، ومنهم من يردها لـ(الأمة)، وآخرون لـ(الدولة). وخلاصة القول: السيادة هي ما تمارسة الأمة، أو لنقل: المجتمع، من اعتماد القوانين، وإضفاء الشرعية على السلطات الرسمية.

الحوار: إذا تعددت الشرائع داخل الدولة الواحدة، فأي الشرائع تكون مرجعاً، وما مفهوم المواطنة داخل هذه الدولة المتعددة الشرائع؟
الأستاذ (هيوا حامد):
(وحدة النظام القانوني) أحد أهم خصائص الدولة الحديثة، و(المواطنة) هي أساس الانتماء للدولة الحديثة. وأرى بأن (الشريعة) و(الدولة) ليستا متضادتين، بل العكس بالإمكان موائمتهما بكل سهولة، لأن مناط سريان تطبيق القانون في الدولة، والالتزام به، يقوم على أساس المواطنة، أما (اتباع الشريعة)، فمناطه (الإيمان) الاختياري للأفراد، ولا إلزام فيه.

الأستاذ (سالم الحاج):
الأمر الأول: نحن متفقون على أن (الشريعة) مرجع لـ(القوانين)، ومصدر لترشيد (السلوك)، وحتى لتأسيس (الدولة) ذاتها. الأمر الثاني: تعدد الشرائع داخل (الدولة الإسلامية)، كان وارداً، واليوم حيث (الدولة القطرية)، ثمة إشكالات إذا تحدثنا عن (ذمي) و(جزية). وكما يقول الفقهاء، فإن هذه من قبيل (السياسات الشرعية)، وليست هي من قطعيات الأحكام، التي لا يمكن تغييرها. ولا مناص من أن (المواطنة) هي الأصل في الانتماء لـ(الدولة)، و(الوطن) هو الأساس والمحدد لـ(الحقوق والواجبات). و(دول المسلمين)، تاريخيا، لم تكن محددة، والمواطن في أي بقعة منها، كان من الرعايا، أياً كان دينه، وطائفته.

الحوار: وفق إجابات الأساتذة، لا بد أن تكون الدولة (محايدة)، أي (علمانية)؟
الأستاذ (هيوا حامد):
(الدولة) تكون (إسلامية) بـ(القيم)، فـ(الدولة) التي لا تحقق (العدل والشورى والحرية)، لا يمكن أن تكون (إسلامية)، وإن تسمت بهذا الاسم. والالتزام بـ(الدين) أو (الشريعة) أمر اختياري: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ولـ(الحرية) دور كبير، فهي قيمة عليا في (الدين الإسلامي)، فلو ألزمت (الدولة) مواطنيها بـ(اتباع الشريعة)، فحينذاك تفقد الدعوة مفهومها ووظيفتها. والمسلمون اليوم أمام تحديات نظرية (الدولة العلمانية)، وتطبيقاتها، فيطرحون في المقابل نظرية (الدولة المدنية) ذات المرجعية الإسلامية.

الأستاذ (سالم الحاج):
نؤكد أن لا وجود في التاريخ لـ (دولة) باسم (الدولة الإسلامية)، بل هي (دولة المسلمين)، أي (دولة) اجتهد فيها المسلمون في فهم الدين وتطبيقه. وعرض الفقهاء لمسألة (الدولة)، وأجمعوا على أنها ضرورة (شرعية وعقلية)، وقالوا بأنها حارسة وحامية للدين، ولأجل (حفظ الدين) برروا لـ(الحاكم)، أو (الخليفة)، السلطة المطلقة، بل أضفوا نوعاً من القداسة على شخصه. ولو تمعنا في التاريخ، لوجدنا أن غالبية (الحكام)، كانوا يتصرفون في (المال العام) دون رقيب، ويأمرون بقطع الرؤوس دون رادع. علماً أن (حفظ الدين)، أمر تكفل به الله (تعالى)، وأوجبه على الأمة بأجمعها. ووظيفة (الدولة) هي (إقامة العدل)، والأخذ بـ(الشورى). وكما أشرنا سابقاً إلى أن جزءاً من تطبيق الشريعة يناط بالدولة، بحسب (العقد الاجتماعي)، فإذا كانت (الشريعة) مصدراً لـ(القوانين) لدى (المسلمين)، فغيرهم لديهم مصادرهم الخاصة، مثل (القانون الطبيعي)، يستنبطون منه (التشريع والأحكام). وكنا أسلفنا القول أيضاً إن (الشريعة الإسلامية) لها قدسية في جزء (العقائد والأحكام القطعية)، وهناك جزء منها يسمى (الاجتهاد أو الفقه)، ويبنى على أسس عامة كـ(الإجماع والقياس والعرف).


الأستاذ (عمر إسماعيل):
أتفق مع الأستاذ (هيوا حامد) بأن (الدولة الإسلامية) يقصد بها (دولة القيم)، قيم (العدل والحرية والشورى والشرعية والمشروعية). وأي دولة تحقق هذه القيم، فهي دولة مقبولة (إسلامياً). ومسألة (التحاكم إلى الشريعة)، تكون بناءاً على عملية اجتماعية دعوية، أي أن (المجتمع) يختار ممثليه إلى المجلس النيابي بحرية تامة، فيعمل المجلس وفق (أغلبيته)، على سن (القوانين) المستمدة من (الشريعة الإسلامية). وهذه القوانين، في شطر منها، لا تُـفرض على أصحاب الديانات الأخرى، من مواطني نفس الدولة، لكن في شطر آخر، والمتمثل بـ(الأحكام القانونية الجنائية)، وغيرها، فهي تفرض على الجميع، دون استثناء.

الأستاذ (إسماعيل نوري):
هناك عدة مسائل يجب الفصل، أو التمييز بينها، وبداية لا بد أن نحدد هل نحن بصدد تناول المسائل (نظرياً) فقط، أم أننا نبحث سبل (تنزيلها) على أرض الواقع؟ أي: هل النقاش حول كيفية (التطبيق)، وأقصد (تطبيق الشريعة)؟ فهل هناك تطبيق مغاير لما تسميه بعض (الدول الإسلامية) تطبيقاً لـ(الشريعة)، والذي هو أصلاً إساءة للدين، وتشويه لقيمه؟. وأشدد في هذا المقام على أهمية (تهيئة الأرضية المجتمعية) للقبول بـ(الشريعة)، وتطبيق مضامينها، بالاضافة إلى وجوب خضوع الإثنيات والأقليات الدينية الأخرى لرأي واختيار وإرادة (الأغلبية الإسلامية) في المجتمع، بشأن القوانين التي تستمد من الشريعة، مع مراعاة حقوق تلك الأقليات الدينية، في إطار المواطنة، والإذعان للأغلبية. وبالنسبة لإقامة حد (قطع يد السارق)، والانتقادات التي توجه إلى هذه المسألة، دعونا نتناول تطبيق هذا الحد بالعقل والبرهان، مع تحفظنا على (التطبيق)، في ظل غياب العوامل المجتمعية، التي ذكرناها سابقاً، فلو أتينا بسارقين، وأقمنا (حد قطع اليد) على أحدهما، وقضينا بسجن الآخر لفترة طويلة، برأيكم أيهما أخف ضرراً، أليس من قطعت يده جزاء فعلته، لأنه يستطيع ممارسة حياته العادية، وإعالة أسرته، والاندماج في المجتمع خلال فترة وجيزة، بينما السجين يبقى حبيس الزنزانة، فيكون معزولاً عن المجتمع، وبعيداً عن أسرته، ولا يستطيع إعالتهم، فبذلك أوقعنا الضرر على نفسه، وعلى أسرته معاً؟! وأما مسائل (العدل والكرامة الإنسانية والحرية والرفاه)، فلا مناص من (السلطة) لتحقيقها، فهي الوحيدة القادرة على ذلك. ولا أهمية لمسمى (دولة إسلامية)، لا تتحقق فيها (العدالة)، ولا تصان الكرامة الإنسانية، وتسود الحرية، وتستمد السلطة مشروعيتها من الشعب.

الحوار: ما الذي يضيفه الأساتذة، في ختام هذا النقاش، حول مفهوم تطبيق الشريعة بين الدولة والأمة؟
الأستاذ (عمر إسماعيل):
(الشريعة) مفهومها واسع، فهي حاوية للقيم العليا (الحرية والشورى والكرامة الإنسانية). و(الدولة) مؤسسة من مؤسسات المجتمع، أي أن (المجتمع) ينشئها كباقي المؤسسات، لأجل تطبيق شطر (الأحكام الحقوقية) في (الشريعة). وأما أن (تطبيق الشريعة)، أو (الالتزام) بـها، من (الواجبات)، وهو مسؤولية (الأمة)، فلأن (الخطاب القرآني) بمجمله موجه إلى (الأمة)، فهي الأصل، و(الدولة) فرع. و(تطبيق الشريعة) لا يمكن اختزاله في (إقامة الحدود)، فـ(الحدود) شطر من الأحكام، التي هي أيضاً جزء من (الشريعة) نفسها. وليس من (تطبيق الشريعة) في شيء، ما لم يسبق ذلك تهيئة الأرضية من (إقامة للعدل)، و(الأخذ بالشورى)، و(تحقيق مجتمع الرفاه). و(تطبيق الشريعة) لا يعني الاجتهادات التي تزخر بها الكتب والمصنفات الفقهية، لأنها نتاج العقل البشري، المستنبط من المصادر التبعية للشريعة الإسلامية، في مراحل زمنية ومكانية متفاوتة. و(المسلمون) اليوم بحاجة إلى (فقه حديث)، يستوعب المتغيرات الراهنة، وقبل ذلك مراجعة (الفتاوى) و(الاجتهادات) الفقهية السابقة، وغربلتها، وبيان انتهاء العمل بها، لانتهاء زمانها ومكانها.
وأقول في النهاية: إذا كان إنزال العقوبة، على من تحسبهم السلطات مجرمين ومخالفين، شريعة، فإن تهيئة الحياة الكريمة، والحفاظ على كرامة الإنسان، وعدم التعدي على حقوقه، أيضاً جزء من الشريعة. وكذلك فإن تحقيق العدل، والمساواة أمام القانون، وتأمين الحريات العامة، وتحقيق التكافل والعدالة الاجتماعية، هي أيضا جزء أساسي من الشريعة. فلا ينحصر تطبيق الشريعة في تطبيق الحدود.

الأستاذ (علي صالح ميران):
(الشريعة) لا تتضمن إشارات إلى فرض نفسها بالإكراه، بل العكس تؤشر ضرورة قبول المجتمع بها، من خلال تحقيق قيم العدالة، والتي هي في الأساس محور (الشريعة). ولو تصفحنا (التاريخ الإسلامي)، وتحديداً عصر الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه)، لرأينا فترات عاشها الناس في (فاقة) و(عوز) شديدين، مع رضاء مجتمعي كبير، لأن الأزمة كانت شاملة، والكل كانوا في ظل حكم لم يميز بين محتاج وآخر، وشاع في ظله العدل. لكن الأمر بدا مختلفاً في عصر الخليفة الراشد (عثمان بن عفان) (رضي الله عنه)، مع فسحة من الاستقرار المعيشي، ونحن ندرك تماماً أن تمدد (الإسلام)، وانتشاره، لم يكن بالفتوحات فقط، بل بالقيم التي حملها المسلمون للعالم. وصحيح أن (القانون) و(العدل) يسودان المجتمعات الغربية، (الأوروبية) تحديداً، فلهذه الدول نظام رائع، وضعه الخبراء، من أجل إسعاد المجتمع، وتوفير الراحة والرفاهية للجميع، دون النظر إلى جنسهم ودينهم ولونهم، وهذا ما يدعو إليه ديننا الإسلامي. لكن هناك ضعف رهيب في العلاقات الاجتماعية بين أفراده، وفي ظل هذا النظام تنعدم الرحمة وصلة الرحم، ونرى في كثير من الدول المتقدمة تكنولوجياً، أن هناك آلافاً من الجياع، والمشردين، يحصلون على لقمة عيشهم من مخلفات القمامة، وهناك ظواهر من قبيل وجود (عصابات) تسرق وتقتل بدوافع إجرامية خطيرة. وأنا مقتنع تماماً بأن روح الفرد المسلم أكثر انفتاحا للخير، وهي الأفضل، من نواح كثيرة، لكن النظام السياسي والاجتماعي والقضائي، عندنا، فاسد ومتخلف وغير حضاري، وهو الذي جعل من الفرد المسلم يتجمد، ويتوقف عقله، ولا يرى إلا ظله، ويسبح ضد التيار، وآخر مطافه هو أن يكون خارج الحضارة..

الأستاذ (هيوا حامد):
ختام القول، (الشريعة الإسلامية) - بمفهومها الواسع- أفضل منهاج هداية للإنسانية، فلا منهاج يضاهيها من حيث إيصال (الإنسان) إلى حقائق توحيد (الألوهية) و(الربوبية)، و(الجنة والنار)، و(الثواب والعقاب). و(الشريعة) أكبر من (الدولة)، وأشمل مفهوماً منها، رغم أن البعض يحاولون اختصارها في بعض (الأحكام والحدود)، والتي لا تطبق بدون (الدولة). ولكن الجزء الأهم في (الشريعة الإسلامية) هو (العقائد والعبادات والأخلاق)، وهي شؤون لا تحتاج إلى وجود الدولة أصلا، لكي يتم تطبيقها، والالتزام بها.

الأستاذ (سالم الحاج):
تأكيدا على ما سبق في إجاباتي وإجابات الأساتذة حول مفهوم الشريعة، أقول بأن مفهوم (تطبيق الشريعة) غير دقيق، بل أجزم بأنه مفهوم خاطئ، فـ(الشريعة) (مطبقة)، وهي مصدر لـ(القوانين) و(الالتزامات)، والجميع مخاطبون بـ(الشريعة): (فردا) و(مجتمعا) و(دولة)، باعتبار الأخيرة (مؤسسة) من مؤسسات المجتمع. و(المسلمون) أدركوا بعد وفاة (الرسول) (صلى الله عليه وسلم)، أن مبادئ (العدل والشورى والحرية)، لا تتحقق إلا من خلال (نظام سياسي). و(الشريعة) جزء منها: (مصدر – نصوص ثابتة)، والباقي (فقه).
وليس هناك شيء اسمه (دولة إسلامية)، بل هي (دولة المسلمين)، باعتبار أن (المسلمين) مسؤولون عن (دولتهم)، و(التيارات الإسلامية)، داخل هذه (الدولة)، تسعى إلى تحكيم (الشريعة) (عقيدة) و (قوانين)، على مستوى (الفرد) و(المجتمع).

الأستاذ (هيوا علي):
أختم بالقول: (تطبيق الشريعة) يحتاج إلى (وسائل)، و(ميكانزمات) عصرية، على ضوء فهم جديد، يبدد مخاوف الناس، ويزيل مفهوم الإكراه في (تطبيق الشريعة)، ويفند أفعال المتطرفين من أمثال (تنظيم داعش)، ويوضح أن (تطبيق الشريعة) مرتبط في جزء منه بإعلاء مصلحة الإنسان. ولا شك أن لـ(الإعلام) ووسائل (الاتصال) و(الندوات والمؤتمرات) الجماهيرية دوراً هاماً في طمأنة الناس، بأن تصرفات بعض التنظيمات المتطرفة، مثل: (داعش)، هي حالة طارئة مخالفة لـروح (الشريعة الإسلامية).


الحوار: ختاماً نتوجه بالشكر الجزيل إلى الأساتذة الأفاضل، الذين أثروا بطروحاتهم موضوع الندوة، ونتمنى لهم الموفقية والسداد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق