د. فرست مرعي
المبحث الثالث
موقف المؤرخين
السريان من معركة حطين وتحرير بيت المقدس
أولا: موقف المؤرخين السريان من معركة حطين 1187م/583 هـ
مما لا شك فيه أن هناك تداخلا
في عناوين الروايات التي يوردها كل من ميخائيل الكبير، والرهاوي المجهول بين معركة
حطين وتحرير بيت المقدس، فعلى سبيل المثال إن عنوان (ميخائيل) لهذه الحادثة هو كما
يلي:(في انتزاع (صلاح الدين)سلطان مصر، القدس من الإفرنج وإخضاعها للمسلمين، وغيره
من الأحداث التي في هذه الفترة)([1]).
أما عنوان (الرهاوي) فهو: (الحرب على الفرنج والانتصار عليهم،
والاستيلاء على مدنهم، وتخريب بلدانهم، ونهبها، واحتلال اورشليم، وإبادة سكانها إبادة تامة)([2]).
والاستيلاء على مدنهم، وتخريب بلدانهم، ونهبها، واحتلال اورشليم، وإبادة سكانها إبادة تامة)([2]).
أما (ابن العبري)، فإنه لا
يعتمد على ذكر عناوين الأحداث في كتابيه: تاريخ الزمان، وتاريخ مختصر الدول، لأنه يعتمد
على نظام الحوليات حسب السنين فحسب.
إن (ميخائيل) و(الرهاوي) يعتمدان
على التاريخ اليوناني في سرد الحوادث الخاصة بموضوع البحث، وفي غيره. أما (ابن العبري)
فإنه يذكر التاريخ اليوناني ([3])،
وبجانبه تاريخ العرب ([4])
(الهجري)، في كتابة تاريخ الزمان، المؤلف أصلا باللغة السريانية، والمترجم حديثا إلى
العربية، بخلاف كتابه الآخر: تاريخ مختصر الدول، المؤلف باللغة العربية أصلا، فإنه
يذكر التاريخ الهجري فقط، في بداية كل حادثة.
أما بخصوص بيان مواقف المؤرخين
الثلاثة من معركة حطين، ونتائجها، فإن موقف (ميخائيل السرياني) يتجلى في أن السبب في
خسارة الفرنجة، حسب ما يقال: "...يقال أن حاكم طرابلس([5])
الذي كان يطمح إلى الملوكية([6])
لم يفلح في الوصول إليها، فتمرد وهرب، وهو الذي غدر بالأفرنج" ([7]).
أما السبب الحقيقي للخسارة، فهو يرجعها -كرجل دين - إلى ابتعاد الفرنجة عن الله، وكثرة
خطايانا (أي: خطايا السريان اليعاقبة)، لأنه كان زعيمهم الروحي، وبطريركهم، وهذا ما
بدا واضحا في قوله: "سنة 1498 (يونانية) أجمع (صلاح الدين) جيشا من مصر والعربية...
وتصدى للإفرنج الذين ترض الله الطرف عنهم بسبب خطايانا" ([8]).
كما أنه يشير في موضع آخر، كأنه يضع أصبعه على الجرح: "أما أنا فأقول: ما كانوا
ليهزموا لو لم يتركهم الله، لأن عصفوراً لا يسقط في الفخ إلا بإشارة من فوق، وأن صلاحا([9])
بشخصه قتل الشيخ أرنغد (أرنولد) ([10])و
300 فزيد([11])
وأغتسل بدمهم".([12])
وبشأن النتائج التي أسفرت عنها
هذه المعركة يقول: "ثم دمر طبرية، وقتل من فيها، وللحال شخص إلى (عكا)، فهرب أعيانها
إلى (صور)، عن طريق البحر، فسلمها من بقي من السكان إلى (صلاح الدين). ثم سبو قيصرية
ويافا والسامرة والناصرة، وامتلأت الدنيا بالأسرى". ([13])
إن الخسارة الفادحة التي لحقت
بالفرنجة الصليبيين، أخوة السريان اليعاقبة في الدين، جعلت (ميخائيل السرياني) يقول
في تاريخه: "إن الكلام ليعجز عن التعبير عن جميع الإهانات والمذلات والاحتقار
التي سامها المسلمون الشعب المسيحي المضطهد، في دمشق وحران والرها وآمد (دياربكر) وماردين
والموصل وسائر أنحاء المملكة".([14])
فيما يبدو موقف (الرهاوي) واضحا
في أن سبب خسارة الفرنجة للمعركة يعود: "لسوء تصرفهم" ([15])،
أو يرجع حسب كلام الناس: "أما (كونت طرابلس) فقد تمكن من الفرار في هذه النكسة.
ولدى بلوغه إلى بلاده توفي بعد أيام قليلة غماً وأسى. ويقولون إنه هو الذي خان الفرنج،
وكان سبب تلك الهزيمة"([16]).
وعندما يستعرض نتيجة المعركة فإن يصورها بطريقة تكاد تكون بشعة بقوله: "وأبيد
بحد السيف خلق كثير لا يحصى... أسر منهم أسرى كثيرون يقدر عددهم بأكثر من عشرين ألف،
حتى أنهم كانوا يربطونهم بالحبال مثل الكلاب، ويجرونهم الواحد تلو الآخر...".([17])
وبشأن أعداد القتلى، والذين
قتلوا صبرا، فإنه يبالغ فيها - بالمقارنة مع ما عند زميليه- ولعله بهذه المبالغة أراد
استفظاع ما ترتب عليها من نتائج، لكي يبين مدى همجية المقاتل المسلم! قياسا بالمقاتل
الصليبـي: "وباد بحد السيف أكثر من ثلاثين ألف، وقبض على ملك أورشليم حيا... وعلى
أكثر من مائة وخمسين من الأخوة (الهيكليين) و(المضيفين) (هوسبيتالية)([18])،
ووضعوا على حدة، وأرسلوا إلى سجن دمشق، ما خلا الأمير رينو([19])،
حتى ارتفع تل من القتلى أمام خيمته.."([20]).
ومن جانب آخر، فإن الباحث يستطيع
أن يلاحظ إشارة هامة في موقف (الرهاوي)، مقارنة مع موقف زميليه، وهو أنه استعمل أكثر
من عشر مرات الألفاظ الدالة على التخريب والتدمير والإبادة والنهب في الفقرة 483 من
تاريخه، الذي يتحدث عن معركة حطين، وما ترتب عليها.([21])
من الملاحظ أن موقف (ابن العبري)
يختلف في هذا السياق عن موقف سابقيه، ففي كتابه (المختصر)، لم يتطرق البتة إلى معركة
حطين، وإنما مر عليها مرور الكرام. ففي معرض كلامه عن حوادث سنة 583 هـ، ذكر ما يلي:
"وفي سنة ثلاث وثمانين ملك (صلاح الدين) مدينة طبرية، وقلعتها، وسار عنها ونزل
على عكة"([22]).
أما في كتابه (التاريخ السرياني)، فقد توسع بعض الشيء، وذكر أمورا لم ترد عند (ميخائيل)
و(الرهاوي)، ففي البداية أجزل المديح لمقاتلي الفرنجة، واتهم مقاتلي العرب (المسلمين)
بالجبن: "ولما أصبحوا، وشاهد العرب شجاعة الفرنج، وهم يقتحمون اقتحام الدبابير،
ولا يتقهقرون، اضطربوا كل الاضطراب، وفشلوا، وارتعدت ركبهم".([23])
وبخصوص فشل الفرنج في المعركة،
فإنه ألقى باللوم على (قمص طرابلس)، لأن "قلبه كان مملوءا غشا ومكرا"([24])،
فخاف من أن يحرز الفرنج النصر والظفر، وهذا مخالف للنصح الذي أبداه لقادة الفرنج بالعدول
عن القتال. لذا ما إن استمر القتال، حتى حاول خرق صفوف جيش المسلمين، فكان أن سمح له
الآخرون باختراق صفوفهم، حيث نفذ منها مع شرذمة من مقاتليه، وتوجه إلى طرابلس، وكان
هذا الانهزام مدعاة إلى هزيمة الفرنجة، "ولم يبق بينهم من يثق بصاحبه"([25])،
على حد تعبيره.
والأمر اللافت للنظر أن (العبري)
كان حريصا على إبراز مثالب (صلاح الدين)، بسبب أسيره (أرناط) (أرنولد دي شانيون) حاكم
حصن الكرك، وأورد بهذا الشأن رواية لا بأس أن نذكرها: "... وكان العطش قد أجهد
(جي) (لوزجان) زوج الملكة صاحبة طبرية، والبرنس أرناط... وكان العطش قد أجهد (جي) فطلب
ماء ليشرب. فأمر (صلاح الدين) فأتوه بماء ممزوج بالثلج، فشرب نصفه، ودفع النصف الثاني
لأرناط. فقال له (صلاح الدين): لا يجوز أن تسقيه دون أمري. قال جي: إن الاعتقال موت،
فلا تمته مرتين، والانكسار قتل، فلا تقتله قتلتين، فأعجب (صلاح الدين)كلامه، واعتزم
أن يعفو عن أرناط، لكن الزعماء حرضوه على قتله، وقالوا: لا يستحق هذا أن يبقى حيا،
لأنه أقسم مرارا، وحنث في يمينه.."([26])،
ويستطرد (ابن العبري) أن (صلاح الدين) أرسلهما - أي الملك وأرناط- إلى خيمة أعدت خصيصا
لهما، ولما مر بعض الوقت، حتى أمر (صلاح الدين) بإحضار (أرناط) واستل سيفه، وقتله بيده.([27])
وما لم يذكره (ابن العبري) في روايته، فإن (صلاح الدين)كان قد أقسم لو أظفره الله بأرناط،
فإنه سيقتله بيديه، لأنه كان قد غدر ونكث كثيرا بوعوده، وتفوه بكلمات غير لائقة بحق
نبـي الإسلام صلى الله عليه وسلم "قولوا لمحمد يخلصكم"([28])،
وكان هذا في معرض رده، عندما طلب منه (صلاح الدين) إطلاق سراح الأسرى، وإعادة الأموال
المنهوبة من القافلة، التي كان قد استولى عليها، وهي في طريقها من القاهرة إلى دمشق،
في أواخر سنة 1186م / 582 هـ وأوائل سنة 1187 / 583 هـ.([29])
أما بشأن الفرسان الداوية والاسبيتالية،
فإن روايته تكاد تكون مطابقة لروايتي ميخائيل والرهاوي. غير أنه نقل رواية ميخائيل
بخصوص ما احتمله النصارى القاطنون في "أصقاع العرب" حينئذ، من الاستهزاء
والسخرية.([30])
ثانيا: موقف المؤرخين السريان من تحرير بيت المقدس
رغم أن موقف المؤرخين السريان
الثلاثة من تاريخ معركة حطين كان واضحا، وهو التشهير بـ(صلاح الدين)، وبالنصر الذي
أحرزه، كل حسب منظوره الديني، وبالزاوية الخاصة التي ينظر بها إلى الأحداث، إلا أن
الموقف بشأن تحرير بيت المقدس أصبح مختلفا بعض الشيء، رغم أهمية المدينة المقدسة، بالنسبة
للمسلمين والنصارى، على حد سواء. فإن (ابن العبري)، رغم توسعه في نشر ما حدث من الوقائع
المهمة، عندما حرر (صلاح الدين) بيت المقدس، فإنه يقول: "بأن فتح المدينة قد تم
بطريقة سلمية، رغم حصول بعض المناوشات في بداية حصار (صلاح الدين) لها، في العشرين
من شهر رجب عام 583 هـ، بواسطة المنجنيقات التي نصبها الطرفان، وقذائف السهام، وغيرها
من الأسلحة".([31])
ولما أدرك النصارى، المحاصرون
داخل المدينة، استحالة المقاومة، أرسلوا اثنين من زعمائهم للنظر في طلب الأمان، وتسليم
بيت المقدس، بشرط احترام من بالمدينة من الصليبيين، والسماح لمن يشاء بمغادرتها. ولكن
(صلاح الدين) رفض، وأصر على تسليم المدينة دون قيد أو شرط، لأنه أقسم على الاستيلاء
عليها بحد السيف، وقال لرسل الصليبيين: "سأفعل بكم كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه
سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبـي"([32])،
فقال له أحد هذين الزعيمين، وهو (باليان دي إبلين): "فإذا رأينا أن الموت لا بد
منه، والله لنقتلن أولادنا ونساءنا، ونحرق أموالنا، ولا نترككم تغنمون منا ديناراً
ولا درهماً، ولا تسبون وتأسرون رجلاً أو إمرأة. فإذا فرغنا من ذلك، دمرنا (الصخرة والمسجد
الأقصى)، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين، وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة
ولا حيوانا إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا، وحينئذ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله،
ونموت أعزاء، أو نظفر كرماء.."([33]).
فاستشار (صلاح الدين) أصحابه في الموقف، فأجمعوا على إجابتهم على الأمان، وعلى أن يغادر
النصارى المدينة مقابل فداء عشرة دنانير (يستوي فيها الغني والفقير)([34])،
وخمسة للمرأة، وكل ابن وبنت دينارين([35])،
واشترط (صلاح الدين) أن يؤدي الصليبيون الفداء المفروض عليهم في مدى أربعين يوما، "فمن
أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا، وإلا صار مملوكا"([36]).
ويعترف (ابن العبري) أن (مظفر الدين بن زين الدين) أطلق سراح نحو ألف شخص من السريان
والأرمن مجانا، وهو يقول: "إن هؤلاء هم رهاويون من أبناء رعيتي"([37])،
وسار على نهجه (ابن شهاب الدين) صاحب البيرة "فأطلق الكثيرين من أبناء البلدة"([38]).
ويستطرد (ابن العبري) بأن (صلاح
الدين) سمح لملكة يونانية، اتشحت بثوب الرهبانية، وكانن قد ترهبت في أحد الأديرة، بالخروج
مع الشمامسة والشمامسات والخدم، مع كافة أموالها، وأرسل معها بعض الفرسان لحمايتها
إلى حدود الفرنج([39]).
ولكن المدهش أن (ابن العبري)، عندما يذكر رواية خروج (هرقل)، بطريرك أورشليم اللاتيني،
فإنه يذكر الخبر بقوله: "ونقل البطريرك جميع أمتعة كنيسة القيامة، وسائر الكنائس
(قناديل الذهب والفضة)، وارتحل"([40])
دون تعليق، دون أن يبالي بفقراء الصليبيين، الذين لم يجدوا ثمن فدائهم، بينما دفع البطريرك
عشرة دنانير ثمنا لفداء نفسه فقط. ([41])
والرواية الوحيدة التي ذكرها
(ابن العبري) بمثابة انتقاص من تصرفات المسلمين، هي قوله: "وقد ارتشى بعض حراس
العرب (المسلمين) من كثير من المسيحيين ديناراً ديناراً، أو أكثر، وسرحوهم"([42]).
أما (الرهاوي)، فيقول بأن استرداد
أورشليم قد جرى في بحر من الدماء والجرائم. ونظرا لأهمية روايته، وعدم نشرها في الترجمة
العربية، التي قام بها الكاهن (ألبير أبونا) لأسباب قاهرة، حسب ادعائه([43])،
لذا ارتأينا إدراج نصها بالكامل: "وكنا نحن الحقيرين المنكودي الحظ، يومئذ، في
أورشليم، وأبصرنا بأعيننا ما افتعله المسلمون من الغوائل والمنكرات والقبائح، مما يعجز
لساننا عن تعبيره ووصفه، فإن المسلمين باعوا الأواني القدسية في أسواق المدينة، وجعلوا
الكنائس والهياكل مراحاً للخيل، واسطبلات للدواب، ومسارح للملاهي، ومواخير للخلاعة.
وكانوا يركبون المنكرات ما شاءت وحشيتهم من الرهبان والنساء المحصنات والراهبات العفيفات.
واستاقوا الفتيان والفتيات وطوحوهم في أطراف البلاد. وعروا الكنائس، لا من الزينة فحسب،
بل من الحديد والأخشاب والأبواب والرخام المطعم في الجدران والمرصوف في الأراضي. ونقلوا
ذلك كله إلى بلاد سحيقة، بيد أنهم أشفقوا على كنيسة القيامة الكبرى، وأقاموا فيها حراسا،
لا حرمة لها، بل طمعا في ما يردها من الهدايا والتقادم، إذ كانوا يقبضون عشرة دنانير
من كل مسيحي يدخل ويسجد في ضريح الفادي"([44]).
وكتب ميخائيل السرياني: "إن
(صلاح الدين) حرر عشرين ألف رجل وامرأة من النصارى، فأطلق سراح أربعة آلاف من الشيوخ
والعجائز، وخصص ستة آلاف لخدمة جنوده، اتخذوهم عبيدا وجواري، وأرسل خمسة آلاف إلى مصر،
ليرمموا أسوارها، وترك خمسة آلاف في القدس، ليبنوا كذلك سورها. أما هيكل سليمان، الذي
ابتنوه حديثا، فإنهم طهروه، طبقا لشريعتهم، ومنعوا من أن يطأه النصارى، وأغلقوا كنيسة
القيامة، فكان النصارى، العبيد، والمتخلفين، في المدينة، يحجون إليها دائما، ويصلون
عند أبوابها دائما، باكين منتحبين"([45]).
ومهما يكن من أمر، فإن النصارى
السريان بكوا كلهم سرا على سقوط المدينة المقدسة في قبضة (صلاح الدين)([46])،
مع أن المسلمين لم يتصرفوا فيها بنفس الوحشية التي أظهرها الفرنج حين ملكوها([47]).
ويذكر أحد الباحثين النصارى المحدثين، بأنه بعد سنة من فتح بيت المقدس، نجد أحد نصارى
العراق، وهو من أهالي بلدة (برطلة)، الواقعة شرق الموصل، من السريان اليعاقبة، يؤرخ
الفراغ من نسخة مخطوطة: "بالسنة الأولى بعد الفتح الرهيب لبيت المقدس". أي
سنة 1188م/ 584 هـ([48]).
كما أن النساطرة، رغم اعتبارهم
مهرطقين، من قبل غالبية كنائس النصارى، الشرقية والغربية، على حد سواء، فإن زعيمهم
الديني، الجاثليق: (صبر عبد يشوع) (1226 – 1256م/ 623-654هـ) كتب إلى الباب (بنديكتوس
الرابع) رسالة في سنة 1247م / 645هـ، بعد ستين سنة من تحرير بيت المقدس، جاء فيها:
"كان من الواجب على كنائس المسيح كلها، وعلى الأديرة، وكل المؤمنين، في الشرق
والغرب، أن يلبسوا المسوح، ويجلسوا للأحزان، يبكون على بيت المقدس، وعلى ما حل فيه
في أيامنا"([49]).
وهناك نقطة مهمة، لم يشر إليها
المؤرخون السريان الثلاثة إلا ضمناً، وأوضحها بشكل جلي المؤرخون النصارى المحدثون،
وهي أن نصارى المشرق لم يهتموا كثيراً بانتصارات المسلمين، ولا بسقوط بيت المقدس بأيدي
المسلمين، ولا باستعراض فرسان الفرنجة الصليبيين الأسرى (بدروعهم وراياتهم المنكوسة)،
بحالة الذل والهوان في شوارع بغداد، إلا أن ما أثارهم، وحز في نفوسهم، هو أن (صلاح
الدين) أرسل سنة 1189م/589هـ، قبيل وفاته، إلى الخليفة العباسي المستنصر بالله، الصليب
الذي كان قد نصب فوق قبة الصخرة في بيت المقدس . فإن هذا الصليب، الذي كان من البرونز
الموشى بالذهب، وضع عند عتبة باب بغداد، المسمى باب النوبي، وكان جزء منه مكشوفا، بحيث
يتسنى للمارة أن يطأوه بأقدامهم، ويبصقوا عليه([50]).
ويبدو للباحث أن الباحثين والمؤرخين
النصارى ربما أشاروا إلى الرواية التي وردت في كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) لأبو
شامة: "وقال ابن القادسي: قدم ابن الشهرزوري، ومعه صليب الصلبوت، الذي تعظمه النصارى،
فدفن تحت عتبة باب النوبي الشريف، يبين منه شيء قليل، وكان من نحاس وقد طلي بالذهب،
فجعل يداس بالأرجل، ويبصق الناس عليه، وذلك شهر سادس عشر ربيع الآخر، 585هـ"([51]).
ولكن الخلاف بين المؤرخين القدامى،
والمحدثين، هل أن صليب الصلبوت هذا، تم أخذه من بطريرك عكا (هرقل)، أثناء خسارة الصليبيين
لمعركة حطين، أو تم إنزاله من فوق قبة الصخرة المشرفة، بعد أن وضعها الصليبيون عليها،
إثر احتلالهم لها، وتحويل المسجد الأقصى المبارك إلى كنيسة، كما ورد في المصادر الإسلامية
أعلاه.
الاستنتاجات
رغم أهمية هذه المصادر السريانية،
في استجلاء حلقات مفقودة من تاريخ الحروب الصليبية، فإنها لم تخل من سلبيات، منها:
1-
تتسم هذه المصادر بأسلوب السرد والنقل، مع نزعة غيبية ظاهرة،
كونها تعتمد على معجزات القديسين، التي لا يمكن تأويلها بأي شكل من الأشكال. ([52])
2-
تفتقر هذه المصادر إلى الموضوعية بدرجة كبيرة([53])، وأكبر دليل
على ذلك، ما أورده المستشرق البريطاني (ج. ب . سيغال) بقوله بهذا الصدد: "لا
نستطيع الاعتماد على المؤرخين الذميين، كي ينقلوا أحداث عصورهم الرئيسية، لأنهم
كانوا ينتمون إلى أقلية تعيش على انفراد، معزولين عن مجالس الملوك والأمراء، في
هامشية سياسية، متفرجين لا مبالين ولا مكترثين لمجريات الأحداث، تتغلب عليهم
الخيبة"([54])، لكن لا
نستطيع أن ننفي عنها هذه الصفة بصورة كاملة.
4-
ظاهرة التعصب الأعمى التي رافقت هذه المصادر، خلال مراحل
الحروب الصليبية، التي استمرت حوالي القرنين([56]).
---------------------------------------------------------------------------------
The attitude of
Seryian
Historians
towards the liberation of Al-Mikdas
A number of studies and
researches have appeared about the clarity of Muslim historians towards the
invasion of crusaders against the Islamic home-land in the Islamic East in
addition to the attitude of the crusades historians sacred areas from Moslems.
But scarcely a study was done
to clarify the attitude of the eastern Christian historians or the attitude of
Seryian historians towards the events of fight which took place between the
Moslems and Christians in the Islamic east for a period almost two centuries
this research will mention the attitude of Western Seryian historians.
Who all belong to the
Seryian orthodox church (Yakobian-Monivisian) towards the process of liberation
or returning Al-Qodis by Salaheldin Ayobi.
---------------------------------------------------------------------------------
المصادر والمراجع
والهوامش:
1- ميخائيل السرياني الكبير: تاريخ ميخائيل السرياني
الكبير، عرّبه عن السريانية: غريغوريوس صليبا شمعون، أعده وقدمه: غريغوريوس يوحنا إبراهيم،
دار ماردين، حلب، الطبعة الأولى، 1996، ح3 ص370.
2- الرهاوي الجهول: تاريخه، ص227.
3- يبدأ التاريخ من سنة 331 ق.م، أي: سنة تولية
الأسكندر المقدوني لمقاليد الأمور في اليونان.
4- هذه عادة جرى عليها العديد من المؤرخين السريان
في نسبة حوادث المسلمين إلى العرب تجديدا، رغم أن العديد من قادة الجيوش التي بأمرتهم
من غير العرب، فـ(نور الدين) تركماني الأصل، و(صلاح الدين) كوردي، وهلم جرا.
5- المقصود (ريموند الثالث) أمير طرابلس. ينظر:
(سعيد عبدالفتاح عاشور، الحركة الصليبية، مكتبة الأغلب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية،
1971، ح2 ص799.
6- أي: يتمنى أن يصبح ملكا لمملكة بيت المقدس:
ينظر: (عاشور، المرجع السابق، 92 ص792-794).
7- ميخائيل السرياني، تاريخه، ج3 ص370.
8- المصدر نفسه، ج3 ص370.
9- يستهين ميخائيل السرياني بـ (صلاح الدين)، فلا
يسميه حتى بلقبه الصحيح.
10- الصحيح: أرناط – أرنولد دي شاتيون. ينظر:
(عاشور، المرجع السابق، ج2 ص768.)
11- الفرير: هم رهبان جنود محافظون أصدقاء المسيحيين.
واسمهم فرير، يعني: أخوة، ويقال لهم: داوية، وهيكليون، واسبتاليون، يعني: مضيفين، وقد
صنعوا خيرا عظيما بحمايتهم. ينظر: ابن العبري: تاريخ الزمان، ص209 هامش 1.
12- ميخائيل السرياني، تاريخ، ج3 ص370.
13- المصدر نفسه، ج3 ص370.
14- المصدر نفسه، ج3 ص370-371. و قارن بما أورده
ميخائيل، الباحث البير أبونا بهذا الخصوص، حيث إن ترجمته للنص أكثر دقة من مترجم تاريخ
ميخائيل، لأسباب قد تكون قاهرة. ينظر : تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية من الإسلام
حتى نهاية العصر العباسي، دار المشرق، بيروت، الطبعة الأولى، 1992، ج2 ص260-261.
15- الرهاوي المجهول، تاريخه، ص228.
16- المصدر نفسه، ص229
17- المصدر نفسه، ص228
18- المصدر نفسه، ص228.
19- الأمير أرناط صاحب (قلعة الكرك)، وهو أرنولد
دي شاتيون. ينظر: (عاشور: المرجع السابق، ج2 ص792-794).
20- الرهاوي: المصدر السابق، 228.
21- المصدر نفسه، ص227-229.
22- تاريخ مختصر الدول، وقف على تصحيحه وفهرسته:
انطوان الصالحي، دار الرائد اللبناني، بيروت، 1403هـ-1983م، ص383
23- ابن العبري: تاريخ الزمان، ص208.
24- المصدر نفسه، ص208.
25- المصدر نفسه، ص208
26- المصدر نفسه، ص29.
27- المصدر نفسه، ص209، ويذكرمقدم الكتاب أن سبب
قتل أرناط، لأنه أبى أن يعتنق الإسلام، وهذه المعلومة لا ترد في متن النص، وكان إسحق
أرملة السرياني قد ذكره في معرض كلامه عن معركة حطين، ولا يدري الباحث على أي مصدر
استند الأخير في إيراده هذا النص: ينظر: (الحروب الصليبية في الآثار السريانية، المطبعة
السريانية، بيروت، 1929، ص170)، كما أنه أخطأ بقوله: وقتل صلاح الدين عشرة من الرهبان
الفرير، اعتمادا على ميخائيل، والصحيح 300 فرير.
28- ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب،
تحقيق: جمال الدين الشيال، دار الفكر العربي، القاهرة، ج2، ص194.
29- المصدر نفسه، ج2 ص185، وهذا ما دعا المؤرخ
الفرنسي جروسيه إلى القول : "ولكن ذلك الفارس اللص (أرناط) كان لا يستطيع الحياة
دون أن ينهب ويسرق)). ينظر (عاشور: المرجع السابق، ج2 ص797).
30- ابن العبري: المصدر السابق ص209.
31- ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، ص384، تاريخ
الزمان، ص210.
32- ابن العبري: تاريخ مختصر الدول، ص384.
33- ابن العبري : تاريخ مختصر الدول، ص384-385،
تاريخ الزمان، ص210-211 والزيادة الوحيدة "لن ندعكم تكملون شهوتكم".
34- ابن العبري: تاريخ مختصر الدول، ص385.
35- ابن العبري: تاريخ الزمان، ص211، تاريخ مختصر
الدول، ص385.
36- ابن العبري: تاريخ مختصر الدول، ص385، تاريخ
الزمان، ص11.
37- ابن العبري: تاريخ الزمان، ص211.
38- المصدر نفسه، ص211.
39- المصدر نفسه، ص211.
40- المصدر نفسه، ص211.
41- أبو شامة: كتاب الروضتين في أخبار الدولتين
النورية والصلاحية، منشورات مكتبة محمد علي بيضون، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2002 م،
مج2، ج4، ص115.
42- ابن العبري: تاريخ الزمان، ص211.
43- تاريخ الكنيسة الشرقية، ج2 ص260 هامش
(11).
44- إسحق أرملة السرياني: الحروب الصليبية في الآثار
السريانية، ص178.
45- تاريخ ميخائيل السرياني الكبير، ج3 ص371، ويقصد
بناء قبة الصخرة في زمن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان.
46- المصدر نفسه، ج3 ص370.
47- جان موريس فييه: أحوال النصارى في خلافة بني
العباس، دار المشرق، بيروت، الطبعة الأولى، ص357-358.
48- المرجع نفسه، ص358.
49- المرجع نفسه، ص358.
50- المرجع نفسه، ص358؛ حبيب الزيات: الصليب في
الإسلام، دار المشرق، بيروت، 1938، ص10.
51- مج2، ج4، ص30-40؛ ابن واصل: مفرج الكروب، ج2،
ص189.
52- آرثر كريتنسن: إيران في عهد الساسانيين، ترجمة:
يحيى الخشاب، دار النهضة العربية، بيروت، 1957، ص300؛ يوسف حبي: التواريخ السريانية،
مجلة المجمع العلمي العراقي، هيئة اللغة السريانية، بغداد، مج6، ص38.
53- يوسف حبـي: التواريخ السريانية، ص38.
54- ابن العبري : تاريخ الزمان، ص14 ،16 تقديم:
جان موريس فييه.
55- مراد كامل: تاريخ الأدب السرياني، القاهرة،
1949، ص64؛ آرثر كريتنسن: إيران في عهد الساسانيين، ص25-26.
56- جمال رشيد: لقاء الأسلاف الكرد واللان في بلاد
الباب والشيروان، رياض الريس للكتب والنشر، 1994، ص246.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق