03‏/07‏/2015

الأطفال في الأدب الشعبـي الكوردي

عبد المجيد إبراهيم قاسم 
يعدُّ التراث الشعبـي الكوردي -كما تراث كلّ الشعوب الحيّة- غنيّا جداً بمختلف الأشكال التراثية، بل من أكثر آداب العالم غنى وثراء، حتى أن العديد من تلك الأشكال، ونظراً لعمقها ومدلولها ومضمونها دخلت في آداب بعض الأمم المجاورة. ويشير العديد من الباحثين إلى أنَّ شعوب الشرق الأوسط قد اقتبست الكثير من الفلكلور الكوردي، وأنَّ منهم من ترجموا واقتبسوا العديد من القصص والأغاني والأمثال عن الكوردية، وبالمقابل تأثر الكورد بنتاجات الشعوب المجاورة. ويعود غنى الفلكلور الكوردي - بحسب الدارسين- إلى: تأخر ظهور الأدب المدوَّن، وتواصل الكورد فيما بينهم شفاهياً -لفترة طويلة- عن طريق الأشكال الأدبية، التي تناقلتها ألسنتهم جيلاً بعد آخر، وتعدُّد لهجات اللغة الكوردية، والظروف السياسية المزرية التي مرَّ بها الشعب الكوردي.
ارتبط الإبداع الشعبـي الكوردي بحياة الكورد ارتباطاً وثيقاً، وعكس - عبر قرون طويلة- تاريخ هذا الشعب والظروف المحيطة المرتبطة به، ونضاله الإنساني من أجل الحرية والانعتاق. كما أظهرت الأشكال الفلكلورية -أدبياً- تفاصيل حياة الكورد، بطقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم. يقول د. (معروف خزندار)(1): "يعكس الفلكلور الكوردي بعمق حياة الشعب الكوردي، وآماله المكنونة، وتصوّراته الأخلاقية والجمالية. وتعيش ذكرى الأحداث التاريخية، والطقوس الدينية، والعادات، بحيوية، في نتاجات الأدب الشعبـي، والحكاية الشعبـية، كنتاج لمعتقدات وعادات وعواطف الناس، منذ أزمنة موغلة في التاريخ، تعود جذورها إلى خبرات طويلة للشعوب، وترتبط بأفكار وموضوعات وتجارب ذات علاقة بحياة الإنسان، أينما وجد. وقد ظلّت الشعوب تتناقلها، خلال المراحل التاريخية المتعاقبة. وبطبيعة الحال ظلَّ الأطفال الكورد يتلهَّفون لسماع الحكايات والقصص من ذويهم، ولعل الزخم الهائل لقصص الأطفال في التراث الكوردي، خير شاهد على اهتمام الكورد بالطفل. والأمثلة على هذه القصص، والتي ما تزال عالقة في أذهاننا، كثيرة، ولا حصر لها. والأدب الشعبـي الكوردي غنيٌّ بالحكاية الشعبـية، وهي تبدأ غالباً: بـ كان ياما كان، رحم الله والدينا/ Hebû tine bû, rehmet li dê û bavê min û we bû. يقول الباحث (مظفر بشير)(2): "الحكايات كثيرة، ورائعة، في الأدب الكوردي، تصف طرائف الطبيعة، ومعالمها الغريبة، مع نوادر قصيرة، ودعابات مرحة، وقصص الحيوانات، التي تظهر طبائعها، وعاداتها، وصفاتها المختلفة، بأسلوب أدبي رمزي خالد".
والحكايات الكوردية -غالباً- ما تعكس الصراع بين قوى الخير وقوى الشر، ويمتزج فيها الخيال والتعبير الواقعي عن الحياة في صورة واحدة، رغم اختلافها باختلاف النماذج، وتروي قصة الكفاح من أجل لقمة الخبز، وتعبّر عن آمال الكورد وطموحاتهم. وتأخذ الحكاية الشعبـية في المجتمع الكوردي نماذج عدّة، أهمها، بحسب تصنيف الباحث (علي الجزيري):
1- الحكاية الخرافية، أو حكاية الجان، أو حكايات الخوارق.
2- حكايات الحيوان الرمزية .
3- الحكاية الأسطورية .
4- الحكاية الاجتماعية .
5- حكاية الألغاز والأحاجي.
6- حكاية الحكم والأمثال.
7- الحكاية الفكاهية، أو الجحوية.
8- حكايات البطولة (السير الشعبـية).
فنجد قصصاً كثيرة، لا تخلو من السلاسة والطرافة، موجّهة للمرحلة العمرية الطفلية الأولى. كما نجد نماذج من القصص، التي تتضمن القيم الاجتماعية للمرحلة المتوسطة، كقصص الحيوان، التي يبرز فيها (الثعلب) الذي يماري ويخادع، والأسد ملك الغابة الذي يرمز للشجاعة، والبوم الذي يرمز للشؤم. وحكاية الحيوان جنس أدبي شفاهي ذائع في آداب أغلب الشعوب، ومنها الشعب الكوردي، وهي لا تروى لمجرد التسلية، بل تتعدَّد أغراضها ووظائفها. فظاهرها لهو، وباطنها حكمة، كما يشير (الجزيري).(3) ومن القصص التراثية الكوردية الشهيرة، قصة: (Şengê û Pengê/ السَّخْلَتان شنكي وبنكي)، التي تُعدُّ من روائع القصص للأطفال على المستوى العالمي. ومن الأمثلة على القصص التي كانت تروى لأطفال المرحلة العليا، والتي تحتوي على الحكمة والطرافة، قصة: "أنا أركض من أجل نفسي"(4). وهذه ترجمتها: "كان هناك كلب صيد يُطارد أرنباً، لكنه لم يكن يستطيع اللحاق به، وبعد أن تعب كلب الصيد، خاطب الأرنب: أيُّها الأرنب.. لماذا لا أستطيع اللحاق بك، رغم سرعتي وخفة جسمي، فردَّ عليه الأرنب: يا صاحبـي، أنا أركض من أجل نفسي، أما أنت فتركض من أجل صاحبك الصياد".
ويمتلئ التراث الكوردي بالنوادر والطُرف والنكات، والقصص الفكاهية المشبعة بالمرح، رغم الظروف التاريخية القاسية التي عاشها الكورد، والتي تناسب الأطفال، وتبعث فيهم الضحك والمسرّة. وهي -عموماً- تُنسب إلى شخصيات فكاهية شعبية، وتتداول على ألسنتها. وقد ظهر -أيضاً- أبطال ساخرون، رويت على ألسنتهم (الفكاهيات)، التي أسعدت قلوب الأطفال، وأشاعت فيهم السرور. وقد اشتهر في هذا المجال شخصيات كثيرة.
ويميز (الجزيري) بين نوعين من الفكاهة لدى الكورد(5): الأول، الفكاهة التي تسبب الضحك السطحي، أو الضحك من أجل التسلية.. ويكثر هذا النوع في الأعراس والأعياد وجلسات السمر، حيث يلجأ المهرج، أو الشخصية الجحوية، إلى نثر الدقيق على وجهه، ليسخر من الفتيات اللواتي يكثرن من وضع المساحيق مثلاً. ويذكر الباحث شخصيات اشتهرت بمثل هذا النوع من الفكاهة في (الجزيرة)، منها: (شيخو نادو)، وابنه (لطو).
النوع الثاني: الفكاهة التي تخطّت نطاق الإضحاك، والتي لا ترمي إلى الترويح عن النفس فحسب، بل تهدف إلى تغيير الواقع، ودكّ دعائم الظلم الاجتماعي، والقومي، على حدّ سواء.. وتشتهر منطقة (آليان)، في الجزيرة، برواية النكات الخشنة. ولبعض (الملالي)، وبعض (المجانين)، نوادر ينقلها الرواة، ففي (عامودا) كان لـ(إسماعيل المجنون) طُرف لها دلالات اجتماعية لاذعة. ومن الذين اشتهروا بخفة الروح، ورواية النوادر في الجزيرة: (حسني كمو)، وهو سيد الضاحكين في رواية المُلح أو النوادر الظريفة. ومن أبطال الفكاهات عند الكورد: (ملايي مشهور) أو جحا الكوردي.. التي عكست شخصيته الكوميدية نفس ملامح وتصرفات جحا العربي، ونصر الدين خوجا التركي، الذي يقال بأنه كوردي الأصل، وغيرهما. ومن الأدباء الذين قاموا بجمع مثل هذه النتاجات الإبداعية: محمد مصطفى كوردي، العلامة: علاء الدين السجادي، الشاعر الكبير: بيره ميرد، رجب الحاج محمد، الشاعر الكبير (تیریژ)، وغيرهم.
ويزخر التراث الكوردي بالحكم والأقوال الشعبـية المأثورة، والتي تتمثّل بالنسبة للكورد بأنها جزءٌ من معتقداتهم وثقافتهم وعاداتهم، ابتدعها الخيال الشعبـي، للتعبير عن حكمة هذا الشعب، وتجربته، في تصوير أحداث الحياة، وأساليب المعيشة. فالحكم والأمثال تعتبر "مرآة الواقع الكوردي المزري، في تاريخيته وتناقضاته وصيرورته، وهي جزء من فلكلوره، الذي يجسد من جملة ما يجسده، صور نضال شعبنا الكوردي من جهة، ومن جهة أخرى تصوّر القهر القومي، والبؤس الاجتماعي".(6) ويؤكد البروفيسور الفرنسي (توماس بوا): إن الوفرة والغنى في الفلكلور الشعبـي الكوردي، يبدو جلياً أكثر من كل شيء في الأمثال والأقوال المأثورة والألغاز والأحجيات والأغاني والقصص، ثم القصص الملحمية البطولية. ويتابع بقوله، وهو صاحب مؤلّف (تاريخ الأكراد): "إن الفلكلور الكوردي غنيّ بالحكم والأمثال، التي إن دلّت على شيء فهي تدلّ على رهافة حسّ الكورد، وحرصهم على تزيين محاوراتهم بالحكم المقفاة ذات الإيقاع".
وقد كانت الحكم والأمثال محطَّ اهتمام مجموعة من الأدباء والمبدعين الكورد، ممن بذلوا جهوداً كبيرة في جمعها من أفواه المسنين، وترتيبها، وتبويبها. أهمهم، بالإضافة إلى ما تضمّنته أشعار كلّ من (فقى تيران)، (الجزيري)، (خاني)، وما احتوتها الحكايات الفلكلورية: الملا محمود البايزيدي، الشاعر بيره ميرد، وملا محمود دير شوي، وحجي جعفر، د. بدرخان عبد الله السندي، شوكت آﭬدال، ومسعود سرني، إسماعيل حقي، الشيخ محمد الخال، جكر خوين، حاجي جندي، جاسمى جليل، قناتي كوردو، ملا محمد قادري، وآخرون.
ونجد في التراث الكوردي -أيضاً- الألغاز والأحاجي، وهي شكل من أشكال الثقافة الشعبـية عند الكورد، تتناول جوانب من الحياة اليومية، وتهدف إلى تنمية المقدرة على التفكير، وملاحظة صفات الأشياء. ومن أمثلة الألغاز التي تناسب الأطفال -وما أكثرها- نجد:
çip çip dibê şil dike, Erdê jî tim qul dike Gelo ew çi ye? (Dilop)
نقطة نقطة، تبلل وتحفر الأرض، ترى ما هي؟ (القطرة)
Sipî ye ne şekire Difirre lê bê perre ? (Berf)
أبيض، لكنه ليس سكراً. يطير، ولكن لا جناح له؟ (الثلج)
Ew di hundirê malê de Mal di hundirê wê de. ? (Neynik)
هي داخل البيت، والبيت بداخلها؟ (المرآة)
Qesra sipî Bê derî Gelo ew çi ye ? (Hêk)
قصر أبيض لا أبواب له؟ (البيضة)
Tistekî min heye Bê deve bê zimane Bê fikre.. Navê hertişti dizane? (Pênûs)
لديَّ شيء بلا فم، ولسان، وعقل، ويعرف الأسماء كلَّها؟ (القلم)
وتتخذ الألغاز أو الأحاجي الكوردية أشكالاً متعدّدة، وهي بحسب (الجزيري)، في كتابه (الأدب الشفاهي الكوردي)(7):
1- تقوم بعض الألغاز أو الأحاجي على أساس امتحان السامع، أو وضع ذكائه وثقافته على المحك، ويهدف هذا النموذج غالباً إلى غاية معرفية، وأخرى ترفيهية، ويبدأ بجملة: (لدي شيء.. ما هو/ tiştekî min heye)، مثل:
Tiştekî min heye,bê dar û bê sitûne.. çiye? (Azman))
(عندي شيء، لا أعمدة له ولا دعائم، ما هو؟ (السماء)
Ji vir ta Helebê , tişî keçkê çavkilkirî.. çiye? (Stêrk))
(من هنا إلى حلب، بنات مكحلات) ما هي؟ (النجوم)
2- ألغاز وأحاجي تبدأ بعبارات غير مفهومة المعنى، الغاية منها تمويه الحقيقة وتعقيد اللغز أو الأحجية من جهة، وخلق إيقاع موسيقي من جهة أخرى، مثل:
Hilinddir milindir, Law ji bavê bilintir.. çiye? (Agir û dû)
(هِلندر بلندر .. الولد أطول من أبيه) ما هو (النار والدخان)
3- حزازير البلادة والاستغباء، وهي على نوعين هما:
 أ - ألغاز تتضمّن الجواب، إلا أنه مموه من خلال التلاعب بالألفاظ، مثل:
Ho dibêjim , tevşo dibêjim , navdikim , lê nabêjim.. çiye? (Tevşo)
(هكذا أقول، أقول: القدوم، أسميه، ولا أفصح عنه جهاراً) ما هو؟ (القدوم والفأس).
ب - ألغاز تتضمن أشياء غير منطقية، وتخالف في معناها ومحتواها سنن الطبيعة والمنطق، مثل:
Dîkekî li ser dîwarekî hêkek kir , ew hêk ji kîjan malêre ye (dîk hêka nake)
(باض ديك على حائط، فلمن من الجيران البيضة؟) (الديك لا يبيض)
وهذا اللون يناسب صغار السن، لامتحان مقدرتهم، وإدخال السرور إلى نفوسهم.
4- ألغاز أو حزازير الفصاحة وترديد القول: وهي لا تتطلّب جواباً معيناً، بقدر ما تتطلب تكرار القول بسرعة، (ثلاث مرات غالباً) مثلاً:
- (اخترقت الدودة الجذر/ Kurm qurm qulkir)
- (مائة إبرة مرَّت من خرم إبرة أمي/ Sed derzî di qula derziya diya min de dibezî).
5- الحكاية الملغزة: إذ -غالباً- ما تتضمن حكايات: (الحب، الأسفار... إلخ) الكوردية، ألغازاً وحزازيراً. فكم من حكاية كوردية روت كيف أن والد الفتاة كان يطرح على طالبـي يد ابنته الأميرة لغزاً، إذا ما حله بلغ مراده. وكان (جاسمى وجليل جليلي)، وغيرهما، قد بذلوا جهودا كبيرة في مجال جمع مجموعة من الألغاز والأحاجي الكوردية، ولـ(جليل) مجموعة من الألغاز تخصُّ كورد سورية صنفها على زمرتين.
كما يذخر التراث الكوردي -أيضاً- بالمعتقدات الخرافية، وما ارتبط بها من طقوس غريبة، والتي كانت سائدة لدى الكورد، حيث كانت الكثير من الظواهر الطبيعية، كالمطر والزلازل وخسوف القمر، وغيرها، تعكس معتقدات خرافية، وطقوساً شائعة، لدى الكورد، وتقود إلى ممارستها بحسب الظاهرة، ويكون للأطفال دورهم فيها. "كان أطفال كردستان يطوفون ببيوت القرية بيتاً بيتاً (تحث تأثير معتقد خاص بالدعوة لهطول المطر)، وهم يحملون دمية كبيرة من صنعهم، ويرددون أهازيج المطر.. ويلبسون عروس المطر (bûka baranê) الملابس والعمامة، وهم يغنّون: يا عروس المطر/ اسكبـي الماء على المزروعات. وتخرج ربّة كل بيت لترشّ سطلاً من الماء على اللعبة، ثم توزع الحلوى على الأولاد. وعلى العكس من ذلك، وبغية إيقاف المطر، عندما يكون هنالك خوف من ضرره على المحاصيل، يطوف الأولاد بلعبة مشابهة، وهم يغنون أغنية أخرى". (8) ومن الأمثلة الأخرى: لعب الأطفال بالبيض الملون، واتخاذها وسيلة للتسلية والتسابق فيما بينهم. وتلوين البيض، هو أحد طقوس الإيزيديين في رأس السنة لديهم، ويتفق مع معتقدات خاصة بهم.

إن جميع الأشكال الفلكلورية المذكورة، والتي تسمى اصطلاحاً (الأدب الشعبـي)، ما هي إلا تعبير عن نتاج الأمّة وفكرها، وهي تؤلف -بالنسبة لها- ثروة حقيقية، بل أصبحت جزءاً هاماً من ذاكرتها الشعبـية. فكان الشعب من حفظها، وتناقلتها أجياله جيلاً بعد جيل، وقد حافظ عليها، بالاعتماد على نفسه، أكثر من اعتماده على جهد الباحثين، وعلى الرغم من محاولات التحريف والطمس والتشويه. وقد شكلت -تلك الأشكال- مصدراً هاماً في تشكيل وعي الإنسان الكوردي، وساهمت في إثراء خبراتهم ووجدانهم، وأشبعت جزءاً هاماً من احتياجاتهم. كما حثَّت على عادات اجتماعية إيجابية، ونبذ عادات فاسدة، وفسَّرت لهم الكثير من الظواهر الطبيعية في بيئتهم، إضافة إلى كونها وسيلة للإمتاع والتسلية. وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تنمية حصيلة الأطفال الكورد الفكرية والإنسانية. من جهة أخرى رفدت تلك الأشكال المتنوِّعة، التي تواصلت -خلالها- الشعوب مع أطفالها، وتناقلت موضوعاتها الألسن جيلاً بعد آخر، رفدت الأدب الموجّه للأطفال بزخم هائل من الثراء، ودوَّنت علامة فارقة في سجلِّه، حتى ارتبطت المادة الأساسية للأشكال الأدبية المقدّمة للأطفال بالأدب الشعبـي، وعدَّ (الأدب الشفاهي) أهم مصادر الأدب (الطفلي)، ولا يزال، كما كان أهم مصادر تطوّر الأدب الكوردي عموماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق