هفال عارف برواري
الإسراء:
بداية درج الاستعمال اللغوي، خطأ، على
تسمية هذه الحادثة العظيمة بـ(الإسراء والمعراج). فـ(الإسراء) تعبير عن الفعل الذي
حدث، عندما أُسريَ بالنبـي المرسل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أما كلمة
(المسرى) فتعني المكان الذي أُسريَ منه، أمّا (المعراج) فتدلّ على المكان الذي
عرجَ منه النبـي إلى السماوات، أما (العروج) فتعني الفعل الذي حدث، وهو عروجهُ إلى
هذه الرحلة العجيبة.. لذا، فالأصحّ أن يقال: (الإسراء والعروج)، أو (المسرى
والمعراج)..
مما لا شك فيه أن هذه الحادثة تعتبر من أهم الأحداث التي
حدثت في حياة النبـي، وأغلب العلماء أدرجَ هذه الحادثة ضمن المعجزات التي عجزت عنها
العقول والقوانين الكونية. ولكن هناك من قال إن هذه قد تكون ضمن القوانين الكونية،
التي قد يصل إليها البشر في يوم من الأيام! وهي صراحة آيات ربانية، كما أخبرنا بها
القرآن في قوله في سورة الإسراء: [لِنُريَهُ من آياتنا]، وفي سورة النجم: [لقد رأى
من آيات ربّه الكُبرى].
ولقد جاءت معجزات الأنبياء لكي تري أقوامهم ما يعجز عنه الإنسان،
وإنها خروقات لنواميس الكون، لكي يدركوا قدرة الله، الذي أرسل الرسل، لكي يعَرِّفوا
الناس بربِّ الناس، والعبد بالمعبود، والمخلوق بالخالق. أما هذه الآيات، فكانت خاصة
بالنبـيّ، ولم يرَ أي من البشر هذه الحادثة العظيمة.. إذاً هي:
- آيات ربانية وإراءات إلهية لشخصية النبـي المختار.
- وهي أيضاً ابتلاءاتٌ ربانية، لتمحيص المسلمين، وغربلتهم،
في ذاك الزمان، حيث أنهم مُقبلون على تأسيس أُمة إسلامية. ومعرفة الصادقين المخلصين
ضرورية لهذه الدعوة، التي سيتم بناء أركان هذه الأُمة على أكتافهم، لذلك حدثت هذه الرحلة
بين مرحلتين: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية، والهجرة.
- وهو ابتلاء للمسلمين في كُلِّ زمان، لكي يتبيّن الجاحد
من المؤمن، أو المؤمن الذي لا يحرك ساكناً، من المؤمن الباحث المنقب، والذي يمتلك النزعة
الإبراهيمية في البحث، عندما قال لربه: [رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى]،
رغم إيمانه..
- وهي حادثة لمعرفة قيمة إقامة الصلاة، التي ضيّعها أغلب
المسلمين، والتي أفردها الله ضمن العبادات التكليفية المباشرة من الله، عند مقامٍ لم
يبلغه أحد من السابقين، أو اللاحقين، ودون وجود أمين الوحي وسفيره: جبريل عليه السلام!
الحادثة:
مما لا شك فيه أن هذه الحادثة العجيبة حدثت بعد سلسلة أحداث،
وهو أن الدعوة النبوية وصلت إلى طريقٍ مسدود في (مكّة)، وأن ساداتِ قريش قد نفد صبرهم،
وبدأوا في مساومة (أبي طالب)، سيد بني هاشم، في السنة السابعة من البعثة، وطلبُوا منه
أن يقوم بنو هاشم بتسليم النبـي (محمّد) إليهم، ليقتلوه، مقابل ما يريدونه من مَطالب،
للقضاء على رسالته نهائياً. والجدير بالذكر أن العرب لم يكونوا يتحمّلون من يُنَغِّصَ
عليهم حياتهم وعيشهم كُلَّ هذه السنين، والسببُ هو أن (مكة) كانت مدينة تجارية، والمدن
التجارية - غالباً- ما تنتشر فيها المدنيّة وقبول الرأي الآخر..
المهم بعد أن فشلوا في إقناع سيد بني هاشم، قاموا بإجراءات
إقصائية لبني هاشم، وتم حصارهم في شُعَبِ بني طالب، وجرى منعهم من التجارة، والبيع
والشراء، والخروج، واستمرّ هذا الحصارُ الجائِر، والغريب على أعراف العرب، ما يقربُ
الأعوام الثلاثة، حيث تـمّ فك هذا الحصار بعدها، لأسباب، من ضمنها: أن بعض ساداتِ قريش،
ومنهم (مطعم بن عدي)، لم تتحمّل شيمهم وأخلاقياتهم هذه العقوبة، التي كانت عاراً عليهم،
يتحدّث عنها القريب والبعيد من القبائل العربية..
طبعاً تزامن مع فكّ الحصار موت سيد بني هاشم، وزوجة النبـي
(خديجة)، اللذان كانا سنداً له، ومنعة، من أذى قريش. وعلم النبـي أن بقاءه في البيئة
المكية، غير ممكن إطلاقاً، وأن دعوته وصلت إلى طريق مسدود، وآن له التفكير في إيجاد
ملاذٍ آمن، وبيئة، يمكنه أن يحول دعوته فيها إلى منطقةٍ آمنة، لكي يؤسِّس أركان أمته،
التي ستقوم على أكتافها تبليغ الرسالة للعالمين.. ففكّر في (الطائف)، التي كانت تسكنها
قبيلة (ثقيف)، والواقعة في جنوب شرقي مكة المكرمة، وكانت على تنافس مع (مكّة)، ولها
أطماع في تغيير مركز التجارة من مكّة إلى الطائف. وكانت تريد أن تكون لآلهتها الكبيرة
(اللات)، مكانة أكبر من الكعبة، والأصنام المشهورة فيها، أمثال (هُبل)، وغيرها من الأصنام،
التي كانت لها رمزيتها عند العرب.
طبعاً كان يترأس بنو ثقيف (عروة بن مسعود الثقفي)، ولم يستجب
أحد من أهل الطائف لدعوة النبـي. وللعلم كانت مدينة الطائف مدينة سياحية، يصطاف عندها
أخوالهم من القرشيين. ومن هنا يتبين السبب في كون المدن السياحية، والتي تعيش في رفاهية
مفرطة، لا تنتشر فيها الأفكار والرسالات!
وعند رجوع النبـي إلى مكة، بعدما أجاره (مطعم بن عدي)، وهي
عادةٌ عربية، تشبه إلى حدٍّ كبير اللجوء السياسي، حيث يكون ضمن حماية هذا المستأجر،
الذي يذود في الدفاع عنه حتى الموت دونه عندما يقبل الإجارة! حينها تمتّع النبـي بحرية
الحركة في مكّة، وفي ليلةٍ من الليالي - التي اختلف الرواة في تحديدها - حدثت هذه الحادثة
العجيبة، والرحلة الملكوتية، لكي يُريه الله من آياته، ويتمّ له الإراءات، حتى أتـم
الإراءات ووصل إلى أن رأى من آيات ربه الكبرى!!
لكي يُعَلِّم نبيه المختار أن له مقاماً كبيراً عند الله،
وأن له شأناً عظيماً، ولكي يلهمه التثبيت والتمكين وعين اليقين بحقيقة الأمور.. طبعاً
بلغ المقام المحمديّ مبلغاً لم يبلغه الأنبياءُ كافّة، فهو لم يطلب الإراءات، كما فعلهُ
(إبراهيم) عليه السلام، عندما قال: [رَبِّ أرني كيف تحيي الموتى]، لكي يكتمل له الإيمان
اليقيني، فهو يمثل أُمة، ولم يطلب كما طلب (موسى) عليه السلام برؤية الله، عندما قال:
[رَبِّ أرني أنظر إليك]، بل قد قال الله لنبيه محمد: [لِنُريَهُ من آياتنا]، دون أن
يطلب هو ذلك.. وهذه منقبة يجب أن نلتفت إليها بدقة..
طبعاً لن ندخل في الكم الهائل للمرويات التي تحدثت عن هذه
الحادثة، وكيف اخترقتها الإسرائيليات والأساطير الفارسية؟ ولا نريد التعمّق فيها، ونرجعها
لأهل الاختصاص، كي يقوموا بغربلة الصحيح من الخطأ، لذلك نركّز على البيان القرآني لهذه
الحادثتين، وبعض المرويات الصحيحة عنها.
سورة الإسراء:
من المعلوم أن (الإسراء) هي سورةٌ قرآنيّة، وعند البعض هي
سورة سبحان، وعند البعض الآخر هي سورة بنو إسرائيل، بيّنت أن حادثة الإسراء قد تمت
بالفعل، وأن النبـيّ قد أُسريَ جسداً وروحاً، وليس كما رَوَّجه البعض على أنه سافر
روحاً دون الجسد، ولو كان كذلك لما كان لهذه الحادثة من معنى، ولما كان لها تلك المكانة
العظيمة في نفسيّة النبـي، ونفسيّة المؤمنين، ولما حدثت مناقشاتٌ حادّة بين قريش والنبـي،
ولما تخلّى بعض ضعفاء المسلمين
عن الإسلام، ولما لُقِّبَ (أبو بكر الصديق) بـ(الصديق)،
كونه صدَّق بهذه الحادثة العظيمة، دون أن يسأل عن تفاصيلها، ولما ألَحَّتْ أُم هانيء
على النبـي أن لا يخبر قريش بتلك الحادثة، لكي لا يستهزؤا به، لكنه أصرَّ على التبليغ
بهذه الحادثة، التي اخترق فيها - عن طريق أمين الوحي- نواميس الكون، وفي زمن قصير،
بحيث أنه ترك فراشه الدافئ ليعبر الزمان والمكان، ويصل إلى فراشه في الليلة نفسها،
وفراشه ما زال دافئاً، أي كانت رحلة مخترقة للزمن!!
لذلك لا غرابة أن تجد أن (سورة الإسراء)، سبقتها (سورة النحل)،
وقد بيّن القرآن فيها: [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ]، وسبقت (سورة النجم)،
لبيان عروج النبـي، و(سورة الطور)، وقد بيّن فيها القرآن في قوله: [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا]، أي كلتا الحادثتين قد سبقتها كلمة الصبر، لكي يتأهّب
إلى الردود المجحفة وغير المنطقية، أو الاستهزاء والاستخفاف بهذه الحادثة الملكوتية..
بدأت (سورة الإســراء) بحادثة الإسراء مباشرةً: في قوله تعالى:
[سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ].
ونلحظُ أن الآية بدأت باسم المصدر (سبحان)، وقد نسب مصدر
التسبيح لذاته، كون أن البشر مهما سبَّحوهُ ونزَّهوه فإنهم لا يوفون التسبيح له في
قضية فلكية وخارقة لنواميس الكون، كذلك لكي يثبت أن الفاعل في هذه الرحلة هو الله،
فحَّول التسبيح لذاته، وقدرته غير المتناهية، والذي لا حدود لقدرته..
كلمة (أسرى) تعني عند العرب: السفر ليلاً، وهناك فرق بين
كلمة (أسرى) و(سرى)، فـ(أسرى) تعني أن السفر في بداية الليل، و(سرى)، أي: أن السفر
في نهاية الليل. وهنا يتبيّن بدقة أن السفر هو في بداية الليل، وهو كذلك..
أمّا تدعيم الجملة بكلمة (ليلاً)، فهو:
1- للتأكيد بأن السفر قد بدأ ليلاً، وانتهى في الليلة نفسها،
لكي لا يظن أن السفر الذي بدأ ليلاً، قد استمرّ إلى اليوم التالي!
2- للتنكير.. فعند القراءة نمرّ على كلمة (ليلاً) بشكل خاطف،
والقارئ يدرك ذلك، وهي دلالة أن الرحلة كانت خاطفة، وتمت بزمن قصير جداً.
3- لإثبات حقيقة علمية.. فلو لم تكن كلمة (ليلاً) موجودة
في القرآن، لأمكن لعلماء الفلك والفيزياء أن يبينوا الخلل في الرحلة، كون أن أصل الكون
قد ثبت علمياً أنه الظلام، ولا وجود للنهار في الكون، إلا في الأرض!.. وأن العلماء،
عندما اخترقوا الغلاف الجوي لأول مرة، وجدوا أن الكون كله عبارة عن ظلام!! وأن أصل
الكون هو الظلام، وأن النهار الذي نراه، هو نعمة ربانية، يحدث نتيجة الانعكاسات الضوئية
من إشعاعات الشمس، الساقطة على الغلاف الجوي، الذي يقوم بدوره في تشتيت الضوء عن طريق
قطرات المياه، وكذلك المشتتات الموجودة داخل الغلاف الجوي، من ذرات الغبار، وما إلى
ذلك، بحيث يجعل الضوء ينعكس على الأجسام، ومنها إلى العين، فيمكننا بذلك أن نرى الأشياء
بوضوح، ونستمتع بنعمة النهار، ولولا المشتتات الموجودة لكان الظلام يخنقنا في وضح النهار!!
كما هو حال الكون، حيث توجد نجوم وكواكب شمسية، يشع منها النور، ومع ذلك الظلام الدامس
في الكون. ومن هنا يتبين، بوضوح تام، أن القرآن من عند الله، لأنه لم يكن يعلم أحد
من البشر أن الليل يغشي الكون كله، إلا الله، القائل في كتابه: [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا.
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا. وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاّهَا. وَاللّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا
]، فمن كان يعلم أن الليل يغشى الكون!! كذلك في (سورة النازعات): [أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا
وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا]، فهي مسألة فيزيائية، لم يعلمها إلا الفيزيائيون، في الآونة الأخيرة!
أمّا الكلمة التي سبقت كلمة (ليلاً)، فهي كلمة: (عبده)، فقد جاءت هذه الكلمة:
1- لكي لا يغتر المسلمون بهذا الحدث العظيم، فيقومون بإنزال
النبـيّ منزلة أعظم من منزلته الإنسانية، لأنه وصل إلى مقامٍ لم يصل اليه أحد من العالمين،
فيقومون بتقديسه، كما فعل النصارى بعيسى بن مريم!! فجاءت كلمة (عبده) لتدل على أن الفاعل
هو الله، وأنه هو الذي أنزل عبده هذه المنزلة العظيمة.
2- لكي لا يتحجّج الجاحدون المتأسلمون، وينكرون هذا الحدث
عقلياً، وكأنهم يمنون على الله إسلامهم، والصحيح أن الله هو الذي قد مَنَّ عليهم أن
هداهم للإيمان! فبيّن المولى (عز وجل) أن الآمر القادر هو الله، وأن نبيه هو المأمور،
وهو الذي أنزله هذهِ المنزلة..
3- كلمة (عبده) تدلُّ، بشكل قطعي، أن النبـي قد سافر في هذه
الرحلة العظيمة، قلباً وقالباً، روحاً وجسداً، وبهذا تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً.
4- إطلاق كلمة (عبده) دون ذكر اسمه، هو لقبٌ تشريفيّ وتكريميّ
من قبل الله إلى النبـيّ (محمّد)، فهو الوحيد المستحق لهذا اللقب العظيم، لأنه الوحيد
الذي أكمل معنى العبودية التامّة على أكمل وجه، فهو سيد العُبّاد! فقد عاش عبداً لله،
حسب مُراد الله، ووصل إلى كمال العبودية، فهو بدون شك (الإنسان الكامل)، ولن يكون الإنسان
كاملاً إلا أن يكون عبداً لله بصدق!
فلا غرابة أن يذكر الله نبيه محمداً، في كل مرة، بكلمة (عبده)،
المجرد من اسمه: [الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَل لّهُ عِوَجًا](سورة الكهف)، [تَبَارَكَ الّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى
عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا](سورة الفرقان)، [فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ
مَا أَوْحَى](سورة النجم)، [هُوَ الّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَإِنَّ اللّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ](سورة
الحديد)، [أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ](سورة الزمر)، [سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ](سورة الإسراء). فأصلُ الإنسان هو ذاته المجرّدة من كُلِّ صفةٍ دنيوية،
بل حتى أن أول شيء يرتبط بذاته، وهو في الأصل ليس من ذاته، هو اسمه، الذي ربط بذاته
من قبل غيره!.. لذلك فالذات المحمدية وصلت إلى مقام وُسِمَ بصفةِ العبد من قبل الله
جلّ وعلا، مُجرّداً حتّى من اسمه، فهو أعبدُ الناس حسبَ مُراد الله لعباده. وقد ذكر
نبـيٌّ من أنبياءِ الله بصفة العبد، مرةً واحِدة، لكن مرتبطاً باسمه: [ذِكْرُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا](سورة مريم). وشتّان بينهما في المرتبة.
وكما قال أحمد شوقي:
وقيل كل نبـي عند مرتبة
ويا محمد هذا العرش فاستلمِ
أما تكملة الآية في قوله: [مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ]، فتحتاج إلى بعض التفصيل:
1- من المعلوم أن قضية الإسراء تفيد التصريح، وقضية المعراج،
في (سورة النجم)، تفيد التلميح، لذلك تجد في السيرة أن القرشيين قد ناقشوا النبـيّ
في الإسراء، لكنهم لم يناقشوه في العروج، كونهم لم يستوعبوا قضية العروج، لأن محلّها
السماء، وهي كانت خارج مدركاتهم، مع أنها الأهم من حيث الإثبات، لذلك جاءت بالتلميح
لها.. أمّا الإسراء، فهي حادثة محلّها الأرض، فجاءت بالتصريح والبيان، بالانتقال من
مكان معلوم إلى مكان معلوم، أي: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فكانت هذه الرحلة محلّ
المناقشة والإثبات.
2- هو بيان إلهي بقيمة مكانين مقدسين، وأهميتهما العظمى،
إلى يوم الدين، وأن قيمتهما في المكان، لا في البنيان!
3- وهو إيذان إلى عودة المسجد الحرام لمركز القبلة العالمية
للناس أجمعين، لذلك جاءت الدعوة الإلهية، فهو أول بيت وضع للناس، كل الناس، بمن فيهم
آدم، لأنه من الناس، أي هو لم يقم ببنائه، والذي بناه هو الله عز وجل. قال تعالى:
[إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ](آل
عمران). لذلك فهو مسجد منذ اللحظة الأولى، أما النبـي (إبراهيم)، فهو الذي رفع البيت
من قواعده، التي كانت موجودة أصلاً..
4- وهو تصريح أن النبـي هو الموكل بأخذ أمانة ميراث الأنبياء
كلهم، عندما بيّن أن رحلته كانت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن ثم العروج
به، لأهمية الأقصى ومكانتها، وما حولها، فهي مباركة برسالات الأنبياء، ومن هذا المكان
المبارك تم اللقاء الخالد، في عالم اللازمن، من قبل كل الأنبياء في المسجد الأقصى،
وقد احتفلوا هناك بقدوم النبـيّ (محمّد)، واستقبلوا خاتم الأنبياء هناك، فهم أولاد
عَلاّت، أُمهاتهم شتى، ودينهم واحِد، كما بيّنته الروايات، وأنهم إخوة، وأن رسالتهم
واحدة نابعة من مصدر واحد، وهو الله عزّ وجل، ومضمون الرسالة هو تحقيق وحدانية الله
في الوجود.
5- وقدوم الأنبياء، والتجمّع في هذا المكان، واللقاء بالنبـيّ
الخاتم، لكي يأمهم في صلاة إبراهيمية، حيث لم تفرض بعد الصلاة، هي إشارة أنه سيحيي
الشعائر الإبراهيمية الحنيفية السمحة، وهو قد أصبح صاحب البيت، وأن تلك الأرض غير مرتبطة
بأعراق وإثنيات وقوميات مختلفة، وأن الأنبياء كلّهم، البالغين أكثر من المائة ألف،
الذين سردت قصص بعضهم في آيات بيّنات، ومنهم من لم يقصصهم علينا الله، كما ذكره لنا
المولى المتعال، وهم أصحاب الرسالات الربانية، المكلفة بهداية البشرية جمعاء، وقد أعطوه
مفاتيح المسجد الأقصى، وما حولها، وأنها أصبحت أمانة في رقاب أُمته الوليدة، التي ستُلقى
على عاتقها مهمة الحفاظ على الأماكن التي باركها الله، والمساجد الإلهية في الأرض،
ومنها ستشع رسالة التوحيد للعالمين، لذلك شّرفها الله بمقام الأُمة التي ستشهد على
كل الأُمم، ويكون الرسول عليهم شهيداً يوم القيامة!
فلا غرابة عندما نرى أن الأقصى كان الشغل الشاغل للأُمة عبر
الزمان، وما زالت ذاكرة الأُمة شاهدة على فتوحات العهدة والوثيقة العُمَرية، والتحريرات
الأيوبية للناصر (صلاح الدين)، وأن هذه الأماكن تعتبر وحدة قياسية، تقاس بها مكانة
هذه الأُمة بين الأُمم وقيمتها، في مدى حفاظها على هذه الأمانة الإلهية! ومن هذين المكانين
يتم تحقيق السلم العالمي، والاستقرار العالمي يعتمد على استقرارهما!
6- وكما بيَّنّا أن العبرة في المكان، لا في وجود المسجد.
فالمسجد الأقصى، في حادثة الإسراء، لم يكن له وجود حينها، والنبـي قد عبر الزمان والمكان،
من ماضٍ وحاضِر ومستقبل، محدّد ضمن نواميس الكون! ومن المعلوم أن المكان قد تـمّ بناؤه
من قبل النبـي سليمان عام 960 ق.م، وهو الهيكل الأول له، ثم جاء (نبوخذ نصَّر) البابلي،
ليُدَّمِر الهيكل، ويحرقه، ويقوم بسبـي اليهود، وقتلهم، وترحيلهم إلى بابل (العراق
حالياً)، ثم جاء الفرس ليسقطوا المملكة البابلية، ويعيدوا اليهود، ويساعدهم في بناء
الهيكل الثاني عام 515 ق.م. وقام ملك اليهود (هيرودوس الأدومي) بتوسعته، ثم لما سيطر
الروم على المنطقة، حدثت ثوراتٌ متلاحِقة من قبل اليهود على الروم، فأقدم الجنرال الروماني
(تيتوس) على تدمير الهيكل، مع (أورشليم)، عام 70 ميلادي، ثم تمت تسمية المدينة التي
تضمّ المسجد الأقصى بـ( إيلياء)، نسبة إلى الإمبراطور الروماني (إيليانوس هادريانوس)،
الذي سحق الثورة اليهودية الثالثة. ثم بعد ذلك قررت الإمبراطورية الرومانية أن يبقى
مكان المسجد الأقصى في المدينة خاوياً، ومنعوا اليهود من دخولها، إلاّ يوماً واحداً
في السنة، يبكون على أطلالها.. فالعبرةُ بالمكان لا في المبنى، وسيبقى المكان ملتقى
أنظار الرسالة الخالدة، حتى لو تم تدمير مبنى المسجد الأقصى الحالي من قبل الصهاينة،
كون المسجد الأقصى مرسوم ومحفور ومَبنيّ في آياتِ الرسالة الخالدة! فهو أُولى القبليتين،
ومهبط الوحي، وأرض الأنبياء، ومكان التقائهم، ومسرى النبـي الخاتم، ومنه تم العروج
إلى ملكوت السماوات..
7- بيان على قيمة القبلة، وأن القبلة الأصلية - كما قلنا
- هي الكعبة المشرّفة، وأن تحويلها من قبلة الأقصى سيتم لا محالة، فهي قبلة مؤقتة،
وأن ختم النبوة يقتضي معها ختم القبلة إلى المسجد الحرام، إلى يوم الدين، ولكن حتى
يتم تفريغ الكعبة من الأصنام، ولكي لا يشيع العرب أن المسلمين يسجدون للأصنام، التي
هي داخل الكعبة..
وهناك من يرى أن المسلمين في (مكّة) كانوا يتوجّهون إلى الكعبة
بوقوفهم جنوب الكعبة، وحيث أن المسجد الأقصى يقع إلى شمال الكعبة، لذلك كان المسلمون
يتوجّهون إلى الكعبة، وإلى المسجد الأقصى، في آنٍ واحد! لكن عندما هاجروا إلى (المدينة)،
الواقعة شمال (مكّة)، فهنا جعل المسلمون في حيرة، فكيف سيتوجهون إلى المسجد الأقصى،
الواقع شمال المدينة، والكعبة المشرفة تقعُ في جنوب المدينة، أي: تقع وراءهم، عندما
يتوجّهون إلى المسجد الأقصى. وهنا كان الأمر الإلهي بالتوجّه شَطْر المسجد الحرام..
8- وأخيراً، هو توجُّه رباني إلى قيمة المساجد، فلا يجوز
أن يدعوا فيها مع الله أحداً، ولا أن يخضعوا لأحدٍ من دون الله، ويجب أن يكون المسجد
مكان رحيلنا وترحالنا، والإسراء إليها. ومن هنا نستشعر قيمة الصلاة، فهو معراجُ كل
مسلم، لكي يعرج إلى ملكوت السماوات، وفيها يتمّ له الإراءات الربانية، ويتوجّه بعروجه
إلى خالقه ومعبوده.
نأتي إلى كلمة [لِنُريَه من آياتنا]:
ومن هذه الكلمات يتبيّن أن الله تعالى هو الذي أراد - بمشيئته
- أن يُريَ نبيه الإراءات الملكوتية، ويتبيّن من خلالها مقام الرفعة الإيمانية، التي
تميّز بها النبـيّ (محمّد)، بينما نجد أن أرفع الأنبياء شأناً، مثل: النبـيّ (إبراهيم)،
الذي وصل إلى مقام الخُلّة، قد طلب من الله الإراءات، بعد أن أراه بعض الإراءات، بينما
نجد أن النبـيّ (موسى) قد طلب هو أيضاً رؤية الله، وهو في مقام التكليم الإلهي، ومقام
التذلل والانبساط له سبحانه وتعالى.
لكن حدث اختلاف من قبل الصحابة أنفسهم في هذه الإراءات، وهل
أن النبـيّ قد رأى الله؟ وهنا تم فتح هذا الباب على مصراعيه في رؤية الله، ومن ثم تجسيد
الإله، وما دام هو يُرى، فمعنى ذلك هو مجسد، وأن هناك أمكنة وحيّز لا يشغلها، لأن الرؤية
تقتضي التجسيم. لذلك صَّرحت السيدة عائشة، عندما سُئلت أن هناك من يقول إن النبـيّ
قد رأى الله، فقالت، بما معناه: لقد قفَّ شعري مما قلت، لقد كذب عليّ مَنْ قال ذلك.
وفي روايةٍ أُخرى، بما معناه: أنه قد أفرى الفرى، من قال أن محمداً رأى ربه: (والكذب
أي بمعنى أخطأ، حتى نفهم المصطلحات الدارجة آنذاك)، وقالت: إن الله لا يُرى، وذكرت
الآية القرآنية: [لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ](سورة الأنعام).
لذلك تجد أن أحد أئمة التفسير (مجاهد بن جبر)، وهو تلميذ
(ابن عباس)، الذي نقل مروية يقول فيها: إن النبـيَّ رأى الله، لكنه خالف أُستاذه، وبيّن
أن الله لا يُرى، حتى في يوم القيامة، بدليل الآية نفسها الآنفة الذكر، كونه لا يمكن
إدراكه..
وهو ما جعلنا نبحث عن هذه الحقيقة، وهل أن الله يُرى، ويُجَسَّد؟!
سنعرف ذلك من قصّة الباحث عن الله، وهو (إبراهيم) عليه السّلام، وقصته في البحث عن
الإله الحق.. فـ(إبراهيم) قد وصل - بفطرته السليمة - إلى أن الله لا يجسد، لذلك كره
منذ طفولته إله الآباء والأجداد المجسّد، لذلك صّرح منذ البداية في قوله تعالى: [إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الّتِي أَنتُمْ لَهَا عاكفون
](سورة الأنبياء).
لذا، فرحلته في البحث عن الإله بدأت على مرحلتين:
1- مرحلة الإعانة الإلهية على الإراءة والمعرفة. [وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ](سورة
الأنعام).
هنا يتبيّن أن الله أراه الإراءات الفلكية والكونية، لكي
يثبت قلبه على أن لهذا الكون إلهاً، وكيف أن إبراهيم لا يحب إلهاً آفـلاً، أي بمعنى:
غائباً ومتغيّراً. وبعد تعب في البحث، عرَّفه الله بنفسه، والسؤال هنا: هل سأل إبراهيم
الله عزّ وجل لكي يراه؟ هو لم يسأله، لأنه يدرك أن الله لا يُدرَك، فلو كان يُدرَك
لرآه مَنْ قبله من البشر، من آدم، ومن تبعه من الأنبياء،لذلك تعرف هذه المرحلة بمرحلة
الإعانة الإلهية له، في قوله تعالى: [وكذلك نُري].
2- مرحلة الطلب الإبراهيمي من الله بإراءة كيفية إحياء الموتى،
ولم يطلب رؤية الله، لأنه يدرك أنه ليس كمثله شيء: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ
عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](سورة البقرة).
ومن هذه الآية يتبيّن أنه يريد الإيمان الكامِل، ولا يريد
نصفَ الإيمان. فالإراءات تثبت القلب، والحقيقة هو أن الله أطلق على لسانه منهجاً لكي
ينتهجه لمعرفة البعث، والتيقّن منه، عن طريق الأسوة الإبراهيمية: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ](سورة الممتحنة). وهو يمثل أُمة
بعينها: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا].
أمّا (موسى) عليه السلام فقد طلب رؤية الله، فهو في مقام
التكليم، والاستئناس، والانبساط لله.. [...قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ
لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ](سورة
الأعراف). فهو طلب الاستطاعة على الرؤية، أي بمعنى: رب اجعلني أراك بقدرتك. فكان الرد
مباشرة، هو عدم الاستطاعة على الرؤية!
ونلحظُ أن صياغة الطلب عند الأنبياء تتسم بالأدب، أما صياغة
الطلب عند بني إسرائيل فتتسم بقلة الأدب، وقد ذكره الله في قوله: [إِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً..](سورة البقرة). ونلحظُ أن
طلب الرؤية كان من موسى، وليس من الله!! أمّا النبـيّ (محمّد)، فلم يطلب، بل الله قد
أراه دون أن يطلب هو، وهي إشارة إلى الخيرية والاصطفاء البشري..
لكن قــد يتبادر إلى أذهاننا سؤالٌ، وهو: كيف أن الله لا
يُرى، والله يقول في كتابه العزيز عن أهل الجنة: [وجوهٌ يومئذٍ ناظرة إلى رَبِّها ناظِرة]،
والجواب هو أن الإنسان في العالم الآخروي غير الإنسان في الدنيا، وأنه سيكون له مواصفات
خَلْقية مغايرة، كما بيَّنه القرآن: [...ثُم أنشأناه خَلْقاً آخر..]، ويجب العلم أن
هناك فرقاً بين:
- النَظَر: هو التحديق والتقلب في حدق العين.
- البصر: تعتبر حاسة الرؤية، فهو إدراك رموز وانعاكاسات،
يتم تحليلها من قبل العصب البصري، وانتقال إيعازات النظر إلى الدماغ للتحليل.
- الرؤية: هي الصورة الحقيقية للمشاهدة، بعد مرور المشهد
بمراحل النظر والبصر. لذلك نرى أن الله بيّن ذلك، وقال: [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ]، فقد لا يؤدي النظر إلى الرؤية، وعند الرؤية فبالتأكيد لا تعني أنه أدرك
الشيء.. والرؤية هي أول بدايات الإدارك فقط..
ومن هذه الآيات والأحداث، التي سنذكرها، ستتضح مسألة الرؤية
والإدراك أكثر. ففي قضية موسى مع فرعون وجنوده، قال الله تعالى: [فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ
رَبِّي سَيَهْدِينِ](سورة الشعراء).
فمن مع موسى رأوا جنود فرعون، أي تحقّقت لهم الرؤية، وكذلك
رأى الجمع الآخر، أي: جنود فرعون، موسى ومن معه، لكن موسى (عليه السلام) قال، بكل ثقة،
وزجرهم بقوله: [كلا]، وهي أداة زجر، إنهم لن يحقّقوا الإدراك، ما دام هو معهم، ومعه
ربه، فالله لا يُدرك، وبالتالي فهم لا يُدركون!
وكذلك في حادثة النبـيّ (محمّد)، مع صديقه أبا بكر، عندما
كانا في الغار، وعندما خاف أبو بكر فيما لو أن أحد المشركين مال ببصره، لرأوهما، أي:
لم يصلوا إلى إدراكهما، حيث لم تتحقّق الرؤية، فقال النبـيّ محمّد بكل ثقة: [لَا تَحْزَنْ
إِنَّ اللّهَ مَعَنَا](سورة التوبة). فما دام الله معهم، فالرسول أدرك أنهم لن يدركوا،
ما داموا مع الذي لا يُدرك!
ومن هنا نفهم ردة فعل السيدة (عائشة)، عندما قالت:
"لقَد قَفَّ شعري مِمّا قلت..."، وذكرت الآية العظيمة لبيان نفي إدراك الله
عزّ وجل، فهي كانت تعني الإدراك لا الرؤية. وذكرت الآية: [لاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ
وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ].
وكي نفهم الآية، فعلينا تكملة الآية التي تليها، وهو قوله
تعالى: [قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظ]. فمعنى اللطيف: هو التصرّف بدقةٍ
متناهية، مع التلطّف، وهو عائد إلى مقطع الآية [لا تدركه الأبصار]، فهو لطيف بنا عندما
جعلنا لا ندركه..
وأكّدَ في المقطع الثاني بـ[وهو يدرك الأبصار]، أن الله هو
واجب الوجود، وليس كما ندرجه على ألستنا أنه موجود، وهذا خطأ لغوي، فالموجود دلالة
على هناك من أوجده! لذلك فالله واجب الوجود، في كل زمان ومكان، لذلك جاءت صفة الله
[الخبير]، لتوافق مقطع الآية [وهو يدرك الأبصار].. وجاءت الآية التي تليها: [قد جاءكم
بصائر من ربكم..]، لترد على قضية مهمّة، ألا وهي أنه ليس شرطاً أن ندرك الله، لكن المهم
هو أن نبصره بالبصيرة، وليس بالبصر! فهناك فرق أيضاً بين البصر والبصيرة.. فالأعمى،
مثلاً، لا يبصر، لكنه يمتلك البصيرة، بل نجد أن الأعمى له قوة حفظ أكبر من المبصر،
كونه محروماً من البصر، فلا يشغل بصره عن بصيرته، فتكون بالتالي بصيرته أقوى. والمهم
هو أن نمتلكَ البصيرة، التي نحسّ بها في أذهاننا، وحواسِنا، ونستشعر بها. ثم كانت تكملة
الآية: [فمن أَبْصَرَ فلنفسهِ ومَنْ عَميَ فَعليها]، وأبْصَرَ هنا تعني: القرآن. والقرآن
هو الوحي الذي أرسله الله إلينا، عن طريق أمين الوحي، المكلّف بتبليغ الرسالة الخاتمة.
وقد بيَّن هذا القرآن طرق إيصال الرسالة الإلهية، وهي تكمُن في الآية التالية: [وَمَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا
الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم](سورة الشورى).
نفهم من هذه الآية أن:
1- الوحي: يعني هنا الإلهام، فهناك وحي إلهام، ووحي عن طريق
رُسُل، والإلهام هو كما ألهم الله (أم موسى) في قذف ابنها إلى الماء وهو طفل، وكذلك
الوحي المذكور إلى النحل، بأن يلهمها تلك الملكات.
2- أو من وراء حجاب: كما هو حال النبـيّ (موسى)، عندما قال
الله تعالى: [وكَلّم الله موسى تكليما].
3- أو يرسل رسولاً: هو جبريل عليه السلام، لتوصيل أمانة الرسالة
للرسل والأنبياء.
4- فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه عليٌّ حكيم: يقوم بتوصيل الرسالة
الموحاة من الله إلى أنبيائه، لذلك جاءت صفة الله (العليّ) لتفيد أن الله لا يُدرَك،
فالعلو هو دلالة عدم الإدراك، وأنه لا يتحدث مباشرة مع الأنبياء، وصفة (الحكيم)، أي:
من حكمته أنه لا يُرى، لكي لا يضر بعباده، فلا يتجلّى لهم.
والطريقة الرابعة للوحي، هي:
[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا]:
فالروحُ هو القرآن الموحى إلينا، فهي تعنينا نحن المسلمين، لذلك أكّد الله أن القرآن
هو للاستماع وللإنصات، لا للسماع فقط! كما في قوله تعالى: [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ]!! هنا ندرك أن القرآن جاء
لتصحيح لغة العرب، وضبط قواعد النحو، لا العكس!
ولا معارضة، في كل ما قلناه، مع الآية: [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَّاضِرَةٌ، إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ]، لأن الآية تقول: لتنظر، لترى، لا لتدرك! ويجب
العلم أن هذا النظر والرؤية، هو، كما أخبرنا المولى المتعال: [لَيسَ كَمثلِهِ شيء].
والرسول في معراجه رأى الله بالبصيرة لا البصر، وهنا يتم التوافق بين المرويات المذكورة
في الرؤية والنظر، لذلك بيّن الرسول في مرويات أُخرى، نذكر مقطعاً منها، قال النبـي:
(لقد رأيت نوراً)، وفي رواية أُخرى قال: (وأنّى له أنْ يُرى)، فالله لا يُدرك! ويجب
العلم أن الله أكبر من تصوراتنا، ولكي نتخلّص من التجسيد في مخيلتنا، التي لا تقبل
إلا التجسيد، ولو أنكرناه!! فعليه يجب التأكيد في شرح هذا المعتقد: أن الله ليس كمثله
شيء، وأن كُلَّ الآياتِ التي تحدثت عن (يد) أو (عين) لله، كما في قوله تعالى: [مِمَّا
عَمِلَتْ أَيْدِينَا]، فهي تعني: قدرتنا وقوتنا. وآية: [بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ]،
أي: بمعنى أن ما عند الله أكبر مما هو عند اليهود، عندما قالوا: [يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ]،
حاشاه فهو يعطي بلا حساب. وآية: [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي]، تعني: لتصنع على رحمتي
وإحاطتي، وعلى هيمنتي، وعلى قدرتي.. هكذا يجب أن نفهم الآيات، حتى نخرج من هذه الإشكاليات
العقدية، التي ترهق تفكيرنا، ولا يمكن أن نتخيّل في أذهاننا تجسيدات وتجسيمات لله،
ولا يمكن التفكير في ذلك، لذلك لم نر أن الله تكلم عن الأرجل!! والآية: [يَوْمَ يُكْشَفُ
عَنْ سَاقٍ]، لا تعني مطلقاً: الله، حاشاه، وقد أخطأ بعض المفسرين في ذلك، بل تعني:
أن العرب عندما كانوا يخافون، يحاولون الهرب برفع ملابسهم، فتتكشف سيقانهم!
ففهم الآيات يجب أن تتم دراستها بحذر، فالآية مثلاً: [سَنُقْرِئُكَ
فَلَا تَنسَى، إلاّ ما شاء الله]، لا تعني أنه يمكنه أن ينسى! بل تعني أن قوة حفظ النبـيّ،
وعدم نسيانه، هو من عند الله، وبفضله. وهكذا..
ونؤكّد هنا أنه إذا كانت الجنة التي ذكر فيها الروايات،
(أنه لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). وقد قال الله تعالى: [فَلَا
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ]، فما بالُك برؤيةِ الله
عزّ وجل..
ولذلك ذكرت نهاية آية حادثة الإسراء: [إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ]، وقد تمادى بعض المفسرين للتأكيد على الرؤية أن السميع البصير يعود إلى
النبـيّ (محمّد)، وهو خطأ كبير، بل الآية تعني الله، دون ريب، فكلمة [هو] ضمير الشأن
يعود إلى الله تعالى، و[الـ] في كلمتي [السميع البصير] مقصور إلى واحد فقط، وهو الله،
لذلك أكّد الله أنه [هو] السميع البصير، ولم يقل (إنه سميع بصير)، كما في تأكيد الله
في (سورة الإخلاص)، في قوله تعالى: [قل هو الله أحد]، ولم يقل: (قل الله أحد). وصفةُ
(السميع البصير) تعود إلى أهمية الاستماع والبصيرة الإلهية للإدراك في هذه الحادثة
العظيمة، التي اخترقت الزمان والمكان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق